أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي بولعلام - المغزل الروائي بين هواجس الواقع ومتاهات السياسة قراءة في التجربة الروائية لزهرة عز















المزيد.....

المغزل الروائي بين هواجس الواقع ومتاهات السياسة قراءة في التجربة الروائية لزهرة عز


علي بولعلام

الحوار المتمدن-العدد: 6848 - 2021 / 3 / 22 - 00:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


السياق الروائي لزهرة عز:
لقد شكلت أعمال الروائية المغربية زهرة عز منعطفا أساسيا في مسار الحكي الروائي والقصصي المغربي، حيث تشكلت أنويته الأولى عبر إنتاج أدبي تمثل أساسا في مجموعتها القصصية "مرآة خبز وقمر" ، ورواية "سرير الألم" التي انبنت في عمقها على أطروحة مركزية تزاوج بين تأمل الذات والمداولة الغيرية عبر تيمات متعددة، ذلك أن الأديبة زهرة عز قد استطاعت أن تبلور أسلوبا حكائيا ينهل من هواجس واقع تتجاذبه المآسي والآمالي، كما يقترب إلى حدما من مآلات أبي حامد الغزالي الذي تردد عبر مأثوراته أنه فكر يوما ما كسر مغزله، بعدما حل به اليأس الناتج عن استحالة غزل نسجه الرقيق في سياقات سياسية مضطربة، حيث قال "غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد لغزلي نساجا فكسرت مغزلي"، غير أن الارتماء في متاهات السياسة قد يسهم أحيانا في توسيع دائرة الارتياح، ويذكي وتيرة الحكي الروائي المسكون بوسواس قهري، تلك السياسة التي تزج بمحترفيها أحيانا نحو الارتكان إلى الصمت داخل أقبية التصوف قصد تمنيع الذات، والتخلص من انهمامات الآخر ذات الأشكال الحلزونية والألوان الحربائية، بل تتماهى أحيانا مع وضعية تتجاسر داخلها نظرات العشاق المملوءة بالزهو وذبذبات راقصة أنهكها عسر الزمان الرديء.
إن السمفونية الأدبية لزهر عز من خلال روافدها ذات الأبعاد السوسيولوجية والنفسية، تمتزج في صلبها كل أشكال الحكي، وتتمازج داخلها سباق المسافات داخل منحنيات تتسم أحيانا بالانفتاح على المركب الواقعي بآهاته وتوهجاته، وتخبو أحيانا أخرى داخل زوايا مظلمة ترسو على معول اجتماعي يردد حياة البؤس وارتباك الذات أمام أصوات تناديها طنطنات صوب الامتثال للتلاشي والموت، ولعل الأقصوصات الإبداعية للأديبة المتألقة التي يغلب عليها النفس الحكائي القصير حجما، والامتداد الاجتماعي العميق دلالة، قد تسهم في لملمة خيوط خرائطية مغزل روائي، تتجاذبه في الآن نفسه أمواج هواجس الواقع وارتباكاته وردهات متاهات السياسة، منتهجة في ذلك مقاربة مفادها" أن المتخيل رافق الإنسان منذ أن أدرك أن وراء الواقع المعيش واقعا آخر، أكثر جمالا وأقل قبحا، ففي الزمن الذي يساوي مكانه سجن، وفي المتخيل ما يحرر الزمن من مكانه ويجعله أكثر اتساعا، وما الرحلات وتحصيل المعارف والتجارب الروحية السامية إلا سبل متعددة، توسع المكان وتمد الإنسان بأجنحة غير منظورة" .
هذه الأجنحة غير المنظورة ظلت رهانا لأفق انتظار زهرة عز، عبر تقليبها لمختلف أشكال الحكي والسرد، حاضرة بذلك في سباق كل المسافات الطويلة منها والقصيرة، ينتظمها خيط رفيع أسهم في إرساء دعائم أسس إبداع تخييلي وفق منظور إيجابي، حيث يطالعنا الأمل عبر ثنايا جل أعمالها الأدبية حاملا لنبرة حلم واعدة، مع حرصها على عدم الانصياع كليا في أحضان مقولة "العام زين"، بل تظل الرؤية السوسيولوجية النقدية ماثلة في صرح بنائها الإبداعي، كاشفة عن أعطاب واقع مرير فاقد لبوصلة عقلانية، تلك البوصلة التي بإمكانها إرجاع الأمل لذويه، وذلك من خلال توظيفها لثنائية ذكية تزاوج بين التخييل والمعرفة، وهي ثنائية ذهبية يمكن الاستناد اليها في رصد التفاوتات والفروق بين مختلف الانتاجات الأدبية، وجس مدى امتلاك القدرة على توظيف أساليب الحكي للتعبير عن مجريات عالم واقعي، وبلورة تمثلات عن عوالم متخيلة في الآن نفسه، وقد تطـــرق لوسيان غولـــــدمان للعلاقـــة بـــين الواقـــع والمتخيـــل، من خلال توظيفه لمصـــــطلحين هامين يتعلقان بالـــــوعي القـــــائم (الواقـــــع) والـــــوعي الممكـــــن (المتخيـــــل) لصــــياغة رؤيــــة العــــالم، ذلــــك أن الأدب لا ينقــــل لنــــا الواقــــع كمــــا هــــو، إنمــــا الوظيفــــة الرئيسية للأدب هي الكشف عن العلاقات التي تحكم الواقع ، هذا المتخيل الذي قد يشكل خزانا افتراضيا لنسج خيوط أطر نظرية معرفية، قد تمكن من مراجعة مدخلات العالم الواقعي عبر تغذية راجعة مستمرة، تلك هي إذن السمة المميزة للمنتوج الحكائي العزي، التي سنحاول استجلاءها عبر رصد طبيعة العلاقة الجدلية بين الثقافي والسياسي في هذا المضمار.


جدلية الثقافي والسياسي في المتن الحكائي العزي:
قد يبدو من خلال الشخوص المؤتثة للفضاء الأدبي لزهرة عز، ولاسيما في أقصوصاتها الأخيرة الحاملة لعناوين" القلب والقوس"،" حداد الزمن الطباشيري"، " حرباء المدينة"، " عودة النوارس"، " من سرق حذائي؟؟؟"، أنها تتنازعها ميولات سياسية تغيرت ألوانها بين النفاق والتملق والكذب والمجاملة، وثقافة سريالية تبحث عن أناها داخل دهاليز أسطورية وطوباوية، متشظية بين واقع سمح للنمل بالزحف على زماننا، والتقلب على سرير الشوك، تديره كائنات السطوح عبر مخيال اجتماعي يتاجر في صكوك الغفران عبر آلهة الريح والأرض والحب والجمال، هذا التشظي سارت بذكره الركبان، لتختفي النجوم ويغاد العطر الياسمين، إنها السياسة بنكهة ثقافة سريالية، أو مسلكيات كائنات ممسوخة. يعاد إنتاجها داخل أنساق معرفية عارية، لن تنتج سوى وحوش مغيبة في عالم ينبئ عن نهايات سوداوية، ذلك حال المخرجات السياسية للبنية التربوية، التي فقدت البوصلة وعمتها الضبابية من كل الجهات، أفقدت الأستاذ كرامته وضاعت معها أحلام فتية لا ذنب لهم سوى تواجدهم بين جدران المدرسة ، فلا أنت أنت ولا الزمان هو الزمان.
بهذه الرنة الحزينة تواصل زهرة عز حكيها، مستلذة أحيانا بطعم أمل يطالعها بين الفينة والأخرى، وكابوس مستقبل مرعب يقض مضجعها، ويبعثر أوراقها، إنها الأيروسية بكل حمولاتها الخافتة والمزعجة، إنها لحظة التردد بين سهام ذهبية ولحظات نفسية عاشق للخراب والدمار، والسعي نحو لملمة خيارات ناظمة للحب لن تكون غير الطاقة الإيجابية والحكمة والرزانة واليقظة الروحية، إنها مثلثات بيداغوجية ومربعات ديداكتيكية قد ترجع الحلم لذويه، ويرجع العطر لزهرته، وتعود النجوم لسمائها، وننهي دوامة ماكينة منتجة لكائنات ممسوخة. ويتجدد الوعد والعهد، وتجدد الدماء بعد لقاء الأحبة، وتسطع نور الشمس في رحاب فضاءاتنا التربوية.
على ذبدبات أمل تتبع فقاعات فارغة يبتلعها الصّخب وسط الفراغ، وبعد يأس وطول انتظار، يغادر المجدوب المدينة إلى البراري، باحثا عن الحرباء الحكيمة، هكذا تشكلت الرؤية الاستراتيجية لتتمازج داخلها الحربائية والحكمة، ولن يكون حظ المجدوب سوى حال ذلك الشخص الذي يقضي زمانه في حضن المتناقضات، تذروه رياح الوهم يمنة ويسرة، وتسكنه انتظارية غودو العبثية، كلون الحرباء المشابه للخيتعور، الذي لا يدوم على حال، و يضمحلّ كالسّراب، هذا الكائن الترابي الذي يرتبط سرّ خلوده، وتبات لونه من خلال التصاقه بالأرض، وكلّما ابتعد عنها، خاصمته الحقيقة ولبسته الظنون،، لون التراب حقيقته، وأنين الكادحين صوته، لذلك لا حياة له بدونها ولا لون، ولا صوت، فسلام على الذين يزهرون القلوب إذا نزلوا بها، ومرحى بعودة النوارس لتعانق أحلام المجدوب، إنها لحظة عبور من فترة شيخ الذئاب "واو"، الذي ظل محذرا منتدبيه بالنوم نهارا والتفسح ليلا، نحو مشيخة "بخنين" الوافد من عالم الجهل المركب، الذي أوصى موكليه الذئاب بالنوم ليلا والتفسح نهارا، فحلت المصيبئة ووقعت الخطيئة، واستحل الكلاب دم الذئاب في يوم مشؤوم لم ينج(و) منه إلا النزر القليل، إنه الإطار الناظم للارتجال والهروب إلى الأمام، وضرب المجانية والتأسيس لسوء الأحوال لغة ومضمونا ومنهجا، إنها رحلة البحث عن إعادة إنتاج كائنات ممسوخة. هل تحتفل النوارس بعرس عودتها إلى وكرها الأول، أم مجرد أضغاث أحلام، وهل أنهى المجدوب مهمته ليعود أدراجه إلى موطنه؟ ومتى تنتهي أيام خفافيش الظلام، ويعود النهار نهارا والظلام ظلام.
على ديدن سياسة عمومية مهترئة ومنتجة للأهوال، تواصل زهرة عز حكيها بدون ملل ولا كلل، مؤسسة عبر إنتاجها الأدبي لفعل تواصلي هادف، بعيدا عن الصخب والضجيج، ومنفلتا في الآن نفسه من آفة الصمت والانكماش، ساعية من وراء ذلك إلى تبديد الغيوم عبر شخصية حكائية امتلك أوصالها المجدوب المنقذ من الظلال، منبهة بالبحث عنه وإحضاره، هو الوحيد من يملك الحقيقة، وعبره تتبدّد الغيوم، وتختفي اللعنة، ويزهر الورد من جديد وتحيى حقولنا وترفرف الفراشات. إنه الحلم المنبعث من طوفان قادم لا محالة، إذا لم تطلقوا عنان بصيرتكم وتحرروها من الأسر. افتحوا قلوبكم وانفذوا إلى الحقيقة وكنه الأمور. الخطر قادم يمتطي صهوة كراهيتكم لبعضكم البعض ويمسك بلجام الحقد. حرروا الفرس ليتحرر الفارس ويبتعد، لا مناص لكم من الحب لتعود الشمس من جديد. والتخلص من غواية الراقصة اللعوب، حيث عادت من جديد لتوزع نظراتها القاتلة وحركاتها المغرية، التي افتتن بها الجميع وكانت غوايتها مدخل للذنوب ، بهذا الاسترسال في الحكي استطاعة زهرة عز تقريب صورة واقع يعاكس انتظارية مجتمعية، وهي مزية تنبئ عن صدق سردي، وبذلك لا نســـتطيع أن نصـــف كاتبـــا بأنـــه مـــرآة للواقـــع إذا هـــو لـــم يعكســـه بصـــورة صـــادقة .
إن تعالق السياسي بالثقافي عبر آليات السرد والحكي، يحيلنا حتما إلى مساءلة الأنساق الأدبية بمختلف تلاوينها في توجيه الفعل السياسي، حيث ظل الإبداع عبر الحقب والعصور حاضرا في معترك الحوار العمومي، ومؤطرا للفعل التواصلي داخل منظومة الفضاء العام بمفهومه الهابرماسي، وبهذا المعنى هل يشكل فضاء الرواية والحكي والسرد مجالا لممارسة تواصلية بين شخوص تختلف مشاربهم وتتباين مصالحهم؟ وبصيغة أخرى هل المغزل الروائي قادر على حبك متخيل سياسي وسبك فرضيات داعمة لحوار عمومي؟ تلك جملة من الإشكالات التي ظلت مطروحة للنقاش على مستوى المقاربة النقدية الأدبية، ولاسيما المرتبطة منها بمنتوج الرواية السياسية إذا صح التعبير، ذلك أن الإبداع في هذا المجال ظل حاضرا عبر الحقب والعصور، وكامنا في الذهنية الثقافية الغربية والعربية، حيث تطالعنا روايات الغربة لعبد الله العروي وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وقنديل أم هاشم ليحيى حقي، وعصفور الشرق لتوفيق الحكيم، وغيرها كلها أعمال سردية لامست السياسة عبر تيمات متعددة، ذات نزوعات داخلية أحيانا تحكمها هواجس البحث عن الديموقراطية المفقودة، كما تقارب أحيانا أخرى علاقة الذات بالآخر، وبهذا النفس يمكن موضعة المنتوج العزي السردي، لكن بمنظور جديد يفرضه راهن المرحلة من جهة، وتطور أسلوب الحكي وفق أدبيات تواصلية معاصرة يغلب عليها الطابع الحقوقي في شقه الاقتصادي والاجتماعي وطبيعة العلاقات الانسانية ، ونتلمس ذلك من خلال هذا المقتطف " هل حلت بنا لعنة الرجل الأحمر الذي لا يولّي اهتماما لجميع حواسه كما الذبابة، يستعمل فقط الحاسة الأكثر أهمية في لحظة جشعه وجوعه للنهب، لذلك لا يرى كل البؤس المحيط به، ولا يسمع شكايات المظلومين أو أنات المرضى، ولا يتكلم أبدا عن مصدر ثرائه المشبوه، يستعمل فقط حاسة الشم و اللمس، أو ربما لأن لديه قدرة غريبة على رؤية العالم بنظرته الشخصية، كما الذبابة، ومن هنا أنانيته، وسعادته بتبني مقولة نابليون’ أنا ومن بعدي الطوفان’، لذلك فكل شيء يدور في فلك ذاته" .
البنية المعجمية للمتن الحكائي لزهرة عز:
إن البحث في مجال نظرية الرواية لم يعد مقتصرا على النقد الروائي، أو على الأبحاث ذات المنحى التنظيري الخالص، بل انضاف الى ذلك المتن الروائي ذاته، وصار البحث ينصب أكثر على استخلاص نظرية الرواية من تشكيلات النصوص الروائية ذاتها، إن كل نص روائي يحمل ضمنيا أو تصريحا نظرية إنتاجه، والسيرورات الإنتاجية التي أوجدته؛ بل صارت رواية الرواية، الرواية وهي تعي ذاتها أثناء كتابتها، أهم من الرواية ذاتها باعتبارها تخييلا صرفا، وكتابة محاكاتية. ولعل المتن الحكائي لزهرة عز يؤسس لنمط تخييلي يمتح من مخيال اجتماعي تتخلله تجسيمات تاريخية، تتماهى مع الشخوص الفاعلة في المشهد الروائي، دون التقيد بنموذج محدد، بل ينبثق من خارج القوالب والتنميطات الحكائية الجاهزة، عبر توظيف مكثف لبنية معجمية عاكسة لتفاعل الذات مع أناها، وكذا استلهام الحمولة الرمزية لشخصيات وشمت تاريخ الانسانية بنزعات نفسية واجتماعية ذات صبغة خاصة وفق رؤية غيرية تحاول البحث عن نقط التماس بين الذات والآخر، ونستحضر هنا أريوس في علاقته بسايكي، وتردده بين الخير والشر والحنان والجفاء والحرب والسلم.

هذا التوظيف الحكائي للشخصيات لم يقتصر على الروافد الغربية واليونانية القديمة، بل ظلت الشخصيات التاريخية العربية ماثلة في المتخيل الروائي العزي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر المجدوب، تلك الشخصية البارزة صاحبة الكرامات الغريبة والأحوال العجيبة، تمثلتها الحكاية الشعبية المغربية برمزية مطبوعة بالحكمة والتبصر، والقدرة على التحدي ومواجهة الصعاب بعصامية ونكران للذات، ونستحضر في هذا الصدد سيدي عبد الرحمان المجدوب، الذي انفلت من رباق حضور واقعي للانخراط في سيرورة الانتاج التخييلي والإبداع الحكائي، مع الاحتفاظ بالقواسم المشتركة والأنساق الرمزية الناظمة للعلاقة بين الواقع والمتخيل في مسار هذا المتصوف الموهوب، الحامل لقيم نبيلة ومكاشفات وكرامات مذهلة، تنعكس في النص من خلال تردده في مواقف متعددة وأحوال مختلفة.

ووفق نسقية حكائية متناغمة، تواصل زهرة عز سمفونيتها الإبداعية بالاستثمار المتعدد للفظ الواحد عبر سياقات مختلفة تزاوج بين الواقعي والاسطوري، والحقيقي والمجازي، والعادي والعجائبي، ثنائيات أضفت على المتن الحكائي نبرة إبداعية متميزة، فالريح التحمت مع الاله لتتشكل شخصية زافيروس، وتناغمت مع الموج لإحداث صوت بديع، وركوبها وامتطاؤها من طرف الحسناء للتواري عن الأنظار، إنها تعبيرات متعددة الألفاظ تؤثث المغزل الروائي العزي وتصبغه بنكهة سردية جميلة، تتلبس من خلالها الألفاظ بدلالات متعددة.


بنفس الإيقاع السردي تواصل زهرة عز نحت أبنيتها المصطلحية من تموجات واقع يتسم بالارتباك الاجتماعي والحيرة السيكولوجية، تتماهى الى حد ما مع مسلكيات الحرباء، ذلك الكائن البسيط الذي يستقي مناعته من تقلبات ألوانه، وقدرته على التنكر وتقمص كل الوضعيات دون أبه بمرجعية محددة، ذلك حال القيم والعلاقات الانسانية في زمن رديء لا طعم له ولا لون، انبرى الشناق السياسي للقيام بدور الكمبارس، واستمالة الكراكيز التي لاتعدو أن تكون مجرد كائنات ممسوخة، فاقدة لعنصر الهوية ولشرط الاستقلالية وعاجزة عن مواصلة الرحلة داخل أنسجة الحداثة وما بعدها، أسراب وأطياف آدمية من صنع الضبابية والقتامة العمومية بدلا من السياسة العمومية، إلى أين المفر البحر أمامكم والعدو وراءكم؟ ليس لكم إلا العودة للذات من أجل بنائها وشحذها لمواجهة الأقلام المأجورة وتجار البؤس الاجتماعي وسماسرة الاوهام، إنها كائنات السطوح تطل من أبراج عاجية لممارسة التحكم والضبط، والتوجس والتلصص عبر أذناب حربائية تتقن لعبة التنكر، إنها حرباء المدينة في جدليتها الأبدية مع رهانات المجدوب التي لن تكون سوى صب للماء في الرمل وانعكاس للون التراب، والبحث عن سبل تذويب صورة مدينة واقعية بئيسة ورسم ملامح مدينة متخيلة نبيلة، إنها لعبة التخييل للتخلص من كل أشكال الرقابة.


أموت وفي نفسي شيء من حتى، من يرث الكلب؟ الذي راكم ثروة بوفائه لراعي الغنم، تلك النازلة التي أسالت مداد كثيرا، بعدما أصبح للكلب نصيب من القطيع، احتار الفقهاء في بلورة فتوى بشأنها بعد نفوقه، لتستقر في نهاية المطاف أن من يقطن مع أسرة زوجته هو وريث الكلب وأحق بالتصرف في تركته، هل الرؤية نوعية أم جنسية؟ وهل صاح الديك وأدرك شهرزاد الصباح لتسكت عن الكلام المباح، ليقترن الهدر بالمسخ وتنسج أغشية اجتماعية مهترئة بين منزلتي الآدمية والحيوانية، هذا حال الكائن الممسوخ في عمق حراك تربوي بدون بوصلة وفي غياب مجاديف بيداغوجية ورواسي منهجية كفيلة بالعبور به الى شاطئ النجاة. وبهذا التكاثف اللفظي تعبر الأديبة زهرة عز عن نبض واقع تعليمي بدون إيقاع قيمي، ومفارق لبعد تنموي يمتلك مقومات التجاسر بين عناصر الاندماج والتكامل والرؤية الاستراتيجية، بل لا يعدو أن يكون مجرد مرآة مجلوة تغلب عليها العتمة والتضليل، عاكسة لمخرجات رديئة يعكسها حال الكائن الممسوخ المغيب، بل "مرآة مكسورة لعوالم البشر" على حد تعبير فيصل الدراج.

إن مقاربة البنية المعجمية للنص العزي والإحاطة بتلابيبها، لن تتأتى دون إخضاعها لتشريح أنطولوجي، تتراءى من خلاله نقط التقاء الألفاظ داخل مساحات حقول دلالية، تتسم بالانسجام على مستوى الأدوار وبالتعارض والتنافر على مستوى الأوضاع، فوضعية الممسوخ المحكومة بوعي بسيط لا تنفك عن انتهازية الذبابة ونرجسيتها، تلك الحشرة التي تستعمل حواسها لتحقيق أنانيتها.


على سبيل الختم:
هذا فيض من غيض، وقبس من النورانية الروائية والقصصية للأديبة زهرة عز، التي استطاعت بما لايدع مجالا للشك أن تخط مسارا إبداعيا متميزا، تزين فضاءه كوكبات معجمية تتبادل الأدوار والدلالات حسب السياقات، التي لا تساق بطريقة عفوية وتلقائية، بل خاضعة لحركية مغزل حكائي يشتغل بانتظامية ذات شكل لولبي، يتطلع إلى فك رموز ملتبسة لواقع اجتماعي، وإعادة نسجها وفق أسس متخيل إبداعي، واستنطاق محمول اجتماعي عبر خيال مبدع وحساسية متلقي مفترض، أملها في ذلك إيقاظ الحلم ليصير واقعا ملموسا، تنبعث من فجواته المشرقة رهانات جديدة تنأى به عن الحربائية والمسخ والسلوكات الذبابية، وينتقل المجدوب من قبوه الصوفي إلى رواق الفاعل الحامل لمشعل نموذج تنموي جديد، تتأسس أركانه على التعليم النافع والاقتصاد الرافع والنمو الساطع، ويعود الماء إلى مجراه والعطر إلى زهره، ويمكث الشناق في وجاره مندسا حقيرا، ويخرج الفاعل من عرينه مواصلا المسير نحو بناء مجتمع العلم والمعرفة، وإرجاع المضامين الحقيقية للسياسة عبر تجاوز مدلولها التحكمي إلى فن الحكم الذي يضمن التوازن بين المصالح الشخصية في نطاق سياسات عمومية هادفة، تتيح إمكانات جديدة تمكن من عودة النوارس إلى وكناتها.



#علي_بولعلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- رغم تصريحات بايدن.. مسؤول إسرائيلي: الموافقة على توسيع العمل ...
- -بيزنس إنسايدر-: قدرات ودقة هذه الأسلحة الأمريكية موضع تساؤل ...
- إيران والإمارات تعقدان اجتماع اللجنة القنصلية المشتركة بعد ا ...
- السعودية.. السلطات توضح الآلية النظامية لتصريح الدخول لمكة ف ...
- هل يصلح قرار بايدن علاقاته مع الأميركيين العرب والمسلمين؟
- شاهد: أكثر من 90 مصابا بعد خروج قطار عن مساره واصطدامه بقطار ...
- تونس - مذكرة توقيف بحق إعلامية سخرت من وضع البلاد
- روسيا: عضوية فلسطين الكاملة تصحيح جزئي لظلم تاريخي وعواقب تص ...
- استهداف إسرائيل.. حقيقة انخراط العراق بالصراع
- محمود عباس تعليقا على قرار -العضوية الكاملة-: إجماع دولي على ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي بولعلام - المغزل الروائي بين هواجس الواقع ومتاهات السياسة قراءة في التجربة الروائية لزهرة عز