أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - أعضاء في الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي - مشروع رؤية من أجل مؤتمر الحزب الشيوعي السوريالمكتب السياسي















المزيد.....



مشروع رؤية من أجل مؤتمر الحزب الشيوعي السوريالمكتب السياسي


أعضاء في الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي

الحوار المتمدن-العدد: 1622 - 2006 / 7 / 25 - 12:01
المحور: التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
    


مشروع رؤية

من أجل
مؤتمر الحزب الشيوعي السوري

( المكتب السياسي )

أعضاء في الحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي )
2006

مدخل

كنا ، في بيان أصدرناه في أيار / 2005 / ، قد أعلنا بأن المؤتمر الذي عقد ، بأواخر نيسان من عام / 2005 / وأعلن من خلاله عن قيام حزب الشعب الديمقراطي ، ليس هو المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوري / المكتب السياسي / ، وإنما هو المؤتمر التأسيسي الأول لحزب الشعب الديمقراطي .
لقد استندنا في هذا إلى المخالفات التنظيمية التي ارتكبتها القيادة ، وأدت إلى جعل ذلك المؤتمر لا يمثل غالبية الجسم التنظيمي للحزب الشيوعي السوري / المكتب السياسي / : بناء ً على هذا ، فقد أعلنا بأن الحزب الشيوعي السوري / المكتب السياسي / ما زال قائماً من خلال أعضائه ، الذين ورثوا بيتاً غادرته القيادة ، هي ومن ذهب معها ، لكي يبنوا بيتاً آخر .
من خلال هذا الكراس ، الذي يحوي رؤيتنا النظرية وتلك المتعلقة بفكرنا السياسي ، والذي سيعقبه رؤية برنامجية سياسية وأخرى متعلقة بالتجربة التنظيمية السابقة للحزب – نريد أن نقدم للمجتمع السوري ملامح ما لدينا ، لنجيب على سؤال : " من نحن ؟ " ، وهو سؤال يفرض نفسه على كل مجموعة أو قوة سياسية ، ويتجنب الكثير من المشتغلين بالسياسة في سوريا طرحه أو الإجابة عليه .
إننا ندعو كل من كان في الحزب بعد تاريخ / 3 نيسان 1972 / ، أو كان خارجه ، ويرغب بالإنضمام إلينا ، للمساهمة في هذا الجهد ، وصولاً إلى مؤتمر قادم للحزب الشيوعي السوري / المكتب السياسي / ، كما ندعو كل من يرغب ، في نقاش مضامين هذا الكراس ، لإرسال مساهمته إلى الإيميل التالي :
[email protected]
- أعضاء في الحزب الشيوعي السوري
( المكتب السياسي )




-1-

تحديد الماركسية


لم يثر فكر سياسي ، في العصر الحديث ، ما أثارته الماركسية من نقاشات وصخب ( من مناصريها و معاديها ) واستقطابات ، ولم يكن ذلك مقتصرا على مضامين الفكر بل تداعياته وممارساته العملية، وخاصة بعد ثورة 1917 الروسية التي أقامت دولة قدمت قراءة خاصة للماركسية ( وبعدها كتلة عالمية قسمت الجو الدولي إلى ثنائية استقطابية) 0
حاول لينين ( ومن بعده الماركسيون السوفيات ) أن يقدموا فكرهم بوصفه هو الماركسية ، وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير حيث لم يقاومهم سوى مفكرين قلائل (غرامشي - لوكا تش – ماركوز 000الخ ) وأحزاب محدودة العدد (الحزب الإيطالي – الإسباني في زمن أمينه العام سنتياغو كاريللو)، لذالك فإن اشكالية التماثل في الهوية بين التجربة اللينينية – الستالينية والنظرية الماركسية قد امتدت بمفاعيلها إلى مرحلة ما بعد سقوط موسكو كامتداد لذلك التماثل الذي حاول الشيوعيون الروس إقامته بين الماركسية وتجربتهم عقب قيام ثورة أكتوبر ، وهو شيء إذا كان مفهوما إقامته عند خصوم الماركسية، في مرحلة ما بعد 1989 – 1991، فإنه من المستغرب استمراره عند الكثير من الماركسيين الذين ما زالوا متمسكين بالماركسية ( وإن كان يلاحظ ذلك اساسأ عند المحتفظين بستالينيتهم ) .
الحقيقة أن التباعد بين لينين و ماركس ( والذي كرسه انشقاق 1903 بين البلاشفة والمناشفة ) لا يقتصر على الجوانب العملية ، /مثل مفهوم الحزب الذي وضعه لينين في " ما العمل " ( والذي كان اقرب إلى التنظيمات التآمرية - العصبوية التي أقيمت بفرنسا في فترة 1815 – 1848 عقب فشل وسقوط حكم الثورة الفرنسية والتي استلهمت تجربة اليعاقبة في الثورة الفرنسية والتي كان ماركس ضدها وضد أقطابها (مثل أوغست بلانكي )، والذي أيضأ كان متناقضا مع نموذج الحزب الشيوعي الألماني الذي قدم ماركس بيانه وقاده عمليا ) / وإنما يمتد الآمر إلى مفهوم ( الثورة الاشتراكية ) وشروط تحقيقها، حيث تمسك ماركس، إلى آخر حياته، بأن الاشتراكية لا يمكن تحققها إلا في مجتمع رأسمالي متقدم استنفذ تطوره البورجوازي وبأن على الشيوعيين ( والماركسيين ) المشاركة والتحالف مع القوى الأخرى في البلدان التي هي إما ما قبل رأسمالية ، أو متخلفة ، لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية ذات الطابع البرجوازي من حيث المهام الثلاث ، الدستورية ( الفصل بين السلطات الثلاث ، والحقوق المدنية) والسياسية ( الحريات العامة) و الاقتصادية ( تحقيق الرسملة بالمعنى الاقتصادي ) ، مع حفاظهم على تميزهم السياسي حيال القوى الأخرى، ومع احتفاظهم ليس فقط بالهدف الاشتراكي ، وإنما أيضأ بخوضهم لصراعات سياسية ومطلبيه وفكرية تجاه القوى البرجوازية وأرباب العمل والرأسمالية 0
إضافة إلى ذلك ، فإن لينين ، من خلال نظريته حول ( تفاوت النمو ) بين الرأسماليات ووصوله عبرها إلى نظرية ( ضرب الحلقة الضعيفة ) وما استتبع ذلك في فكره النظري من وضع نظرية ( إمكانية تحقق الاشتراكية في بلد واحد ومتخلف ) ، قد ابتعد كثيرا ً عن ماركس ، لذا لم يكن بعيدا عن الصواب القول بأن التاريخ قد انتقم له من لينين عندما لم تستطع ثورة أكتوبر أن تتجاوز مرحلة ( رأسمالية الدولة) التي انتهت إلى ( اقتصاد السوق ) مع يلتسن و خلفائه 0
إذا كان التباعد بين لينين و ماركس كبيرا في الجوانب المذكورة آنفا ، فإن ذلك قد ازداد كثيرا في تطبيقات ستالين وأفكاره وفي طريقة قراءته للماركسية ، التي حاولت ، على طريقة لاهوتيي الأديان ، تكثيف الماركسية في أقانيم محددة ( المادية الجدلية - المادية التاريخية ) وتعاليم معينة ( تفسير خاص للعلاقة بين / البنية التحتية – الاقتصاد - ) و ( البنية الفوقية – الأفكار و الفن والدين والسياسة ) – نظرية ميكانيكية تحاول قسر وقولبة التاريخ العالمي ضمن تتابعية جبرية للمراحل الاقتصادية الخمس000 الخ ، إضافة إلى وضع تفسير خاص لنشوء الماركسية ( وهو إذا أردنا الدقة موجود عند لينين ) يحد د منابعها في ( الاقتصاد السياسي الإنكليزي ) و ( الفلسفة الألمانية ) و ( الاشتراكية الطوباوية الفرنسية ) 0
يقف هذا كله أمام الماركسيين ، الآن ، لإزالة ذلك الركام النظري والعملي : ولكن ، إذا أردنا الدقة ، فإن الأمر ليس مقتصرا عليه ، وإنما يجب أن يمتد إلى ما قبل 1917 ، لتحديد العلاقة بين الماركسية وماركسيي ما قبل ثورة أكتوبر ، وأيضا للوصول إلى الإجابة على سؤال رئيسي : هل كل ما أنتجه كارل ماركس هو الماركسية ، أم أن الماركسية هي المنهج الذي وضعه كأداة للتحليل ، والباقي عنده هو اجتهادات نظرية وعملية، حدًدها المكان و الزمان ، وشاخت بعد تغير الأخير فيما لا تنطبق على مكان آخر مختلف، حيث يمكن أن يصل الماركسي إلى نتائج مغايرة ، إذا استخدم المنهج الماركسي حيال هذا ا لمكان المغاير وفي زمن آخر لزمن ماركس ، هي مختلفة عن ما وصل إليه مؤسس الماركسية ، هذا إذا ما كان عبر ذلك يؤكد ماركسيته وتطابقه مع ماركس ومنهجه ؟..... 0
يمكن لهذا أن يشمل تطبيقات منهج ماركس على الاقتصاد ، المقدمة في كتبه الاقتصادية ( " الإسهام في نقد الاقتصاد السياسي " ، " رأس المال " ) ، من د ون التخلي عن المنهجية التي هي نظرة فلسفية - تاريخية تحاول معالجة الظاهرة الاقتصادية عبر ربطها برؤية تشمل دائرة كلية تضم ( الطبيعة – الاقتصاد- الاجتماع - الأفكار – السياسة ) مع اعتبارها بأن البنية الاقتصادية الاجتماعية ، التي تتحدًد من خلا ل علاقة الأفراد الاجتماعيين بالطبيعة ، هي محدَد رئيسي لحركة الأفكار البشرية ، وبالتالي للسياسة ، ضمن جدلية المكان - الزمان و عبر تفاعل المحلي و العالمي ، حيث تكون السياسة ، كأفكار وممارسة ، مكثفا وخلاصة مستوعبة ، ضمن هذا الخماسي للقوى الأربعة الأخرى : هذا يعني بأن بعض خلا صات ماركس الاقتصادية ( إذا لم يكن كلها ) ، والتي نتجت عن تطبيق هذه المنهجية على الحقل الاقتصادي، ليس الماركسيون ملزمين بها ويمكن لهذا أن يشمل ( نظرية الإفقار المتزايد مع تطور الرأسمالية ) ، مثلاً ، التي ثبت عدم صحتها بعد دخول الرأسمالية في مرحلة الإمبريالية وعقب وصولها إلى مرحلة الأتمتة، فيما تبقى تطبيقات أخرى اقتصادية ذات طابع راهن ، مثل (نظرية قيمة ا لسلعة ) و ( القيمة الزائدة ) ، ولو أن ماركس ، والماركسيين ، لم يطبقوا هاتين المقولتين إلا على رأسمالية الجهد العضلي ، كما في عهد ماركس ، من د ون رأسمالية ا لعمل الذهني الذي أصبح شيئاً أساسياً لرأسمالية ما بعد الصناعة 0
يمكن لتطبيقات هذه المنهجية الماركسية على السياسة أن تكون أيضا خاضعة للإزاحة وللوضع في متحف التاريخ : مثل مقولة ( ديكتاتورية البروليتاريا ) ونظرية ( الثورة ) ، ولو أن الأخيرة كاحتمال تاريخي تبقى قائمة ، إلا أن من واجب الماركسيين دراسة جدواها وآثارها المد مرة بالقياس إلى طريق ( صندوق الاقتراع ) 0 وهذا شيء يمكن أن يشمل ، أيضاً ، نظرات ماركس التاريخية إلى مشكلات الشرق والغرب والتي فيها الكثير من النظريات الإستشراقية الإستعلائية الغربية، والتي أدت ، بدورها ، إلى تبخيس الدين ودوره التاريخي الإنهاضي الذي لعبه في المشرق ، وخاصة الشرق الأدنى ، بالقياس إلى ما لعبه الدين من أدوار سلبية في التاريخ الغربي ، مما انعكس على نظرة كارل ماركس للدين ، الشيء الذي ينطبق أيضاً على رؤيته للمسألة القومية ، والتي أتت نتيجة لأوضاع عصره الخاصة في أوروبا 0
على الطريق ذاته ، يمكن قياس مدى الانفصال بين المنهجية الماركسية وبين نتاجات الماركسيين الآخرين ، الذين أتوا في حقبة ما بعد ماركس ، أ و بالأحرى خضوع نتاجاتهم للنسبية التاريخية – الزمانية ، وكذاك للمكان ، وبالتالي محدوديتها بالنسبة إليهما ، وهذا يشمل انجلز وغيره من أعلام الماركسية في ذلك العصر ( كاوتسكي – برنشتاين – بليخانوف – روزا لوكسمبورغ – تروتسكي –بوخارين .. إلخ .. ) ، وربما أيضاً تكون هذه النسبية نسبية حسب كل ماركسي وما يراه في تلك النتاجات ، أي ما يراه مناسباً بالنسبة لمكانه وزمانه وما لا يراه مناسباً 0
ولكن إذا كان ذلك ينطبق على العلاقة بين الماركسية والماركسيين ( ومنهم كارل ماركس ذاته )، أفلا يمكن مد ذلك، أيضاً إلى الماركسية ذاتها ، كمنهج معرفي تحليلي ، أي بمعنى إذا كانت الماركسية كنظرة فلسفية جدلية تاريخية ، تنظر إلى الطبيعة والمجتمع والأفراد من خلال رؤية كلية تربط فيها حركية الأفكار والثقافات والسياسات بالبنية الاقتصادية – الاجتماعية في زمان ومكان محدد ين ، وعبر جدل المحلي – العالمي، ولو أنها ترفض اعتبار تلك الحركية انعكاساً آلياً (كمرآة ) لتلك البنية فإن الماركسي ، في أثناء نظرته أو بحثه الفلسفي للظواهر الطبيعية ( أو الكونية )، أو الفلسفية ربما يحتاج إلى رؤية الماركسية للطبيعة أو للمادة ( وكذلك رؤيتها للما وراء ) ، فيما السياسي الماركسي لا يحتاج ، أدواتياً ومعرفياً ، إلى ذلك ، بل يمكنه الاكتفاء بالمنهجية الماركسية لتوليد برنامج اقتصادي – اجتماعي – ثقافي – سياسي لمجتمعه ، عبر تحليل ملموس لمكان وزمان محددين ومن خلال ترابط المحلي – العالمي ، دون الحاجة إلى النظرة الفلسفية الماركسية للطبيعة وما وراءها ، وهذا ما يجعله يحصر ماركسيته في إطار كونها فكراً سياسياً، فيما يمكن أن يكون عقيدياً ( من حيث اعتقاداته الذاتية تجاه الكون والطبيعة) شيئاً آخر، في إطار الاعتقاد الديني الذي يؤمن به ، أو يكون ممارساً لشعائره ، أو يكون غير ذلك حسب ما يرتئيه ، وبشكل يكون هناك انفصالٌ بين العقيدة ، من حيث كونها متعلقة باعتقادات الكون والطبيعة ، والسياسة عند الماركسيين ، كما هو الحال عند الاتجاهات السياسية الأخرى ، من ليبرالية أو قومية ، والتي تختلف عن الذين مزجوا بين العقيدة والسياسة، مثل الإسلاميين ، أو الشيوعيين الذين أتوا من المدرسة اللينينية 0
يمكن أن يكون الشيء الأخير مخالفاً للماركسية ، كمنهجية تحليلية وجدت عند ماركس , إلا أن المرء إذا كان يجد مسوغاً لإقحام الرؤية للطبيعة في النظرة الفلسفية الماركسية أو في البحث الاقتصادي الذي يقوم به الماركسي ، أو حتى في الأبحاث الخاصة بعلم الجمال والفن ، فإنه لا يجد ذلك المبرر لإقحام تلك الرؤية في السياسة ما دامت الأخيرة شأناً محصوراً في القضايا الاقتصادية – الاجتماعية - الثقافية – السياسية ( وهي لا تتعلق بالطبيعة إلا من خلال كون الاقتصاد حاصل تفاعل الأفراد الاجتماعيين مع الطبيعة ) من حيث النظر والفكر ، وفي الجانب الإجرائي المتعلق بالممارسة السياسية أيضاً ، إلا إذا أراد المرء تحويل الماركسيين إلى فرقة دينية عصبوية عقيدية ، تجد همها ، كما كان يفعل الشيوعيون اللينينيون ، في الدخول بجدالات لاهوتية مع المتدينين ، أو في فرض القمع والحظر على النشاط الديني في البلدان التي وصلوا إلى الحكم فيها ، وهما أمران ، إذا لم نرد حصرهما فقط في إطار الحريات واحترام حرية المعتقد للناس فإنهما لا يدخلان في اختصاص السياسي 0




-2-

من أجل رؤية عربية جديدة للماركسية


أ - ليس أمراً خافياً أن الماركسية تعيش منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية أزمة عميقة، استمرت مكوناتها تتفاقم سنة بعد أخرى، ولقد تجلت هذه الأزمة في واقع " نظم الاشتراكية القائمة" وفي واقع" الحركة الشيوعية العالمية".
وإذا كانت الماركسية، والأحزاب المتبنية لها، تواجه منذ ذلك التاريخ هجوماً متصاعداً من جانب مناوئيها، فهي تواجه في الوقت نفسه نقداً متزايداً من جانب أنصارها الذين تحدوهم تطلعاتهم المشروعة إلى تجديدها وتحديثها، وإلى تطوير أدوات التحليل التي تعتمدها .
وعند البحث في أسباب الأزمة في" النظرية الماركسية اللينينية"المتبناة من السوفييت، والتي ينبغي أن نسارع إلى تسجيل وجود فوارق ليست قليلة الأهمية بينها وبين الماركسية، تصح الإشارة منذ البداية إلى جملة هامة من المسائل:
1- القصور والعجز البالغان اللذان وصما فكر وممارسة معظم الأحزاب الشيوعية والعمالية، وجعلاها عاجزة عن الإسهام في تطوير التصور أو ( المفهوم المادي للتاريخ)، بما يتناغم مع التطورات التي حفل بها القرن العشرون والاكتشافات الجديدة والمذهلة التي حملها في مختلف ميادين الحياة والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية, والتي ثبت في أن جوانب مهمة من هذه " النظرية" والعديد من المقولات والمفاهيم التي تعتمدها، لم تعد تنسجم مع معطيات وظروف وخصائص العصر الحديث، ولم تعد صالحة للتعامل مع هذا الواقع الجديد.
2- الجمود الفكري الذي وسم قيادات هذه الأحزاب، أو معظمها في أقل تقدير، والانغلاق النظري الذي فرضته على العاملين في مجال الثقافة والفكر، ونظرة الاستعلاء وازدراء النظريات الأخرى وازدراء نتاج الثقافة والفكر الكلاسيكي منه والحديث، والادعاء بامتلاك الحقيقة، كل الحقيقة.
كل هذا أسهم في خلق أجواء غير صحية أوصدت الأبواب في وجه كل المحاولات الجادة في التصحيح والتجديد، وحالت دون التطور المطلوب .
3- بروز تناقضات لم تكن معروفة أو صارخة من قبل، بين البنية الفلسفية الإنسانية للماركسية، وبين البنية السياسية الاجتماعية للينينية في الحياة العملية، هذه التناقضات التي تنامت بعد تسلم العديد من الأحزاب الشيوعية السلطة وممارستها الحكم في العديد من البلدان ، وإذا كانت مثل هذه التناقضات موجودة أساساً في الصياغات اللينينية لأساليب الحكم والموقف من الدولة، فإنها أصبحت أكثر حدة وافتراقاً عن الماركسية في الصياغات التي انحدرت إليها اللينينية لدى ستالين في نهجه في الحكم والهيمنة، وفي ممارسات الغالبية العظمى من قادة الأحزاب الشيوعية وهم في السلطة أو على رأس أحزابهم. و’يمكن للباحث والمتتبع أن يضع يده على مسائل كثيرة جداً، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: الديمقراطية، والحق، والقانون والدولة ، والعدالة والحرية وحقوق الإنسان ....الخ
4- رَوسنة الماركسية من قبل" العلماء والمفكرين والسياسيين" الروس، واحتكار " ملكيتها" و" تفسيرها" والتحدث المطلق بإسمها وتصديرها بعد ذلك إلى بقية بلدان العالم وفرضها ، من ثم، على الأحزاب الشيوعية والعمالية .. وإتهام المختلفين معها والمنتقدين لها بالتحريفية والتصفوية ، والارتداد والرجعية وما إلى ذلك من الأوصاف والنعوت التي حملها هذا القاموس البغيض.
5- فرض مفهوم للأممية قضى باعتبار حماية( بلد الاشتراكية الأول) جوهر أو مهمة التضامن الأممي الأساسية ، وعمل على تأسيس( مركز) ولدّ جملة من السلبيات التي عكست فهماً وممارسة مشوهين لمبدأ أو علاقة التضامن الأممي، ألحق أضراراً فادحة في العملية الثورية العالمية بأسرها . كما عمل هذا المفهوم على خلق تناقض حاد بين( الأممية) و ( القومية) دون أن يراعي أو يأخذ بعين الاعتبار المضمون التاريخي والشروط التاريخية والواقع الملموس والمسألة القومية في هذا البلد أو ذاك، حيث أدى الأخذ به من قبل أطراف الحركة الشيوعية العالمية، وفي عدادها معظم أطراف الحركة الشيوعية العربية، إلى غربة الشيوعيين عن مجتمعاتهم حيث لم تعد الاشتراكية تعني لهم سوى كونها استيراداً لنموذج نظري- سياسي- اقتصادي واجتماعي، بدلاً من أن تكون سبيلاً إلى وعي يعيد تشكيل نفسه باستمرار، ومنهجاً في التفكير لإبداع حلول لتناقضات مجتمعاتهم ينتجونها في ضوء دراسة الواقع.
وبسبب غياب الرغبة والاستعداد للاعتراف بوجود هذه الأزمة والقدرة على معالجتها ، وبسبب تفاقم فعل العوامل المدمرة فيها ، تفجرت هذه الأزمة في النصف الثاني من القرن العشرين بصورة دراماتيكية لم تنفع معها محاولات الإصلاح السوفييتية التي تمثلت في " البيروسترويكا " و " العلانية " > و " التفكير السياسي الجديد " أو بدعوات الحزب الشيوعي السوفييتي التي وجهت إلى الأحزاب الشيوعية والعمالية من أجل التجديد والتحديث، إذ كانت هذه الدعوات وتلك المحاولات متأخرة عن وقتها المناسب أكثر من أربعة عقود . وكان لفعلها نتائج تدميرية على الأحزاب الحاكمة والنظم المنبثقة عنها، وعلى الأحزاب الأخرى التي كانت ، أو لا تزال، تهتدي بتلك " النظرية" على حد سواء.
ب- الأحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان العربية التي تأسس العديد منها وفق قرارات وتوصيات الكومنترن في سنوات العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، استلهمت في تبنيها للماركسية الرؤية والتفسير اللينينيين أو الروسيين لهذه النظرية، وبتعبير أدق القراءة الستالينية للينينية. ويعود هذا إلى أن تلك الأحزاب قد تأسست في فترة قوة وترسخ مواقع ستالين في الحزب والدولة السوفييتية وفي الحركة الشيوعية العالمية( الأممية الثالثة) والتي اقترنت بتقديس ما كتبه الأولون ، وحشر الواقع حشراً في قوالب نظرية جاهزة. وبهذا المعنى أصبحت القراءة السوفييتية للنظرية، هي المعيار الوحيد ليس لمعاينة النظرية وتفسيرها فحسب، بل وكذلك لمعاينة مدى تطابق الواقع مع ذلك التفسير للنظرية وليس العكس! كما اتصفت هذه الفترة بتعميق النهج الستاليني في الهيمنة الفكرية والسياسية، وذلك بتصفية كل المخالفين في الرأي سياسياً وجسدياً داخل الحزب وفي أجهزة الدولة بحجة العداء للحزب والدولة ، أو بحجة التحريفية والتصفوية وحجج كثيرة أخرى . وقد أوصل هذا ، مع مرور الزمن ، إلى نشوء جو فكري وسياسي ونفسي ضاغط، شمل كل فصائل الحركة الشيوعية العالمية، وأطرافاً واسعة من حركة اليسار في العالم، وعطّل قدرة الباحثين على النقد والعطاء والاغناء، على التطوير والتجديد والتحديث النظري: لقد أقيم حاجز نفسي وسياسي لدى الباحثين والمتعاملين مع " الماركسية- اللينينية" بالتحديد، يمنع هؤلاء من القراءة في التراث الكبير للإنسانية... ومن الجرأة على التغيير و التطوير .
وانتهجتِ الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية أساليب وأدوات
عمل مماثلة لتحقيق المهمات التي كانت تصبو إليها، كما اعتمدت في صراعاتها السياسية أساليب التشهير وكيل النعوت، والإتهام بالتحريفية والتصفوية وخيانة المبادىء في محاربة الخصوم السياسيين وأصحاب الرأي المخالف والعاملين على الاجتهاد داخل الحزب . ووصلت الأمور بأحدها ( الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة) إلى حد استخدام القوة والعنف وزج الجيش والشرطة وأجهزة الأمن وأعضاء الحزب، في صراع للهيمنة على الحزب والسلطة..وبهدف تصفية التيار الآخر وتأمين " وحدة الرأي والإرادة والعمل" في الحزب الواحد والدولة الواحدة! ومعروفة هي النتائج التي أسفر عنها هذا الصراع .
والأحزاب الشيوعية في الوطن العربي دأبت، في رسمها للأهداف القريبة والبعيدة على الاعتماد على/ والاستناد إلى خطابات ومقالات واستنتاجات " القادة السياسيين والعلماء والمفكرين" السوفيات باعتبارهم قادة وطليعة الحركة الشيوعية العالمية . وكان مجال الإجتهاد ضئيلاً جداً أو معدوماً إلى حد كبير، ولم تكن اجتهادات هؤلاء" القادة والعلماء والمفكرين" تنطلق بالضرورة من الدراسة النظرية والعملية لواقع تلك البلدان التي كان التحليل يعنيها، بل من مصلحة الاتحاد السوفييتي التكتيكية كدولة كبرى، ونشير هنا بشكل ملموس إلى الإشكالات الكبرى التي أثارتها استنتاجاتهم حول قضايا أساسية من بينها: الموقف من مفهوم الأمة العربية ، ومن مسألة الوحدة وقضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، ومن مفهوم الثورة القومية الديمقراطية والثورة الاشتراكية، ومرحلة الإنتقال، والموقف من طريق التطور اللاحق وطريق التطور اللارأسمالي، أو طريق " الديمقراطية الشعبية" .... الخ .
وصاغت هذه الأحزاب نظمها الداخلية في ضوء الموقف العام للحركة الشيوعية العالمية من مبادىء وقواعد بناء " " الحزب الماركسي_ اللينيني " ، الحزب البلشفي من الطراز الحديدي، إذ كانت شرطاً لابد من توافره للحصول على اعتراف الحركة الشيوعية بهذا الحزب أو ذاك. ويتصدر تلك المبادىء مبدأ " المركزية الديمقراطية" حيث يتجلى بشكل تام في بناء الحزب لخلاياه وهيئاته القيادية وعلاقاته الحزبية الداخلية وفي رسم وتنفيذ ومراقبة تنفيذ تلك السياسات، وفي دور الهيئات القيادية والمسؤولين في الحزب، ويمكن أن يعقد المرء مقارنة بين تلك المبادىء التي تحكم بناء الحزب وقواعد عمله وعلاقاته، وبين الممارسات العملية لهذه الأحزاب التي ساعدت على إنتاج وإعادة إنتاج ظاهرة الفردية والاستبداد وعبادة الفرد وظاهرة الإيمانية الدينية بالحزب والنظرية والقائد " وبقاء القائد في الحزب والدولة حتى الممات، أو التخلص المأساوي من بعضهم، وتحول القيادات الحزبية إلى محفل يضم أكثرية مسيطرة من الشيوخ والعجزة، وغير قليل من المتخلفين فكريأ وسياسياً من المهيمنين على الحزب، وبروز مظاهر الفساد والبيروقراطية والمحسوبية والعلاقات الضيقة، وبشكل خاص، في ظروف العمل السري وفي ظروف المطاردة والإرهاب، كما يفترض ألاّ يتحرى المرء عن الأسباب في جانب الممارسة وحسب، بل في جوانب البناء الفكري والنظري، حيث برزت تلك الظواهر السلبية في جميع الأحزاب الشيوعية بدون استثناء مع فارق واحد كان وما يزال يتعين في شدة وحدة بروزها في هذا الحزب أو ذاك، وليس في وجودها أساساً .
وعندما كانت بعض الأحزاب الشيوعية والعمالية،أو بعض الشخصيات المفكرة البارزة في هذا الحزب أو ذاك، تتجرأ على طرح أفكار واجتهادات تدعو إلى التحديث، أو تتخذ مواقف متمايزة عن مواقف الحزب الشيوعي السوفياتي، من الناحيتين النظرية والسياسية، فإنها تكون عرضة لمطاردة عنيفة وحملة منظمة ومكثفة، ولاتهامات ظالمة، لمحاربة تلك الأحزاب والشخصيات ولتشويه مواقفها، وكان يجري، لهذا الغرض، تجنيد كل الأحزاب الشيوعية والعمالية التي تقف على خط واحد مع الحزب الشيوعي السوفياتي، بغض النظر عن مدى صواب أو خطأ تلك الآراء، والاجتهادات، وبعيدأ عن الحق في الاجتهاد وامتلاك الرأي المستقل، ومعروف ما جرى لحزبنا الشيوعي السوري خلال الأزمة التي تعرض لها في أواخر الستينات وأوائل السبعينات ، بعد انشقاق البكداشيين عنه وخروجهم من صفوفه، ويمكن إيراد عشرات الأمثلة عن ذلك .

ت- الماركسية منهج معرفي، وهي بهذه الصفة ليست عقيدة، والماركسي ينتج بالإستناد إلى هذا المنهج مفاهيم وأدوات وبرامج سياسية، وهو ينتجها ويعيد إنتاجها باستمرار على محك الامتحان النظري وبتوسط العمل أو الممارسة ( البراكسيس) بين الفكر والواقع .
ولعل المهمة التي تنتظر الفكر العربي والمفكرين العرب، اليوم ولا سيما الماركسيين منهم، هي إعادة إنتاج قراءة الماركسية في ضوء التقدم الحاصل والتطور المذهل للقوى المنتجة على الصعيد العالمي، وفي ضوء التغيرات البنيانية التي أصابت النظام العالمي ونسق العلاقات الدولية، لاسيما تلك التغييرات التي أصابت الاتحاد السوفييتي السابق ودول " منظومة الدول الاشتراكية"، وكلاهما التقدم الحاصل والتغييرات البنيانية، يحددان مجالين لإعادة القراءة : أولهما النظر في وعي الماركسية لدى مشايعيها ومحلليها، وخصومها أيضاً، والثاني هو النظرية الماركسية ذاتها مأخوذة في سياق تكونها وسيرورة نموها، والفارق بين هذين المجالين هو الفارق بين الوعي والوعي الزائف المفارق للواقع، الذي كان قيداً على الفكر .
وإذا كان الوعي هو الوجود مدركاً، أو هو بناء صورة الواقع المتغير في الذهن وإعادة بنائها باستمرار وإلى مالا نهاية، فإنه يحيل في هذه الحيثية على الفكر ـ العمل، أو على الفكر بوصفه عملاً وعلى العمل بوصفه فكراً، أي على العلاقة بين الذات والموضوع الذي هو أيضاً جملة حية أو ذات و موضوع . فالمفاهيم والأفكار والمبادىء والتصورات الإنسانية هي انعكاسات الأشياء والعلاقات الواقعية ، ولهذا كان الديالكتيك هو " علم القوانين العامة للحركة " سواء في العالم الخارجي أم في " الفكر الإنساني" وكان العقل بالأحرى هو عقل الكون أو عقل العالم، وليس من سبيل للتوصل إلى ديالكتيك العالم الخارجي ( الذي هو خارج الرأس )، ديالكتيك الواقع، إلا بديالكتيك الفكر وبتوسط العمل أو الممارسة( البراكسيس) ، وهذا هو رهان الماركسية، التي أطلق عليها " مؤسس الحزب الشيوعي الايطالي( أنطونيو غرامشي) إسم " فلسفة البراكسيس ".
يقوم (التصور المادي للتاريخ) كما أسماه ماركس، الذي تجنب استعمال مصطلحي " المادية التاريخية" و" المادية الجدلية "اللَّذين أول من استعملهما فريدريك انجلز، على فكرتين رئيسيتين: أولهما: إمكانية التقدم في فهم العالم دون اللجوء إلى ما هو غريب عن نشاط ( عمل) الناس، والثانية، إمكان تغيير الواقع القائم وتحويله عن طريق تدخل الناس، صانعي تاريخهم .
بيد أن العالم ليس أشياء وعلاقات ناجزة وثابتة، بل هو بالأحرى مجموعة من التفاعلات والتحولات، والأشياء، التي تبدو ثابتة، وكذلك فإن صورها في الرأس، أي المفاهيم، تتغير على الدوام .. تنشأ وتزول. لكن التطور يشق في آخر المطاف طريقاً لنفسه على الرغم من جميع المصادفات الظاهرة والخطوات المؤقتة إلى الوراء. إن وجود العالم يَتَقوّم في أو عبر ماديته أو تاريخ تنويعه على الأشكال، لذلك كان طلب الحلول الحاسمة والحقائق الخالدة ضرباً من طلب المستحيل طالما أن علم الإنسان ناقص ومحدود و ديالكتيك الأفكار نفسه لم يعد سوى الانعكاس الواعي لحركة العالم الواقعي الخارجية ".
إن النظر في أي من المجالين الآنف ذكرهما، يستند إلى النظر في المجال الآخر ويلقي عليه مزيداً من الضوء ويجلو ما فيه من نقص أو خطأ أو التباس، والمبدأ الحاكم للنظر من البداية، هو " وعي الذات من أجل وعي الواقع" بتعبير آخر : " استقلال الوجدان، وجهاد المعرفة، وطرح المسائل والسعي إلى الإجابة عنها " .

ث ـ يرتبط مستقبل الماركسية العربية بتحولها إلى قوة فكرية_ سياسية_ أخلاقية، قادرة على استقطاب المثقفين والكادحين العرب حول برنامج البديل التاريخي للتجزئة والرأسمالية التابعة والانحلال القومي، ويتطلب هذا أولاً متابعة خط البرنامج الأول للحزب الشيوعي السوري، خط كونفرانس الشيوعيين في سوريا وفلسطين ( 1931)، أي خط الاستمرار الكفاحي لحركة التنوير العربي، وخط النضال الوحدوي. وهذا ، بدوره، يقتضي القطع الجذري، مع العقل الستاليني العربي ونهجه الإصلاحي وانحلاله الليبرالي الراهن، ومع الموروثات الإيمانية القروسطية، وإنشاء قيم التقدم والتنوير والعقلانية والديمقراطية في الثقافة العربية، والقطع مع القطرية التابعة بمستوياتها كافة، الفكرية والثقافية والبرنامجية، والعمل على تجاوز نظام التجزئة في إطار التأكيد على أولوية حق الأمة في تقرير مصيرها، والقطع مع الديمقراطية الليبرالية ودعاواها في الوطن العربي وفضحها بوصفها " ديمقراطية صندوق النقد الدولي" ، والنضال في سبيل الديمقراطية المتجاوزة لهذه الليبرالية والساعية إلى اكتشاف الممكنات العربية وابتداع الآليات التنموية القائمة على أساس الاعتماد على الذات الذي هو البديل الواقعي المتاح للبلدان المتخلفة في ظل النظام الرأسمالي العالمي القائم .
ويتوجب على الماركسية العربية، الناهضة الآن ، أن تؤكد عزمها على وصل ما انقطع من تطورها القومي. ومن الأمور التي تبعث على التفاؤل أيضًا، ومنذ نهاية الثمانينات، وبينما أخذت الأحزاب الستالينية العربية تدخل الطور الأخير من نزعها وانحلالها التنظيمي والفكري والسياسي، متحولة إلى ذيل للبرجوازيات التابعة،أن نشهد بداية جيل جديد من الماركسيين العرب، يفكر، ويكتب، ويحاور ويحاول في ضوء المنهجية الماركسية إنتاج التصور الماركسي لممكنات التقدم العربي، وفي ضوء إعادة قراءة الواقع من جديد .
إن حاجتنا، نحن العرب، إلى الماركسية، تفرضها( فضلاً عن الحاجة النابعة من تلازم الفكر والعمل وكون الأول موجهًا ومرشدًا والثاني مصححًا ومسددًا) حاجتنا إلى ثورة قومية ديمقراطية ، ’تصفي البنى والتشكيلات والعلاقات ما قبل القومية، وترسي أسس المجتمع المدني ودولة الحق والقانون، وتجسد الديمقراطية واقعيًا في بنى مجتمعية حديثة ومؤسسات سياسية وثقافية ومنظومة أخلاقية. هذه الثورة محكومة بمنطق التاريخ وبمفهوم التقدم إذ ليس كل ثورة في التاريخ تقدمية بالضرورة، أو تقدمية إلى النهاية.
ولكن أية ماركسية تلك التي تفرضها الضرورة التاريخية للثورة القومية الديمقراطية في الوطن العربي؟ وهل " قوانين" هذه الثورة مخبوءة في مؤلفات ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وبليخانوف وماوتسي تونغ وغرامشي، وغيرهم ؟
إن الإجابة عن هذين السؤالين تطرح مشكلات نظرية معقدة، أهمها مشكلة تحديد الماركسية أو تعريفها وتبييئها، وكل يقين هو نفي حسب اسبينوزا وهيغل وماركس، وكل تعريف يقيم فروقًا ويعيّن حدودًا هي حدود الماركسية موضوع التعريف .
ويتعلق بتعريف الماركسية، بعد تعريفها في سياق تطورها التاريخي، تعيين الفرق بين البنية النظرية للماركسية، أي شبكة مصادرها ومفهوماتها الأساسية ومقولاتها ومبادئها الفلسفية في اتساقها المنطقي الداخلي ومطابقتها لحركة الممارسة التاريخية ووقائعها المتراكمة..، وبين نصوص ماركس و إنجلز وغيرهما. وثمة فرضية تقول باستقلال البنية النظرية للماركسية عن النصوص الماركسية استقلالاً نسبيًا. وهي فرضية تساعد على التحرر من سلطة النص بتقييده بزمانه ومكانه وشروط إنتاجه، وتساعد، بالتالي، على جعله موضوعًا للمعرفة والنقد بعد أن جرى تحويله إلى نص مقدس وحقيقة ناجزة لا يطالها النقد . وحين نجعل من البنية النظرية هذه بنية مفتوحة، أو جملة حية قابلة للنمو بفضل مبدئها ذاته، مبدأ النفي ونفي النفي، ولدمجها، من ثم، في الممارسة الحية وفي حركة الصيرورة الاجتماعية وفي العملية السياسية" ، نوفر لها إمكانات نقدها من الداخل وضمانات تطورها أيضًا .
إن الحاجة إلى نفي الأوضاع العربية القائمة( إذ الحاجة إلى التحرر تفرض الحاجة إلى التقدم وبالعكس) تملي علينا أن ننظر إلى الماركسية بوصفها مذهب النفي ونفي النفي أو مذهب السلب الذي يقابل المذهب الوضعي الايجابي، متضمنًا له ومتجاوزًا إياه، أو واضعاً له على خط التجاوز إلى ما لا نهاية على جسر العمل ـ الممارسةـ . فمذهب نفي النفي هو، من هذه الزاوية، مذهب نقد التقدم الذي يضع الحقيقة فوق " النظرية" وفوق الحزب، هذا المذهب يجعل من جميع ميادين العلم وفروع المعرفة وتمثيلات الواقع وانعكاساته موضوعًا للمعرفة الواعية حدودها والهادفة إلى التغيير، وموضوعًا للنقد في الوقت ذاته: صحيح أن الفكر وحده لا يصنع التاريخ، والوعي وحده لا يغير العالم ولا يؤنسن المجتمع، ولكن ليس من تاريخ ممكن من دون الفكر، وليس من تغيير ممكن للمجتمع والعالم من دون الوعي المطابق لحاجات التقدم .
ج- وفي غياب مقولة الإستلاب عن الوعي الماركسي العربي المستلب، وغياب مقولة الإنتاج و ( الإنتاج تملّك )، لم تحظ َ عملية الإنتاج الاجتماعي في الوطن العربي، ماضيًا وحاضرًا، بأي اهتمام يذكر. لقد استعاض عنها الوعي المذكور بقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج بوصفها مقولات ناجزة، تعكس أوضاع مجتمعات أخرى غير المجتمع العربي والتاريخ العربي . ولم تحظ َ، بالتالي، علاقة الملكية بالإنتاج، وكون التاريخ الاجتماعي ـ الاقتصادي لأي مجتمع، من هذه الزاوية، تنويعة على أشكال الملكية .. لم تحظ َ بأي اهتمام، ونكاد نقول إنها لم يتم وعيها . كما أن علاقة الملكية بالحرية وبالحق والحقوق وبمفهوم القانون وبالمجتمع المدني، لا تزال في إطار غير المفكر فيه، ومن دون جلائها لا يمكن معرفة حظوظ الحرية والديمقراطية في المجتمع العربي .
وفي الواقع، فإن الصراع الطبقي، إذ ’يشكّل قوة محركة كبرى في التاريخ البشري ، فإنه ليس القوة الأولى والأخيرة في صنع وصوغ سائر الأحداث والتحولات في هذا التاريخ : إن وضع التاريخ الإنساني برمته تحت فصل " قانون الصراع الطبقي" ، وبالتالي تفسير كل ظاهرة تطورية، في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر، على ضوء هذا القانون، هو في تعارض مع جوهر الديالكتيك الماركسي، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالأحكام القطعية المرتبطة بالتفسير المادي للتاريخ من خلال التناقض الأساسي والدائم المفعول بين " قوى الإنتاج" و"علاقات الإنتاج" أو بين الطابع الاجتماعي للإنتاج" و " الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج " .
لقد خلص ماركس، باستخدامه المنهج الديالكتيكي ومن خلال اكتشافه لمفاهيم " نمط الإنتاج " و " علاقات الإنتاج " و" التشكيلة الاجتماعية" إلى أن التاريخ قد عرف في تطوره تشكيلات اجتماعية مختلفة .
وفي حين أكد ماركس أنه لا يمتلك المعرفة الكافية لتحليل " نمط الإنتاج الآسيوي" مثلاً ، فإن ستالين أسقط كل نمط لم تعرفه أوروبا، وأحلَّ محل المنهج الخصب تعاليم جامدة لها صفات غيبية لا يأتيها الباطل من أمام أو من خلف .

ح_ إن علّة ذلك كله تكمن في تخفيض الماركسية إلى " نظرية علمية" تحمل في ثناياها تصميمًا مسبقًا أو قبليًا للمجتمع والدولة ونمط الحياة وطابع العلاقات الاجتماعية وعلاقات الإنتاج المنشودة، وليس على البشر سوى التطبيق لهذه النظرية، الوصفة الجاهزة التي أصبحت على يد الكثير من الماركسيين، عقيدة وليست منهجًا للمعرفة ، هذا التخفيض لا يشير إلى النزوع الوضعوي الذي تجلّى في النزعة الاقتصادية وحسب، بل يلغي مقولة العمل بوصفه الفاعلية الإنسانية الواعية والهادفة، العمل بوصفه معيار مطابقة أو عدم مطابقة الفكر للواقع، العمل الذي ينطوي على الفكر والنظر. فليس ثمة عمل بشري لا يوجهه الفكر والتصور والخيال ويحفزه هدف أو رغبة أو حاجة . ولولا التفارق بين نتائج العمل الإنساني و الأهداف المتوخاة منه لم يكن ثمة تطور ممكن في الفكر والعمل على حد سواء .
إن تخفيض الماركسية إلى " نظرية" مهما شدّدنا على وصفها بالعلمية والثورية، والواقعية، يجعل من الأفكار والمبادىء والمفاهيم عقائد جامدة وحقائق ناجزة .
الماركسية مذهب العقل إلى الواقع، طريقة أو منهج في التنقيب والبحث لاكتشاف الحقيقة وإعادة اكتشافها على الدوام وإلى ما لا نهاية . هذا هو أيضًا ما سمّاه إنجلز الطابع الثوري للفلسفة الهيغلية، التي هي المدخل المنطقي والتاريخي إلى الماركسية وإلى التصور المادي عن التاريخ .
إن هذه الحقائق تضعنا مباشرة في مواجهة مسألة بالغة الحيوية، تستدعي، في جانب منها، التخلي عن مقولة " الإعتناق" أو " التبني" لـ " النظرية الماركسية ـ اللينينية" وعن كل الصيغ المماثلة؛ والتأكيد ، في جانب آخر، على التمسك بالمنهج الماركسي ، أي بالتصور المادي عن التاريخ باعتباره الأداة المعرفية القادرة على مساعدتنا على استخلاص التجريدات النظرية وعلى تسهيل عملية فحص المفاهيم والمقولات التي بين أيدينا، سواء تلك التي ورثناها عن فلاسفة ومفكري الماركسية الكبار، ماركس و إنجلز ولينين، أم عن سواهم من المفكرين والباحثين، وهذا هو المدخل الصحيح لتدقيق المفاهيم، وللتأكيد على المقولات التي تحتفظ بصحتها والكف عن الأخذ بتلك التي لم تعد صالحة في الماركسية أم في مقولات الماركسيين أيضاً .
إن العبرة الحقيقية تكمن في الالتزام بالمنهج الماركسي في التحليل الاقتصادي- الاجتماعي-السياسي-الثقافي باعتباره الأساس، وليس بالمقولات الماركسية التي يمكن أن تخضع دومًا للتغيير والتعديل حسب معطيات الواقع المتحرك باستمرار .
فالماركسية إذن، مذهب الفكر أو طريقته في البحث عن الحقيقة الواقعية بتوسط العمل، لذلك، فإن جميع الكتابات الماركسية، وغير الماركسية، لا تستطيع أن ’تعلّمنا، إذا كان لنا أن نتعلم ، سوى كيف نفكر بطريقة صحيحة، أي بطريقة ديالكتيكية، وكيف نقبض على الواقع .



-3-

قضايا أمام الماركسية العربية

أثار سقوط موسكو قضايا عديدة تقف في وجه الماركسيين العرب الآن، لم يتم حسمها بعد عقد ونصف من زوال الاتحاد السوفياتي، مثل :
1 - ما هي علاقة التجربة اللينينية – الستالينية بالماركسية ؟
2 - هل التجربة السوفياتية هي تجربة اشتراكية أم تجربة لرأسمالية الدولة ؟
3 - ما هي أسباب سقوط التجربة التي بدأت بثورة أكتوبر وانتهت في الشهر الأخير من عام 1991:
هل هي مؤامرة " حاكتها " ( C.I.A ) و ( الموساد ) ؟ 0000أم : تباعد بين الشعب والحكام نتج عن غياب الديمقراطية ، وأسلوب الحكم البيروقراطي ؟ 000أو : أن ما أنتجه حاكموا الاتحاد السوفياتي من تحولات اجتماعية ، التي أحدثوها في المدن والريف ، قد أدى إلى بنية اقتصادية - اجتماعية جديدة دخلت ، منذ زمن خروتشوف ، في تناقض بنيوي مع البنية السياسية - الإدارية الحاكمة ، حتى حصل الطلاق بينهما في زمن غورباتشوف مما أدى إلى تكنيس البنية الأولى للثانية ، مستغلة ً اختلال التوازن الدولي لصالح ا لكتلة الغربية ، وأدى إلى نشوء بنية سياسية جديدة رأت مصلحتها في ( الديمقراطية السياسية ) و ( اقتصاد السوق ) وهو ما انسجم مع توجهات غالبية الكتلة الاجتماعية الداخلية ، حسب ما أظهرته صناديق الاقتراع في حقبة التسعينات ؟ 0000
إن الإجابة عن تلك القضايا سيؤدي إلى بلورة ماركسية بديلة لما أنتجه لينين و ستالين ، إذا كان الماركسيون ا لعرب الجدد ( والعالميون ) سيبتعدون ويحيد ون عن الطرق الماركسية السوفياتية التقليدية في معالجة القضايا الفكرية والسياسية ، ويقتربون من منهج كارل ماركس في البحث 0
على صعيد آخر ، يواجه الماركسيون العرب ( و الشيوعيون منهم خاصة ) قضية شائكة ، وهي أن يضعوا تجربتهم ، منذ العشرينيات ، على مجهر البحث والمراجعة النقديتين ليواجهوا أنفسهم في المرآة ، ليبحثوا ويجيبوا على أسئلة كبرى :
1 – هل كان نشوء الحركة الشيوعية العربية انعكاساً لثورة أكتوبر ، أم تعبيراً عن حراك اجتماعي داخلي ، وإذا كان الاثنان معا ً ( وليس المهم أيهما اسبق ) فلمن كانت الغلبة في الأحزاب الشيوعية العربية ، التي تلاقت وعبرت عن البنية الاجتماعية المحلية مثل السودان والعراق وسوريا ، أهي للعامل السوفيتي أم للعامل المحلي في تقرير ورسم سياسات تلك الأحزاب ؟000
2 - لماذا لم تبحث الأحزاب الشيوعية العربية عن تشكيل ماركسية عربية ، متبيئة محلياً، كما فعلت أحزاب الصين وفيتنام وايطاليا ( وقبلهم لينين الروسي ) ، واختارت طريقاً بديلاً لذلك ، عندما قبلت بتلقي الماركسية السوفياتية ، معلبة وجاهزة ، على الصعيد النظري ، الشيء الذي لم يقتصر على ذلك ، و إنما امتد إلى السياسة ، إذا لم يكن أيضاً إلى التنظيم ؟
3- عبر ذلك ، هل كانت سياسات الأحزاب الشيوعية العربية ،التي صدمت الشارع وجابهت قناعاته وتوجهاته ، مثل القبول بقرار تقسيم فلسطين ، والموقف ضد وحدة 1958 ، ومعارضة الشيوعببن العراقيين بين صيفي 1958 و 1959 لانضمام العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة ، ناتجة عن التوجهات السوفياتية ، ام أن الأمر يمتد إلى أبعد من ذلك ، أي إلى عوامل تلاقت وتناغمت مع العامل السوفيتي المقرر لسياسات الأحزاب الشيوعية العربية ، مثل وجود أفراد من أقليات قومية على رأس بعض تلك الأحزاب (مثل خالد بكداش أو سلام عادل أمين عام الحزب الشيوعي العراقي بين عامي 1955 – 1963 ، وهو من أصل إيراني ) ؟000
4 - هل كان انضمام بعض الأحزاب الشيوعية العربية الرئيسية إلى تحالفات ذيلية مع الأنظمة الحاكمة ( كما في العراق / 1973 - 1978 / وسوريا , بينما رفض عبد الخالق محجوب ذلك مما أدى إلى تصادمه مع النميري بخلاف رغبة السوفيات فيما / في سوريا / كان الموقف من الدخول بجبهة النظام عاملاً أساسياً في انشقاق الحزب الشيوعي عام 1972 ) ناتجاً عن الإملاءات السوفياتية ، أم عن ميول وجدت أيضاً عند شرائح واسعة من أعضاء تلك الأحزاب للتكسب والمناصب والانتفاع الشيء الذي عبر عن ترهلها وتفسخها ؟0000
5 – هل تعبر طريقة تعامل الأحزاب الشيوعية العربية ( ومعها الماركسيون العرب ) مع سقوط موسكو ، التي تراوحت بين الاحتفاظ بالمنظور الستاليني والذي لم ير أكثر من المؤامرة في ذلك السقوط أو تبريرات تعزو ذلك إلى غياب الديمقراطية وسيادة البيروقراطية فيما رأينا قسماً مرموقاً من تلك الأحزاب ( كتنظيمات و كأفراد ومفكرين ) يخلعون قمصانهم الحمراء ويستبدلون بها تلك الآتية من وراء الأطلسي ) -عن أنها وصلت إلى شيخوخة عاجزة لا يرجى منها العافية والشباب والتجدد وبالتالي يجب البحث عن شكل ماركسي جديد غير تلك الأحزاب ، أم أنها قابلة للتجدد ضمن قالب ماركسي متجدد يعتمد على البناء القائم لتلك الأحزاب كنقطة انطلاق له ؟000
إذا ابتعدنا عن هذين البابين ( أي التجربة السوفياتية – وتجربة الأحزاب الشيوعية العربية) اللذين لا يمكن بدونهما ( أو بدون المرور عبرهما ) القيام بمراجعة حقيقية تجيب على القضايا المثارة عبرهما - فإن هناك قضايا كبرى تطرح نفسها أمام الماركسيين العرب في بداية القرن الواحد والعشرين ، على ضوء الوضع العالمي المستجد :
1 – كيف ستكون ماركسية عصر ما بعد الصناعة ، وتحول الأتمتة ، والعمل الذهني ، إلى بدائل رئيسية للرأسمالية بدلاً من الآلة والعمل اليدوي ؟000
2 - ما هو دور الماركسيين ، ورؤيتهم ، في عالم رأسمالي تحول إلى سيادة منفردة يقوم بها القطب الواحد للعالم ، بدلاً من رأسماليات متصارعة ميزت العالم الرأسمالي في القرون الخمسة الماضية ؟000
3 – ما دور الماركسيين العرب في مواجهة القطب الواحد للعالم ، الذي ركز جهده ، بعد سقوط الكتلة السوفياتية ، على السيطرة على المنطقة العربية : كيف سيكونون في ذلك ، أفي دور ثانوي أثناء المواجهة كما تم الآن ، تاركين أمر مقاومة الاحتلال ( العراق ) أو الهيمنة ( لبنان ) إلى الإسلاميين والقوميين أم سيصعدون إلى دور رئيسي في ذلك ، أو أنهم - في الجهة الأخرى - سيختارون التعاون مع المحتل ، كما في العراق عندما دخل أمين عام الحزب الشيوعي العراقي في مجلس حكم بريمر ؟000
4 – ما هو موقف الماركسيين العرب من الليبرالية الزاحفة عبر الدبابة الأمريكية ، بالمعنى الاقتصادي ، والتي لم تعد مشروعاً محلياً أو وطنياً تتولاه اتجاهات سياسية محلية ، كما كان الوضع في زمن سعد زغلول ورشدي الكيخيا ، أو كما كان في الفترة العربية الواقعة بين ( سقوط موسكو ) و (11 أيلول ) عند ليبراليين عرب عديدين , حيث أصبح المشروع الليبرالي العربي الراهن ، بعد (11 أيلول ) و (سقوط بغداد ) ، مرتبطاً بواشنطن كما كانت الشيوعية مرتبطة عند أتباع موسكو بالكرملين ؟000
إضافة إلى ذلك فإن هناك قضايا عربية تواجه الماركسيين ، عليهم أن يجيبوا عليها ، وعن علاقتهم بها ، وأن يحددوا موقفهم منها ، وأن ، يتحددوا ، بالتالي ، عبرها 0
أول هذه القضايا هي الإسلام :
فهذا الدين لم يلعب دوراً ثانوياً في تحديد العرب كأمة ، بل كان محدداً أساسياً في ذلك ، وشكلّ الهوية الحضارية – الثقافية للأمة ، وهو يلعب الآن ( كما لعب في القرنين الماضيين ضد الغرب الاستعماري ) دوراً وطنياً ضد الغرب الأميركي الزاحف على المنطقة ، إضافة إلى تشكيله ، بالعقدين الماضيين بعد دخول (فتح ) في عملية التسوية ، الفصيل الفلسطيني الرئيسي المقاوم لإسرائيل ، إضافة إلى أن المقاومة الإسلامية في لبنان كانت هي العمود الفقري لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي 0
لا يجوز للماركسيين القفز فوق ذلك ، أو تخفيض الأمر إلى حدود " احترام المشاعر الدينية للناس" , وإنما عليهم الارتقاء إلى أخذ موقف فكري من الإسلام [ وليس موقفاً دينياً أو متديناً بالضرورة ] كعامل حضاري وكهوية ثقافية للأمة ، شبيه بما أخذه مثلاً القوميون العرب من الإسلام ، كما رأينا عند ميشيل عفلق في محاضرته " ميلاد الرسول العربي " 1942 ، والتي أقام فيها رباطاً عضوياً بين الإسلام والعروبة جعل فيها الأول روحاً للثاني الذي اعتبره الجسد ، بخلاف ساطع الحصري وقسطنطين زريق اللذين كانا متأثرين بعلمانية أتاتورك المعادية للدين 0
ثاني تلك القضايا هي العروبة :
هناك لطخات كبرى في تاريخ الماركسيين العرب فيما يتعلق بعلاقتهم بالعروبة ، عليهم تنظيف أنفسهم منها ، لم يكن أخطرها الموقف من وحدة 1958 الذي أخذه شيوعيو سوريا و مصر و العراق بالتضاد معها ، وإنما اتجاههم إلى التنظير ( كما عند خالد بكداش في أثناء طرح قضايا الخلاف 1971 – 1972 ) لعدم وجود عوامل مكتملة التكوين عند الأمة العربية ، واعتبارها مجرد أمة في "طور التكوين " وهي استعادة لمواقفه في العام 1939 في دراسته :" العرب وأبحاث ستالين في المسألة الوطنية " ، لما نفى وجود عدد من مقومات الأمة عن العرب مثل ( الأرض – التاريخ المشترك – التكوين النفسي المشترك ) لصالح قوله بأن "المعاهدة السورية – الفرنسية 1936 هي خطوة إلى الأمام في طريق تكون الأمة السورية " ( عن الياس مرقص:"تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية " دار الطليعة ،بيروت 1964 ص44)، وهي نظرية عاد لينقضها ويؤكد وجود مقومات الأمة عند العرب و بأنها متوفرة عندهم " كما هو واضح كالشمس في رابعة النهار" أثناء خطابه في المجلس النيابي (6 ت1 /1955) بعد حصول التقارب واللقاء بين السوفييت و عبد الناصر بعد صفقة الأسلحة التشيكية قبيل شهر من ذلك الخطاب ، حيث كان واضحاً خضوع موقف الأمين العام للحزب الشيوعي السوري من (العروبة ) إلى اعتبارات ظرفية سياسية ، ترتبط باستراتيجيات دولية ، وليس بموقف مبدئي من قضية تشكل محوراً رئيسياً من حياة المجتمع السوري ومساره في القرن العشرين ، وربما كان موقف بعض قيادات ( حزب الشعب الديمقراطي ) ، لما وقعوا على "إعلان دمشق " [16 /ت1 /2005] الذي يخفض عروبة سوريا إلى مجرد " انتماء إلى المنظومة العربية " تعبيراً عن وضعية كانت لهم في 1971 – 1973 , لما طرحوا العروبة في وجه بكداش , هي شبيهة بما كان للأخير في عام 1955، ربما لا تعود إلى أكثر من انتهاز سياسي لفكرة كانوا يرونها رابحة ضد بكداش والسوفييت وركوباً على موجة قومية عمت الشارع عقب هزيمة 1967 0
ثالث تلك القضايا هي العلمانية :
التصقت العلمانية,بأذهان الكثيرين في العالم الإسلامي منذ أتاتورك ، بالعداء للإسلام ، ولم يستطع العلمانيون العرب أن يأخذوا موقفاً غير معاد للدين ، مثل ما يأخذه العلمانيون الغربيون ، وخاصة الإنكليز والأميركيان والألمان ، وإنما نجدهم يستلهمون النموذج الفرنسي للعلمانية SECULARISM ) وليس LAICISM ) حيث أن الأخير يعني علمانية المدنيين بالقياس إلى فئة الكهنوت والتي تسمح بنشاط سياسي للمتدينين المدنيين من غير رجال الدين ، فيما علمانية فرنسا والتي يعبر عنها مصطلح SECULARISM تعني علمانية حاظرة لأي نشاط ديني سياسي لصالح حصر الدين في الشعائر و الطقوس ) ,وهو ما كان متأثراً بعلمانية الثورة الفرنسية ورجال ( عصر الأنوار ) السابق لها ( فولتير – روسو – ديدرو ) ، التي تصادمت مع الكنيسة الكاثوليكية التي كانت متحالفة مع النظام الملكي الفرنسي 0
هذا أدى إلى عزلة العلمانيين العرب عن مجتمعهم ، وزاد ذلك مع فشل الأتاتوركية في أنقرة ومع عودة الكثير من مظاهر التدين الغربي ودخوله إلى المعترك السياسي وخاصة في أمريكا مع (المحافظون الجدد ) ، إضافة إلى أن الهجمة الغربية الأميركية الحالية التي يقودها المحافظون الجدد المهيمنون على الإدارة الأمريكية الحالية ( إضافة إلى إسرائيل ذات الطابع الديني اليهودي ) ، تفرز الكثير من التدين الإسلامي المقاوم والمضاد لتلك الهجمة ، وخاصة بعد فشل التيارات القومية العربية ، من الناصريين والبعثيين ، في مواجهة الغرب وإسرائيل اعتباراً من حرب 1967 وصولاً إلى حرب 2003 وسقوط بغداد 0
الملفت للنظر في هذا الإطار ، أنه في الوقت الذي يزداد فيه تديين السياسة الأميركية الداخلية ، وسيطرة رموز ايديولوجية دينية على الإدارة الحالية ( بوش – رامسفيلد – المدعي العام جون اشكروفت 000 الخ ) ، فإن نفس الإدارة تطرح للمنطقة مشروعاً سمي بـ ( مشروع الشرق الأوسط الكبير ) [13 شباط 2004 ] ، يتضمن ( العلمانية )، وينزع صفة العروبة عن المنطقة ، ويتضمن ( الليبرالية ) كمشروع سياسي – دستوري – اقتصادي و(ديمقراطية المكونات)التي تؤطر السياسة وفقاً لمحددات طائفية – دينية – إثنية .
هذا يطرح إشكالية على العلمانيين العرب ، ومنهم الماركسيون : ما هو نموذج علمانيتهم الفكري ، هل على طراز أتاتورك ووزير الداخلية الفرنسي ساركوزي الذي يصل إلى حدود نزع الحجاب ، أم على طراز علمانية أنجيلا ميركل ،المستشارة الألمانية الجديدة، الآتية من الحزب الديمقراطي المسيحي ؟000 ثم : ما هو موقفهم من علمانية الليبراليين العرب المعاصرين ، الذين ارتبطوا بمشروع بوش " التغييري" للمنطقة ، و الذي يمكن أن يؤدي التحاقهم بالمركب الأميركي إلى وسم علمانيتهم بالأمركة، كما تم ربط أيديولوجية الأحزاب الشيوعية العربية بالطابع السوفياتي نتيجة التحاقيتهم حيال موسكو وما أدى إليه ذلك من عزل لهذه الأيديولوجية ووضعها في خانة " المنبوذ " و " المرفوض " ؟000 وصولاً إلى سؤال إذا كان الماركسي العربي يجد تشاركاً مع الليبرالي العربي ، في الديمقراطية والعلمانية ، إلا انه يتفا رق عنه ، في نفس اللحظة ، من حيث موقفه من المشروع الأميركي للمنطقة ، فأيهما سيتم ترجيحه عنده : الليبرالية – العلمانية أم الوطنية ؟000 أي بمعنى لماذا لا يسعى الوطنيون العرب ، من ماركسيين وقوميين ينحون إلى الديمقراطية والعلمانية وحتى يمكن أن يقبلوا مرحلياً بمشروع ليبرالي اقتصادي ، إلى فصل هذه المقولات عن المشروع الأميركي وإقامة مشروع وطني خاص لهم مقاوم للهيمنة الأميركية ، بعيداً عن تشاركهم السياسي الراهن – أي الماركسيين – القوميين – مع الإسلاميين في مقاومة الأميركان إذا لم يكن بالمعنى العسكري ، فعلى الأقل سياسياً وفكرياً ، ولو أن المقاومة للاحتلال في العراق تأخذ طابع المشاركة القومية – الإسلامية ، من دون دورٍ واضح للماركسيين البعيدين
عن حزب حميد مجيد موسى 0
لا يمكن لعملية تجديد الماركسية العربية ، وإلباسها ثوباً جديداً , أن تتم من دون المرور بتلك القضايا المطروحة آنفاً : إن طريقة طرح القضية هي مدخل أساسي إلى الجواب ، ولا يكفي السياسي أن يكون في مثل وضعية الطبيب الذي يقدم وصفات جاهزة ، وإنما الأحرى به أن يبتعد عن ذلك ، وخاصة إذا كان من ضمن تيار أيديولوجي – سياسي يسعى إلى تجديد نفسه ، وإعادة بنائها في صورة يستطيع عبرها أن يعيد تقديم نفسه في صورة مغايرة لتاريخه السابق ، أمام مجتمعه 0





-4-

المــاركسية
الصراع الطبقي، الطبقة العاملة
"الضرورات - التطورات - التغييب القسري"


يمكن إعتبار الماركسية كنظرية متناسقة تجمع بشكل عضوي بين المنهج الديالكتيكي والإقتصاد السياسي، والاشتراكية العلمية، من أعظم منجزات الفكر الإنساني، فمنذ لحظة ظهور الرأسمالية على الساحة التاريخية، لم يكن قد سبقها أبداً أن وصل استغلال طبقة البروليتاريا إلى تلك الدرجة التي وصل إليها في أوروبا، وقد رافق الفكر الأوروبي هذا التطور متناسباً طرداً مع تطور الرأسمالية، وكان من دلالة ذلك ظهور الثورات التي كانت تتوالى الواحدة تلو الأخرى، ولكن حركة البروليتاريا ظلّت عفوية وغير مفهومة، وكان الأمر بحاجة إلى نظرية اجتماعية جديدة ترفع الطبقة العاملة إلى مستوى فهم دورها التاريخي وتمنحها آفاقاً مستقبلية، فكانت النظرية الماركسية، ثم "البيان الشيوعي" نهاية المنتصف الأول من القرن التاسع عشر، والذي لعب دوراً هائلاً في قضية تنظيم الصراع بين طبقة البروليتاريا والطبقة البرجوازية ، وفي التقدم الاجتماعي أيضاً .
أثار " البيان الشيوعي " ، ذو المنطق الحديدي، والذي حمل الفكر الشيوعي ، رعب وخوف الطبقة البرجوازية التي بدأت تقوم بتقديم تنازلات من ناحية، وحاولت من ناحية أخرى الطعن والتشهير الشرس بهذا البيان، محاولةًَ بذلك سد الطريق والآفاق على نظرية ماركس .
نقطتان أساسيتان حاول من خلالهما أعداء ماركس انتقاده بشدة فيهما ، ودحض نظريته ، وتحديداً " البيان الشيوعي " ، في سياق التحليل الذي يحمله " البيان " في محورين ؛ الأول هو أن عصر التصنيع البخاري أخذ يفقد أهميته مع دخول عصر الآلة الكهربائية، كما أن التطور الاجتماعي للمجتمع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد أخذ ينحرف عن الاستنتاجات التي وردت في " البيان الشيوعي " ، وقد لا حظ مؤلفا هذا " البيان " (ماركس و إنجلز ) ذلك واعترفوا به، ولكن الفكرة الأساسية التي تخللت " البيان الشيوعي " كله بقيت صحيحة وتتلخص في الآتي: درجة الإنتاج المادي تحدد التركيبة الطبقية للمجتمع، طريقة تفكير الناس، إدراكهم، أيديولوجيتهم، ونشاطهم الذهني ...الخ والصراع الطبقي الذي تعتمد حدته على درجة التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، يعتبر المحرك الرئيسي للتقدم الاجتماعي.
هذا السرد التاريخي يقودنا إلى التفكير بطبيعة الطبقة العاملة، التي يحاول البعض من منظري الرأسمالية العالمية إلغاءها في صيرورة تطور الإنتاج الرأسمالي وعلاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة ، وخاصة بعد ثورتي الاتصالات والمعلوماتية ودخول الصناعة في عصر التطور التكنولوجي الهائل الذي ينفي بالضرورة التوصيف القديم للطبقة العاملة ، وتحديداً البروليتاريا، والتي من المعروف أن البروليتاري هو العامل الذي لا يملك أي شيء باستثناء قوته العضلية وعرق جبينه.
لقد تغيرت التركيبة الطبقية للمجتمعات، فقد أدرك الرأسمالي المعاصر منذ زمن بعيد بأن الأكثر منفعة له هو التعامل مع العامل المكتفي الراضي أكثر من الجائع الساخط، وهذا كان من الأسباب التي أدت إلى تطور النظام الرأسمالي وعدم دفنه من خلال التفافه على هذه النظرية، فقد كان سائدا ًفي القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بأن أي تنازل يقوم به الرأسمالي للعامل الأجير يتسبب في خسارة للرأسمالي. وثمة فكرة كانت سائدة آنذاك بأن يوم العمل الطويل والأجر المنخفض هو شرط ضروري من أجل ضمان مستوى عالٍ للقيمة الزائدة" فضل القيمة" للرأسماليين، ورويداً رويداً أخذت خبرة الدول الرأسمالية الطليعية تدحض تلك الأخطاء لمنظري الاقتصاد البرجوازي ومديريه، فقد اتضح أن قوة العمل الرخيصة هي الأبهظ في تكلفتها، واكتشفوا بأن العامل الأجير الذي يعيش في ظروف مادية أفضل، هو أكثر إنتاجاً، وهذه نظرية اقتصادية تم إثباتها في علم الاقتصاد .
من هنا يمكن طرح رؤية أساسية في طبيعة تطور الطبقة العاملة في مرحلة ما بعد منتصف القرن العشرين إن صح التعبير، حين بدأ عصر التطور التقني " التكنولوجي" المبني على ثورة المعلوماتية، ودخول عصر الكمبيوتر في الإنتاج الصناعي العالمي، ما غير بالضرورة من طبيعة العامل، حيث بدأت الطبقة الرأسمالية تشعر بحاجتها الماسّة إلى عمال على درجة معينة من التعليم، والثقافة التقنية، والمهنية العالية في إدارة الآلات الصناعية التي تعمل على الطاقة الكهربائية، والمتصلة ببرامج الكمبيوتر ، ما أفقد العامل الكثير من حاجته إلى القوة العضلية، يستبدل بها قوة وقدرات ذهنية اكتسبها من خلال التعلم والتدريب التقني و العقلي والذهني. وهكذا أخذت الحاجة إلى طبقة عاملة أقرب ما تكون إلى الطبقة المثقفة، من حيث تعليمها، وما تملكه من القدرات التقنية العالية ، تفرض نفسها ، وهذا ما يدفع بالضرورة إلى خلق طبقة عاملة تشكل حاملاً لمفاهيم إنسانية وأخلاقية سامية، فرضت حضورها وشرطها الموضوعي والمجتمعي على الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج بالمفهوم الماركسي، وبذلك أصبحت هذه الأخيرة أضعف في السيطرة على الطبقة العمالية المثقفة "أو المتعلمة بمفهوم آخر" ، حيث لم يعد توفر هذا العامل الذي خضع للتدريب العلمي و المهني التكنولوجي، أمراً يسيراً، فتحولت بذلك الطبقة العمالية إلى طبقة أشبه ما تكون بالأنتلجنسيا بحسب تعبير بليخانوف أحد منظري الإشتراكية في روسيا وأحد أساتذة لينين، من هنا كان من الطبيعي أن تستجيب الطبقة الرأسمالية إلى الكثير من مطالب الطبقة العاملة في التوزيع الأكثر إنصافاً "وليس عدلاً" لفضل القيمة الذي تحدث عنه ماركس ، فعندما تقوم هذه الطبقة بتدريب العامل عقلياً، وإكسابه المهارات التقنية في إدارة وسائل الإنتاج، وإخضاعه للدورات التدريبية الكثيرة، بغرض الإستفادة القصوى من طاقاته الذهنية والعقلية، بذلك يصبح الإستغناء عن هذا العامل أمراً فيه الكثير من المجازفة والتأثير على قوة العمل وطاقته الإنتاجية، هذا بالإضافة إلى الصعوبة في إيجاد البديل، الذي يجب أن يكون على نفس السوية العلمية والكفاءة المهنية.
اليوم؛ ماذا بقي من البروليتاري ؟ وأين أصبحت الطبقة العاملة في صراعها مع الرأسمالية العالمية؟ وكيف أدارت هذه الطبقة مصالحها بما يتناسب مع تطورها المجتمعي والاقتصادي في تحقيق بعض العيش الكريم من خلال إنتاجيتها التي تبقى بعيدة عن مفهوم العدالة الإنسانية، حتى يومنا هذا ؟!
لا يعني بحال من الأحوال انهيار الإتحاد السوفييتي في بداية التسعينات من القرن الماضي مع منظومة الدول الاشتراكية، نهاية النظرية الماركسية، والتي تبقى صاحبة الفضل الأول في التاريخ الإنساني في إنتاج نظرية، معرفية، مجتمعية، اقتصادية، في تحديد هوية الصراع البشري بين قوى مستغِلة وقوى مستغَلة ، وفي تحديد شكل الإنتاج الاجتماعي وطبيعة العلاقات التي تحكم الصراع الطبقي من خلال انتماء كل طبقة ووضعها في موقعها الحقيقي، وعلى العكس تماماً، فقد تكون النظرية الماركسية هي التي دفعت بمنظري الرأسمالية العالمية إلى تطوير آلياتهم وتقديم تنازلات لم يكونوا يرغبون بها إلى الطبقة العاملة، وذلك لقطع الطريق على انتشار النظام الاشتراكي العالمي، وهذا ما حصل في أوروبا وأمريكا بعد منتصف القرن التاسع عشر حيث كانت بذور النظام الليبرالي السياسي والاقتصادي قد بدأت تتبلور وتتجلى في تحقيق أوضاع جديدة بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، وذلك للحفاظ على مصالح الأولى، فجاء التأمين، والنظام الديمقراطي السياسي، ومؤسسات المجتمع المدني التي تعبر عن مصالح هذه الطبقات، وذلك في التفافة نظرية رأسمالية لقطع الطريق على النظرية الماركسية التي نادت بدكتاتورية البروليتاريا ، وكانت هذه الطبقة في ذلك الحين تمثل الأغلبية الساحقة في مجتمعاتها. من هنا آثر الرأسمالي قبول كل هذه التنازلات مقابل الاحتفاظ بالجزء الأكبر من الإنتاجية والمتمثل بفضل القيمة.
لقد ربح النظام الرأسمالي العالمي جولة كبيرة في صراعه مع النظام الاشتراكي، ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال انتهاء هذا الصراع ، أو نهاية التاريخ بحسب " فوكوياما " المفكر الأمريكي من أصل ياباني ، والذي تراجع مؤخراً عن نظريته، وأقر بأن التاريخ لم ينتهِ بعد ، وأن التاريخ في صيرورته وسياقه ، حركة متجددة لا تقبل الجمود أو التوقف، فليس النظام الرأسمالي الليبرالي اليوم هو الفردوس المفقود الذي تناضل من أجله البشرية منذ آلاف السنين ، والصراع الطبقي مازال قائماً ، وإن انتفت الكثير من المسميات في هذا الصدد وفقدت مدلولاتها ومبرر وجودها ، ولكن يبقى تمثيلها قائماً ، وتعبيراتها المجتمعية موجودة، فمن المؤكد أنها أخذت أشكالاً أخرى وتعبيرات اجتماعية أخرى غير تلك التي ورثتها من القرون السالفة الذكر، التاسع عشر والعشرين، جعلت هذه الطبقات تدير الصراع بشكل مختلف عن الماضي، فالطبقة العاملة اليوم مازالت موجودة بقوة في عصر العولمة والشركات المتعددة الجنسيات أو ما فوق القومية، وقد أخذ نمط استغلال النظام العولمي الجديد أشكالاً أكثر استغلالاً ووحشية مما سبقه من مراحل رأسمالية سابقة . فقد تشكلت طبقة جديدة من رأسماليي العالم يتحكمون بأكثر من ثمانين بالمئة من مقدرات هذا العالم، وهذا طبعاً يقوم على إلغاء طبقات مجتمعية كاملة ، لتذوب في عجالة هذه الطبقة القليلة جداً من المتحكمين بثروات الأمم .
لا شك، بأن الطبقة العاملة اليوم قد حصلت على مكتسبات تعتبر جيدة بالمقارنة مع وضعها، في القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وأهم هذه المكتسبات هو تعبيراتها السياسية من خلال تمثلها في أنظمة الحكم الليبرالية، البرلمانات، والنقابات، والمؤسسات الدستورية، ونظام التأمينات، والمردود الاقتصادي ، والمنظمات المدنية وغيرها .. ولكن كل ذلك كان على حساب هذه الطبقة العاملة نفسها، فالتطور الذي حصل في نظام الإنتاج الرأسمالي، من تقنيات عالية، ونظم معلوماتية، واتصالات سريعة، وبرمجيات، أدى إلى خسارة الكثير من الطبقة العاملة لدورها، حتى في المشاركة في قوة العمل نفسها، لتحصل ليس فقط على ما كان يحصل عليه البروليتاري في القرن التاسع عشر من أجر زهيد جداً، بل لتحصل على لا شيء، أي أنها لا تؤمّن ليس فقط حقوقها في توزيع الثروة، بل تغييبها المطلق عن هذه الثروة ونبذها كقوى مجتمعية، تتغلفها البطالة والإحساس بأنها كائن مهمش وغير مرغوب فيه في عالم انحصرت فيه الإنتاجية بطبقة قليلة من الشغيلة، المتعلمة، وصاحبة المهارات العالية جداً، والتي يقتصر دورها على مراقبة الآلة، دون أي تدخل عضلي، ما يجعل حتى هذه الطبقة تشعر بانتقاص لمقدراتها العقلية أمام التقنية العالية جداً في أدوات الإنتاج .
جاءت العولمة، كنظام معرفي متطور للرأسمالية العالمية لتفتح آفاقاً أوسع في خلق فرص لربح سريع وفاحش، تجاوز الحدود الجغرافية والقومية للبلدان الصناعية الكبرى، فذهبت بعيداً لتفتح لها أسواقاً ونظم إنتاج في بقاع أخرى من العالم، دؤوبة في بحثها عن فرص أكبر في زيادة الأرباح من خلال عدم دفع ضرائب كبيرة، أجور يد عاملة رخيصة، وأسواق تصريف تتلقف ما ينتجه هذا الرأسمالي دون أن تكون مساهمة أو مشاركة في عملية الإنتاج نفسها، فتحول الطبقة العاملة من طبقة منتجة إلى طبقة مستهلكة لهذا الإنتاج، ما يشكل نمطاً جديداً من الصراع لم يكن موجوداً سابقاً في علاقات الإنتاج، ويتجلى هذا الصراع بين الطبقات العاملة نفسها..! فأجور اليد العاملة الرخيصة بين بلد وآخر يثير حفيظة بلد الإنتاج الأصلي، بغلاء اليد العاملة فيه، وذلك حين يرحل رأسمال من بلد إلى آخر بحثاً عن فرص ربح أفحش من فرص الربح التي عرفتها الطبقة البرجوازية نفسها مع طبقة البروليتارية في القرن التاسع عشر في توزيع فضل القيمة.
من هنا ؛ يمكن الاستنتاج بأن صراع الطبقات لم ينتهِ بعد ، وأن علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة ، والتي تعبر عنها العولمة الاقتصادية، هي أخطر بكثير من صراع الطبقات الذي تحدث عنه ماركس في نظريته، من حيث أن الأولى ستسعى إلى خلق طبقات جديدة وهي طبقة الشغيلة ، المتعلمة ، المثقفة، وذات المهنية العالية، ولكن من دون مقدرة على الإنتاج، لأنها ستكون عاطلة عن العمل، وهذا قد يؤدي إلى انهيار الطبقات الأخرى في المجتمعات وخاصة غير الصناعية، فإذا كانت الشريحة الكبرى من المجتمع، والتي تشكل الأغلبية ، غائبة عن المشاركة الاقتصادية والمادية و الإنتاجية في مجتمعاتها ، فسيؤدي ذلك بالضرورة إلى خلل في عملية التوازن الطبقي، في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، يقودنا ذلك إلى الاستنتاج الأهم، والمتمثل بالعودة إلى البيان الشيوعي الذي يقول بأن " درجة الإنتاج المادي تحدد التركيبة الطبقية للمجتمع " ، والاستنتاج الآخر ؛ وهو أن التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ، يعتبر المحرك الرئيسي للتقدم الاجتماعي ، وهذا كله يؤدي إلى دفع التاريخ باتجاه تغيير ما ؟! وليس كما ادعى فوكوياما في عام 1989، وهذه الحركة في التاريخ لن تكون بعيدة عن مفهوم ماركس في إدارة الصراع الطبقي ، ولكن ، ستختلف المسميات، والآليات وربما سنكون بحاجة إلى التطوير النظري والتطبيقي في النظرية الماركسية.


ضرورات الماركسية :

أين نحن من الماركسية اليوم ، وهل ما تزال الماركسية هي نفسها لم تتغير، وبذات الصيغة القديمة التي تنسجم وتتناغم مع مفاهيم القرن التاسع عشر وعصر التصنيع البخاري ؟ وما هو السبيل للخروج من أزمة الماركسية الحالية ثم أخيرا، ما السبيل للخروج من هذه الأزمة التي تعانيها الماركسية على المستويين ،الفكري والتطبيقي..؟!
ما تزال الماركسية تحمل من المرجعيات النظرية والتوجهات المنهجية ما يجعلها المرجعية الأساسية من مرجعيات الفكر الاشتراكي ، فهي ’تعنى بالبحث العلمي التحليلي لسبر الواقع الإنساني المعاش ، وصولاً إلى إمكانية إنقاذه من تناقضاته التي تدّمر البشرية والذات الإنسانية،فإذا ما استوحينا هذا العامل وأضفناه إلى العوامل الأخرى التي تقوم الماركسية على أساسها، وهي رؤيتها النظرية الفلسفية المادية الجدلية ، ومنهجها المادي التاريخي، تلك التي تتطور بتطور الخبرات والمعارف الإنسانية، مضافاً إلى ذلك الطابع النضالي الذي تتخذه الماركسية للوصول بالمجتمع البشري إلى هدفها المنشود، من خلال النظام الإشتراكي ومن ثم الإنتقال إلى مرحلة الشيوعية،كل هذه العوامل مجتمعة تجد ضرورات ملّحة لها اليوم، بعد الانهيارات الأخلاقية التي يعاني منها المجتمع الرأسمالي، وبعد العري الذي أصاب منظّري الليبرالية العالمية، والنظام العولمي الجديد، والذي بدأت حدة تناقضاته تسير بالبشرية نحو المزيد من الاقتتال، والحروب الأهلية، والإقليمية، والقومية، والسياسية، والأخطر من كل هذا بأن هذه الرأسمالية لا تسعى إلى تجديد ذاتها، أو المحاولة للخروج من هذه الأزمات في توظيف الفكر والمنهج التحليلي، بل على العكس من ذلك نجدها تتجه إلى الهيمنة والسيطرة العنجهية والعسكرية، مستخدمة الحروب العسكرية والاقتصادية والسياسية سبيلاً لهذا الحل، الذي لابد أن يترك فراغاً كبيراً في إدارة شؤون هذا العالم، ويعود هذا القصور في حل الأزمات إلى غياب التيار اليساري والماركسي تحديداً، لأنه كان يشكل صمام الأمان في عملية التوازن العسكري والاقتصادي العالمي، ولكن غياب هذا القطب، العلمي والفكري المنهجي ، أدى إلى تفرد الرأسمالية بإنسان القرن العشرين والواحد والعشرين .

ضرورات التكيف والتجديد الفكري :

من هنا تأتي أهمية إعادة إحياء الفكر الماركسي بمنهجية علمية تحليلية، تقارب بين واقع الإنسان في عصر الآلة البخاري والسياق التاريخي الذي أتت فيه الماركسية، وبين عالم اليوم، مع إعطاء بعدٍ فكريٍ ، منهجيٍ ، علميٍ تحليليٍ لعالم اليوم، بدءاً بنتاجات الصراع البشري خلال القرنين الماضيين، وتأثيرات النظم التكنولوجية والمعلوماتية في تحويل العالم إلى قرية كونية، ثم نتاجات و مفاهيم عصر الحداثة، وما بعد عصر الحداثة وتأثيرها في التحول الذهني على مستوى الفكر الإنساني، الفردي والجماعي ، كما تتطلب الماركسية اليوم دراسة دقيقة وموسعة لفلسفة المادية الجدلية، والتاريخية وصولاً إلى قراءة حركة التاريخ المتسارعة خلال القرنين الماضيين من عمر النظرية الماركسية وتاريخ إطلاق " البيان الشيوعي " ( 1848 ) . وكما ارتكزت الماركسية على مرجعيات فكرية وعلمية ونظرية في سياق نشوئها التاريخي، فلابد اليوم من البحث عن مصادر فكرية تتوافق مع التحليل العلمي الذي قدمته الماركسية، وتلتقي معه في التأسيس لعالم العولمة الرأسمالية اليوم، وللبحث في أفضل السبل لتجديد أساليب وطروحات النضال الاشتراكي للهدف المنشود .
فانهيار حركات التحرر الوطني واحتدام الصراعات العرقية والقومية والدينية في العالم، والأزمات التي يعانيها اليوم النظام العالمي ومحاولات الهيمنة على العالم، إلى جانب بروز حركات اجتماعية جديدة في العالم كحركات السلام، والدفاع عن البيئة، والجماعات المدنية والأهلية، والمنظمات الدولية والصورة العامة للعولمة بدلالتيها الايجابية والسلبية فضلا عن تطور مفهوم قوى الإنتاج نتيجة للثورة العلمية الجديدة ومفهوم القيمة يفرضان تطويراً ضرورياً لمفهوم الطبقة العاملة، ومفهوم دكتاتورية البروليتاريا، فلم تعد الطبقة العاملة هي ذاتها في صورتها التقليدية بل أضيفت إليها قوى جديدة، وهكذا تتسع مرجعية الحركة الاشتراكية وتتعدد مصادر قوتها وفاعليتها عن الحدود الماركسية القديمة وان تكن امتداداً إبداعياً لها، لتصل بنا إلى إمكانية توظيف كل هذه المعطيات والعوامل الهامة في النضال من أجل إعادة صياغة جديدة للفكر الاشتراكي والشيوعي الإنساني، وصولاً إلى تحقيق الحلم الأكبر في العدالة بين الناس وخلق مجتمعات تنتفي فيها أشكال الاستغلال كافة .



-5-

الماركسية و العروبة (( القومية ))


الحقيقة أن القومية العربية تعني الإيمان بوحدة العالم العربي . الإيمان بأن العرب ينتمون إلى أمة واحدة وثقافة واحدة ، القومية العربية كانت أيديولوجية تحديث وأداة تحديث بالدرجة الأولى ولا تريد العداء لأحد بعكس( الفاشية ) .
الأفكار القومية العربية لم تكن تحمل أي بذرة للرجعية ، البعث الجديد الذي هو حزب ( شبه فاشي) بأشكال تنظيمية تصطبغ بالكثير من سمات النظم الشمولية . والآن لماذا فشلت الأمة العربية في العصور الحديثة ؟00
1 - بسبب الفشل في الوصول إلى حل القضية الفلسطينية ( والتي قامت معظم الأحزاب القومية لأجلها ).
2 - الفشل في تغيير العلاقات مع السلطة ونقلها من حالة التمركز الدولتي ( أي هيمنة الدولة ) والشعبوية إلى حالة الديمقراطية 0
3 - الفشل في توحيد العالم العربي ، وبما أن القومية العربية لم تنجز أهدافها الاستراتيجية فقد فقدت مصداقيتها وأصبحت تائهة 0
لقد كتب ( حيدر علم الدين ) على أحد المواقع الإلكترونية تحت عنوان ( سقوط المنهج القومي فكراً وممارسة ) قائلاً : [ ظل ينظر المنهج القومي إلى الماركسية بصورة سطحية بصفتها نظرية مستوردة من الخارج وأنها تتعارض مع خصوصية الأمة وأصالة أعرافها ] . ويقول المفكر الماركسي الكبير ( ياسين الحافظ ) : القومية العربية حركة معادية للتسلط الأجنبي والإقليمية والإقطاع ، ولكنها أخيراً أخذت منحاً معادياً للبرجوازية بسبب تأثرها بالماركسية أو ( بالسوفييتية ) 0
حيث يعلن ( ستالين ) : في كتابه " الماركسية والمسألة القومية – 1913 – " :|" أن الدولة القومية هي مجرد تجميع لأجزاء الوطن القومي من خلال الوحدة الاقتصادية " ، والأحزاب الشيوعية العربية أكدت على نظرية ( ستالين ) في نشوء الأمم من خلال التعويل على أولوية السوق الوطنية الواحدة والاقتصاد المشترك 0
ولكن هذا لا يصح على الأمم ما قبل الرأسمالية . وعلى هذا فالقومية العربية لم تولد في السوق البرجوازية ، بل ولدت في غمار الكفاح العربي المشترك ضد الاستعمار .
إن الهوية العربية تشكلت بعنصر حاسم ثقافي هو الإسلام كحاضن ورحم ثقافي لتكوُن الأمة يقول " ياسين الحافظ " : " الماركسية العربية عجزت عن وضع خصوصية تاريخية لواقعها ولهذا عجزت عن إنتاج ماركسية مبدعة خلاقة ملتصقة بزمنها وتاريخها مثلما فعلت الأنتلجنسيا الفييتنامية والصينية " .
ولقد استطاعت ( الناصرية ) , رغم افتقارها إلى وعي مناسب لحاجات التحرر العربي,أن تكون الأقدر على إنتاج وعي مناسب لحاجات التحرر العربي, في حين أن الشيوعيين العرب قد حكمتهم تجاه الوحدة امتثاليتهم الدوغمائية نحو النصوص الستالينية والماركسية ( المتسفيتة ) من جهة ، وواقع تكونهم من الأقليات القومية في تركيب كثير من قياداتهم من جهة أخرى, فأنتجت مفاهيم تحولت في يد أعداء الوحدة العربية لتبرير استمرارية التجزئة :إن الوحدة العربية رد على التجزئة لذلك تقوم الصهيونية على تجزئة الأمة العربية حيث يقول " أباايبان و شمعون بيريز " [ أن التجزئة للأمة العربية طوق نجاة لإسرائيل ].
إن الماركسية هي الفكر الغربي الوحيد الذي يتيح للمثقف ( العالمثالثي ) الوطني أن يكون وطنياً بحق - بالدرجة ذاتها التي يكون فيها كونياً – أي عقلانياً ديمقراطياً إنساناً يعيش ليس بجسده فقط في حاضر العصر بل يعيش بعقله مستقبله أيضاً بدون استلاب أو إلحاق أو إستتباع .
الماركسية أتاحت للمثقف أن يكون عالمياً وكونياً من جهة ، ووطنياً وقومياً من جهة أخرى دون تناقض . لأن القومية العربية بطبيعتها إنسانية .
أما عن ( الشوفينية ) والتعصب القومي فلا معنى للحديث عنها بالنسبة للأمم المضطهدة استعمارياً. يقول ( الياس مرقص ) المفكر الماركسي: " المنظور الوحدوي وحده منظور ثوري مناهض للاستعمار " . ولكن وجدنا في الوطن العربي أن الأقليات القومية هي التي ركبت موجتها العاتية فكانت تضع الوحدة العربية على الرف حيناً وتناوئها حيناً آخر .
ومن هنا كانت الماركسية في الوطن العربي ضحية ، للأسباب التالية :
1- هيمنة الفكر التقليدي .
2- الدعاية الاستعمارية المعادية .
3- الممارسة الستالينية للأحزاب الشيوعية العربية .
4- دور العناصر والتيارات البورجوازية الصغيرة القومية وعداؤها للاشتراكية العلمية .
5- سيطرة الأقليات القومية على الأحزاب الشيوعية العربية .
6- الآن بدأ طوق عزلة الماركسيين في الوطن العربي بالإنكسار لسببين :
1 - سقوط الستالينية .
2- نمو حركة الجماهير العربية ، وتحرك القومية العربية للاشتراكية ، لذلك لا بد من النظر لما يلي لتكون الماركسية وعياً مناسباً لواقع الأمة العربية :
أولاً - تعريب الماركسية : ( أي تحقيق اندماجها مع حركة الجماهير العربية خلال الممارسة السياسية ) وذلك بتطبيق الماركسية على الواقع العربي وتفاعلها معه ونبذ الصيغ المحفوظة والمرددة عبر :
ا - نبذ الوصاية على الجماهير .
ب - نفي وجود نظرية جاهزة ونهائية .
ج - التعامل مع الواقع حتى نحدد سيره وكشف حجب الغيبيات الخرافية والابتعاد عنها .

ثانياً – علمية وعلمانية الماركسية : الانطلاق من الواقع العربي الذي نعيش فيه ( التخلف الثقافي الغارق في ظلا مات السحر والوهم والغيبيات ) عن طريق امتلاك وعي عقلاني علمي للواقع والعالم يرفض سائر أشكال الضياع .
خصوصية المجتمع العربي أنه ( لم يعش المرحلة الديمقراطية البرجوازية على الصعيدين الفكري الإيديولوجي السياسي التقليدي) .
لذلك ( فالاشتراكية ) إما أن تكون ( علمية ) أو لا تكون سوى قشرة كاذبة على سطح المجتمع تخفي تأثره وضياعه وغربته عن العصر . وهذه العلمية البعيدة عن الطوباوية والخيال هي الكفيلة بإخراج المجتمع العربي من عقلية القرون الوسطى .
ثالثاً - الماركسية العربية ( الشيوعية ) :
ً1 – لقد تمت عزلة الماركسية في العالم العربي بسبب ستالينيتها ( أيديولوجية و ممارسة ) التي تجسدت في : أ – اعتماد الحلول الجاهزة اعتماداً على الماركسية الكلاسيكية .
ب- الجمود العقائدي بوصفه ظاهرة انحطاط في الماركسية .

ً2- أهملت الأحزاب الشيوعية الجانب العلمي العلماني في الماركسية إذ تجاهلت خصوصية المجتمع العربي الذي لم يعش المرحلة الديمقراطية البرجوازية على الصعيد الفكري و الثقافي: لقد كانت الشيوعية العربية تنتقد الديمقراطية باسم الاشتراكية قيد التحقيق ، فالتقت بذلك مع التيار القومي الذي يستبعد الديمقراطية باسم وحدة الأمة العربية (( أو ضرورات المعركة مع إسرائيل )) .

ً3 – تعامل الماركسيون العرب مع الماركسية كفهم للماضي بينما تعامل معها الفيتناميون والصينيون كفهم للمستقبل .
في مجلة (النور ) اللبنانية العدد ( 85 ) ص/ 27 – 28 / كتب ( أسامة الهندي ) مقالاً بعنوان (رؤية اليسار العربي التاريخية للمشروع الصهيوني ) قال فيه: ( الماركسية اللينينية عارضت مفهوم الأمة اليهودية الواحدة ) , (( لقد كانت الماركسية و الصهيونية على تناقض رئيسي حاسم )) .
هناك حقيقة تاريخية هامة وهي أن الثورة العربية الكبرى
(1916 ) والثورة البلشفية في روسيا ( 1917) كانتا منذ البداية وبالرغم من اختلاف طبيعتهما الطبقية الأيديولوجية تواجهان عدواً مشتركاً هو الصهيونية ، حيث كانت الصهيونية متحالفة مع الاستعمار وبينهما صلة عضوية مما دفع انجلترا لإعطاء ( وعد بلفور ) للصهاينة ويمكننا القول ( أن الموقف المبدئي للماركسية اللينينية كان يرفض دائماً الموضوعة القائلة بأن اليهود يشكلون أمة ) ( أسامة الهندي ) ، وقد ناصب ( لينين ) منظمة ( البوند ) اليهودية الروسية العداء ، التي دعت إلى الاستقلال الثقافي اليهودي داخل روسيا لكن ( ستالين ) في أوائل الثلاثينات اضطر لإقامة حكم يهودي ذاتي داخل الاتحاد السوفييتي بهدف قطع الطريق على الحركة الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين ولكن محاولته باءت بالفشل .
ومن أخطاء ( ستالين ) أنه تخلى عن الماركسية اللينينية وموقفها الصارم تجاه الصهيونية ونظر بعقلية رجل الدولة ومصالحها حيث أيد الاتحاد السوفييتي قرار التقسيم باعتباره حلاً واقعياً للمسألتين الإستيطانية اليهودية والمسألة الفلسطينية ، وأيدت الأحزاب الشيوعية العربية هذا القرار ووقفت ضد الحرب عام -1948 - في فلسطين وأدان بعضها " التدخل الرجعي العربي " في هذه الحرب ، مما دعا الجماهير الغاضبة في دمشق إثر خسارة العرب لهذه الحرب إلى مهاجمة مقر ( الحزب الشيوعي السوري ) الذي كان يقع في( ركن الدين ) وحرقه وقتل الرفيق ( حسين عاقو ) الذي كان آنذاك داخله - حيث كان الحزب علنياً .
بعد عام 1948 بدأت ولادة جديدة لحركة القومية العربية تعد بديلاً للحركة القومية العربية التقليدية التي واكبت الثورة العربية الكبرى حتى قيام ( إسرائيل ) / 15 / أيار/1948 ويمكن اختصار هذا الفارق بينهما بتبيان الاختلاف في مضمونهما :
هذه مقارنة بين الحركة القومية العربية ( التقليدية و الجديدة ) :
التقليدية :
ً1 - التمسك بالمرجعية الثقافية العربية .
ً2 - الديمقراطية السياسية .
ً3 - التمسك بالنظام الرأسمالي .
ً4 - التحالف مع الغرب عالمياً وإقليمياً .
الجديدة :
ً1 - التمسك بالمرجعية الثقافية العربية .
ً2 - الديمقراطية الاجتماعية .
ً3 - التطور الاشتراكي .
ً4 - الحياد الإيجابي بين المعسكرين .
ً5 - العلمانية .
أما الحركة الشيوعية العربية التقليدية : فقد كانت بعيدة عن التأثر المباشر بهذه التحولات ، فقد كانت إما غائبة أو مغيبة في تناول المسألة
الفلسطينية وإن أدان بعضها الكفاح المسلح الفلسطيني منذ البداية مؤكداً على نهج العملية الثورية الاجتماعية داخل إسرائيل وعلى الحلول السلمية بقيادة الاتحاد السوفييتي . وبعد وصول ( الليكود ) إلى السلطة في إسرائيل وفشل خيار اليسار العربي في تحويل إسرائيل من الداخل ديمقراطياً والرهان على اليسار الإسرائيلي، تحالف اليسار الفلسطيني مع حركة فتح التي قادت عملية ( التحول السلمي ) وصولاً إلى اتفاقية أوسلو .
نشرت مجلة ( الطريق ) عن الفكر القومي الماركسي في العدد/1/ كانون الثاني /1998 وتحت عنوان :
( المنظور الوحدوي وحده منظور ثوري مناهض للاستعمار ) ما يلي: تغير العالم يبدأ بإنشاء الدولة القومية للأمة العربية على أسس (( الماركسية اللينينية )) (( التي سيعتنقها المثقفون والعمال العرب .والأحزاب الشيوعية غير الستالينية على قاعدة عريضة من القوميين من الطبقات البرجوازية والعمال والجنود والمثقفين الشرفاء )) أمة عربية موحدة تسودها العدالة والديمقراطية مبنية على ( الماركسية التي هي دليل عمل وليست عقيدة جامدة ) و تترسخ في الممارسة التي هي مجموع النشاط الإنساني الذي يشمل ( ثلاثة أشكال رئيسية هي الإنتاج الاقتصادي والنضال الطبقي القومي والتجربة العلمية ).
النقد الموجه للأحزاب الشيوعية العربية من قبل ميشيل عفلق : ( إن الأحزاب الشيوعية تدرك أنها تخلفت كثيراً عن ركب التطور وبالغت في التبعية والولاء الخارجي ، واكتفت بترديد الفكر الثوري العالمي ترديداً حرفياً جامداً ، فكانت بذلك عاجزة عن تقديم شيء جديد للثورة العربية . وهي الآن كأحزاب وأفراد تفتش عن مكان مستقر لها في الوطن الذي نعيش فيه ، فهي أمام عملية اندماج وطني وهذا نرحب به ونستبشر ) [ عفلق في كتابه: ( في سبيل البعث ) ج2 ، تشرين 1 / 1967/ ]
( رأي عفلق بالماركسية ):
ً1 - يعتبرها المبشرة بالإلحاد والمادية تطمح إلى نفي الدين .
ً2 - الشيوعية الماركسية هي المبشر بنسبية القومية ومرحليتها .
ً3 - مذهب أولية المادة عند الماركسية ، وانعكاس الفكر عن حركتها .
ً4 - تسعى الماركسية لحل مشكلة قطاع من الأمة مجرد طبقة من طبقاتها هي البروليتاريا لأن هذه الطبقة هي حاملة رسالة التقدم .
َ5 - لأن نشأتها أوروبية فهو يرى أنها بمثابة الرافد الغربي في واقعنا العربي .
يتوقع عفلق سقوط الشيوعية السوفياتية (أيار 1970) :
(( بشكل ينذر بأن الشيء الذي سمي شيوعية منذ نصف قرن سيصبح بعد عشرين أو ثلاثين سنة شيء من التاريخ ، والعالم يشهد تطورات هي أقرب إلى أن تكون ثورات فكرية ، هذا التصدع في المعتقدات التي كانت تظهر قبل عشرين سنة أو أقل بأنها معتقدات أبدية وعلمية لا يتطرق إليها الشك قد أصبحت اليوم تعاني من التصدع والتفكك )) .
هناك مآخذ على الفكر القومي العربي الذي ساد في مرحلة ما بعد الاستقلال منها :
إهمال التبصر التاريخي في نشأة الأمم وتطورها ونضالها في سبيل استكمال مقومات وحدتها وتأسيس دولتها القومية .
(( إذ يرى القوميون ألعرب أن الحركات القومية الأوروبية ليس تاريخ تكوُن أمم ولا تاريخ نمو حركات قومية حقيقية تشتمل على طبقات وصراعات طبقية,بل إنها تاريخ فكرة قومية وتفرعاتها السياسية والاقتصادية في بعض الأحيان حتى الوحدة الاقتصادية عند ( ساطع الحصري ) ما هي إلا نتيجة لاختمار فكري ليس له جذور في التطور الاقتصادي وحاجاته الملحة ( نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري ) – الياس مرقص – 1966 .
إن القومية العربية حقيقة وجدانية ( نحن عرب ) نحن أمة عربية ، نحن حضارة ماضية وطليعة لحضارة آتية ( هذه بديهيات لا تحتاج إلى برهان ) , أما المذاهب القطرية التاريخية من فينيقية وفرعونية وآشورية و بربرية فهي هرطقات ( هي جزء من التاريخ )
( الياس مرقص ) .
يقول ( الياس مرقص ) : حجر الأساس في البناء الفكري لنظرية القومية العربية هي أن القومية العربية مبدأ تقدمي ، هي الطموح إلى الاستقلال القومي و الوحدة العربية النزوع إلى تكوين الدولة القومية كمطلب ضروري من مطالب التقدم التاريخي ) .
( لقد ورثنا عروبتنا عن أجدادنا ، أما قوميتنا فعلينا أن نصنعها في كل لحظة ).
بينما القومية عند (عفلق ) (معطى طبيعي جاهز ) وعند ( الحصري ) تساوي بين العروبة والقومية ) .
حول تكوُن الأمة العربية : إن العروبة وجدت مع العرب ؛ مع الهجرات العربية من اليمن ومن الحجاز فيما بعد حين قلب الإسلام القبائل العربية المتغازية إلى أمة ، وربما كان رائد القومية العربية هو الفاروق (عمر بن الخطاب ) حين قال :(( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام )),وقال( أبو الأعلى المودودي ) ( القوم هم الذين قاموا معك ) وهذا يمكن أن يكون أدق تعريف لتكوُن الأمة العربية فالعرب أمة قوم وقومية تكونت من خلال الإسلام الذي صنعها وهذبها .
و( العروبة ) معطى طبيعي يتكون من خلال ظروف تاريخية تتحدد لغته ونظرته البدائية إلى العالم ، وتراكم ثقافته من خلال التقاليد والعادات والظروف المعيشية ).
أما (القومية العربية ) فهي فكرة سياسية واعية توجه حاضر الأمة نحو مستقبلها مرة عبر مبادئ الإسلام ومرة عبر مبادئ الحياة الحديثة في الوحدة القومية ، والتصنيع والعلم التجريبي والديمقراطية وحرية الفكر وحوار الحضارات .
( القومية الحديثة ) يجب أن تكون من صنع العرب المحدثين بأفكارهم وشغلهم ونضالهم وطموحهم ، وبذلك تندرج القومية في الصيرورة التاريخية لحاضر الأمة و مستقبلها _ وحتى لا تقع الفكرة القومية في( المثالية الهيغلية ) ( إن الفكر خالق الواقع بدلاً من القول الفكر فكر الواقع وفكرٌ للواقع ) ,
إن الفكرة القومية العربية مندمجة في الصيرورة التاريخية لنضال الأمة العربية .
دراسة الأمة من خلال الطبيعة التاريخية : فالتاريخ ليس عاملاً يضاف إلى عوامل ، إنه طبيعة الوجود ، طبيعة وجود كل العوامل ، ونشوء الأمة التاريخية المستقرة . ( ساطع الحصري ) ( يضع الأمم فوق التاريخ ، ولا يرى تكون الأمم . لذلك لا نجد في كتب " الحصري " أمة تتكون ) بعكس النظرية الماركسية التي ترى في التاريخ نشوءا ونمواً وتكوناً تاريخياً مشخصاً ) .
تستند الماركسية السوفياتية في عوامل نشوء الأمة إلى تعريف ( ستالين ) ( الأمة جماعة مستقرة من الناس تاريخياً على أساس 1- جامعة اللغة 2- الأرض 3- والحياة الاقتصادية والتكوين النفسي المشترك الذي يجد تعبيراً عنه في الثقافة المشتركة ).
ويقول( ستالين ) إن غياب أي من العلائم الأربعة يكفي لإسقاط صفة الأمة .
عوامل تشكل الأمة :
ً1 - ( التاريخ ) : (( الأمة مقولة تاريخية لعصر الرأسمالية الصاعدة )) لأن الاقتصاد المشترك لا يتحقق إلا بعد اندثار الإقطاعية وتكُون السوق القومية والتكامل الاقتصادي البرجوازي .
التاريخ هو بمثابة شعور الأمة و ذاكرتها , فكل أمة من الأمم ، إنما تشعر بذاتها وتكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص أي التاريخ الحي في النفوس الشائع في الأذهان المستولي على التقاليد ))" عندما نقول ( وحدة التاريخ ) يجب أن لا نفهم من ذلك الوحدة التامة في جميع أدوار التاريخ التي أوجدت ثقافة الأمة الأساسية و أعطتها لغتها الحالية وطبعتها بطابعها الخاص ، وإلا لما استطعنا أن نجد أمة واحدة كانت (موحدة ) على طول تاريخها توحيداً تاماً "
( الحصري ) كمفكر قومي يقول : " أهم العوامل التي تؤدي إلى تكوين القرابة المعنوية التي يشعر بها الأفراد في الأمم المختلفة هي
اللغة و التاريخ "
ً2 - (اللغة ): يقول ( الحصري ) " إن اللغة هي روح الأمة و حياتها , إنها بمثابة محور القومية وعمودها الفقري وهي من أهم مقوماتها ومشخصاتها "
ثم يقول (( إن الأمم المستعمرة التي تحافظ على لغتها تشبه السجين الذي يمسك بيده مفتاح سجنه)).
ويقول ( فيخته )/مفكر ألماني في كتابه "خطاب إلى الأمة الألمانية "(1807): " إن الحدود الأساسية التي تستحق التسمية باسم ( الطبيعية ) هي الحدود الداخلية التي ترسمها اللغات " ,
أما (بافلوف) فيقول ( إن اللغة منبه شرطي ثانٍ بعد الأحاسيس ) .
وتمتاز اللغة بأنها تجريد للواقع وقابلة للتعميم في حين أن ( الفكر انعكاس للواقع ) ولكن اللغة ليست علاقة طبقية بل علاقة قومية وهي ترتبط بعملية الإنتاج لكنها لا تنبع من نظام اقتصادي محدد .
(مرقص ) يقرر: ( أن دور العامل اللغوي في التوحيد والفصل يبدأ قبل ( فيخته ) بقرون طويلة ويتعاظم تدريجياً مع نمو الاقتصاد البضاعي والبرجوازية والرأسمالية هذا ما تبينه الماركسية ) .
أما ( لينين ) في كتابه ( حق الأمم في تقرير مصيرها ) /1914/ فيقول: [ إن عهد انتصار الرأسمالية على الإقطاعية انتصاراً نهائياً قد اقترن في كل أنحاء العالم بحركات قومية للإنتاج البضاعي ، كان يقتضي أن تستولي البرجوازية على السوق الداخلي ، وأن تتحد في دولة الأقاليم التي يتكلم سكانها اللغة نفسها ، وأن يزال كل عائق من شأنه أن يعرقل انبساط هذه اللغة ويدعمها بالأدب . فاللغة واسطة عظمى للاتصال بين البشر ، وأن وحدة اللغة وانكشافها الحر هما أحد الشروط الأكثر أهمية لقيام تبادلات تجارية حرة حقاً ، وواسعة حقاً ، وملائمة للرأسمالية العصرية ، ولتجمع السكان الحر والشامل في كل طبقة مأخوذة على حدة . وهما أخيراً شرط قيام رابطة وثيقة بين كل رب عمل كبير أو صغير ومع كل بائع وكل مشتر لذلك فأن تكون (دولة قومية ) تلبي على النحو الأفضل متطلبات الرأسمالية العصرية هذه هو منزع خاص لكل حركة قومية . إن أعمق العوامل الاقتصادية تسهم في ذلك بالنسبة إلى أوروبا الغربية ، بل تستند إلى العالم المتمدن بأجمعه, إن الوضع الطبيعي والسوي في عهد الرأسمالية هو ( الدولة القومية ) ].
يقول ( ستالين )/في كتابه "الماركسية والمسألة القومية"(1913)/ : (في الواقع إن الأمة ، أعني وحدة الأرض ، واللغة ، والثقافة لم تهبط من السماء . وإنما تكونت بالتدريج ، منذ ما قبل الرأسمالية , ولكن هذه العناصر كانت إذ ذاك في حالة رشيمية تساعد على تكوين الأمة في المستقبل عندما تتوافر الظروف الملائمة لذلك ، وهذه الإمكانات الكائنة لم تتحول إلى واقع إلا في عهد نهوض الرأسمالية ،مع أسواقها القومية ومراكزها الاقتصادية والثقافية ) ..
ً3 - الأرض المشتركة: ( ساطع الحصري ) يسلم بأهمية الأرض لكنه لا يجعلها من مقومات الأمة لأنها خاضعة لسيادة الدولة وقوتها " إن مفهوم الدولة يرتبط بمفهوم الوطن من جهة وبمفهوم الأمة من جهة أخرى فيكون بذلك بمثابة خط واصل بين هذين المفهومين " .
الدولة : قد تشتمل على الأمة أو على عدد من الأمم أو على جزء من الأمة ، ومع ذلك فإن ( فقدان الاتصال الجغرافي قد يؤدي إلى بقاء أجزاء الأمة الواحدة منفصلاً بعضها عن بعض ، رغم اتحادها في اللغة والتاريخ ، زد على ذلك أنه قد يؤدي بمرور الزمن إلى تباين وتباعد في اللغة والتاريخ أيضاً ),
ويضيف ( الحصري ) ( لا شك في أن " الأرض المشتركة " من لوازم الدولة الأساسية ، ولكن الأمة لا يكون لها ( أرض مشتركة ) أو ( أرض محددة الحدود ) إلا إذا كونت دولة قومية واحدة ).
يجيب (الماركسيون ) (= الياس مرقص ) عن كيفية دخول الأرض في عوامل القومية :
" الأرض موضع تمييز بين الأمة وبين الجماعات ما قبل القومية "العشائر ، القبائل المتنقلة واتحادات القبائل شبه المستقرة . إن استقرار هذه الجماعات في الأرض وتمازجها واختلاطها مع السكان الأصليين هو بداية تحطم العلاقات والروابط القبلية وبداية تكون علاقات وروابط جديدة إقليمية – وقومية . إن تكون الأمم لا ينفصل عن هذا الاستقرار في الوطن القومي .
الفرق : بين الأسرة والعشيرة من جهة وبين الأمة والدولة من جهة ثانية ليس فرقاً في الحجم بين جماعة ( صغيرة ) و جماعة ( كبيرة ) في العشيرة ، والقبيلة إنتاج ما قبل الزراعة ، ملكية جماعية . علاقات بطريركية. رابطة الدم .
في الأمة ، إنتاج بضاعي زراعي صناعي ، تقسيم واسع للعمل . تمايز طبقي كبير ، صراع طبقات ، روابط وعلاقات . [قومية ] الأرض هي المصدر الوحيد للإنتاج ، ولها دور واضح في تكوين ملامحهم النفسية القومية والإقليمية .
الجغرافيا : لا تصنع الأمم ولا تقرر تاريخها وأحوالها ولكن الأمم وتاريخها وأحوالها تبقى سراً مغلقاً بدون الجغرافيا الأرض شيء هام في حياة البشر ، إنها أحد قطبي الإنتاج . الأمة تعيش في أرض قومية تستقر فيها تاريخياً الأقوام المكونة للأمة في الوطن القومي" .
ً4 - الحياة الاقتصادية المشتركة : يعترض ( الحصري ) اعتراضاً كلياً على هذا العامل من حيث كونه أحد مكونات الأمة فالمصالح الاقتصادية ( ليست ظاهره ولا ثابتة ) ولا توجد أمة واحدة لا تتضارب فيها مصالح مختلف الجماعات والمناطق .
( والحصري ) بعكس ( انطون سعادة ) يفصل القومية عن المنفعة . يقول ( إن القومية لا تنشأ عن المنفعة ، إنها عاطفة تصدر من أعماق النفس لاعن فكرة تتولد من ملاحظات العقل ) ( المصالح الاقتصادية تفرق ولا توحد ) وهي خاضعة للسلطة الحاكمة ( إنا نعلم أن الحياة الاقتصادية مرتبطة بالدولة ارتباطاً وثيقاً فاستبعاد الدولة من عداد مقومات الأمة الأساسية يستلزم _ منطقياً _ استبعاد الحياة الاقتصادية التابعة لها .
فإذا تجزأت الأمة الواحدة مثلاً . ودخلت أجزاؤها المختلفة تحت حكم دول عديدة , فقدت على الفور حياتها الاقتصادية المشتركة )
يقول ( الحصري ) : ( إن الحياة الاقتصادية المشتركة لا تتيسر إلا بعد تكوين الدولة القومية فيجب أن تعتبر من نتائج تكوين الأمة واستقلالها لا من عوامل تكوينها ) .
ً5 - التكوين النفسي المشترك : يقول ( الحصري ) : (( إن الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكون القومية ) ثم يقول ( على الصعيد النظري العام يمكن القول ، لقد كان الدين الأيديولوجيا الوحيدة للشعوب في عصر تكون الأمم الأوروبية ، وعلى هذا الأساس فقد أعطى هذه الشعوب عدداً من العناصر التي دخلت في شخصيتها القومية ))
أما نظرية ( إرنست رينان ) مفكر فرنسي / ت / 1892 / ، في
المشيئة المشتركة : فيلخصها (الحصري) [ قالوا إن أهم العوامل التي تلعب دوراً حاسماً في تكوين القومية هو مشيئة الجماعات في البقاء متحدين وفي تكوين أمة ذات شخصية واستقلال ] .
يرفض ( الحصري ) نظرية المشيئة فيقول: (( إن هذه المشيئة لا تظهر إلا بالتصويت ، ومن المعلوم أن التصويت يتأثر كثيراً بالاعتيادات والدعايات ، وتتحول لذلك بسرعة ، وذلك يخرج الأمة من عداد ( الجماعات الطبيعية ) ويجعلها شبيهة بالأحزاب المصطنعة )) . نشأت هذه النظرية (( المشيئة )) لأن الألزاس واللورين كان سكانها الماناً ، لكنهم ساندوا الثورة الفرنسية ضد الأمراء والكهنوت في منطقتهم .
يقول ( مرقص ) عن ذلك: (( صارت فرنسا ، في وعي وشعور وذاكرة شعب الألزاس ، تتعادل مع الأرض والحرية ، وصارت النمسا الألمانية تتعادل مع الإقطاعية والاستبداد )) ينتقد ( مرقص ) ( الحصري ) الذي لا يعول في نظريته القومية إلا على اللغة فيقول: (( إن النظرية التي تخرج الاقتصاد والدين والدولة والأرض والمشيئة والطموح إلى حياة أفضل عاجزة عن
تشخيص الأمة ومقوماتها ))
ً6 - نظرية وحدة مصالح الأمة : هذه النظرية تنكر صراع الطبقات داخل الأمة ,وهي تضع مصالح الأمة فوق صراع الطبقات كمقدمة لتجنيد الشعب في حرب استعمارية لاستعباد الأمم والأخرى ونهبها _ ( الحصري ) "اكتشف أن استعمال الاستعمار كان " نتيجة انتشار مبدأ القوميات ، وقيام الثورة الصناعية ".
( مرقص ) ينتقد في كتابه ( الماركسية في عصرنا ) ط1 -1965/ط 2-1969/ ( ستالين ) عندما يعرَف الأمة في علائمها الأربع قائلاً: " إن هذه العلائم ذات أهمية بالغة ، غير أن (ستالين ) أحالها إلى علائم مطلقة وكأن العلم الاجتماعي ضرب من الجبر ، إن مقولة الأمة مقولة مرنة ديالكتيكية قابلة للزيادة والنقصان , فالأمة الهندية لا تتوفر فيها وحدة اللغة وهي مع ذلك أمة . إن تعريف ( ستالين ) المشتق من تجربة محدودة في الزمان والمكان ( أوروبا البرجوازية الصاعدة ) لا يمكن تحويله إلى أداة عامة كونية ". ولا نتحدث هنا عن كل الاستنتاجات التي استخلصت من هذا التعريف حتى صار طلسماً يكرر على نمط واحد رتيب فالدين ( لا علاقة له بالأمة ) ( ؟) لأنه لم يرد بالتعريف ( وهذا ما أخذه أعداء الماركسية من بعض المتعصبين الشوفينيين والرجعيين والامبرياليين حجة قاتلة على الماركسية متهمين إياها بالإلحاد زوراً وبهتاناً ) ( ولا يلاحظ أن التاريخ المشترك هو تاريخ العلائم المشتركة ) ولكن لا بد من الإشارة إلى أن بعض العلائم الستالينية نسبي تماماً ( التكوين النفسي والثقافة ) وهو لا يرتبط بالأمة فقط . بل يرتبط بالطبقة أيضاً .
في عام 1925 عدل ( ستالين ) موقفه ، وقال إن الحركة القومية غدت بعد عام 1917 حركة فلاحية من حيث الجوهر,و بناء الدولة القومية يتوقف على الثورة القومية والديمقراطية الاشتراكية التي تنجز إستقلالين : 1- استقلال سياسي 2- استقلال اقتصادي .
لقد جزأ الاستعمار الفرنسي – البريطاني الاقتصاد العربي تجزئة جذرية بنيانية بتحويله اقتصاد كل قطر إلى ذيل ( مكمل ) لاقتصاد الدولة الاستعمارية المسيطرة فأصبحت الرأسمالية الأجنبية – الاستعمارية والمحلية الكومبردورية وتوابعها العائق االأساسي في طريق التوحيد القومي, هذا التوحيد لا يمكن أن ينبثق من التطور الاقتصادي الرأسمالي ، من نشوء سوق عربية رأسمالية مستحيلة , بل ينبثق من نضال الجماهير ، إنه جزء في سير الثورة القومية الاشتراكية – حركة التوحيد القومي لا بد من أن تشتمل على تحرير الاقتصاد العربي وتطويره
(مرقص ) [ يختلف ] مع الشيوعيين العرب : الذين يعتبرون أن الاقتصاد المشترك شرطاً أساسياً للوحدة [ ويتفق ] مع الشيوعيين على الثورة . أي تحويل الثورة القومية إلى ثورة اشتراكية (( إن الثورة القومية المعادية للاستعمار هي جزء هام من الثورة الاشتراكية العالمية )) إن الهدف التاريخي البعيد للثورة العربية هي الاشتراكية " أي قطع الصلة الاستغلالية مع الاستعمار الإمبريالي . الشعار المركزي للثورة العربية هو الوحدة العربية (( باعتبارها الطريق إلى البترول وإلى فلسطين وإلى التصنيع والتنمية والتكامل الاقتصادي ، باعتبارها الوسيلة الأساسية لنزع السيطرة الامبريالية )) إن هدف الاستعمار وأعوانه هو منع الوحدة. لقد أنقذ ( الياس مرقص ) النظرية القومية من المثالية والذاتية والصوفية والفاشية كما أنقذ النظرية الاشتراكية من تلاعب الشعوبيين والقطريين و الانتهازيين .
إن القومية العربية ، كحركة سياسية حديثة ، لم تتطور عما قدمت نفسها في الخمسينيات والستينيات ، والآن وبعد فشلها في إدارة البلدان التي وصلت للحكم فيها نحو التنمية والتحديث ، وفي إدارة الصراع مع إسرائيل والغرب ، تنتصب أمام القوميين العرب ، وهؤلاء لا يقتصرون على المنتسبين إلى الحركات والأحزاب القومية ، مهمة تطوير الفكر القومي العربي ، بشكل يناسب الشروط الجديدة التي جعلت الأمة العربية تعيش أضعف حالاتها في مجال الأمن القومي الاقتصادي والسياسي والعسكري ، وخاصة بعد سقوط بغداد عندما أتى الخارج الإمبريالي ليس فقط لصياغة السياسات الإقليمية للبلدان العربية ، كما كان يجري في الماضي ، وإنما يريد أيضاً ، عبر السيطرة والاحتلال والهيمنة إعادة صياغة الداخل العربي ، بكل عناصره ، وفقاً لمصالحه ، من خلال خلق مكونات سياسية تتماهى مع طروحاته ، عبر مقولة ( ديمقراطية المكونات ) والتي تريد نظم الحياة السياسية عبر أطر دينية وطائفية وإثنية .



-6-

من تعدد الأقطاب إلى القطب الواحد
لم تشهد العلاقات الدولية استقرار النصاب لدولة واحدة ، تتحكم بمسار الوضع الدولي ، إلا في عام 1989 مع واشنطن بعد انتصارها على المعسكر السوفيتي ، مكررة سابقة روما الوحيدة عشية بدء الألفية الأولى .
في العصور الحديثة استطاعت إنكلترا ، بعد هزيمتها للأسبان في معركة الأرمادا ( 1588 ) إثر منافسة استغرقت نصف قرن للسيطرة على العالم الجديد ، أن تكون القوة الأعظم حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، إلا أنها لم تستطع أن تكون وحيدة و بدون منافس على قمة العلاقات الدولية : نافستها فرنسا عبر حروب لويس الرابع عشر معها ( 1643 - 1715 ) ، و في حرب السنوات السبع ( 1756 - 1763 ) ، و عبر نابليون ( 1799 - 1815 ) . وهي و رغم بحثها عن إدامة الاستقرار الأوروبي بعد هزيمة نابليون ، لم تستطع أن تمنع ظهور المنافس الألماني ، مما جرّ العالم إلى الحربين العالميتين ، ولا بزوغ القوة اليابانية بعد هزيمتها لروسيا في عام 1904 ، ولا نمو روسيا السوفيتية و تحولها إلى قوة عالمية بعد الانتصار على الألمان في عام/ 1945/على ضفة الأطلسي الأخرى ، كان هناك قوة تنمو بهدوء بعيداً عن عواصف العالم القديم ، متمتعة بعزلة ( مبدأ مونرو : 1823 ) الذي وضع خطوطاً حمراً أمام تدخلية القوى الأوربية في شؤون الأمريكيتين ، ونائياً بالعالم الجديد عن التدخل في شؤون ذلك القديم : لم تتدخل الولايات المتحدة في الشؤون الدولية إلا في عام 1898 عبر حربها مع إسبانيا ، مما أجبر الأخيرة على التنازل لواشنطن عن الفليبين ، فيما أدى دخولها في الحرب العالمية الأولى عام 1917 ، و بعد إنهاك الطرفين ، إلى وضع مبدأ مونرو جانباً ، و إلى تحولها إلى قوة دولية كبرى فعّالة و إن كان وزنها السياسي لم يرتق إلى مستوى عملقتها الاقتصادية إلا بعد تفردها مع موسكو في الزعامة العالمية ، إثر نهاية الحرب العالمية الثانية ، ودخول العالم في أتون الحرب الباردة ( 1947 - 1989 ) ، فيما تحولت لندن و باريس إلى قوى سياسية من الدرجة الثانية ، وخاصة بعد فقدانهما لمستعمراتهما بين عامي ( 1946 - 1962 ) ، بينما كانتا على الصعيد الاقتصادي وراء اليابان و ألمانيا الغربية المجردتين ، بحكم آثار الحرب ، من أي دور سياسي دولي مستقل .
أتى الانتصار الأمريكي في ( الحرب الباردة ) عبر وسائل غير عسكرية : لم تكن روسيا القيصرية أكثر تطوراً من إسبانيا /1917 /، ولم تكن تعادل صناعتها أكثر من ( 12.5 % ) من حجم الصناعة الأمريكية في ذلك العام .
صحيح أن حجم الصناعة السوفيتية من تلك الأمريكية قد أصبح يعادل ( 75 % ) في العام/ 1970 / إلا أن من الضروري إدراك أن الطابع المافوق قومي للشركات الأمريكية كان يعطي الولايات المتحدة وزناً اقتصادياً لا يمكن قياسه عبر المعايير الاقتصادية التقليدية ، فقد زادت الاستثمارات الأمريكية المباشرة في الخارج ، بين عامي/ 1946 - 1966 / ، من ( 7.2 مليار دولار ) إلى ( 54.6 مليار دولار ) ، و كان حجم السوق الأجنبي للشركات الأمريكية عام 1965 يعادل تقريباً ( 40 % ) من الناتج المحلي للشركات و المصانع و المناجم الأمريكية ، وإذا أردنا حساب ذلك، عبر اللغة الاقتصادية ، فقد كانت الشركات الأمريكية في الخارج ثالث أكبر وحدة اقتصادية في العالم بعد الاقتصادين المحليين الأمريكي و السوفيتي في أواسط الستينيات ، فيما ازداد ترابط اقتصاديات ( المعسكر الغربي ) أي الولايات المتحدة و بلدان السوق الأوربية المشتركة ( يشمل ذلك بريطانيا التي لم تدخل السوق إلا في عام 1972 ) حيث ازداد نصيب مبادلاتها البينية من نسبة ( 46 % ) من حجم التجارة العالمية في 1928 إلى ( 62 % ) في عام 1965 ، فيما زاد حجم التوظيفات الأمريكية في أوربا الغربية من ( 17.5 مليار دولار ) في عام 1966 إلى ( 500 مليار ) في عام 1991 ، مما زاد من حجم التداخلات العضوية بين الاقتصاديات الرأسمالية ، وهو شيء لم تنجح به منظمة ( الكوميكون ) ، الخاصة ببلدان ( الكتلة الشرقية ) و التي تأسست في عام 1949 ، لتصبح بلدانها في النهاية عبئاً على الاقتصاد السوفيتي .
كانت الولايات المتحدة تعادل باقتصادها ما يقارب ( 25 % ) من الناتج الاقتصادي العالمي في النصف الأول من عقد الثمانينيات ، فيما كان الاقتصاد السوفيتي يدخل في مرحلة التراجع بعد عام 1970 ، رغم أن دخول موسكو إلى سوق تصدير النفط ، قد أخرّ من انفجار الأزمة إلا أن مفاعيل ذلك قد بدأت بالظهور عندما سبقت اليابان الاتحاد السوفيتي في الترتيب الاقتصادي العالمي منذ عام 1983 محتلة المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة ، وإن كان تفوق الأخيرة الاقتصادي قد تعزز بالثمانينيات مع رفع ريغان لمعدلات الفائدة بالبنوك الأمريكية ، مما أدى إلى هجرة ( 600 مليار دولار ) من الرساميل العالمية إلى السوق الأمريكية بين عامي ( 1981 - 1986 ) ، مترافقاً مع هجرة كثيفة للأدمغة العالمية إليها ، مما جعلها تحوي أواسط الثمانينيات 70 % من الطاقة العلمية العالمية .
إذا كانت السياسة هي تعبير مكثف للإقتصاد ، وفق تعبير كارل ماركس ، فإن التوازن العالمي بين المعسكرين ، وهو ما يشمل التسلح و القوة الاقتصادية و الوضع الجغرا-سياسي ، قد تم كسره، وهو القائم على توازن الرعب النووي مرفوقاً بتفوق السوفيت في الأسلحة التقليدية و في السلاح الكيماوي ، من خلال القوة الاقتصادية للولايات المتحدة ، وبالذات بعد أن وقف السوفييت عاجزين ، لأسباب اقتصادية ، عن متابعة سباق التسلح بعد طرح ريغان لمشروع ( حرب النجوم ) في آذار 1983 مما أوحى لأول مرة منذ امتلاك السوفييت للقنبلة الذرية 1949 ، بأن هناك إمكانية علمية تقنية لكسر التعادل النووي بين العملاقين ليؤشر ذلك على بداية انهيار التوازن الذي كرّسته ( اتفاقية يالطا ) بين موسكو وواشنطن في عام 1945 ، ثم لتأتي ( البيريسترويكا ) كنوع من التكيف السياسي مع الواقع الاستراتيجي الجديد ، وإن كانت سيرورتها ، بما أدت إليه من تفجير قوى اجتماعية كامنة في المجتمع السوفيتي أرادت تجاوز الواقع الاقتصادي - السياسي القائم ، قد جعلت القيادة السوفيتية غير قادرة على التحكم بالآليات الداخلية المنطلقة من عقالها و بالذات أثناء دفعها لفاتورة الاختلال بالتوازن الدولي و مفاعيله ،مما جعلها عاجزة ليس فقط على الحفاظ على (الكتلة السوفيتية)، وإنما على الاتحاد السوفيتي نفسه .
يمكن إدراك حجم هذه المفارقة ، من خلال مقارنة حجم الخسائر الأمريكية التي حصلت في الفترة الممتدة بين عامي 1975 - 1979 : ( فيتنام - كمبوديا - لاوس - أفغانستان - أنغولا - أثيوبيا - إيران - نيكاراغوا ) ، رغم التراجعات و الهزائم عند السوفييت و حلفائهم و التي تبقى أقل من حجم الهزائم الأمريكية : ( حرب حزيران - تشيلي - هزيمة الشيوعيين في برتغال 1975 ) ، ومع ذلك فإن موسكو لم تستطع توظيف تلك التراجعات الأمريكية الكبيرة ، و التي ترافقت مع تفارق فرنسي و ألماني غربي عن واشنطن تجاه التعامل مع السوفييت ، بخلاف ما حصل لما كان التوازن الاقتصادي - التقني في وضعية أفضل بالنسبة لموسكو مما جعلها قادرة على استثمار ضربات وجهت للمعسكر الغربي ( هزيمة الفرنسيين في الهند الصينية عام 1954 - حرب السويس- ظاهرة دول عدم الانحياز- الجزائر ) و توظيفها بشكل أفضل بالقياس إلى فترة النصف الثاني من عقد السبعينيات .
كان انهيار نظام ( يالطا ) في عام 1989 مدخلاً إلى حقبة جديدة في العلاقات الدولية ، مما جعل انهيار السوقيات ، بعد عامين ، يطبع العصر بنتائجه، مثلما حددت ثورة أكتوبر ملامح مرحلة جديدة في الوضع الدولي استمرت زهاء ثلاثة أرباع القرن العشرين .
ظهر مقدار التفرد الأمريكي على حساب القوى الأخرى ( أوروبا - روسيا - الصين ) ، التي لم تستطع امتلاك قوة التأثير و التقرير ، في الأزمات الثلاث الكبرى لعقد التسعينيات الماضي : أزمة و حرب الخليج ( 1990 - 1991 ) ، حرب البوسنة ( 1992 - 1995 ) ، أزمة و حرب كوسوفو ( 1999 ) ، فيما قادت الولايات المتحدة ، منفردة ، مسار " تسوية " الصراع العربي - الإسرائيلي منذ مؤتمر مدريد ( ت 1 1991 ) حتى مؤتمر كامب ديفيد ( تموز 2000 ) ، إلى أن أتت الأزمة العراقية و ما تبعها من حرب واشنطن على العراق ، في عام 2003 ، لتبيِّن مدى اختلال التوازن الدولي لصالح ( القطب الواحد ) ، على حساب أوروبا التي بان مدى قدرة الولايات المتحدة على إحداث الانقسام فيها ضد قوى حاولت الممانعة مع واشنطن في الأزمة العراقية ( فرنسا - ألمانيا ) ، و على حساب روسيا التي حاولت التحالف مع باريس و برلين ، إلا أنها سرعان ما عادت إلى " الانضباط " وفقاً لما حددته مستشارة الرئيس الأمريكي تجاه سلوك الدول الثلاث في الأزمة و الحرب : " فرنسا = العقاب ، ألمانيا = النسيان ، روسيا = الغفران " فيما كان عدم إشارتها إلى الصين مؤشراً إلى حجم دور الأخيرة في الأزمة العراقية التي قال عنها ( طوني بلير ) أنها " ستحدد شكل العلاقات الدولية لأكثر من جيل "
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فقد استطاعت واشنطن تحديد الكثير في عملية إدارة الصراعات و المشكلات الإقليمية ، وتعيين آفاقها : نحو تغيير الخرائط من عدمه ( أوروبا الشرقية و الوسطى بعكس الشرق الأوسط و شبه القارة الهندية و سيريلانكا ، من خلال مشكلتي كشمير و التاميل ) ، إلى ضبط حدود التعامل مع " الدول المارقة " ( " الاحتواء المزدوج " تجاه العراق و إيران منذ 1993 ، ثم " الاحتواء المنفرد " تجاه العراق منذ 1999 ، وصولاً إلى الاتجاه لضربه و غزوه بعد 11 أيلول ) ، ثم استخدام العوامل المحلية لإحداث تغييرات ضد قوى دولية أخرى ( استخدام أقلية التوتسي في رواندا و بوروندي ضد الأكثرية ممثلة في قبيلة الهوتو الموالية تقليدياً لفرنسا ) ، إلى تحديد أدوار الدول الإقليمية باتجاه التحجيم ( إيران - باكستان ) أو باتجاه إطلاق اليد أو تعيين المسار ( تركيا في آسيا الوسطى السوفيتية و القفقاس ) أو باتجاه منعها من التدخل في أزمات إقليمية أو مجاورة ( مصر تجاه الأزمة السودانية ، أو حيال حل أزمة لوكربي مع ليبيا عام 1999 ، أو إيران حيال العراق المحتل من قبل واشنطن و قبله تجاه آسيا الوسطى السوفيتية ) ورسم أدوارٍ جديدة ( الهند تجاه الصين وباكستان ) .
أدى هذا و ذاك إلى ترسيخ قوة ( القطب الواحد ) في العقد ونصف الذي يفصلنا عن نهاية ( الحرب الباردة ) ، وإلى نظم العلاقات الدولية على أساس ذلك ، و هو ما نجحت فيه الولايات المتحدة إلى حد كبير وكان المثال العراقي الأخير مؤشراً قوياً على ذلك ، إن تجاه أوروبا ، أو روسيا ، أو الصين ، أو الجوار الإقليمي للعراق، أو تجاه الجسم العربي ، أم على صعيد الأمم المتحدة .
في هذا الإطار ، أدت الإمتدادات الأمريكية ، في حرب الخليج و العراق بين عامي 1991 - 2003 ، و في القفقاس بعام 2001 مع الأزمة و الحرب التي أعقبت ( 11 أيلول ) في أفغانستان- إلى سيطرة واشنطن على منابع واحتياطات النفط الأساسية في العالم، وإلى تحكمها بحنفيتها تجاه أوروبا و اليابان و الصين ، و هو ما يشكل مكسباً استراتيجياً ( يمكن أن يكون هو الهدف الرئيسي من تركيز " القطب الواحد " على ذلك القوس الممتد بين الخليج و قزوين بعد انهيار " الكتلة الشرقية " بدلاً من مناطق أخرى من العالم ) من المحتمل أن يؤدي إلى تحديد شكل التوازنات بين الولايات المتحدة وهذه القوى الثلاث التي تشكل تهديداً مستقبلياً لمكانة " القطب الواحد " على مدار القرن الجديد ، وخاصة الصين التي يتوقع ، إذا استمر معدل نموها السنوي الحالي ( 7.18 % ) ، أن يفوق اقتصادها فرنسا في عام 2005 ، و أن تتخطى ألمانيا في العام 2020 كثالث قوة اقتصادية في العالم ، و أن تضع اليابان وراءها في العام 2050 كثاني قوة اقتصادية عالمية ، مما سيجعل منطقة شرق آسيا ، التي تقدم الآن 35 % من الناتج الاقتصادي العالمي ، تشكل التهديد المستقبلي الأكبر للقطب الواحد ، وخاصة إذا أفرز الاقتصاد مستتبعاته السياسية و الأمنية .
لذلك كان " النفط " و السيطرة عليه ، مشكِّلاً لضربة وقائية استباقية ( تماماً مثل العقيدة الاستباقية الوقائية التي أعلنها الرئيس الأمريكي في عام 2002 ، كاستراتيجية عسكرية أمريكية جديدة ) تأتي لتعزيز التفوق العلمي - التقني الذي مال كثيراً لصالح الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين تجاه أوروبا و اليابان ، و هو ما ينعكس أساساً على الصعيد العسكري ، بعد أن أصبحت الحرب لعبة تكنولوجية أساساً ، مما جعل هناك اختلالاً عسكرياً بين الولايات المتحدة و الآخرين الذين وراءها ، أصبح يشكل ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ العسكري ، الشيء الذي يُكوِّن الأرضية ( مما برزت المؤشرات عليه في الحرب العراقية الأخيرة ) لنشوء اتجاه أمريكي جديد يتجه نحو تهميش حلف الأطلسي عبر الطروحات الجديدة عن ( تحالف الراغبين ) و هو ما كانت الحرب الأمريكية الأخيرة على العراق تطبيقاً عملياً له ، تماماً كما اتجهت الولايات المتحدة ، عبر اعتمادها على استراليا كلاعب رئيسي في جنوب شرق آسيا عبر أزمة تيمور الشرقية
عام 1999 ، إلى تهميش رابطة دول جنوب شرق آسيا ( آسيان ) التي شكلتّها في الستينات كدرع إقليمي في ظرف الحرب الفيتنامية.
تشكل الحرب في هذا الإطار ( وشكلت ) وسيلة لخلق حقائق سياسية و اقتصادية جديدة ، و هو ما اتبعته الولايات المتحدة بقوة و فاعلية في فترة ما بعد ( الحرب الباردة ) ، و هذا ينطلق أساساً من إدراك صانعي القرار في واشنطن بأن التفوق العلمي - التقني ، و العسكري ، إذا لم يرادفهما حقائق مكافئة في الاقتصاد ، وعلى الصعيد الجغرا - سياسي ، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تقويض بناء الأحادية القطبية ، و خاصة مع وجود مؤشرات على بزوغ قوى اقتصادية كبرى تتجه نحو العملقة ، بالترافق مع اعتلالات بدأت تظهر على الاقتصاد الأمريكي ، مما يفسر اتجاه بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي نحو " دولار ضعيف " تجاه اليورو و الين الياباني منذ عام 2001 ، لتشجيع الصادرات الأمريكية و جعل البضائع اليابانية و الأوروبية أقل تنافسية تجاه البضائع الأمريكية في السوق الداخلية و الخارجية .
تأتي النـزعة الحربية الراهنة عند الأمريكان من ذلك ، و هو ما ظهر بقوة في كابول 2001 و في بغداد 2003 ، بخلاف النـزعة الإنكفائية التي ظهرت عقب الحرب الفيتنامية ، فيما يلفت النظر حقيقة أن المقاومات الدولية ، أو بالأصح الممانعات ، لا ترتفع إلى مستوى قامة الغايات الأمريكية من الحرب ، وهو شيء ظهر بوضوح في الحرب العراقية الأخيرة ، رغم أن بعض القوى الدولية قد قدمت فيها درجة من الممانعات كانت أكبر من كل ما ظهر في محطات الحروب الأمريكية السابقة ( حرب 1991 ، حرب كوسوفو 1999 ) ، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لمنع البلدوزر الأمريكي من متابعة طريقه ، أو حتى عرقلته عن ذلك
في هذا الإطار ، يلاحظ بحث القوى الكبرى عن تفاهمات مع واشنطن ، أو عن صفقات معها ، خلال كل أزمة دولية ، بدلاً من البحث عن طريق مقاوم : غورباتشوف في حرب 1991 و كذلك الصين ؛ الأوروبيون في كوسوفو 1999 مع سكوت روسي ؛ موسكو في حرب 2001 رغم امتداد واشنطن إلى " الحديقة الخلفية " للروس في آسيا الوسطى و القفقاس ؛ الصين في حرب 2003 العراقية مع تركها لحليفتها الكورية الشمالية في أثناء أزمتها مع الأمريكان ثم انضمام الفرنسيين و الروس إلى بكين بعد فشل ممانعاتهم في الأزمة العراقية و العودة إلى التوافق مع واشنطن كما ظهر من خلال قرار مجلس الأمن المشرِّع للاحتلال الأمريكي للعراق ,وصولاً إلى القرار(1559)/2أيلول2004/الذي أتى نتيجة لتفاهمات أمريكية -فرنسية باتجاه رؤية جديدة لواشنطن وباريس حيال الدور السوري في لبنان تعطي ملامح لاتجاهات عند العاصمتين نحو تحجيم الدور السوري الاقليمي( الذي وافقتا على انطلاقه وتمدده بدءاً من عام1976) وارجاعه إلى الحدود التي كانت له بالخمسينيات,ويبدو أن ذلك سيمتد ,بعد سقوط العراق ومجيء الأمريكان للمنطقة, إلى أدوار دول اقليمية أخرى مثل ايران , كما تظهر أزمة (تخصيب اليورانيوم)/صيف وخريف 2005/ , وربما يمتد ذلك لاحقاً إلى السعودية ومصر عند واشنطن .
يطرح هذا مسألة المقاومة الدولية للقطب الواحد : هل حدودها هي مقاومة سياسيين مثل (الشيخ حارث الضاري) ؟ …… أم : أن ( سياتل ) هي تلك المقاومة ؟ … ثم : أين تلك الكتلة العالمية التي كانت تشكلها الحركة الشيوعية العالمية ، بما كانت تمثله من وزن سياسي في مجتمعاتها ، أم أنها لم تعد ذات وزن بعد سقوط موسكو ؟ …… وصولاً إلى طرح سؤال : هل هناك اتجاه إلى تشكيل مقاومات تبنى على قضايا محددة ، مثل تضررات المزارعين الأوروبيين من الإجراءات الحمائية الأمريكية أو من الأغذية المعدلة وراثياً ، أو مقاومات البيئويين للموقف الأمريكي تجاه معاهدة ( كيوتو ) ، أو تضررات الفقراء و الفئات الوسطى في الأرجنتين من توصيات صندوق النقد الدولي ؟ هل يشكل ذلك مقاومة عالمية للقطب الواحد ، يمكن إعطائها قواماً محدداً تصل إلى شكل حركة واحدة ، أو طابع قوى متحالفة ، كما كان الوضع في فترة ( الحرب الباردة ) ، بين " الكتلة الاشتراكية " و " الحركة العمالية " في بلدان المتروبول ، و " حركة التحرر الوطني " ؟ … أم أنها لا يمكن ، حتى الآن ،اعتبارها "مقاومة " أو " مقاومات " للقطب الواحد : هل هي جنين باتجاه التكون نحو ذلك ، أم أنها لا تحوي إمكانية لذلك ؟ …… ثم : هل باستطاعتها ، إذا كانت باتجاه التحول إلى مقاومة عالمية ، أن تشكل قطباً مؤثراً غير حكوميٍ ضد ( القطب الواحد ) ، أم أنها لا يمكن أن تكتسب التأثير بدون إمكانية نشوء قطب آخر منافس للقطب الواحد ، مع أن الأمد المنظور ، و كذلك المتوسط ، لا يوحي بإمكانية ذلك ؟ ……
تقود هذه القضايا إلى طرح أمور جديدة ، لم تكن مطروحة في الفترة السابقة على نشوء عصر ( القطب الواحد ) : كيف يمكن لشعوب محتلة من القطب الواحد ( العراق ) ، أو من حلفائه ( فلسطين ) ، أو خاضعة لهيمنة ذلك القطب الواحد ( العرب ) ، أن تحقق أهدافها في التحرر الوطني، في ظل ظرف دولي كهذا :
هل تختار طريق ( الرنتيسي ) ، أم طريق رئيس الوزراء الهندي ( فاجبايي ) و الرئيس الروسي ( بوتين ) و الصيني ( جيانغ زي مين ) و ( أبو مازن ) ؟ …… أم أن هناك طريقاً ثالثاً ؟ ……
أخيراً إذا أردنا تطوير القضايا المطروحة على خلفية سقوط السوفييت ، و نشوء مشهد جديد ، هو غير مسبوق منذ قرون طويلة في العلاقات الدولية ، فمن الممكن طرح قضايا عديدة ، يمكن أن تشكل محوراً للتفكير و النقاش :
1- كان الاقتصاد عاملاً حاسماً في تشكيل ( القطب الواحد ) و كسر ثنائية القطبين كما كان عاملاً مقرراً في تزعم الولايات المتحدة للمعسكر الغربي بعد الحرب العالمية الثانية : هل يكون كذلك في كسر حالة ( القطب الواحد ) ؟ ……
2- يمكن عبر ( تومي فرانكس ) استعادة و تذكر دور ( كتشنر ) و ( أللنبي ) ، و كذلك عبر ( بول بريمر ) استعادة ( كرومر ) : لم تغير الرأسمالية الكثير من نزعتها الإمبريالية نحو الهيمنة و السيطرة على الشعوب الأخرى ، و يمكن عبر التجربة العراقية أن يحصل لقارئ التاريخ الكثير من الاستعادة التذكرية للسيناريو الذي حصل في مصر 1882 و في سورية 1920 .
3- ألا تستحق الدراسة مسألة ترافق هذه النـزعة الأمريكية للسيطرة و الهيمنة على العالم ( و محاولة المنع الطويل الأمد لنشوء قطب منافس ) مع بروز غير مسبوق بهذا الحجم لنفوذ جماعات المصالح النفطية و المالية و الصناعية و شركات الإنشاء الكبرى ( بكتيل + شركة هاليبورتن لمقاولات و إنشاءات النفط … الخ ) في داخل إدارة بوش الابن ، عبر ممثلين خرجوا مباشرة منها ( تشيني " هاليبورتن " + رايس " شركة شيفرون للنفط " … الخ ) ، أو عبر تداخلات غير مباشرة ، مع العلم بأن ارهاصات ذلك قد ظهرت مع إدارة ريغان ، عندما خرج وزير الدفاع ( كاسبر واينبرغر ) ووزير الخارجية ( جورج شولتز ) من شركة ( بكتيل ) إلى مكاتبهما في الإدارة الأمريكية ؟ ……
4- في الوضع الدولي الجديد ، أصبحت قدرة " الدولي " على تشكيل " الاقليمي " و أحياناً المشهد " الداخلي " كما جرى في أفغانستان و العراق مثلاً ، في حالة غير مسبوقة بهذا الشكل : كيف يمكن تشكيل الممانعات و المناعات المقاومة لذلك ؟ … هل تشكل الديموقراطية ضمانة وحيدة للداخل من أجل ذلك ؟ …... و خاصة بعد أن قادت الديكتاتوريات العربية إلى وضع ســـهّل و أتاح عودة الاحتلال ؟ …… أم أن الأمر أبعد من ذلك ؟ ..
5- تطرح القضية الأخيرة مسألة جديدة : في ظل ( قطب واحد ) للعالم ، و عدم قدرة القوى الكبرى على التأثير و الفعل و استدارتها أكثر نحو تأمين مصالحها و مطالبها مع القطب الواحد ، و في ظل محيط إقليمي " متعاون " معه أو عاجز أمامه ، كيف يمكن لشعب أو دولة القيام بتحصيل تحررها أو حقوقها في قضية " ما " ، مع العلم بأن أسطع التجارب النضالية في القرن العشرين ، لم يكن ممكناً لها النجاح لولا وجود ظرف دولي و إقليمي مناسب : فيتنام ( الاتحاد السوفييتي + الصين ) ، الجزائر ( عبد الناصر + بورقيبة + محمد الخامس + اللامبالاة الأمريكية تجاه الفرنسيين هناك ) ؟
6- أشاعت الثورة الفرنسية في عام 1789 ، متأثرة بأفكار ( عصر الأنوار ) ، مبادئ جديدة اكتسبت القوة بالتدريج ، في العلاقات الدولية ، مثل ( حقوق الإنسان ) ، ( حق الشعوب في تقرير مصيرها ) . هذا من جهة ، و من جهة أخرى ، فقد أتاحت " تفاؤلية " القرن التاسع عشر ، و النصف الأول من القرن العشرين ، المجال لنشوء أجواء فكرية تتجه نحو تجاوز ( العامل الديني ) في السياسة ، و باتجاه ( الأممية ) بعيداً عن تصارع القوميات الذي ولّد ، من خلال البلقان ، نشوب الحرب العالمية الأولى : ألا تشكل الأجواء الدولية الجديدة في بداية الألفية الثالثة و ما جرى في العقد الأخير من القرن العشرين ، فشلاً و نكوصاً عن كل ذلك ؟ .





-7-

حول العولمة


تبدو الرأسمالية في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين أقدر على البقاء ، وأكثر تماسكاً وانسجاماً مما كانت في نهاية التاسع عشر وبداية العشرين ، إنها في تغير وتحول مستمر ، ولقد استطاعت أن تجدد قواها وأن تتكيف مع الأوضاع الجديدة في العالم بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية .حيث كانت المتغيرات الجديدة قد حرمتها من الخامات الطبيعية الرخيصة التي اعتمدتها في الماضي وقلصت قاعدتها الإنتاجية فأصبحت معامل البحث والتطور هي المصدر الذي لا ينفد للخدمات والمنتجات على حد سواء .
إننا الآن أمام رأسمالية معاصرة تتميز بالاستجابة الحيوية لمتطلبات العصر ، استطاعت أن تجدد قواها الإنتاجية ، وأن تعيد تنظيم علاقاتها الإنتاجية ، حتى لا تفلت من سيطرتها ، كما أنها استطاعت أن تسترجع مستعمراتها لتبقى رغم استقلالها أطرافاً لمراكز الرأسمالية الرئيسية .
إذاً كانت أشكال عمل قوانين الرأسمالية وآلية حركتها قد تغيرت وإن كانت لا تزال تقوم على الملكية الخاصة لرأس المال ، فإن هذه الملكية قد تغيرت بدورها من مرحلة إلى أخرى . وفي الرأسمالية ما بعد الصناعية غدا العلم نفسه قوة إنتاجية مبدعة حيث تفتحت مجالات جديدة لم تكن معروفة للإنتاج ، وإعادة الإنتاج وتوسيع السوق وزيادة الاستهلاك ، وفي الوقت نفسه تغيرت الطبقة العاملة وتغيرت علاقة الإنسان بالآلة ، كما وتولدت مشاكل جديدة في علاقة رأس مال بالعمل . وفي ظل هذه الثورة العلمية والتقنية لم يعد الإطار القومي كافياً لتوسيع الإنتاج ، ولم تعد السوق القومية مهما اتسعت كافية لاحتواء حركة رؤوس الأموال والسلع والخدمات والعمل .
وهكذا يجري بصورة واعية أو عفوية تدويل للحياة الاقتصادية يكتسب معها رأس المال طابعاً دولياً ، وتصبح المشروعات والمصارف المتخطية للحدود القومية هي القوة الجبارة التي تحرك عملية التمركز الصناعي والمالي في أسواق أصبحت حقاً عالمية .
في ظل هذا الوضع ما زالت الدولة هي الملجأ الأخير للرأسمالية ( كينز ) على الرغم من الدعوات من أجل الحد من سلطة الدولة. إن قدرة الرأسمالية للتكيف مع العصر جعل للدولة دورأً أساسياً في الضبط والتحكم بالعديد من آلياتها فما زالت الدولة هي الملجأ في حالة الأزمة أو التضخم ، وما زالت هناك عناصر للتخطيط والتغلب على الكثير من التقلبات غير المرغوب بها ، ولا زالت الدولة هي مصدر تمويل في مجالي البحث والتطوير للعلم والتكنولوجيا . بالرغم مما سبق يجري شكل جديد للتقسيم الدولي للعمل إذ تجري عملية إعادة نشر الصناعة على المستوى العالمي وإعادة توزيع الخدمات .
إن قدرة الرأسمالية للتكيف مع العصر لا يلغي التعقد المضطرد للأزمة الدورية للرأسمالية ، فهي أصبحت الآن تواجه أزمة مركبة ، وهي مزيج من أزمة دورية وهيكلية . يشار في هذا المعنى إلى النمو المضطرد للقطاع الاقتصادي العسكري الذي أصبح له في أكبر الدول الصناعية قيادة الاقتصاد في مجموعه .
إن الرأسمالية ما بعد الصناعية لا تستطيع بالرغم من كل ذلك أن تلغي قوانينها الداخلية . إنها فقط تغير من شكل وأساليب عملها ، ويظل التطور اللامتكافئ هو الذي يحكمها في الخارج والداخل على السواء ، فعلى الرغم من تدويل رأس المال وبرغم الاعتماد المتبادل ، تزداد النزعة الحمائية وتشتد الحواجز الجمركية وغير الجمركية ، وتتنوع تدابير التمييز والمقاطعة حيث لمّا يزل العالم الرأسمالي ينقسم إلى قطاعين متفاوتي النمو حيث يجري استقطاب النمو لصالح القطاع المتطور على حساب القطاع النامي والمتخلف أو بدونه .
في ظل التدويل المطرد للعلاقات الاقتصادية والتعامل غير المتكافئ الذي يكرس علاقة التبعية بين المركز والأطراف تعاني البلدان النامية ما يمكن أن يعرّف بأنه استعمار جماعي يمثل السيطرة المضمرة والفعلية لرأس المال العابر للقوميات . وإن العلاقات غير المتكافئة أدت إلى نقل أعباء الأزمات الدورية والهيكلية إلى البلدان النامية ، من خلال المفعول التلقائي للقوانين الاقتصادية الموضوعية دون الحاجة إلى المعاهدات والجيوش .
إن النجاح المضطرد الذي حققته الرأسمالية بإدخالها العلم والتكنولوجيا قد دفعها إلى تعميم هذا النموذج فيما يسمى بإعادة التكييف والهيكلة وهي قد بدأت في الدول المتقدمة ، وأدت هذه السياسة إلى خلق ظروف وأوضاع سيئة لهذه البلدان حيث كان استهدافها الأول دولة الرفاه ابتداء من الثمانينات ، التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية كنموذج مضاد للنموذج " الاشتراكي " حيث إن شعارها الجديد الحد الأقصى من الربح وإخراج الدولة من دائرة الفعل قدر الإمكان وما ترتب على ذلك من انعكاس سيء على فرص العمل والضمان الاجتماعي ومجمل برامج الرعاية . وإذا كانت الاقتصادات الوطنية في الدول الرأسمالية قد امتصت بمستوى " ما " آثار عملية إعادة التكييف فإن حال العالم النامي قد اختلف كثيراً عن ذلك ، وإن عملية التكييف أو ما يسمى بالعولمة قد خلقت أزمة عالمية لا تتركز في منطقة بذاتها من العالم ، فتداخل الاقتصادات القومية والعمليات التجارية والمصرفية وملكية المشروعات التجارية ( التي تسيطر عليها حوالي 750 شركة عالمية ) تتجاوز الحدود الاقتصادية والتجارية الدولية مجتمعة ، إن الأسواق المالية في العالم أجمع ترتبط بجملة من الحواسب الآلية ذات الاستجابة الفورية والأزمة المالية أكثر تعقيداً من أزمة ( 1929 ) ، وآثارها الاجتماعية ذات آماد بعيدة .
منذ أزمة الدين في أوائل الثمانينات يجري سعي حثيث إلى تحقيق الحد الأقصى من الربح تقود إلى تحقيقه سياسة الاقتصاد الكلي ، وهو ما يؤدي إلى تفكيك مؤسسات الدولة وتمزيق الحدود الاقتصادية ، وإفقار الملايين من البشر وهو ما ينعكس بصورة تشبه الجريمة بحق بلدان العالم النامي ، وذلك لأنه لا تكلف بنفس الفعل قوتين متفاوتتين من حيث القدرات والإمكانات ، حيث يكون لعملية إعادة الهيكلة ما يشبه الإعصار في أكواخ من خشب بالنسبة للبلدان النامية .
إن الشركات الدولية والشركات التجارية لا تستطيع " توسيع " أسواقها في ظل نظام يولد فائض الإنتاج إلا بتقويض أو تدمير القاعدة الإنتاجية للبلدان النامية – أي بتفكيك الإنتاج المحلي الموجه إلى السوق الداخلية . وفي ظل النظام يقوم توسيع الصادرات في البلدان النامية على انكماش القوة الشرائية الداخلية وتفتح الأسواق " الناشئة " عن طريق الإزاحة لنظام إنتاجي موجود ، وتدفع المنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى الإفلاس ، أو تجبر على الإنتاج من أجل موزع عالمي ، وتخفض منشآت الدولة أو تغلق ويتم إفقار المنتجين الزراعيين المستقلين .
يتسم الاقتصاد العالمي بقوتين متناقضتين ، أولاً : دعم اقتصاد عالمي رخيص العمل ، من ناحية ، والبحث عن أسواق استهلاكية جديدة من ناحية أخرى ، والقوة الأولى تقوض الثانية . فتوسع الأسواق أمام الشركات العالمية يتطلب تدمير الاقتصاد المحلي ، كذلك تزال الحواجز أمام حركة الأموال والسلع ، ويحرر الائتمان ، وينزع الرأسمال الدولي ملكية الأرض ، وملكية الدولة إن لصندوق النقد الدولي كمؤسسة مالية دولية السلطة في تحديد السياسات المتبعة للانسجام مع النظام العالمي بالإضافة للبنك الدولي ، وهما يعملان نيابة عن المصالح المالية والسياسية القوية ( نادي باريس ولندن ، والثمانية الكبار ) وهذا الشكل الجديد من أشكال السيطرة الاقتصادية والسياسية – ( شكل الاستعمار السوقي ) يخضع الشعوب والحكومات من خلال الفعل الحيادي في الظاهر لقوى السوق . وقد عهد الدائنون الدوليون ، والشركات متعددة الجنسيات ، للبيروقراطية الدولية القائمة في واشنطن بتنفيذ مخطط اقتصادي عالمي يؤثر على معيشة أكثر من 80% من سكان العالم . ولم يسبق في أي وقت في التاريخ أن لعبت السوق " الحرة " – التي تعمل في العالم من خلال أدوات الاقتصاد العالمي الكلي مثل هذا الدور الهام في تشكيل مصير دول ذات سيادة .
لقد تم إخضاع الدول ذات السيادة لوصاية المؤسسات المالية الدولية ، بسبب : أن تلك الدول كانت مدينة ، فقد تمكنت مؤسسات ( بريتون وودز ) من إلزامها – عن طريق ما يسمى " بالمشروطيات " المرتبطة باتفاقيات القروض – بإعادة توجيه اقتصادها الكلي توجهاً " مناسباً " وفقاً لمصالح الدائنين الرسميين والتجاريين ، وقد زاد عبء دين البلدان النامية الثابت منذ أوائل الثمانينات بالرغم من مشاريع إعادة الجدولة وإعادة الهيكلة وتحويل الديون التي قدمها الدائنون ، والواقع أن هذه الإجراءات – مصحوبة بالإقراض ذي الأساس السياسي من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – قد أدت إلى زيادة الدين القائم للبلدان النامية مع ضمان السداد الناجز لمدفوعات الفوائد ، ، وقد كان إجمالي الدين القائم طويل الأجل للبلدان النامية ( من المصادر الرسمية والخاصة ) نحو / 62 / مليار دولار أمريكي في عام 1970 وزاد عن أمثاله في مجرى السبعينات ليصل إلى / 481 / مليار دولار في عام 1980 ومبلغ إجمالي دين البلدان النامية ( بما فيها الديون القصيرة الأجل ) أكثر من ( ألف مليار ) دولار ( 1996 ) أي ما يمثل / 32 / ضعفاً بالنسبة لعام 1970 .
بالرغم من تدهور أسعار السلع – منذ أوائل الثمانينات – مما أدى إلى انخفاض قيمة الصادرات فقد خصصت حصة متزايدة على الدوام من عائدات التصدير خدمة للدين .
ومنذ عام 1985 وما بعد أصبحت البلدان النامية مصدرة لرأس المال لصالح البلدان الغنية ، وبعبارة أخرى كان تدفق قيمة الدين الفعلية تفوق تدفقات رأس المال الجديدة ( في شكل قروض واستثمار أجنبي ، ومعونة أجنبية ) .. وحتى منتصف الثمانينات كانت المؤسسات المالية الدولية قد أعادت تمويل الدين أساساً نيابة عن البنوك التجارية والدائنين الرسميين ، غير أن كثيراً من القروض التي منحتها المؤسسات المالية الدولية قد استحقت ، وطالبت هذه المؤسسات القائمة في واشنطن بسدادها ، وبمقتضى ( بريتون وودز ) لا يمكن إعادة جدولتها .
هناك علاقة وثيقة بين سياسة إدارة الدين وإصلاح الاقتصاد الكلي حيث أن تقديم ديون جديدة يتم وفق دفتر شروط تكون إعادة هيكلة الاقتصاد أساسها بما يضمن استمرار البلد في الدوران في الاقتصاد العالمي لأن طبيعة هذه القروض لا تشجع الاقتصاد الحقيقي ، لأن أي من هذه الأموال لا يوجه إلى الاستثمار غير أنها خدمت هدفاً هاماً آخر : فقروض التكييف حوّلت الموارد بعيداً عن الاقتصاد العالمي ، وعملت على تشجيع هذه الدول على الاستمرار في استيراد كميات كبيرة من السلع الاستهلاكية ، بما فيها الأغذية الأساسية من البلدان النامية . أي أن الأموال التي تمنح لدعم " التكييف " في الزراعة لا تنفق على مشاريع استثمارية بل تنفق على الواردات السلعية بما فيها المواد الاستهلاكية المعمرة والسلع الترفيهية ونتيجة هذه العملية حل الركود في الاقتصاد المحلي ، وتوسعت أزمة ميزان المدفوعات ، ونما عبء الدين .
لقد ارتبطت العولمة المستندة إلى الفلسفة الليبرالية الحديثة بتحرير الأسواق المالية والنقدية وبالتخلي عن معظم الضوابط التي كانت تسير العمل المصرفي والنظم النقدية لفترات طويلة ، وكان من نتيجة ذلك أن الكتلة النقدية في ضوء عمليات التحرير هذه لم تعد خاضعة زمانياً للسلطة النقدية المحلية ( البنك المركزي ) ، وتجري حركة رؤوس الأموال في ومضات سريعة على شاشات الكمبيوتر ، بحيث تقف البنوك عاجزة عن الدفاع عن أسعار الصرف ، وأسعار الفائدة وأسعار الأوراق المالية في البورصات ، بحيث أن العالم تحول إلى رهينة في أيدي كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية ، مستخدمين في ذلك مليارات الدولارات التي توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار وصناديق التأمين والمعاشات .
وكل هذا لا يتم عبر المؤامرات أو التحالفات في سبيل ذلك وإنما هو النتيجة الطبيعية والمنطقية للسياسات والقوانين التي أقرتها وعملت على تشجيعها حكومات الدول الصناعية الكبرى ، تحت ما سمي بـ " تحرير الأسواق المالية النقدية " والتي كما أسلفنا قام على تطبيقها صندوق لنقد الدولي والبنك الدولي على مختلف دول العالم بإطلاق سعر صرف عملتها ، وانفتاحها التام على السوق المالي العالمي . وهذا الانفتاح يجبر هذه الدول على التنافس في تخفيض الضرائب وتقليص الإنفاق الحكومي وخصخصة مشروعات الدولة والتضحية بالعدالة الاجتماعية ، وكل ذلك يروج له على أساس أنه ينسجم مع المصلحة العامة .
إن عملية الانفتاح على السوق العالمية ( المالية والنقدية ) تأخذ شكل بنية عقائدية مغلقة وإن أي خروج منها تتربص به الجيوش وتتكفل بإخضاعه ، وإنه عند انصياع أي بلد لهذه السياسات يبدأ أثرياء البلد بالانضمام إلى قائمة المقيمين للسياسات النقدية في بلدهم ، وهذا ما يجعلهم يستثمرون في أي مكان من العالم .
إن عملية السعي المحموم وراء الأرباح المرتفعة التي أصبحت
تتحقق في الأسواق النقدية والمالية جعلت من جميع القطاعات تتنافس وتتصارع من أجل خفض كلفة الإنتاج . وكان التنافس كبيراً والضغط شديداً على عنصر العمل للوصول ببند الأجور إلى أدنى مستوى ممكن . وهذا الأمر لم يشمل العمال وإنما أيضاً أصحاب المهن من أبناء الطبقات الوسطى ، حيث تولت عملية إعادة هندسة عنصر العمل والاستخدام الموسع لأجهزة الكومبيوتر مهمة الاستغناء عن عشرات الآلاف من الوظائف والمهن التي كان يقوم بها هؤلاء .
يروج دعاة العولمة لتلازم الديمقراطية والسوق وإن أحدهما يتطلب الآخر بصورة تؤكد عدم افتراقهما ، وفي الحقيقة أن الديمقراطية واقتصاد السوق ليسا هما الركنين المتلازمين دوماً اللذين يعملان لرفاه الجميع إن خبرة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في مختلف بلاد العالم في ضوء السياسات الليبرالية الجديدة ، التي استندت إليها العولمة ، تؤكد ما رمينا إليه ، فالديمقراطية التي يجري الدفاع عنها الآن تدافع عن مصالح الأثرياء والمتفوقين لخفض الأجور وزيادة ساعات العمل ، وخفض المساعدات والمنح الحكومية تحت حجة تهيئة الشعوب بالمواجهة " سوق المنافسة الدولية " .
إن إبعاد الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية ، وتجاهل البعد الاجتماعي ، تحت دعوى أن السوق ينظم نفسه بنفسه ، وإن كل امرئٍ يأكل بحسب إنتاجيته ، ليست إلا أوهام ستؤدي إلى تدمير الحياة الاجتماعية ، وإن الديمقراطية الحقة تمارس فقط عندما يكون الناس في مأمن ضد غوائل الفقر والمرض والبطالة ، وفي حال لم يتحقق الاستقرار والتقدم في حياة المجتمع فسيبقى الناس مهددين بأن تحكمهم نظم مستبدة .
إن سياسات الليبرالية الحديثة التي تعتمدها العولمة تحدد شكل المستقبل بالعودة إلى ماضي الرأسمالية ، فبعد أن طفت الأفكار الاشتراكية الديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية ، تلوح الآن في الأفق حركة مضادة تقتلع كل ما حققته الطبقة العاملة والوسطى من مكاسب .
إن زيادة البطالة وانخفاض الأجور ، وتدهور مستويات المعيشة وتقليص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة ، وإطلاق آليات السوق وابتعاد الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية وحصر دورها في " حراسة النظام " وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين ، وهي الأمور التي تحدد ملامح الحياة الاقتصادية والاجتماعية في غالبية دول العالم ، كل هذه الأمور ليست سوى العودة البداية الأولى للرأسماليين أثناء الثورة الصناعية في ( 1750 – 1850 ) ، وسوف تتفاقم الأمور مع السرعة التي تتحرك بها العولمة المستندة إلى الليبرالية الحديثة .
تؤسس الرأسمالية في عصر العولمة لما يسمى بدكتاتورية السوق والعولمة ، عبر إطلاق تعميمات ذات طابع غير ديمقراطي وشمولي وغير مبررة عملياً كالقول : إن مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئاً لا يطاق ، وأن دولة الرفاه تهدد المستقبل ، وأنها كانت مجرد تنازلٍ من جانب رأس المال إبان الحرب الباردة ، وأن هذا التنازل لم يعد مبرراً ، وعلى كل فرد أن يتحمل قدراً من التضحية حتى يمكن كسب المعركة في حلبة " المنافسة الدولية " وإن شيئاً من اللامساواة بات أمراً " لا مفر منه " . تجد مثل هذه الأفكار انعكاسها في السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تطبق الآن من دون مشاركة الناس أو موافقتهم على تلك السياسات .
إن الترويج للحجج التي تقول أن العولمة ذات الاتجاه الليبرالي المغرق في التطرف هي من قبيل الحتميات الاقتصادية والتكنولوجية الشبيهة بالأحداث الطبيعية التي لا يمكن الوقوف في وجهها هو محض افتراء ، بل على العكس فإنها ما هي إلا نتيجة حتمية خلقتها سياسات معينة بوعي وإرادة الحكومات والبرلمانات التي وقعت على القوانين التي طبقت السياسات الليبرالية الجديدة وألغت الحدود والحواجز أمام حركات تنقل السلع ورؤوس الأموال وسحبت المكاسب التي حققنها الطبقة الوسطى والعمال ، ففي كل هذه الأمور لم تكن هناك حتميات لا يمكن تجنبها بل إرادات سياسية واعية بما تفعل ، وتعبر عن مصلحة الشركات دولية النشاط .
إن تقسيم العمل الدولي والتغلغل الرأسمالي في ما يعرف بدول العالم الثالث قد جعل التبعية هي الناظم الأساسي للعلاقة ما بين الدول المتخلفة والعالم المتقدم ، وإن تركز أدوات الإنتاج ( التكنولوجيا ) في الدول الرأسمالية المتقدمة يكرس حالة التبعية في الدول المتخلفة وينتج التخلف بصورة دائمة ، وباستخدام المصطلح الماركسي لمفهوم دورة إعادة الإنتاج فإن هذا يعني أن قطاع إنتاج وسائل الإنتاج ، وهو الجزء الاستراتيجي في دورة إعادة الإنتاج ، غير موجود في اقتصاديات الدول التابعة ، وهكذا فمن منظور واسع فإن تحقيق تراكم رأس المال يتطلب مكملاً إنتاجياً غير موجود في هذه البلاد .
لقد احتاجت الاقتصاديات الرأسمالية إلى توسع خارجي لتحقيق تراكم رأس المال ، وبشكل معاكس فإن رأس المال في الاقتصاديات التابعة يعود إلى المركز من أجل إتمام إعادة الإنتاج الرأسمالية ، وذلك هو السبب في الأهمية البالغة للتكنولوجيا ، إن صفتها المادية أقل تأثيراً من أهميتها كشكل للحفاظ على السيطرة ، وكخطوة ضرورية في عملية تراكم رأس المال ، من خلال الميزة التكنولوجية تضمن الشركات دورها الرئيسي في النظام العالمي لتراكم رأس المال .
بشكل مماثل للعلاقة بين التنمية والتخلف على المستوى العالمي ، فإن الواقع الحالي للبلدان المتخلفة لا يقل في كونه نتاجاً لعملية تاريخية واحدة لتطور رأسمالي عن تلك المؤسسات الرأسمالية للمناطق التي يفترض أنها أكثر تقدماً .
يجب علينا أن نستنتج باختصار أن التخلف لا يعود إلى بقاء المؤسسات القديمة ووجود نقص في رأس المال في المناطق التي بقيت معزولة عن مسيرة تاريخ العالم ، بل على العكس فالتخلف كان وما يزال ناشئاً عن العملية التاريخية نفسها التي أنتجت التنمية الاقتصادية ، تنمية الرأسمالية نفسها .
إن المناطق التي كانت أكبر مصدر للمواد الأولية وأكبر مصادر رأس المال للعواصم العالمية هي التي توصف الآن بالمناطق المتخلفة ، حيث تتحمل الدول الرأسمالية مسؤولية تاريخية اتجاهها .
تبدو الحالة الراهنة للقوى السياسية في الوطن العربي في حالة يرثى لها فهي قد خرجت بعد صراع مرير مع الأنظمة الحاكمة بصورة متصدعة خائرة القوى تثير مجموعة كبيرة من الأسئلة حول طبيعة هذه القوى وبالأصل مدى قدرة الواقع العربي على إنجاز حالة سياسية تعبر عن واقع اجتماعي في ظل السيطرة غير المباشرة لواقع كوني طاغ ، وعندما استنفد الدور المرسوم للأنظمة القائمة وآن أوان التغيير بدت القوى السياسية كمن ضرب على رأسه ودخلت في متاهة أساس الوهم وشيء كثير من الانتباج والخلل النفسي والعقلي مما أفسح المجال لتسرب الكثير من رياح الانتهازية ، بدا معها الحقد على الأنظمة القائمة بدل توفر وعي سياسي رائد عن طريق المراجعة النقدية لواقع هذه القوى السياسية ولمجمل الوضع السياسي في تداخلاته الدولية والأمر الأهم غياب الوعي النظري الذي يرقى بالوعي السياسي لمستوى العلم ليكون ناظماً للسلوك السياسي ولمجمل الخيارات عبر وعي نقدي صارم .
من خلال مراجعة تاريخية مقتضبة لعلاقة المنطقة العربية ومنها سورية مع الواقع العالمي وبالتحديد النظام الرأسمالي يتبين أن هناك علاقة كانت دائماً خاضعة لمعايير ومصالح الدول الكبرى وتدخل ضمن ما يعرف بمنطقة خدمات للواقع الدولي ، وبالتالي كانت علاقة هذه المنطقة بالواقع العالمي في المرحلة السابقة أكثر جدوى من الآن ، حيث أصبحت الفجوة غير قابلة للردم إلا من خلال خيارات وطنية مستقلة ومن خلال إطارها التاريخي ، إطار الأمة العربية .
تاريخياً تعود العناصر الأولى للتغلغل الأوربي في سورية إلى الامتيازات التي وافقت الإمبراطورية العثمانية على تقديمها إلى الأوربيين عام ( 1675 ) إلا أنها كانت تعكس الصراع الاستراتيجي بين الرأسمالية التجارية الأوربية الناشئة والإمبراطورية العثمانية ، في وقت كان العثمانيون لا يزالون قادرين فيه على تحقيق نوع من التعادل الاستراتيجي .
مثلت حملة إبراهيم باشا عنصراً جوهرياً في ربط بلاد الشام بالاقتصاد العالمي ؟ ومن ثم تطوير علاقات رأسمالية أو شبه رأسمالية ، أو رأسمالية تجارية داخل المجتمع السوري .
لم تكن طبيعة التجارة داخل سورية ( داخلية أم خارجية ) رأسمالية ، إذ أنها شملت أساساً انتقال البضائع المصنعة أو غير المصنعة ( ترانزيت ) وتصدير البضائع المنتجة محلياً ، والمؤلفة من الأغذية أو القماش أو منتجات أخرى ( كالحرف اليدوية ) ويقابل ذلك الشكل ، شكل الرأسمالية التجارية الأوربية التي انطلقت من مواقع متفوقة لتبادل البضائع الرخيصة بالمواد الخام أو المواد الغذائية التي ما تزال تحتاج إليها .
مهما كانت الصراعات أو المصالح الاقتصادية المتنافسة التي شهدتها سورية حتى منتصف القرن التاسع عشر إلا أنها لم تنبع عن التناقض بين برجوازية صناعية أو حتى تجارية ناشئة وبين طبقة إقطاعيين ثابتة ، وبالتالي يعكس دخول الصراعات أو العلاقات الرأسمالية إلى المسرح ، الافتراق المتنامي والسيطرة المتصاعدة للقوة الأوربية ( الرأسمالية ) داخل سورية كما في المنطقة ككل .
إن النمو اللاحق للعلاقات الرأسمالية أو حتى أنماط الإنتاج الرأسمالية ارتبط بالضرورة باستمرار وتضاعف الهيمنة الأوربية ، وبالرغم من ذلك كانت عاجزة عن تشجيع ظهور رأسمالية محلية في أي وقت كان أو ضمن أية ظروف ، بل إنها رغبت ( وقامت فعلاً ) بمعارضة أي نمو محلي ، بينما ساعدت بنشاط على تفكيك أية بنية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية يمكن أن تبدي المقاومة أو تمثل الاستمرار مع الماضي .
إن الواقع القائم الآن هو استمرار لهذه الصيرورة ضمن هذا الشكل من العلاقة بين الغرب والشرق ( وبلدنا سوريا ضمناً ) وبالتالي ترفع الهجمة القائمة الآن على سورية ضمن إطار هذه العلاقة ، إن كثيراً من الطروحات السياسية المقدمة الآن على الساحة السياسية تعكس كثير من الجهل والانتهازية وعلى رأس هذه الطروحات الليبرالية ، والتي غاب عن ذهن طارحيها إنها ظاهرة تاريخية ( أي الليبرالية ) ارتبطت بالتاريخ الأوربي وعبرت عن ضرورة مرحلية في تاريخ الرأسمالية الأوربية .
إن الموقف في كثير من الطروحات السياسية في سورية يتأكد بسهولة في أنها تعبر عن حالة من التكيف مع المعطيات الجديدة وبالتالي تفتقد لروح الموقف الوطني الملتزم بقضايا الشعب والأمة .
إن الحديث عن القمع والتسلط وضرورة الديمقراطية من قبل الغرب عموماً كانت دوماً شعارات حملة نابليون ويافطة لكل الحملات الاستعمارية تجاه منطقتنا ، وهذا ما يدفعنا للقول إن الزجاجات جديدة ولامعة ولكن الخمر معتق .



-8-

التحدي الفكري
بين الأصولية والتحديث والتغيير

كان تطور المسار العام لحركة الفكر في المنطقة انعكاساً إيجابياً أو سلبياً لما هو سائد لحرك الثقافة والإيديولوجيات في العالم .
ففي وقت بدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية عملاقاً اقتصادياً وسياسياً وتكنولوجياً ، فإنها وعلى نفس الدرجة والمساحة أخذت تسعى وفي مجال السيطرة الفكرية في تعميم إيديولوجيتها الليبرالية الجديدة على العالم والتي تلخص في الإيمان المطلق بفلسفة التقدم والتحديث وتجاوز الحدود والقفز فوق الثقافات الأخرى المحلية والإقليمية ، وشعار معلق واجهته الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة ...إلخ إلا أنها تتجاوز ما هو معلن من هذه القيم الإنسانية لتخدم عن طريق القوة الاقتصادية والعسكرية مشروعها السيادي العالمي في الهيمنة ، بحيث تجعل من الدول الأخرى والإنسان والأرض مادة للنهب والاستغلال لتحقيق الثروة والرغد على حسابهما ولتستفيد من موارد الدول الأخرى وتحويلها إلى منتجات وسلع تشبع بهما قطاعات واسعة ومهمة في مجتمعها وفي الدول التابعة مستفيدة من التقدم الهائل الذي حصل في كافة مجالات العلوم وتطبيقاتها التكنولوجية .
هذا التقدم العلمي والذي أصبح ضرورة ولا مفر منه ، لعب دوراً رائداً في هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وفي مساعدة الدول الرأسمالية الأخرى في تخطي أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ومن ثم في تعويم فلسفتها الليبرالية الجديدة وفي تجديد وتغيير بالمفاهيم والقيم الاجتماعية والثقافية باستخدام القوة والطاقات الموجودة والكامنة لديها لتحقيق أحلام التوسع ، ومن هذه النظرة الفلسفية العملية يكون مستقبل ومصير العالم قاطبة بيدها . وهذا على خلاف مطلق مع الكثير من الشعوب الآسيوية والإفريقية وبعض شعوب القارة الأوربية المسيحية والتي تقوم فلسفتها وقيمها الأخلاقية والوجدانية والروحية على الإنسان المستخلف في الأرض والذي هدفه حمل رسائل سماوية مقدسة مطلقة وثابتة حول الخير والشر والعدل والحق ... إلخ .
هذا الواقع الفلسفي عكس بطبيعته واقع التقدم والانتشار الثقافي الأمريكي لدى الكثير من الدول الأوربية الليبرالية بعد الحرب العالمية الثانية بسبب المساعدات الأمريكية الهائلة التي تمت على خلفية تحالفات سياسية وإستراتيجية بمواجهة المد السوفييتي الذي حمل لواء نشر الثقافة الماركسية (السوفييتية ) .
أما في الجهة المقابلة وخاصة في الشرق ، فإن هذا الانتشار والتقدم للثقافة الأمريكية الجديدة لم يتأثر كثيراً بالرغم من اصطدامه بفلسفات وثقافات نقيضة ماركسية وقومية ودينية إسلامية .
ففي الشرق الأوربي ، فلسفة / هيجل – ماركس – انجلز / على تضاد وتصادم كوني مع الثقافة الأمريكية ، وقد استمر هذا التصادم عشرات العقود وانتهى بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي ، هذا الانهيار الذي كان بمثابة إعصار هائل ومفاجئ أفقد توازن جميع أنظمة وقوى التحرر والتقدم في العالم وللأحزاب الشيوعية واليسارية بشكل خاص .
كانت الفلسفة الماركسية تلتقي مع الثقافة الأمريكية في الإيمان المطلق بضرورة التقدم المستند على طاقات الإنسان الجبارة وإبداعاته العلمية وعلى استثمار القوى الكامنة والواعدة في الطبيعة .
إلا أنها تختلف معها في إيمانها بجدلية وحركة المجتمع وتطوره المستمر وفي تحليلها المادي للتاريخ وقيمه وفي رفضها لمفاهيم العمل والجهد القائم على الاستغلال والنهب وفي رفض الهيمنة على الشعوب واستعبادها وفي حتمية بناء مجتمع شيوعي ينتفي فيه كافة أشكال التناقضات والصراعات الطبقية بعد حين من التطور التاريخي .
أما على الضفة الشرقية الأخرى – وخاصة الشرق العربي – الذي يتنازعه ثقافات حضارية متعددة – دينية وقومية وماركسية وعلمانية ليبرالية تحديثية ، فإن جميعها أصيبت بصدمة كبيرة من جراء انتصار الإيديولوجية الأمريكية وثقافتها الليبرالية الجديدة ، فكان هذا الانتصار بمثابة طوفان ثقافي جديد على المنطقة العربية التي لم يكن مستعداً له العقل العربي فشكل ردود فعل عند جميع التيارات الفكرية من أفراد وأحزاب وهيئات ، وأصبح السؤال المركزي عندهم هو كيفية التعامل مع هذا المد الفكري والسياسي الوافد الجديد .
فالتيار الإسلامي – بتنوعاته المختلفة – والذي يعتمد على الإيديولوجية الدينية / الإسلامية / الإيمانية ، كعنصر تكويني أساسي لثقافته الفكرية ، بدأ يسعى وخاصة الإسلام السياسي منه / الإخوان المسلمون / للتعامل مع الحقائق الواقعية على الأرض ومع قوة الأفكار الغربية بطريقة براغماتية بعد أن كان يعتبرها أفكاراً وافدة وتكفيرية ، إلا أنها براغماتية توضع في إطار الإيمان الإيديولوجي الوحيد المقبول لديه ، بحيث تدمج الأفكار الجديدة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان – وحقوق المرأة – والتعددية السياسية في الإطار العام للفكر والسياسة دون أن تطغى هذه الأفكار الجديدة على الإيديولوجية الدينية المحافظة .
وقد بدأ هذا التيار للتقرب من الإيديولوجية الأمريكية – الغربية عندما بدأ هذا الأخير بالتركيز سياسياً على حركة الإحياء الإسلامي والتقرب منها باعتبارها حقيقة مجتمعية لا يمكن القفز فوقها .
كما أن هذا التقرب الديني جاء انسجاماً مع حركة المد الديني البروتستانتية في الولايات المتحدة الأمريكية في خلال العقود الثلاثة الأخيرة وفي أوربا الكاثوليكية التي أجج نارها يوحنا بولس الثاني .
كما أنه ومن خلال هذا التقارب بين الإيديولوجية أخذ التيار الديني يدفع للاعتقاد ويقدم نفسه على أنه جزء من العملية البنيوية لصيرورة العالم ومعطياته المتعددة وإن الفكر والسياسة لديه من ضمن هذا التنوع والتصور ولكن في إطار النزعة التوحيدية الدينية الشمولية الثابتة المناهضة لجدلية وديناميكية التاريخ والعملية الثورية التي تدفع للتقدم والتغير نزعة دينية إما أن ترفض الآخر أو أن تقبل به بمقدار ما يخدم المصلحة والإيديولوجية .
وبسبب هذا التقارب بين الإيديولوجيتين وأيضاً السياسة العدائية الأمريكية تجاه القضايا العربية والإسلامية ، إضافة إلى تكريس سياسة وثقافة الانهزام والاستبداد والقهر والقمع وتردي الوضع الاقتصادي وما نتج عنه من فقر وبطالة ، فإنه ولهذه الأسباب مجتمعة امتدت النزعة السلفية – الأصولية وثقافاتها الجدية الراديكالية – كرد فعل نضالي ، وقد شكلت تلك الثقافة حالة بينية بين معظم التيارات الدينية الإسلامية الأخرى وبين الأشكال النضالية الوطنية الأخرى . إلا أن هذه الحالة البينية وبالرغم من آثارها المباشرة على الآخر والمربكة في الزمان والمكان ، فإنها تبقى محدودة الأثر السياسي والاستراتيجي الوطني كونها خارجة عن سياقه المشترك القابل بالتعدد والتنوع ، لكونها تحصر هذا الجهاد في استثمار فكرة ما هو مقدس في الدين والتراث والذي هو ملك لجميع أفراد الأمة وجزء من مكونها التاريخي .
كما أن إصرار القائمين على هذه الثقافة على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على المواجهة واستبعاد كافة المفاهيم والقيم والاعتبارات الأخرى الداخلية والدولية ، يعيد إلى الذهن مجدداً إشكالية علاقة الفكر الديني بالسياسة والسلطة والدولة ، وعلاقة الفرد بالدين وما بينهما من فضاء ثقافي وسياسي متنوع ، هذه الإشكالية التي لا تزال آثارها السلبية فاعلة لدى جميع النظم والقوى والأحزاب السياسية في المنطقة في وقت كان بأشد الحاجة إلى الأثر الإيجابي للعمق الاجتماعي والتاريخي للفكر الإسلامي ودوره الحضاري في بناء ثقافة وطنية تقوم على فهم معاصر لمفهوم المواطن والوطن ولقيم التقدم والتطور .
أما التيار القومي – والوطني الليبرالي , فإنه يعتبر من أكثر التيارات الفكرية تضرراً بالثقافة الليبرالية الجديدة وسياسة العولمة الأمريكية كونه استطاع القفز على رأس السلطة السياسية والهيمنة على مراكز القرار الاقتصادي في أكثر من دولة في المنطقة العربية ( كما هو الحال بالنسبة للحركة الناصرية وحزب البعث وحركة الاشتراكيين والقوميين العرب وبعض الأحزاب البرجوازية الوطنية والليبرالية ) في العقود الأخيرة من القرن العشرين ، فالتيار القومي والذي اعتمد في شق من ثقافته على تمجيد الأمة والقومية من خلال إحياء عظمة الأمة العربية في الماضي والاتكاء على الرصيد التاريخي لها مع الأخذ بثقافة اشتراكية انتقائية وسياسة اقتصادية واجتماعية وأمنية استطاع من خلالها ضمان استمرار هيمنته السياسية والاقتصادية .
لقد أضاع هذا التيار الفرص العديدة على شعوب المنطقة في إنجاز مشروعها الحضاري بالتوحد ومواكبة التطور والتقدم وبناء الدولة المستقلة الحديثة المرتبطة بحقوق المواطن والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان .
أما التيار الوطني الليبرالي والذي لا يرى من الثقافة والفلسفة إلا النهضة والحضارة الغربية ، كنقطة انطلاق لبناء ثقافة جديدة علمانية ولا تتوقف عند مكونات الأمة التاريخية بل تتجاوزها بهدف إنجاز مجتمع عصري مماثل للمجتمع الأوربي يستمد منه قيم الحرية والمساواة والديمقراطية . وقد انكفأت ثقافة هذا التيار ودوره السياسي عدة عقود بصعود الثقافة الشمولية والقومية في المنطقة وهيمنة فكرة الحزب الواحد والقائد وبذلك حرمت المنطقة من تطورها المادي والطبيعي في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية .
وضمن سياق هذا الصراع الفكري – فإن للفكر الماركسي وضمن هذه الدائرة حضوره المميز في الشرق العربي ، إلا أنه وكما هو الحال بالنسبة للحلقات الفكرية الأخرى – كان في حالة عدم استقرار إنباتي ويرجع ذلك وفي مقدمتها إلى ارتهانه لمعادلات الصراع الدولية والإقليمية للأفكار والسياسات السوفييتية آنذاك من مجمل قضايا الصراع والمتناقضات والإشكاليات المطروحة في المنطقة . مثل قضايا ( الاستقلال ، الاعتراف بإسرائيل ، الموقف من الوحدة العربية ، الصراع العربي – الفلسطيني الإسرائيلي ، الدين ومقدساته ، ومفهوم العلمانية والحريات العامة ، والحريات الشخصية ، والموقف من الأنظمة الاستبدادية ومفاهيم الديمقراطية وقيمها المدنية ... الخ ) .
هذه القضايا كان يعبر عنها الأحزاب الشيوعية في المنطقة بصفتها المحتكر الأول للثقافة الماركسية . كما يؤخذ على هذا الفكر ومن ضمن أسباب عدم استقراره ، كونه أعطي بعداً إيديولوجياً وكهنوتياً مقدساً بعد أن تم إلباسه القميص الروسي اللينيني والذي ليس لأحد الحق في نقده أو تغييره مهما طال عليه الزمن أو أصابه من اهتراء إلا عن طريق مرجعيته الروسية التي جردته من مكوناته الأساسية في التحليل والتركيب وإعطاء الحلول والمواقف السياسية لطبيعة المتناقضات الاقتصادية والاجتماعية والطبقية والقومية المستقلة ومن منهجيته الفكرية التي تبعث إلى وعي الذات والموضوع في كل منطقة وعند كل مجموعة بشرية ، تلك المكونات التي تحمل إمكانيات التشكيل والتجديد المستمرين ، كما هو الحال بالنسبة للخلية الحية التي تشير دوماً إلى مدلولات الحياة والتشكل والنمو والتطور .
كما وضعت هذه الإيديولوجيا / الماركسية اللينينية / في مواجهة إيديولوجية دينية إسلامية – مسيحية ، ذات الإنبات التاريخي العميق والمتأصل مجتمعياً من خلال فهمٍ استغرابيٍ للعلمانية .
وباختصار فإن هذا التيار الماركسي اللينيني ، كان تياراً فكرياً محافظاً وإيديولوجياً سلفياً بامتياز ، صوفياً ومتعصباً لمركز سائد ومتمثل بالعلماء الكبار الروس ، كان يمنع على الآخر أن يفتح باب التجديد والاجتهاد ، بل ويفرض عليه رؤيته الجامدة – السالبة – والرافضة لكل ما هو متقدم ومتطور في العالم ، في وقت كان فيه وخاصة الغربي منه داخلاً ضمن إيقاع حركة متسارعة في التغيير ويزداد قوة وبمعدلات لا كابح لها لتوظيفها في مشاريع عدوانية ، لقد كان تياراً يرد ومن خلال المركز السائد على الأسئلة التي تطرحها الأزمة وبطريقة تضمن المحافظة على الأمر الواقع ، والأمر الواقع لا يعني إلا اختيار موقف الجمود في مواجهة عالم ينطوي على حركة مركبة ومزدوجة ومتحركة في جميع الاتجاهات ، كان يرغب في تجميد العالم كما يريد ويتهرب من الاقتراب منه ومعالجة حركته ومتغايراته بتحقيق حالة أصبحت مرغوبة ومطلوبة يكون حاملها وعي عناصر حركة الفكر الماركسي لتضع مشروع التطور والتغيير في مجاله المجتمعي وعناصر تكوينه وحركته لتدفع به إلى نطاق الفعل والعمل والأثر .
لقد كان تياراً ماركسياً لينينياً مغلق البنية – إيديولوجياً تقليدياً في الخطوط العامة للماركسية – إلا أنه متنكر لها ولايجابياتها المنهجية في فهم التاريخ وجدليته المادية .
وبسبب هذا الفهم السلبي للماركسية فقد انكسر هذا التيار وفقد توازنه بانهيار التجربة الروسية في بناء الدولة الاشتراكية .
لذلك فإن أي إنبات تجديدي للفكر الماركسي ، وإذا لم يعتمد على الماركسية كمنهج علمي للتحليل والبحث والتصور ووضع الحلول والمواقف للمتغيرات العالمية والإقليمية ، وإذا لم يغتنِ بمكتشفات الثورة العلمية والتكنولوجية و ينفتح على العلوم الإنسانية وتجارب الشعوب وإذا لم يتجاوز ما توقف عنده ماركس إلى إنتاج الفكر البشري المعاصر وخاصة فيما يتعلق بمفاهيم الدولة الحديثة والمعاصرة ومفاهيم الحرية والديمقراطية ، وأن يحدد الرؤيا والمواقف من القضايا الوطنية والقومية والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الملحة ومن خلال البحث والتوقف عند الأوضاع الخاصة وبما ينسجم مع المصالح والحقوق والثقافة المتبلورة عبر قرون ، فإنه لن تكون الماركسية منهجاً فكرياً وخياراً للتغيير الثوري .



-9-

آفاق الليبرالية المنشودة في سوريا


ليست الليبرالية في سوريا هي المخرج الوحيد لحل أزماتها ، وليس من المنطق بمكان أن تتبنى بعض التيارات السياسية والفكرية هذا النهج، واعتباره نهجاً وحيدأ منفرداً للخلاص بالمجتمع السوري من الانتكاسات التي عاناها خلال الأربعين عاماً من حكم حزب البعث، يترافق ذلك مع إلغاء شامل وكلّي لكل التيارات والطروحات المغايرة الأخرى التي تنادي بعكس ذلك، تحت ذريعة أنها لا تبتعد برؤيتها وآليات حكمها عن الحالة الشمولية الديكتاتورية التي عانى الشعب السوري من إرهاصاتها الكثير حيث يوقعنا ذلك في انتكاسات تنعكس سلبًا على المجتمع، من حيث فقدان الرؤية الموضوعية والتحليلية للواقع السوري المعاش، فعملية نمذجة المجتمعات على الطريقة التي يطالب فيها البعض، هي عملية تفتقد الكثير من الدقة والمشروعية في المستويين النظري والتطبيقي، ويترافق ذلك في الغالب مع غياب أعمى للشرط الموضوعي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يميز بلداً عن آخر، والخطر الأكبر في ذلك يتجلّى في المفاهيم التي ’تطرح لتشكل الحامل الفكري لتبني هذه المقولة ، فالليبرالية ( مثلاً ) ، هي الفردوس الموعود الذي يبشرون به لحل أزمات البشر ، منطلقين من رؤية كونية معاصرة ، ترى الكون والإنسان ، والاقتصاد والسياسة ، ومجتمعاتهم ، من وجهة النظر الفكرية التي بدأت تحوّل هذا العالم لدخول النفق الليبرالي الأمريكي ، بكل إرهاصاته وتجلياته ، دون التأكد حتى إذا كان هذا النفق يتسع لهم، أو واسعًا كثيرًا على طروحاتهم ، بحيث أنه من الممكن أن يضيعوا في قنوات الصرف الموجودة فيه .؟! وهم غالبًا ما يقعون في تبنّيهم لهذه الطروحات نفسها " الديمقراطية الليبرالية ، الاقتصاد الليبرالي ، الانفتاح على العالم ، نهاية اليسار الاشتراكي ، موت الماركسية ، انتفاء مبررات الإنتماء الوطني والقومي ، انتفاء مفهوم الطبقات ... التماهي مع مفاهيم العولمة ومنظوماتها ، ....الخ " وفي هذا الصدد يقدمون أفكارًا لا تتوافق مع تطلعات مجتمعاتهم ولا تركيبتها ، لا سياسيًا ، ولا اقتصاديًا ، ولا ثقافيًأ..!
لم تأت ِ الليبرالية في أوروبا نتيجة انقلاب لنظام شمولي ، أو انزياح نظام عسكري ديكتاتوري ليتحول هذا المجتمع أو ذاك إلى نظام ليبرالي بين عشية وضحاها ، بل جاءت كنتيجة لعملية التبادل الاقتصادي وعلاقات الإنتاج في أوروبا مع بداية الثورة الصناعية فيها ، مع ما رافقه من قيم فكرية طرحها مفكرو عصر النهضة الأوروبي ، والتي تقوم بجوهرها على إطلاق مفهوم الحريات الفردية في المستوى الاجتماعي ، وتحقيق الحريات السياسية والاقتصادية، المبنية بالمطلق على الحق الطبيعي المرتبط بمكنونات العقل البشري " الفرد" ، في تحريره من ارتباطاته المجتمعية الواسعة ، ليبني على طاقاته الخاصة ، وملكوته الفردية ، مشروعه الخاص ، في المستويات كافة ، يؤطر ذلك كله دستور يمثل نموذجًا لعقد اجتماعي بين السلطة السياسية التي تحمي هذه الحرّيات وبين الفرد " الذات الحرّة المستقلّة " . ترافقت تلك القيم مع تراجع وانحسار كبير في دور الكنيسة ، والانتماء الديني ، والنظر إلى مفهوم الوجود الإنساني من منطق الحق الطبيعي بدلاً من الحق الإلهي، وبعيدًا عن وعود الكتاب المقدس ، وتعاليم الدين في العدالة والمساواة في السماء ، ساعد ذلك تطور الثورة الصناعية ، مع ما يحمله هذا التطور من تغيرات ترافق البنى الفكرية والعقلية للطبيعة البشرية ، الذين انتقلوا من نظم الإنتاج ، وعلاقات الإنتاج الإقطاعية إلى نظم وعلاقات الإنتاج الصناعية، التي تفرض تطورًا وتغيرًا في آليات التفكير ، وروابط الاجتماع الإنساني ، مع ما رافق ذلك من التأسيس لطبقات اجتماعية جديدة كليًا، شكلت قطيعة كبرى مع التاريخ القديم الزراعي الإقطاعي ، والكنسي لأوروبا ، وأهم هذه الطبقات ، الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة ، فالمجتمع الرأسمالي هو شرط أساسي من شروط النظام الليبرالي ، وهذا يعني بأن الليبرالية في أوروبا قد أوجدت حاملها الاجتماعي ، قبل أن تجد طريقها إلى النظرية والتطبيق ، وتثبت وجودها كمنهج ونظام سياسي واقتصادي ، وخاصة بعد أن تزاوجت مع طروحات الثورة الفرنسية في الحريات وحقوق الإنسان ، ثم انتقلت إلى وضع جذور مجتمعية لها بعيد ظهور وانتشار الفكر الاشتراكي في القرن التاسع عشر ، ما حدا بها إلى مواجهة هذا المدّ الخطير من خلال تطوير نظريتها وإيجاد مخارج لأزماتها التي بدأت تظهر مع اشتداد التناقضات والثغرات التي كانت تواجهها في الممارسة والتطبيق .
تشير الدراسات الفكرية إلى أن بذور الليبرالية تعود إلى نهايات القرن السابع عشر ، ومنذ ذلك الحين تعيش الرأسمالية أزمات وتناقضات تسير بين مدّ وجذر ، على جميع المستويات ، اقتصاديًا ، واجتماعيًا ، وسياسيًا ، وكانت دائمًا تنجح بفضل ديناميتها التي لا ’تنكر بالخروج من هذه الأزمات ، على رغم الويلات الهائلة التي جلبتها للبشرية ، من حروب واستعمار وقتل ودمار وغيرها ، وهذه كلها من إرهاصات الرأسمالية العالمية ، ولكن الليبرالية كانت المنهج الفكري لهذه الرأسمالية، والتي بنت عليها مراحل تطورها وصولاً إلى العولمة التي تشهدها البشرية في أيامنا هذه . فمنطق الخلاص الفردي هو الجوهر الذي تقوم عليه فلسفة الليبرالية ، مضافًا إليه ، منطق التزاحم والتنافس والتحكم بعملية الإنتاج الاقتصادي في السوق ، فتخضع كل شيء إلى قانون العرض والطلب ، وقد طال ذلك القانون حتى أنماط النظم السياسية الليبرالية ، وأصبحت اللعبة السياسية خاضعة لهذا المعيار التنافسي في الاقتصاد العالمي ، والسيطرة العسكرية والسياسية على القرار العالمي ، فالانتخابات الرئاسية في أوروبا وأمريكا أصبحت تحدد من خلال سياسة هذه الدول الخارجية ومنظورها لجهة الاقتصاد العالمي وتفاعلاته ، بالإضافة إلى مصادر الطاقة ، أكثر مما هي لعبة تنافسية في تحقيق الخير والازدهار لبلدان ومجتمعات هؤلاء الرؤساء .
تنتمي سوريا إلى بلدان العالم الثالث ، وتواجه الكثير من الأزمات في شتى مجالات الحياة ، وقد تكون هذه الأزمات أكبر مما تبدو عليه، وأكثر عمقًا من أزمات بلدان كثيرة تتشابه مع سوريا، ويتحمل نظام الحكم مسؤولية كبيرة في توليد هذه الأزمات وتعميقها ، لتتحول إلى أزمات بنيوية تشكل عائقًا أمام أي مشروع خلاص أو تغيير في البنى السياسية والاقتصادية والمجتمعية السورية ، وتتميز سوريا بأنها تحوي نسيجًا اجتماعياً بشريًا ، تحكمه منظومة قيم هي في الغالب ما قبل وطنية، تتجسد فيها روح الطائفة والجماعة والعشيرة والعائلة ، وقد ساعد النظام خلال سنوات حكمه الطويلة في تكريس هذه البنى، حيث قام بتوظيفها في عملية توازن سياسي لصالح السلطة واستمراريتها ، ساعية لاكتساب مباركة جميع الفئات الاجتماعية والعشائرية في البلد لحماية نفسها من تبعات التشكيلة السلطوية الأقلوية للنظام ، مع ما يشكل هذا الإنتماء من قوانين حماية وصراع وجود وبقاء في كنف الإنتماءات السالفة الذكر ، بعيدًا عن منطق الدولة ودورها في الرعاية والحماية، وعجزهم عن التماهي مع مفهوم المواطنة والإنتماء الوطني الذي أفتقد طويًلا في سوريا ، وكذلك الإنتماء الديني الذي يصل إلى حالة التطرف لدى الكثير من الجماعات والشرائح السورية والذين يجدون الخلاص عبره ،’يضاف إلى ذلك منظومة العلاقات التي تنتمي بطبيعتها إلى علاقات المجتمع الزراعي الريفي، مع ما يجسد هذا لطبيعة علاقات الإنتاج وعلاقات الاجتماع الإنساني التي تحكم هذه الطبيعة من البشر وما يعزز هذا النوع من العلاقات من تناقضات تساهم في تكريس حالة رجعية متخلفة أكثر من أن تساهم في التأسيس لحالة مجتمعية مدنية تنتمي إلى مفاهيم عصر الحداثة، في بلد مازال بعيدًا جدًا عن الإنتماء إلى شروط وتوصيف المجتمع الصناعي ونمط إنتاجه وعلاقاته .
سوريا مازالت بلدًا في مرحلة التطور ما قبل الرأسمالي والصناعي ، ويعيش فيه المجتمع نمط العلاقات الأقرب إلى القبلية والدينية والطائفية ، مع ما يحتوي هذا البلد من أزمات تتجاوز بحجمها وضخامتها إمكانياته المتواضعة ، ضمن هذه الشروط يمكن أن يكون مشروع الليبرالية من حامليه والذي ينتمي إلى شروط وتوصيف النموذج الأميركي الذي يجسد ليبرالية العولمة في جانبها الاقتصادي المتوحش، مشروعاً يتجه بالبلاد إلى المزيد من الخراب والأزمات ، وانقلاباً على مفهوم الحرية والديمقراطية نفسه .
تنتفي في المجتمع السوري شروط التوجه الليبرالي " النموذج الأمريكي " و " الاستلاب العولمي " في الهوية الوطنية والتبعية السياسية والاقتصادية، على الصعيدين المجتمعي والسياسي، مع مقاربة متواضعة في الاقتصاد، وأمر تجاوز هذا الاقتصاد لتحديات المرحلة القادمة تحتمها طبيعة التكتلات الاقتصادية العربية والأوروبية، والتي تجاوزت مراحل سريعة وكبيرة في هذا الصدد .
ففي نمط العلاقات القبلية والطائفية التي تحكم المجتمع السوري ، تفتقد روح الفكرة الليبرالية القائمة على تقديس حرية الفرد جوهرها، وتواجه صعوبة كبيرة في إيجاد جذور اجتماعية لها، فالإرتداد الذي حصل في المجتمع السوري لجهة التقوقع ضمن مجموعات يؤطرها الإنتماء العائلي والريفي خلال السنوات الطويلة من حكم البعث، أدى إلى انتكاسة حقيقية لجهة غياب مفاهيم كثيرة تؤسس لبناء مجتمع مدني وحديث، أو لنظام الدولة الحديثة التي من المفترض أنها المعبر الرئيس لقيام النظام الليبرالي المعاصر بكل تجلياته، فالكثير من السوريين اليوم لا يعرفون معنى الدستور" مثلاً "، ويحتم علاقتهم بالدستور، بمباركته أو عدمها مثلاً، علاقتهم بشيخ العشيرة، أو رمز من رموز الطائفة، أو بمرجعية اقتصادية تكون هي الممول لحياة هؤلاء الناس، فالدستور من المفروض أنه هو الذي يجسّد ويشرعن علاقتهم مع السلطة السياسية " المتمثلة بالدولة " ، ولكن ما يحصل هنا أن الشريحة الأكبر من البشر تنتمي بعلاقاتها إلى المنظومة العائلية والعشائرية، ويبقي مفهوم الدولة لدى الغالبية منهم، محصوراً في تمثيلهم فيها من خلال قريب، أو صديق، أو أحد أفراد العائلة، ومن لا يملك هذا الامتياز، غالبًا ما يكون خارج معنى الإنتماء لهذه القوة، ويتجه إلى مشروع الخلاص الفردي " الذاتي، الأناني" والذي يمدّ جسوره الاجتماعية مع الروابط التقليدية الأولى في العائلة، أو العشيرة أو الطائفة ! سعيًا وراء تحقيق شروط الاستمرارية، وتأمين لقمة العيش، والتأمين على المستقبل، والعمل والسكن، وصراع البقاء، وأخيرًا الحماية الاجتماعية والاقتصادية له ولجماعته التي يمثلها ؟ يؤدي هذا الإرتداد إلى اغتراب كبير يصل حد التأصل بين هذا النوع من العلاقات، وبين المفاهيم المجتمعية الأخرى التي يجب أن ترعاها الدولة وتحققها لكل مواطنيها، كحق المواطنة، والحرّيات الفردية، وتكافؤ الفرص، والتوزيع العادل للثروة الوطنية والدخل القومي، مع ما يواكب ذلك من ضمان اجتماعي، وحماية وطنية، وتأمين صحي، والحق في العمل والتعبير والحركة والاجتماع وغير ذلك من شروط بناء الدولة الحديثة بالمعنى المعرفي والمنهجي لبنيان الدولة، حتى يصل هذا المواطن إلى التماهي والانصهار التام في منظومة الدولة ومؤسساتها المدنية . وهذه الشروط لا يمكن أن تقدمها النظم الليبرالية الأميركية، بل هي منوطة بدور بنّاء وغالب للدولة نفسها التي تتفاعل فيها وتشترك في إدارتها كافة القوى السياسية والمجتمعية لتحقيق التوازن المطلوب للخروج من أزمات مجتمعية عميقة، دون الالتحاق بالوصاية الأمريكية أو غيرها، مع الحفاظ على شيء من الإنتماء والخصوصية لهوية حضارية، أقل ما يمكن أن يقال فيها بأنها كانت مهدًا للحضارات، وما زالت قادرة على بناء ذاتها بمقدّراتها الخاصة .
نستنتج مما سبق أن النظام الليبرالي المنشود في سوريا، لم يستوفِ بعد شرطه المجتمعي والاقتصادي، وهو يشكل مناخاً خطيراً في حال تبنيه، أو اعتماده كنظام اقتصادي للدولة، فالحوامل الاقتصادية، من برجوازية وطنية، وطبقة وسطى، وصغار كسبة ونخبة سياسية وطنية، تكون هي الحامل والضامن لنظام ليبرالي وطني، غير متوفرة وليست موجودة في سوريا، والبديل هو تلك الفئة الهجينة التي تشكلت من استغلال نفوذ السلطة، ونهب البلاد بدون ضوابط أو حدود، وبالتالي فإن الغياب الواضح للمفاهيم الفكرية والثقافية الوطنية، يجعل هذه الفئات التي أفرزتها السلطة على هيئة برجوازية طفيلية تعتمد على اقتصاد الظل في تنمية ثرواتها ورأسمالها غير الوطني، والتي ستكون أي هذه الفئات بالضرورة هي الحامل" المشوه" لليبرالية المعاصرة، وأشبه ما تكون بمولود هجين لا ينتمي إلى أي نظام اقتصادي يحقق الأغراض المرجوة منه في بناء دولة حديثة، ونظام ديمقراطي، وتأمين بعض أخلاقيات البرجوازية الأوروبية التي بنت أوطانها في السياق التاريخي لبناء النظام الليبرالي .
بناء عليه، لا يمكن أن يكون هناك في سوريا نظام ليبرالي حقيقي الآن وفي المرحلة المنظورة ، بل سيكون هناك نظام اقتصادي يتبع أخلاقيات العولمة الاقتصادية المتوحشة، القائمة بمبادئها على نهب الآخر وتدميره في سبيل مصالحها، من هنا تأتي أهمية الحضور الفكري والسياسي والمجتمعي للتيارات اليسارية، وخاصة الماركسية منها لتحقيق التوازن السياسي والاقتصادي في المحافظة على مكتسبات الناس الاقتصادية، وحماية حقوقهم في التعليم، والصحة، والرعاية والتوظيف وتأمين الخدمات الأساسية وغيرها من متطلبات الحياة العصرية، وعدم ترك الناس لمصير مجهول يقع بين سندان طبقة برجوازية مشوهة، وبين مطرقة سلطة سياسية انتقلت من شرعية البوط العسكري في وجودها، إلى شرعية رأس المال المنهوب من الشعب على مدى السنوات الطويلة التي حكم فيها ، وفي ظل قطب واحد للعالم احتل بلداً رئيسياً في المنطقة العربية ، ويتهيأ للهيمنة أو للإنقضاض على الباقي .





#أعضاء_في_الحزب_الشيوعي_السوري_المكتب_السياسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية


المزيد.....

- هل يمكن الوثوق في المتطلعين؟... / محمد الحنفي
- عندما نراهن على إقناع المقتنع..... / محمد الحنفي
- في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة / عبد الرحمان النوضة
- هل أنجزت 8 ماي كل مهامها؟... / محمد الحنفي
- حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى ( المخطوط ك ... / سعيد العليمى
- نَقْد أَحْزاب اليَسار بالمغرب / عبد الرحمان النوضة
- حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى - ضد رفعت الس ... / سعيد العليمى
- نَقد تَعامل الأَحْزاب مَع الجَبْهَة / عبد الرحمان النوضة
- حزب العمال الشيوعى المصرى وقواعد العمل السرى فى ظل الدولة ال ... / سعيد العليمى
- نِقَاش وَثِيقة اليَسار الإلِكْتْرُونِي / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - أعضاء في الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي - مشروع رؤية من أجل مؤتمر الحزب الشيوعي السوريالمكتب السياسي