أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة غانمي - امرأة لا تعرف السقوط















المزيد.....


امرأة لا تعرف السقوط


سميرة غانمي

الحوار المتمدن-العدد: 6752 - 2020 / 12 / 4 - 23:03
المحور: الادب والفن
    


عُينت حديثا في شركة لتصدير الملابس الجاهزة بعد سنوات بطالة خانقة كادت أثناءها تفقدها الأمل في حياة كريمة .منذ مدة من الزمن كانت تهتف مع جمع غفير غاضب "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق."
سمع ثامر أن جارته البائسة التي ما رآها يوما تضحك قد أصبح لها راتب شهري فطلب من أمه أن تقصد منزلهم لخطبتها كي لا تضيع من يديه كفرصة لتحسين حياته و هو الموظف المشروع الرابح لوالديه المعدمين. تم له ذلك و ماهي إلا أشهر قليلة حتى حلت ليلة العمر ،
و اختلى الشاب بعروسته الفاتنة مريم . كيف يقاوم سحرها الأخّاذ بعد أن نزعت عنها الفستان الأبيض اللامع ، فالقامة مديدة والجسم مكتنز و شعرها أسود سبل ينسدل على كتفين ناعمين ...حاجباها قُدّا في عناية، وعينان دعجاوان تحف بهما أهداب وطاف وجهها مستديرووجنتاها بحمرة الرمان ،شفتاها ممتلئتان تحاكيان لون المرجان تبرز من بينهما أسنان بيضاء لؤلؤية .تبتسم ابتسامة مسكرة فتأخذ المسكين بعيدا عن عالمه الرتيب ، تلك الابتسامة التي تحوي دلالا وغنجا . إنها تريد أن يتوه في تفاصيلها و ترغب في أن يكون أسيرها الضعيف تلك الليلة . لم يع كيف يقيم ليلته أما هي فكانت تنسج قصة في تلك السويعات ..هي تريد أن يظل أسير تفاصيل زمن مخطوف من جنة الأحلام . كان كمعتوه لا يعرف طريق العودة ، يؤوب إليها و فيها و لم يعد ينفر من رائحة الحناء كذي قبل ،إنه يلثم أخمص القدمين وأعلى الرأس.
و منذ تلك الليلة تغير بداخله شعور، لم يعد يراها فقط سندا ماديا له في الحياة بل روحا آسرة يسكن إليها و يتوه في عوالمها القصية ..زهرة ندية قُدّت من أفيون اللذة وعطرالحقول و حرارة النيران.. لقد كانت قوية كإعصار ،عنيدة كدفق مياه ،شهية كقطعة شهد رقيقة كنسمات ربيع...
أما هي فترى أنها لم تكن تشبه إلا نفسها ، تتجدد باستمرار و تعدل أعطاب واقعها و تحمل بين ثنايا روحها بؤس الإنسان و جور الحكام و هموم الوطن، لم تكن ساذجة التفكير بل عميقة ذلك العمق الذي يجعلها متمردة و جريئة غالبا ، حالمة بارتداد الظلم و انحسار الفساد تنشد رؤية ما يحفظ ماء وجوه البؤساء و الأشقياء.
و ماهي إلا أيام قليلة حتى عادت إلى عملها . طلب منها المدير أن تحضر لمكتبه ليهنئها بمناسبة زواجها . نظر إليها بذهول و راح يتأملها مليا كمن عثر على شيء ثمين و قلّب بصره بين النهدين الممتلئين و الخصر و كأنه نسي ما سيقوله بيد أن صوتها الدافئ أعاد إليه رشده فاستدرك و تذكر كلمات التهنئة التي خرجت من بين شفتيه مضطربة أثارت استغرابها و شكها.
عادت إلى مكتبها و أسرّت إلى صديقتها فاطمة بما لاحظته من نظرات مريبة و جريئة لمدير المصنع فحذرتها منه و أخبرتها أن له قصصا و حكايات مع بعض العاملات إذ هو يستغل موقعه ليوقع بضحاياه قسرا أو طواعية.
عادت إلى منزلها قبيل المغرب و فكرها مثقل بأمور شتى .
رتبت ما تركته مهملا في الصباح. وأعدت عشاء خفيفا، اقترب منها ممسكا بخصرها مقبلا جبينها ممتدحا قدها الممشوق و مثنّيا على طهيها الشهي وما تضفيه على البيت من لمسات جمالية .بيد أنها كانت شاردة الفكر تهم أن تعلمه بأن حدسها يخبرها بحدوث خطب ما وجلست قبالته تشاركه الأكل ، لكنها أكلت مقدارا قليلا.
جلس أمام التلفاز يشاهد برنامجا تلفزيا ، كرهت هي وجوههم و أحاديثهم المتكررة الرتيبة، نفرت من صياحهم و تبادل التهم و الشتائم و بدا لها الأمر أشبه بتهريج يثير القرف.استلقتْ على سريرها وصدى تلك المفردات ما يزال مدويا في أذنيها "مؤامرة،عملية إرهابية الوفاء للشهداء،المسار الانتقالي ،أياد خارجية ،قانون المصالحة ، التهميش ، البطالة ، الإخوان ،
الدواعش ،،،يقولون كل شيء و لا يفعلون...
كانت تلوم نفسها، كما فعلت ذات يوم صديقتها "هل أنت وصية على الناس و على العالم إنك لن تغيّريه، اهتمي بنفسك أولا فأنت في غنى عن كل مشكل خارجي،"
غير أنها كانت تقاد إلى عالمها الخفي دون إرادة و لا رغبة منها. إنها محمولة إليه على جناح السرعة في كل آن و حين، كانت على يقين أن الأمور خطيرة محكومة بالسوء و الرداءة و حادت كثيرا عن جمال الفضائل و إسعادا لأفراد و إنصاف الضعفاء . يغوصون في الوقائع و الظواهر و النتائج فتتوه الأسباب في غمرة الحماس المزيف و تغرق في الرجاء و الأمنيات و الأحلام و تود لو توزع تلك المشاعر و الهواجس و الأفكار بين الجميع راغبة في انبثاق وعي مشترك يحمل الدنيا بأسرها على التغيير يحملها على لفظ كل عكر و دخيل و يقودها إلى طريق محبّر بألوان فاتنة و أشكال آسرة يسير في سابلاتها أفراد تتوقد في أعينهم مخايل الحبور و الامتلاء.
و فجأة وصلتها رسالة إلكترونية "تضمنت ما ضاعف سخطها "أنت مختلفة و مركبة ،أنت فاتنة ، ذلك البائس لا يستحقك ، كوني لي أكون لك الدنيا و ما فيها،سأنتظرك "
سارعت بمحو الرسالة المزعجة و ظلت تسائل نفسها "من تراه يكون هذا الأبله المعتوه..؟"
و في الصباح،التقت مديرها في بهو إدارة المصنع فألقى التحية بصوت ماكر وتأملها مليا وهي ترفل في فستان زهري كفراشة تغادر زهرة عطرة شذية ، يتضوع عطرها المسكر في أرجاء المكان و طلب منها أن تحضر له بعض الوثائق ، فأخذتها إليه على مضض
و بفتور. بادرها قائلا : لم لم تردي على رسالتي أيتها الجميلة ؟
و ما إن همت بوضع الملف على المكتب حتى وثب من مقعده و جذبها إليه فندت منها صيحة مدوية و صفعته صفعة كادت تفقده صوابه وخرّ متراجعا و تهالك على مقعده متوعدا.أما هي فقد خرجت تجري إلى مكتبها بينما كان أغلب الموظفين قد غادروا أماكنهم يستطلعون الأمرفي تهامس....اقتربت منها صديقتها مربتة على كتفيها محاولة تهدئتها فقد علا نشيجها و بكاؤها المر و سألتها : ما الخطب ؟ ما الذي جرى بالداخل ؟ هل أساء إليك الماكر.؟ فردت بصوت متهدج و متقطع : ذاك الحقير عديم الرجولة أسير الشهوات أراد ضمي و قد تجرأ على مغازلتي في رسالة الكترونية ، إنه يعكر صفو حياتي ، و يكدر أفراحي و يسلبني هدوئي و سكينتي ، الصمت لن يكون ردي و العجز لن يكون حيلتي سأفضح أمره.
مسحت دموعها و غادرت المكان بسرعة لا تلوي على شيء . استقلت تاكسي و قصدت مركز الشرطة أين قدمت شكوى في حق مدير المصنع بتهمة التحرش. حكت لزوجها عندما عادت إلى المنزل فهاله ما سمع و استشاط غضبا و أرغد وأزبد قائلا: يا للفضيحة و للعار أما قلت أنك قد صفعته و أهنته و منعت عنك كل سوء فما حاجتنا إلى الفضيحة و الرفت من العمل ؟ أنت نزقة و متهورة ستأخذنا شعارات الفضيلة و الطهر و الكرامة إلى يم الشرور و الرذائل عندما نجوع و نعرى سنسحق تحت سياط المقتدرين و ستُسألين قبل أن يُسأل هو عن جرمه..
لم تقو على سماع المزيد من كلامه الذي كان بطعم العلقم و الخيبات و الويلات ،ذهبت إلى غرفتها و ألقت بجسدها مسلوب الروح و الحياة.و ظلت تحادث نفسها المكلومة و تحدثها: من أي معدن هذان الرجلان ؟ كيف تكون في نظرها مجرد متاع؟ و كيف تداس الأحاسيس الشفافة بغلظة المشاعر و قسوتها؟ إنها تعيش فقدان اليقين الأخلاقي و الريبة.. أين الإرادة الخيرة التي تنير سبل الفعل و ترشّده حتى لا ينساق إلى الانحراف بدافع الميول و الرغبات و الشهوات و المخاوف ؟
و بعد أيام استدعي المدير بغاية البحث في القضية ، فأنكر ما نسب إليه و أعلمهم بأنها قضية كيدية نتيجة تهديده لها بأنها سترفت لتأخرها المتكررعن موعد العمل و غياباتها الكثيرة و إتلافها للعديد من الوثائق الهامة و قد شهد ضدها كل من كانت تعمل معهم حتى صديقتها المقربة فاطمة، ولم يكتف بذلك بل بعث إلى زوجها بتسجيلات من حساب الكتروني يحمل إسمها و صورتها التي كانت تعتمدها في حسابها الخاص. فلم يكن قادرا على الأخذ بالحذر و الحيطة و لم يتوسل طريق الحكمة و التثبت بل كان نزقا متهورا . طردها من المنزل شر طردة تحمل أوزار العالم في رأسها و غضبا عارما بين حناياها و بركانا فوارا في قلبها. فكل الذين عرفتهم قريبا ماتوا في حادث كذب .فقد عصفت رياح المواقف لتعري الوجوه الكاذبة .نظرت إلى أعلى و كأنها تخبر الله بصوت مسموع بما جرى رافعة كفيها إلى السماء متضرعة "إذا كان بينهم و بين الجنة مكرهم لي فلا تسامحهم يا الله". عادت لتحدث نفسها و قد أسلمت جسدها للنسمات تحت شجرة تصارع من أجل البقاء"أليس أسمى غايات السلوك و الأفعال تحقيق السعادة للذوات و للمجموعة" فكيف تدفعهم اللذة و النزوات و المخاوف و النفاق إلى تدمير الآخر الذي لم يكن له من ذنب إلا كونه حقيقيا جدا لا يجيد التجاهل و التزييف و الصمت الطويل؟
بعثت إلى صديقتها رسالة الكترونية قبل أن تحظر عليها التواصل معها: سقطتِ مع الساقطين من فوق قمة المحبة و تكسرت شعاراتك الرنانة خلف شاشة هاتفك على صخرة الحقيقة و المحن ، ألم تسعفك قراءة القرآن آناء الليل و أطراف النهار لتتبصري و تصدُقي و تنتصري للحق؟ ترومين دخول الجنة من أوسع أبوابها؟خرس لسانك فعجزت عن أن تكوني في صف الحق ،لا بل ساهمت في حبك الأباطيل يا صديقة كانت تلون تفاصيل يومي بشكواها من زوج مهمل و صغار متمردين و بيت تعمه الفوضى وواجبات لا تنتهي...استمعت إلى تفاصيلك البسيطة و عجزت أنت عن سماع قلبي الكسير وتعلمين فداحة الجور و مغبة الظلم..سأنام بعد أيام هادئة البال مرتاحة الضمير أما أنت ستظلين في نظر نفسك فاشلة في استحقاق الإنسانية و القيم السمحة تدحرك خطيئتك إلى قرار الوجع و الندم ...غادري عالمي الواضح إلى آخر يليق بك ،إلى عالم وهن القلوب و الضمائر و العقول .ما عدت بحاجة إليكم . إني أحترم المختلفين عني غير أني أكره المارقين عن نواميس الحق و الإنسانية.
عادت إلى منزل والدها منكسرة الخاطر عازمة على فضح الفضيحة ،على مواصلة ما كتبوه قبلها حول الزيف و المكر، قررت أن تحيا بحروفها و أنت تحرق بكلماتها هي لا تسمح أن يسحقوها أو يطفئوا نجمة في عينيها و أخرى في فؤادها .يمارسون دجلا و تسلك هي طريق الرفض ، تتقيّأ ملامحهم و تود لو تطمرهم في حمام عفن فلا يعودون أبدا أمام ناظريها و في ردهات ذاكرتها ، يمرون مباشرة إلى جحيم الاحتقار و الازدراء.
ما أشبه عالمها الصغير بالعالم الكبير، و ما أشبه أناتها بأنات الوطن ، الوجع يسقي الماضي قطرا سخيا حارقا ، فولوج مناحي الباطل و الشرور، و التعود على كسر الأخر و استرقاقه يدخل المتدبرين إلى مفترق عدم اليقين و الشك و الرفض و غياب الهدوء ، لم تكن قبل محنتها مشدودة إلى تفاصيلها و حكاياتها بل مسحوبة إلى عالمها الأرحب ،إلى الإنسان في بلدها و كيف السبيل إلى اللقاء به ليعد مجدا تليدا ، كما يحلو لهم التعزي به و التستر بأحداثه الماضية ؟
إنها عميقة كمنبع ماء لا يرى، كهوة سحيقة لا يعرف مداها السذج الغارقون في يومهم و ألوانهم و هذرهم و هذيانهم.
وماهي إلا أشهر قليلة حتى انتهت إجراءات الطلاق.و أمكنها مرة أخرى أن تحصل على عمل في شركة مرموقة و شقت طريقها ثابتة الخطوات وخلّفت وراءها محنة منحتها قدرا من التجربة و المعرفة ، معرفة عوالم كانت خفية. تعيش بجروحها و تقتات من كلمات دونوها ، لم تنس أبدا أنها أنثى تسعد بالنظر في عينيها و تطربها كلمات الغزل، لم تنس أن تحلم برجل يكون عميقا تنبثق الفكرة من كلماته، يحمل قلب إنسان يحب الناس و لا يكتفي بحبها ، يشاركها الرفض و الصوت ...
هاهي جالسة في أحد المنتزهات، وحيدة تقرأ كتابا قديما . يتقدم منها أحدهم، كان فارع الطول ، مفتول العضلات حلو المبسم استأذنها بصوت دافئ للجلوس معها فلم ترفض رغم غرابة الموقف ، كان متحمسا للتعريف بنفسه و كانت كلماتها القليلة تخرج من بين شفتيها الشهية بفتور، فلم تعد تأمن الاندفاع و روعة البدايات و عذوبة الأحاديث. انتهى اللقاء، وعادت تحمل في مخيلتها صوتا و نظرات و شيئا مختلفا وجدت نفسها تثبت رقمه على شاشة الهاتف،ترددت،همت بالعدول عن مهاتفته لكنها كانت جريئة هذه المرة... و بادرته قائلة :"سعدت بلقائك ،كنت آسرا، هذا ما يبدو لي".ندت منه تنهيدة :أعقبها بقوله: أنت مختلفة و رائعة ،سنلتقي مجددا.."
تتالت الأيام ، وأصبحت صفاء تأمن لحازم تحدثه عن تفاصيل يومها و تحدثه في اللقاءات عن الذين أخطأتهم رمية الحظ و حادت عن سمائهم سمات السعادة ،عن المتألمين تحت سياط الظالمين.كانت ترى في انزياحها عن لغة الحب و عذاباته و أشواقه متعة ، ربما صورة الطفلة الشقية التي سكبت بين الوهاد و الهضاب أيام الصبا جعلتها تتحسس آلام الآخرين. راحت تحدثه عما يثير سخطها و أحزانها وعن مكان نمت فيه الشرور ، فعظمت الويلات و بعثت على الحيرة و الاستغراب و الغضب المكتوم الذي يكاد يطمر قلوب الأحياء ، أحياء الضمائر تحت ركام عتي .
ذكرت قصصا ظلت عالقة، حدثته عن راع مقطوع الرأس و عن طفلة حبست أنفاسها في موجة برد في غابة منسية ، عن أخرى سافرت عبر بلوعة صرف صحي إلى عالم الردى تحمل وجعا و فضيحة...عن عجوز تسعينية تغتصب حتى الموت و أم الثلاثة أطفال التي أطفؤوا فيها جذوة شهوتهم بين الأموات حتى الفناء . حدثته عن تحرش جماعي و محاولة اغتصاب لصبية داخل القطار السريع بين الركاب. مسحت دمعات ألهبت خديها و أكملت حديثها عن شابة تُقطع أطرافها ،عن رجل الكهف الذي غادر الزمان و المكان و آثر الحياة تحت الأديم.
شعر لولهة أنه يريد ضمها إليه مشفقا على الذاكرة المثقلة و القلب المنتحب و اهتدى بنظرته الثاقبة و حكمة القارئين أن يرى أنثى مختلفة على ميلها غالى الوجع شهية و آسرة .أخذت بمجامع قلبه و فكره جعلته يرتد إلى الوراء ليعقد مقارنة بينها و بين النساء الكثيرات اللاتي قابلهن.
لاحظت هي شروده في عينيها و لمحت نظرة محفوفة برغبة في الغياب بعيدا عن صخب العالم و صخب ذاكرتها . هي أيضا أنثى جدا يمكن أن تقع أسيرة بين كلمتي عشق لذيذ يكون البوح بهما بوحا شهيا و استثنائيا ،إنه البوح الغامض"الذي يشوبه التردد و الارتباك و البطء ،إنها كطائر الفينيق تترمّد و تُبعث حية من جديد ،إنها تنهض من الركام لتفتح دفتي قلبها لأزاهير الحياة و أطايبها، وتستقبل أياما آتية ملتحفة بإزار الهوى البهي.
و إن خابت آمالها في ذاك الرجل الذي كان يراها عونا على جلب القوت و سندا يجعله واقفا أمام سطوة الغلاء فإنها ما كفت عن الحلم بما هو أفضل و الأفضل في نظرها رجل شفاف عميق يلهمها الحكايات و يقودها إلى نعيم التفكير ، هو الرجل المريح الذي لا يمتهن العتاب و لا الشك و لا جرد الطلبات اليومية ،إنه الرجل الذي لا يصدم جوارحها بنموذج محفوظ عن الاشتهاء و الشبق الحيواني ،هو ذاك الذي تفتنه ابتساماتها ، وخجلها و يتوه في عمق كلماتها.حاول من خلال جلساتهما أن يفهم ميولاتها الحزبية وإن كانت تفقه الكثير في الخطاب السياسي .فما وقف إلا على امرأة لا تنتمي إلا للانسانية و إلى طيف جمالي ينقم على كل أنواع القتامة و الشرور يرفض السير في دنيا الخراب و يأبى الانصياع لصانعي الجبروت و الآلام ..نعم إنها أنثى تصل إلى قمة نشوتها بتحريك ذهنها و إثارته و أدرك أنه لا مناص من إرواء غلتها.
قال لها مبديا إعجابه : لقد تعودوا تعودا كريها و مقيتا على السوء و الفشل و تعايشوا معه هم لا يحاولون مرات و مرات لتغيير ما بهم من علل و عاهات . يصدمون بالظواهر و يفوتهم إدراك السبيل إلى الخروج من غياهب الظلمات . يغفلون الأسباب .إن بدايات هؤلاء مشوهة و مبتورة فقبل أن يكونوا ظالمين و فاسدين و مارقين عن القانون كانوا عجينة مطواعة بين أياد كثيرة و عقول عليلة و قلوب محطمة و ضمائر مضطربة بين صحوة برقية و غياب طويل المدى .إن البدايات تصنعها البيئات و علل المجتمع و العقول إن أحاديثهم تتكرر بشكل مقرف لا تتخطى جدران الإطار المكاني الضيق المغلق .أحاديثهم تظل هراء أو أشبه بعواء جراء جائعة ظمأى ..إننا نحتاج مثقفا جماعيا . ذلك المثقف الذي يتجاوز كونه وسيطا يربط بين المنفذين و البسطاء المحرومين .إنه المثقف الذي يخلق مجموعة ثورية ترفض الانصياع. إنه المثقف الذي يرفض أن ننزوي في البيوت ننظر لما يحدث و ننتظر.. فالكلمة الجماعية هي الحلو السبيل إلي الخلاص و السعادة .و السعادة هي امتلاك أدوات النمو الحقيقية للكرامة و الإنسانية و العلو الجماعي بعيدا عن الفردية و الأنانية .إنه الذي يقوم بعملية تثوير للذهنية و تحريك الرأي و الترغيب في الفعل الذي يقود إلي التغيير الإيجابي المنشود.
كان لكلماته وقع السحر عليها تتأمله مشدودة إليه انشدادا لا مثيل له . حدثها عن كوفيشيوس و بريشت وأسماء أخرى كثيرة اختلطت في ذهنها و عجزت عن الاحتفاظ بها لقد كان خريج مسرح و صاحب مكتبة ولعل ذلك ما جعله بهذا القدر من الإلمام المعرفي .
لم تمض أيام قليلة حتى زفّت إليه و أقيمت حفلة بسيطة خالية من كل بهرج. لقد كانت هي أيضا بسيطة جدا عكس ما يتراءى للكثيرين عن بعد ، أنها متكبرة بملامح قاسية. إن عنادها و خروجها عن المألوف أصبح دأبا و عادة في العمل ، فابتعدت عن تلك المجاملات المضرة. إن ميلها إلى إعلان الحرب على الإفك و الحيف لا يمنع من أن تكون لينه و ودودة مع البسطاء أمثالها..هي لا تعطي صكا على بياض لأحد.
في تلك الليلة ,كانت آسرة كمن كانت من نسل وردة عطرة. خجولة كطفلة تتعثر و تنتهي مندفعة كسيل دافق يطوح به لج الغياب فيتوه في مرافئ العشق الخفية بين صحوة و سكر . لم يغمض لهما جفن تلك الليلة من جمال الحضور و شدة الفرح و رفض لمغادرة ذلك الزمن العشوائي و الصدمة اللذيذة والجنون الحر، المتحرر من طقوس الحب القديمة فألقي كل ساتر و انكشفت حجب الأرواح الظمأى و انسكبت على المفارش المزهرة ترنيمات المغرمين الأشقياء السكارى من فرط الصبابة و المارقين عن قانونهم الثائرين عن هدوئهم المعهود .
لقد ضاقت عليها الدنيا بما رحبت ذات يوم و عند ربها كان المتسع . هي تدرك أنه لم يكن نسيا و دعواتها ليس دونها حجاب ، يوما ما استنصرتهم فلم تجد من نصير و لكن الله قدم لها حفنات الفرح فكان الرجل الذي احلولت معه الحياة و ذاقت معه ألوان المرح و الحبور
و التفكير و خاضت معه المغامرات الطفولية العائدة إليها باستمرار و أدركت أن الزمن يحوي في طياته الكثير و يفصح عن الكلمات الأخيرة للأقدار فصاحب الشركة التي كانت تعمل بها قد أصيب بذبحة صدرية حادة نتيجة إفلاسه و صديقتها التي خذلتها و ضغطت على جرحها النازف و غادرتها مكلومة أضحت بلا عمل تكابد من أجل إعالة أبنائها. لقد علمت ذلك من إحدى الصديقات فشعرت بأنها تقف على العدل الذي يريح القلب لكن سرعان ما أخذتها الشفقة فرق قلبها و خصصت مبلغا ماليا كانت تبعثه كل شهر إلى تلك الصديقة دون أن تعلمها بأنها هي من تفعل ذلك ، نفتها إلى جزيرة النسيان و جعلتها غريبة غير أن ما نسيت أن قلبها يزهر بالرحمة و يورق بالعطاء و يصقل بالمحن التي تجعله قلبا وليدا يدرج في حدائق الحب ثم لا يلبث أن يصبح فتيا يسير واثق الخطوات على صفحات الحياة و دروبها يرفس أشواكها و يقتلع عثراتها و يشذّب أفنانها الملتوية وتدرك أنها لن ترى ألوانا تروقها أحيانا و أنها مجبرة على تخيّر لونها الذي لا يعشي عينيها و لا يحجب عنها نور اللب و الفؤاد....



#سميرة_غانمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فيض الذكريات / قصة قصيرة
- عدوى العنف داخل المجتمع
- تجليات أزمة التعليم في تونس


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة غانمي - امرأة لا تعرف السقوط