أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عادل بن حمزة - المقدس والسلطة في المغرب















المزيد.....


المقدس والسلطة في المغرب


عادل بن حمزة

الحوار المتمدن-العدد: 1579 - 2006 / 6 / 12 - 13:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


المقدس والسلطة في المغرب:
الوضع الاعتباري للدولة ما بين الوضعي والديني

لقد تناول العديد من الكتاب هذا الموضوع عبر العصور، وحاولت الأنتربولوجيا السياسية أن تقدم صورا عن العلاقة ما بين الدين والسياسة منذ فجر التاريخ ومنذ ظهور المعتقدات الدينية الأولى أو المراحل البدائية للفكر الديني، غير انه كثيرا ما طغت الخلفية الإيديولوجية والسياسية على حساب الجانب الابيستملوجي في دراسة هذه الظاهرة.. إن مسألة الترابط ما بين الدين والسلطة هي واقعة تاريخية عرفتها جميع المجتمعات الإنسانية وهي ناتج سيرورة العلاقات الاجتماعية وعلاقات الإنتاج، إذ " أن الأديان - كظواهر اجتماعية تاريخية- تتمتع بدرجة عليا من المعرفة تتيح تكيفا وفقا لتطور العلاقات الاجتماعية. لقد أثبتت جميع الأديان هذه المرونة" حسب سمير أمين.

الدين والسياسة –مقاربة عامة-:
يصعب من الناحية المنهجية إقامة فصل تام ما بين الدين والسياسة أو القول بنفي الأول للثاني أو العكس، إذ أن العلاقة بينهما تراوحت ما بين هيمنة الدين على السياسة وكبح طموحاتها والحد من جبروتها، وبين استعمال السياسة للدين لتقوية النفوذ وإحكام السيطرة، ويرى ماركس بأن " سلطة الدين والدولة هما في جوهرهما من طبيعة مشابهة، حتى عندما انفصلت الدولة عن الكنيسة وحاربتها. يقوم هذا التشابه الجوهري في الواقع على أساس وقوع الدولة (أو يبدو أنها تقع) على مستوى أعلى من الحياة الواقعية في دائرة يُوحي بُعدها ببعد الإله أو الآلهة"، وأننا عند الحديث عن علاقة الدين بالسلطة في مجتمع ما فإننا نتحدث بالضرورة عن النسبة التي يشغلها الدين داخل النظام السياسي، فحسب جورج بالانديه تنم "وحدة رموز السلطة والمقدس عن الصلة التي قامت بينهما دائما والتي وسعها التاريخ ولم يقطعها أبدا".
تذهب بعض الكتابات المعاصرة إلى إرجاع مسؤولية التعثر الديمقراطي بالعالم العربي والإسلامي إلى الدين الإسلامي، وان كنا نتفق بأن الانعكاسات السلبية "لفهم الإسلام" كظاهرة اجتماعية تاريخية موضوعية وليس كدين، لها أثر مهم على تعثر تجربة البناء الديمقراطي، فإننا نجد أنفسنا محاصرين بأسئلة كبيرة يجب أن نمنحها المدى اللازم.. مثلا إذا سلمنا بمسؤولية الإسلام التاريخي فلمن نرجع مسؤولية التأخر الديمقراطي بإفريقيا جنوب الصحراء واسيا غير الإسلامية وأمريكا الجنوبية ومجموعة بلدان المنظومة الاشتراكية السابقة، لا يمكن أن يكون الجواب سوى أن طرح مسؤولية الإسلام، طرح متهافت وغير علمي وغير موضوعي، باعتبار أن حتى الدول التي قطعت أشواطا في الديمقراطية لم تقطع بصفة نهائية مع موروثها الديني وان الدين لازال يلعب دورا هاما حتى في المجتمعات الغربية، إذ لا يمكن "إنكار تداخل المقدس والسياسي (فحتى داخل) المجتمعات الحديثة المعلمنة لم تكن السلطة فيها أبدا خالية من محتواها الديني الذي يبقى حاضرا مختصرا، ومكتوما" حسب بالانديه، بل إن الدول التي تبنت خيار الإقصاء النهائي للدين من مجتمعاتها ( الاتحاد السوفياتي سابقا كمثال) لم تستطع أن تتخلص من منطق الدين حيث عوضت الأنبياء ببعض المفكرين، والكتب المقدسة بأدبياتها الإيديولوجية وخلقت طابوهاتها أيضا، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والعالم الإسلامي تشهد جميعا انبعاث أصوليات جديدة بخطاب ديني يتراوح مابين التطرف والاعتدال، وهذا ما يستلزم مجهودا علميا للبحث عن الأسباب الموضوعية لظهور هذه الأصوليات بمضامين متقاربة في الجوهر رغم اختلاف طرق التعبير والخلفية التاريخية والحضارية، في بلدان متناقضة من حيث بنائها الاجتماعي وعلاقات الإنتاج ودرجة النمو والحضارة والديمقراطية وبتزامن مع تصاعد الحديث عن العولمة، ولعل تنامي قوة الخطاب الديني بالغرب هو الذي دفع أحد الأكاديميين الفرنسيين المعاصرين للقول: "عندما كنا بالأمس نريد أن نثير إعجاب الطلاب كنا نحدثهم عن السياسة، ولما كنا نريد أن نثير سخريتهم نحدثهم عن الدين، أما اليوم فإذا كنت تريد أن تثير انتباههم فعليك أن تحدثهم عن الدين، وإذا كنت راغبا في إثارة سخريتهم فحدثهم عن السياسة". فهل يمكن أن نتصور استغناء النظام السياسي المغربي عن البعد الديني في بناء السلطة؟ في الوقت الذي آستعمل الدين باستمرار لتأكيد مشروعيته وكبح جماح الطامعين في الاستقلال عن السلطة المركزية وفي ذلك يقول بالانديه "إن المقدس هو احد أبعاد الحقل السياسي" والحالة المغربية تؤكد ذلك بامتياز.
علاقة بنفس الفكرة يرى الأستاذ عبد اللطيف اكنوش أن المغرب غداة الاستقلال في محاولة منه لركوب موجة الحداثة والانخراط في العصر، عرف ما يمكن أن يسمى مرحلة "دنيوية الحكم" ما بين 1956 و1970، وقد حاول النظام السياسي المغربي أن يحاكي بعض الأنظمة الغربية حيث جعل الإسلام دينا رسميا للدولة كما هو شأن "البروتستانية" في بريطانيا، وعمل على صيانة حرية العبادة سواء بالنسبة لليهود أو المسلمين كتمثل للنظام الألماني الذي يمول العبادات، حيث يمكن القول جملة أن المغرب كان يعرف علمانية غير معلنة.. بل إن محمد الخامس تخلى عن لقب "السلطان"، كما انه قاد ثورة اجتماعية من خلال إصراره على ظهور بناته الأميرات رفقته دون غطاء الشعر وبلباس أوربي عصري وسط بيئة اجتماعية جد محافظة، كما أن الدستور المغربي الأول لدجنبر 1962 جاء "عبارة عن تركيب محكم للتقنيات التي طالما استعملتها الملكيات الأوربية في القرن التاسع عشر" ودستور 1962 فيما يتعلق بالاختصاصات التي منحها للملك جاء مطابقا لمقتضيات دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية في عهد "ديغول"، أما الجهاد الأكبر الذي أعلنه محمد الخامس فكان يستهدف التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبناء دولة المؤسسات ولم تكن له على الإطلاق أي مسحة دينية، كما يمكن أن نلاحظ بأن العلماء ومدبري "المقدس اليومي" من شيوخ الزوايا والطرق الصوفية، لم يكن لهم أي تأثير على جدول أعمال بناء دولة المؤسسات انطلاقا من وضع الدستور وانتهاء بأول انتخابات بلدية وتشريعية في المغرب المستقل، وليس خاف على احد أن دستور 1962 قد قام بصياغته مجموعة من الخبراء الفرنسيين، كما أن الخلاف حول طريقة وضع الدستور كان أطرافه يؤسسون منطقهم على قواعد القانون الدستوري وتجارب البلدان الأوربية ولم تكن أية إحالة على الموروث الديني أو التقاليد المخزنية القديمة، حتى من قبل أقطاب المؤسسة المخزنية أمثال احمد رضى اكديرة وخاصة ما كان يكتبه على صفحات جريدة les phares، أما على مستوى "إضفاء" المشروعية والشرعية على السلطان، فقد أدى تورط بعض العلماء في تزكية تنصيب "بن عرفة" إلى تراجع دور هذه الفئة مع الطلائع الأولى للمغرب المستقل، ولم يقدم العلماء الوطنيين أمثال علال الفاسي وبالعربي العلوي... أية شرعية دينية أو إسلامية للنظام/ الحكم بل اضفو عليه بصفتهم زعماء ناضلوا ضد الاستعمار المشروعية الوطنية والنضالية باعتباره محمد الخامس زعيما وطنيا، كما أن النظام الوليد لم يكن بحاجة إلى اعتماد الإيديولوجية الدينية مادام يتقاسمها مع الحركة الوطنية ذات الطابع السلفي المنفتح والمقبل على العصر.
لقد كان تأسيس "رابطة علماء المغرب" حسب اكنوش نوعا من "تأميم" الوظيفة الدينية للعالم وكالتفاف على محاولات الاستقلال الفقهي في كل من سوس في بداية الخمسينات من خلال "رابطة علماء سوس" ومراكش من خلال "رابطة علماء مراكش"، كما أن السلطة قررت في نهاية الخمسينات حل "الحزب الشيوعي المغربي" وهو قرار سياسي في العمق ولم تصدر في حق الحزب أية فتوى فقهية ذات شان لتكفير أعضائه، وربما جاء قرار الحل في إطار مقتضيات الحرب الباردة والالتزام السياسي مع الكتلة الغربية، كما أن رابطة العلماء لم تحرك ساكنا في الموضوع الذي طرح على محكمة الناضور بتاريخ 15 دجنبر1962 وهو الملف المتعلق "بحركة البهائيين" والملفت للانتباه أن وزير الداخلية آنذاك اكديرة انبرى للدفاع عنهم، وهو أحد أصدقاء الملك، غير أن الطابع الزمني للسلطة ما فتئ أن أخد في التراجع بفعل عدة عوامل داخلية وخارجية، أبرزها الأزمة المؤسساتية غداة الإعلان عن حالة الاستثناء، تنامي التوتر السياسي، هزيمة العرب سنة 1967 تشديد الخناق على أحزاب الحركة الوطنية، وهذا ما مهد لصعود الحركة الماركسية اللينينية بتزامن مع الأحداث الطلابية لعام 1968 بكل من فرنسا والقاهرة وبراغ... وتحولت الماركسية إلى إيديولوجية للشباب تستهدف تقويض النظام القائم عبر إقامة سلطة "ديكتاتورية البروليتارية" وقيام نظام جمهوري على حساب الملكية ذات النفس الديني، وفي مواجهة هذه الحركة السياسية الوليدة سيعمد النظام إلى اللجوء إلى أدواته الإيديولوجية والقمعية وعلى رأسها الدين والجيش حيث يُمكن أن نرصد عملية عودة "الظهير" في الفترة ما بين 1969 و 1971 في إطار ما يسميه اكنوش بـ "تنشيط الممارسات التقليدية للحكم" كما أن الفصل 19 من الدستور لم تتم الإحالة عليه منذ 1962 سوى سنة 1970 من طرف المجلس الأعلى في قضية "مزرعة عبد العزيز" الذي اعتبر قرارات الملك غير قابلة للطعن باعتباره "يمارس اختصاصاته الدستورية بوصفه أمير المؤمنين" وبذلك تحول الفصل 19 إلى مفتاح للدستور المغربي ودستور في قلب الدستور، كما تزامن ذلك مع ما عرفته سنوات السبعينات و الثمانينات من توترات اجتماعية نتيجة "التقويم الهيكلي"، حيث عملت الدولة على مواجهة المد اليساري من خلال تشجيع المقررات التعليمية ذات الشحنة الدينية، كتفعيل لإحدى مقررات المؤتمر الإسلامي كما حاول النظام السياسي توظيف حركة "الإسلام السياسي" في مواجهته مع قوى اليسار الماركسي، غير أن نجاح الثورة الإيرانية أعطى زخما جديدا لحركة "الإسلام السياسي" وقد سبقتها بعض الإرهاصات مثل اغتيال الإطار الاتحادي "عمر بن جلون" والذي اتهمت بالتورط فيه منظمة الشبيبة الإسلامية بزعامة عبد الكريم مطيع، كما يمكن أن نرصد أيضا الرسالة التي وجهها الشيخ "عبد السلام ياسين" إلى المرحوم الحسن الثاني تحت عنوان "الإسلام أو الطوفان"، إذ أن حركة الإسلاميين تحولت بدورها إلى خصم سياسي راديكالي للنظام السياسي حاول النظام مواجهتها انطلاقا من المرجعية الدينية نفسها وذلك ما يتضح من خلال خطاب الملك ليوم 16 ماي 1979 والذي لا يختلف في مضمونه العام عن رسالة المولى سليمان شيخ الزاوية الوزانية والتي وضعت الزاوية خارج الشرع وكذلك الشأن بالنسبة لحركة "الإسلام السياسي" الوليدة، وذلك بإبراز الدور الهام لأمير المؤمنين في صيانة الدين، بل ترأس الملك نفسه المجلس الأعلى للمجالس العلمية المؤسسة عام 1980، كما عرفت الفترة نفسها نوعا من تدجين فئة الشرفاء من خلال الامتناع عن تجديد "ظهائر التوقير والإحترام" التي دأب عليها السلاطين، حيث تم الاستعاضة عنها بإنشاء "روابط للشرفاء" والتي يرأسها "نقيب الشرفاء" المعين بظهير ملكي.. إن هذه الممارسة هي ما وصفها اكنوش "بأنه تجاوز الجماعات الإسلامية على يمينها" ومن تمت بروز تقليدانية النظام السياسي منذ1970.
أمير المؤمنين: إجتمع فيه ما تفرق في غيره:
لقد شكل خطاب العرش الأخير نقطة تحول كبرى في عهد الملك محمد السادس الذي منذ توليه العرش مافتئ يقدم على مبادرات كانت تثير ردود فعل مختلفة بين مؤيد ومنظر لعهد جديد، وبين قراءة تدعو إلى التريث في الحكم على التجربة وقراءتها قراءة متفاعلة وتركيبية للخروج بخلاصات جوهرية تنفي القطيعة عن العهد الجديد وتذهب في اتجاه تصويره على انه لا يعدو أن يكون نسخة مزيدة ومنقحة لعهد الراحل الحسن الثاني. بين وجهتي النظر استمر الملك في مفاجأة الرأي العام الداخلي والخارجي وكان ابرز هذه المفاجآت هو مناسبة زواج "أمير المؤمنين" حيث لأول مرة في تاريخ الدولة المغربية باختلاف العائلات الملكية التي حكمت المغرب، تظهر للعلن زوجة أمير المؤمنين من خلال الخطوبة وحفل الزفاف الذي تميز بمراعاة التقاليد المغربية في مثل هذه المناسبات، كما تميزت المرحلة التي تلتها بظهور الأميرة للاسلمى في أنشطة اجتماعية عمومية وفي رفقة الملك في عدة مناسبات خارج الوطن وداخله وبلباس عصري وبأزياء مغربية تقليدية كما تفعل معظم نساء المغرب، وهو ما يحيل تاريخيا على الخطوة الجريئة التي إتخذها الراحل محمد الخامس فيما ذكرناه عن ظهور بناته الأميرات في نهاية الأربعينيات بلباس عصري أوربي وهو ما استمر في عهد الحسن الثاني بالنسبة للأميرات من أخواته وبناته.
بالإضافة إلى هذا المؤشر، تميزت بداية عهد محمد السادس بالرسالة التي وجهها إليه عبد السلام ياسين تحت عنوان "إلى من يهمه الأمر" وسجل المراقبون رد فعل الملك بايجابية حيث تم تجاهل الرسالة ولم تبدي السلطة أي رد فعل عنيف اتجاه صاحبها اللهم الحجز الذي تعرضت له جريدة "المستقل الأسبوعي" التي نشرت الرسالة، إذ على عكس رد فعل الراحل الحسن الثاني الذي ألقى بعبد السلام ياسين في مستشفى الأمراض العقلية سنة 1974 بعد تلقيه رسالة"الإسلام أو الطوفان"، أقدم محمد السادس شهورا بعد الرسالة على رفع الإقامة الجبرية على شيخ جماعة العدل والإحسان.
بالعودة إلى خطاب العرش 2004 نجد التصريح الواضح للملك محمد السادس على أن الدين والسياسة يجتمعان فيه بصفته أمير المؤمنين، وهو ما يوجب تميزهما عن بعض لدى باقي الفاعلين في الدولة فالسياسة لها ميدانها وفرسانها وللدين فرسانه وميدانه، ويأتي هذا التصريح العلني بعد تردد طال النظام السياسي منذ بداية الاستقلال، ولعل اختيار التوقيت له ما يبرره بالنظر إلى تداعيات أحداث 16 ماي وتنامي الاتجاهات التي تحاول توظيف الدين في ساحة الصراع السياسي والاجتماعي وأيضا في إطار الأجندة الدولية المعلنة الهادفة إلى تجفيف منابع التطرف والإرهاب، ويأتي هذا التصريح في سياق تراكمي هادئ لإدماج الفعاليات "الإسلامية" في الحقل السياسي ابتداء بتجربة العدالة والتنمية وليس انتهاءا بما يُعد له بالنسبة لما تبقى من اسم "الشورى والاستقلال"، ويُمكن اعتبار الوضع الحالي يقترب بشكل كبير جدا من النموذج البريطاني حيث الملكة هي رئيسة الدولة وفي نفس الوقت رئيسة الكنيسة الانجليكانية، وهي تجربة إن تم دعمها على مستوى تحقيق الديمقراطية والحريات ستكون بلا شك رائدة على مستوى العالم العربي والإسلامي.
الخيار الديني: أمير المؤمنين.
تتوزع النسق السياسي المغربي المعاصر حسب محمد ضر يف ثلاثة حقول أو مستويات أساسية، يشكل داخلها كل من حقل التحكيم وحقل إمارة المؤمنين مؤشرات لاستمرارية طريقة في الحكم تمتد إلى أزيد من ثلاثة عشر قرنا، بينما يمثل حقل الملكية الدستورية حقلا حديثا اقتضته دولة الاستقلال والانخراط في العصر مع الاحتفاظ بنزعة "تقليدا نية" يعرفها بأنها "تشكل فلسفة سياسية تحاول أن تجعل أداة لخدمة التقليد... وتتميز بثلاثة خصائص:
الأولى: السعي إلى بناء (السلطة) على حساب (الدولة).
الثانية: شحن أدوات التحديث بحمولات تقليدانية.
الثالثة: إقامة ترادف، على مستوى الخطاب، بين مدلولات حقل (الحداثة) ومدلولات حقل التقليد، ويشكل الملك "الثابت الوحيد في هذه الحقول، ويمثل حقل "إمارة المؤمنين". لقد سبق للموحدين أن اتخذوا هذا اللقب والذي ارتبط تاريخيا بدولة الخلافة الإسلامية وتحول إلى موضوع صراع ما بين مختلف الأسر الكبرى الحاكمة في المشرق والمغرب قصد الزعامة "الاكليريكية" من خلال انتزاع "صفة" الزعامة الدينية للدفاع عن الإسلام وصيانة حقوق المسلمين، بينما تجد بعض السلاطين المغاربة مثل "يوسف بن تاشفين" اكتفوا فقط بلقب "أمير المسلمين" ويمكن القول بان انتحال هذه الألقاب يمثل ملمحا من ملامح الدولة التيوقراطية.
يؤكد كتبت نص وثيقة بيعة سكان وادي الذهب في 14 غشت 1979ان أمير المؤمنين بصفته سلطانا، ظل الله ورسوله في الأرض، والشعب بالنسبة له يمثل "رعية" ويستمد مشروعيته من الدين باعتباره "ظل الله"، وتترسخ هذه الشرعية بواسطة آلية "البيعة" وقد قال الرسول "ص" «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية» (حديث نبوي استشهد به في وثيقة بيعة سكان وادي الذهب)، ترتيبا على ذلك تصبح مهمة السلطان هي السهر على إقامة الشرع في شؤون الدين والدنيا اعتمادا على وساطة "مفترضة" للعلماء انطلاقا من مبدأ الشورى، والملاحظ هو أن الدستور باعتباره احد آليات "حقل الدولة الحديثة" أو الملكية الدستورية أسهم بدوره في إضفاء شكل المشروعية الزمنية الوضعية على "إمارة المؤمنين" من خلال الفصل 19 من الدستور الذي وظف لهذا الغرض حيث نص على أن "الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضمان دوام الدولة واستمراريتها، وهو حامى حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات.." وبالتالي يمكن الحديث عن "منزلات" الملك الذي غالبا ما تجاوز بصفته "أمير المؤمنين" الملك بصفته "رئيسا للدولة" وقد قال الراحل الحسن الثاني في افتتاح دورة مجلس النواب يوم 9 أكتوبر1981: "إذا لم يكن الملك الدستوري بإمكانه التدخل، فان أمير المؤمنين بموجب الكتاب والسنة يحق له ذلك"، وتتجلى بشكل واضح الصفة المركزية "لأمير المؤمنين" وأولويته التاريخية والشرعية عن "رئيس الدولة" من خلال قوله بان: "هذا الدستور لم يأت نتيجة مطالب"، "بل لقد وضعته بيدي" وهنا يتجلى بوضوح أن "أمير المؤمنين" هو الذي ينظم اختصاص "رئيس الدولة" ويعلن ميلاده التاريخي شانه شان الدستور.
إن مقاربة حقل "أمير المؤمنين" يستهدف التأكيد على الدور الايجابي الذي يلعبه في إطار توحيد الأمة وتجاوز اختلافاتها، وهو دور تاريخي استمر منذ قرون والى اليوم، غير أن تضخم اختصاصات "أمير المؤمنين" تجعل من الصعب وضع حدود فاصلة لتداخل السلطات وتحديد المسؤوليات، وهو ما ينعكس سلبا على إمكانية الانتقال الديمقراطي مادام الهدف هو بناء السلطة على حساب الدولة وما تقتضيه من مؤسسات وشفافية واختصاصات ينظمها القانون الأسمى للأمة وهو الدستور ويضع قواعدا للمحاسبة.
الخيار الوضعي: رئيس الدولة
لقد سبق وان اشرنا إلى أن النسق السياسي المغربي المعاصر تتوزعه ثلاث حقول، يشكل حقل الدولة الحديثة فيه حقلا جديدا على تقاليد الحكم والسلطة في المغرب، وذلك نتيجة مطالب الحركة الوطنية بإقامة "ملكية دستورية" ونتيجة لمقتضيات الانخراط في العصر واستجابة لموجة "التحديث" السياسي التي عرفتها جل البلدان الحديثة العهد بالاستقلال، وإذا كانت الدولة المغربية لا يرجع فضل تأسيسها للاستعمار، فان عصرنتها ومدها بالوسائل الحديثة للحكم (إدارة، مؤسسات، قوانين مكتوبة...) تزامن تاريخيا مع الحقبة الاستعمارية... مع ذلك يمكن القول بان حقل "الملكية الدستورية" ورغم مرور أربعة عقود على ولادته التاريخية، لازال يمثل "الطرف" في حلقة النسق السياسي الذي يحتل مركزه بامتياز حقل "إمارة المؤمنين" ومرد ذلك يكمن فيما يلي:
أولا: دور الشعب.
من المفترض أن يحتل الشعب في حقل الدولة الحديثة مكانة "المواطنين" بما يقتضيه ذلك من فتح فرص المشاركة السياسية، واحترام حرية التعبير خاصة إبان المحطات الانتخابية والاستفثائية، غير أن قراءة متفحصة للواقع المغربي، توضح لنا واقع هيمنة منطق "الرعية" على حساب منطق "المواطن" وذلك من خلال التدخل المتكرر والمتطور في عمليات الاقتراع ومصادرة الرأي الآخر، والتعامل الذي يناقض مبادئ حقوق الإنسان لدى بعض رجال السلطة، غير أن السنوات الأخيرة وخاصة حقبة التسعينيات عرفت "تطورا" ملحوظا في احترام حقوق الإنسان ولربما كانت هذه هي الخطوة الأولى في اتجاه زحزحة منطق "الرعية" لفائدة منطق "المواطنة" كمقدمة لاحتلال "رئيس الدولة" مكانة أساسية في النسق السياسي المغربي. على الرغم من بعض التراجعات التي سجلت منذ 2002.
ثانيا: شكل المشروعية.
إذا كانت مشروعية "أمير المؤمنين" مشروعية دينية، فان مشروعية رئيس الدولة هي مشروعية مدنية تستمد من الدستور باعتباره قانون وضعي، غير أن بعض مقتضيات الدستور والتي من المفترض أن تدفع في اتجاه منح اختصاصات مهمة لـ "رئيس الدولة" تقوم على العكس من ذلك بإضفاء شرعية "مدنية" على "أمير المؤمنين" بالإضافة إلى شرعيته الدينية، وهذا ما يجعل "أمير المؤمنين" يتوفر على شرعيتين أساسيتين وهما معا دينية ومدنية مما يجعل "رئيس الدولة" في منزلة اقل من "أمير المؤمنين" الذي يظل مركز النسق إضافة إلى شرعيته التاريخية غير المشكوك فيها.
ثالثا: وسيلة الشرعية.
يعتبر الدستور هو الوسيلة الأساسية، لشرعية "لرئيس الدولة" غير أن مقاربة تاريخية لوضع الدستور في المغرب توضح لنا بأن "أمير المؤمنين" هو الذي "منح" الدستور وانه موجود قبل وجود الدستور، فوجود الدستور يستمد "شرعيته" من رغبة "أمير المؤمنين" في منح دستور للأمة، وبالنتيجة فـ "أمير المؤمنين" هو الذي يمنح الشرعية لـ "رئيس الدولة" وليس الدستور.
رابعا: الحقل السياسي.
تقتضي الدولة الحديثة هيمنة الوسط الحضري من الناحية المجالية، أي توسع قاعدة الساكنة الحضرية وما يليه من ارتفاع مستوى التعليم وخلق المؤسسات الثقافية والعلمية، وبناء ثقافة المواطنة المشيدة على مبادئ حقوق الإنسان والانتماء للوطن بغض النظر عن اللغة أو الجنس، وذلك عكس الثقافة السائدة في البادية والمبنية أساسا على العلاقات القبلية ذات النفس "الخلدوني".. ولقد شكلت البادية طيلة سنوات الاستقلال مجالا استراتيجيا للنظام السياسي، حيث لم تستطيع الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني ولوجه إلا "بنفس خلدوني" أيضا، من خلال الأحزاب التي شكلت "للدفاع" عن البادية. (..) أو الجمعيات التي أخذت أسماءها من السهول والجبال والهضاب وأسماء المشاييخ و أولياء الله.. ولا يخفى على الباحث أن عدد سكان البوادي ظل إلى حدود إحصاء 1994 أكثر من عدد سكان المدن، وهذا ما يعنى أن المجال السياسي الحضري لـ "رئيس الدول" ظل غائبا منذ أن ولدت الدولة المغربية، ولما تغيرت المعادلة السكانية لفائدة الوسط الحضري أقدم النظام السياسي على اقتراح "التناوب" على أحزاب المعارضة السابقة (أحزاب الكتلة الديمقراطية).
ومع ذلك يمكن القول بأن النظام السياسي لم يغلق باب تحمل المسؤولية في وجه "المواطنين" وان بشكل مدروس، لأسباب دينية أو قبلية ومثال ذلك تحمل مغربي يهودي مسؤولية حكومية في عهد حكومة البكاي الأولى والثانية، والسيد "سيرج برديكو" وزارة السياحة في حكومة عبد اللطيف الفيلالي الأولى وأيضا انتخاب السيد "جو اوحنا" في مجلس النواب عن مدينة الصويرة، وهو ما يعني حسب ما أكد ضريف أيضا، تجاوزا لمفهوم أهل الذمة في الفكر السياسي الإسلامي... ولعل القاسم المشترك بين هؤلاء المسؤولين المغاربة هو "المواطنة" بغض النظر عن الانتماء الديني أو العرقي، غير أن هذه الحالات تبقى معزولة إذا نظرنا للوضع بشكل شمولي، بيد أنها توضح لنا حجم المرونة التي يتمتع بها النظام السياسي المغربي.
خامسا: الوسطاء.
بالنسبة لـ "أمير المؤمنين" يمثل "العلماء" الوسطاء، الشرعيين بينه وبين "الرعية" أما وسطاء "رئيس الدولة" في حقل الدولة الحديثة فهي الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات، وقد حدد الدستور مهامها باعتبارها تقوم بتأطير المواطنين وتشارك في اللعبة السياسية، غير أن هذه المشاركة السياسية لا تستهدف من وجهة نظر النظام السياسي احتكار السلطة بل فقط وفي أقصى الحالات "المشاركة في السلطة" ، إذ أنه تاريخيا غلب على مختلف الحكومات المغربية الطابع غير السياسي أي التقنقراطي، وحتى في بعض التجارب التي شاركت فيها الأحزاب في الحكومة، ظلت الوزارات الأساسية في يد وزراء غير متحزبين، وهذه الوزارات هي ما اصطلح عليها وزارات "السيادة" وقد استمر هذا الوضع حتى مع حكومة السيد عبد الرحمن يوسفي، وبشكل واضح مع السيد إدريس جطو وهو ما افقد الحكومة المسؤولية السياسية وحول أعضائها إلى مجرد موظفين "سامين".
إننا نكتفي بهذه النقاط للتأكيد على أن دور "رئيس الدولة" لازالت شروط تطويره وتجدره في بنية النسق السياسي المغربي لم تتوفر مع التأكيد على أن هناك مؤشرات ايجابية لبدايتها لابد أن يتجند كل الديمقراطيين لتكريسها على ارض الواقع ومنع أي ارتداد إلى الخلف.



#عادل_بن_حمزة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحداث 16 ماي بالمغرب :تأملات هادئة في مسارالانتقال الديموقرا ...
- هدم تازممارت: سادية اتجاه الماضي الحاضر والمستفبل


المزيد.....




- سلي طفلك مع قناة طيور الجنة إليك تردد القناة الجديد على الأق ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على النايل ...
- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عادل بن حمزة - المقدس والسلطة في المغرب