أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى عراقي حسن - تجليات المشهد الشعري لدى عبد الكريم كاصد















المزيد.....


تجليات المشهد الشعري لدى عبد الكريم كاصد


مصطفى عراقي حسن

الحوار المتمدن-العدد: 1571 - 2006 / 6 / 4 - 08:18
المحور: الادب والفن
    


رؤية نقدية
مجاز البيت والطريق
وردة البيكاجي أنموذجًا

"ثَمَّ موقف فلسفي يختفي غائراً في أبسط مشاهد الشعر ، والتقاطاته ."
عبد الكريم كاصد(1)


يجسد المشهد الشعري والتقاطه بأدواته الفنية المتآزرة ملمحا بارزا من ملامح عالم الشاعر العراقي المتميز عبد الكريم كاصد ، فالمشهد هو الوسيلة الأثيرة لديه لبناء قصيدته بناءً.
وليس المشهد عند عبد الكريم لوحة مرسومة للتأمل والفرجة ، بل هو مشهد حيوي نابض بالحياة ، إنه مسرح حيٌّ تتجلى فيه عناصر الزمان والمكان ، وتبدو فيه أدوات اللون بدرجاته والضوء بمستوياته ، والصوت بإيقاعاته، وفي هذا المسرح تتصارع الأفكار والمشاعر والكائنات الحية.
إن قصيدة عبد الكريم تنبع لديه من حسٍّ مسرحي متمكن من ادواته.
وهذه السمة المشهدية قارَّةٌ في رحلة عبد الكريم لا تكاد تغيب منذ بدأ وحتى الآن كما تتجلى في آخر قصيدة نشرت حتى الآن وهي قصيدة ولائم الحداد : المنشورة بـ"إيلاف"(2) ، وتلك مقاطع منها توضح سيطرة المشهد على تجربة هذا الشاعر:
ولائم الحداد
الدفن
تطلعُ الشمس /أو تغربُ الشمس /أو...
وسْط أزهارِ مَنْ شيّعوك /وأزهارِ منْ ودّعوك
وأشجارِ منْ قدموا من بعيدٍ إليك
وتبقى.. / أبداً/فوق قبرك تثلجُ بيضاء
تلك السماء
أنقطعها/سائرين إلى القطب
نحمل نعشك أبيض..؟!
.............................

بعد قليلٍ/ستأتي ملائكةٌ/قد تضل الطريق
صوت أوّل
ثلاثون عاماً/وأنتَ تعدّ الخُطى..
وتقول : " غداً "/و" غداً " /لن يجئ
وخلفك تلك البلادُ البعيدةُ/تلك البلاد
- ثلاثون عاماً -
" سأبلغُها /- قلتَ - /حتّى وإنْ.. / ضلّني النجمُ
حتّى وإنْ "
ثمّ ألفيتَ ظلّك مستوحشاً/يسأل النجم :/" أين الطريقُ؟ "
طريقك ذاك /الطريقُ البعيد/ البعيد/البعيد/الذي لم يكنْ

البيوتُ محدّبةٌ /- قال - /واطئةٌ/تبلغ الركبتين
أ أ دخلها؟/كيف؟
- ياللمدينة بعد ثلاثين عاماً –
أ أجتازُ أوحالها شبحاً/وأصافحُ أمواتَها/يلتقون بأحيائهم؟
أينَ أبصرتُهم قبل؟
……………..
……………..
- من أنتَ؟
يسألني عابرٌ/يتطلّعُ فيّ بعينين ميّتتين
ويمضي /وأمضي /وأعبرها شبحاً يتجوّل
وسط مدافنَ واطئةٍ/وبيوت محدّبةٍ
ركدتْ في المياه
هكذا يرسم أولا المشهد بالمزج بين عنصري المكان والزمان مستخدما الوظائف النحوية الدالة على الزمان في مستوياته المتعددة، مثل:
الفعل المضارع المستمر :(تطلع الشمس - تغرب الشمس)
المضارع المستقبل:( تبقى أبدا - غدا - لن يجيء)
المضارع الدال على المضي: (لم يكن)
والوظائف الدالة على المكان مثل:(وسط أزهار – فوق قبرك – أين الطريق – خلفك تلك البلاد )
والمزج بين العنصرين بارز كما في قوله:" فوق قبرك تثلجُ بيضاء تلك السماء"
كما يستعين بتعدد الأصوات داخل المشهد
وبعد أن يطمئن الشاعر على اكتمال خلفية المشهد هاهو يحرك الشخوص والأفكار والمشاعر حركتها المتفاعلة مع المشهد تأثيرا وتأثرا".
ثم يأتي مجاز الطريق ، ولكنْ في سياق جديد مشحون بالحيرة والتساؤل
أما البيوت فهي كما يتصورها عبد الكريم (وكما يصورها لنا دائما) محدبة واطئة ،
إن البيوت والغرف لدى شاعرنا تجسد المعادل الموضوعي لعلاقته بالوطن ،
يقول عبد الكريم بعنوان :"انخطاف يضيء القصيدة":()()( 25- إبريل- 2005م)
"في قصيدةٍ لي بعنوان (الغرف)، أردتُ أن أكتب عن عودةٍ لي من غربةٍ أولى فكتبتُ وكتبتُ دون أن أعرف بداية للقصيدة أو نهاية حتى تخليت عنها، لكن فجأة وبلحظة خاطفة رأيت الغرف التي سكنتها يوماً أو هجرتها وهي تصطفّ لتعلن ولادة القصيدة.
فكانت الغرف مجازا فنيا لغرض الشاعر(العودة إلى الوطن بعد غربة)
المجاز الغائر:
و هذا المجاز غائر في أعماق الشاعر كما يبدو من قصيدته: "هنا تحتمي السماء بالجبل"
كردستان
هنا تتطلّع الأبديّة /بعينين هائلتين /إلى السماء /وتحتمي السماء بالجبل
هنا يحتفي الجبل بالشجرهْ /والشجرة بالإنسان
ويصدح الفرح /بإنشودة العزاء.
حلبجة
في حلبجة /البيوت أخفض من قامة البشر /والجبال أعلى من السماء
ولا أثر هناك لطفل
المسافر
تحت شجرة بلوط /رأيت‘ المسافر يتوسد قبره
قلتُ لهُ/: "حتام تظلّ هنالك متكئاً /تتوسّد قبركَ؟"
قال:/ "وهل سفر بعد القبرْ؟
طفل
الطفل البائع /الجالس وسط ثمارهِ /في سوقٍ في أربيل
تتوّجه الأغصان /أينهض ثانيةً
وسط ثماره؟ /أم يقطع دامي القدمين
يتوّجه الشوك /طريق الآلام؟

يقوم الشاعر منذ العنوان ، بالإلحاح على تأكيد عنصر المكان باستخدام اسم الإشارة : هنا كما يتجلى مجاز البيوت الوطيئة ، والطريق الذي هو هنا طريق الشوك والآلام،الذي يقتبسه الشاعر من التراث المسيحي.
والعناية برمز البيت والدار قديمة في التراث العربي ، كما تتجلى في كتاب المنازل والديار : الذي كتبه أسامة بن منقذ بعد حدوث زلزال عام (552هـ – 1157م) وهدم شيزر حيث فني جميع أقربائه نتيجة لذلك , فأراد المؤلف أن يبقي ذكراهم في قلبه وفي قلوبنا من خلال حديثه عن منازلهما وديارهم. وهو "يرجع الدافع الرئيس لتأليف‏(‏ المنازل والديار‏)‏ الي شهر رجب عام‏552‏ عندما ضرب زلزال رهيب شمال الشام وأتي علي شيزر موطن الشاعر ومرتع صباه وفيها كل أهله وعشيرته وأحبائه‏,‏ فانسكبت دموع البطل الذي باشر الحرب منذ أن كان في الخامسة عشرة وهو يردد‏:
‏يقول صحابي‏:‏ قد أطلت وقوفنا علي الدار مسلوب الأسي والتماسك
أفي كل دار قد عفت أنت واقف تروي تراها بالدموع الســوافك
فقلت نعم هذي ديار عهدتــها قفارا‏.‏ وهم ما بين نــاء وهالك
أصابهم ريب الزمان فأصبـحت بها معشري مثل النجوم الشرابك

وبمثل هذا التكثيف في اللفظ والمعني مضي الشاعر يوظف حسه المرهف معبرا عن مأساته التي فجرت في أعماقه ينابيع شعره فنجده يقول‏:‏
إذا أنا شارفت الديـــار تحدثت بمكنون أسراري الدموع الذوارف
وماذا انتفاعي بالديار وقربهــا إذا أقفرت من كل من أنا آلف"(3)
أليست هذه التجربة الإنسانية على المستويين الواقعي والفني (الحقيقة والمجاز) قريبة – بوجه من الوجوه – من تجربة عبد الكريم؟
نستطيع أن نقول إن البيت في شعر عبد الكريم رمز للوطن .
ولكن أي وطن؟
إنه الوطن الذكرى ، والوطن الأمل، وليس الوطن الرومانسي الذي يتغنى به الشعراء ، بل الوطن الواقعي.
ليس الوطن المجرد المتصور في الخيال بل الوطن المجسد الذي يفترش الطريق.
ولهذا يقدم لنا عبد الكريم الوطن من خلال مشهد حي، نطالعه حجرا حجرا ، ونحياه معه ونتجول في حجراته منحنين ، ونحتمي بسقفه الذي ربما خذلنا وسرب المطر على رءوسنا معه. ولكن لا ضيرَ فإنه في النهاية
وهذا المشهد بما يزخر من مكان وزمان وحركة لون وصوت – مفتاح مهم من مفاتيح الولوج إلى عالم عبد الكريم الشعري ، وهذا ما سأتناوله بالدرس من خلال ديوانه وردة البيكاجي الذي جسد ذروة المشهد الشعري- من وجهة نظري –
ولا تنفصل تجربة البيكاجي عن المجازين البارزين في تجربته : البيت والطريق ، بل هي امتداد لهما ، فالبيكاجي كما عرفه الشاعر :"مبنى قديم في عدن كان يسكنه الشاعر مع غيره من المهجرين العراقيين ، وقبلا كان يسكنه الهنود".
افتتاحية المشاهد:
يفتتح شاعرنا ديوانه بحديث عن البيت ، فالبيت في الديوان محوره الذي تجتمع فيه بقية العناصر ، فيقول:
"ذلك البيت /كنت أطالع في سقفه حفرة
وأرى مطرا لا يبللني/ونوافذ مشرعة لرجال الضرائب والمشترين".
يأخذنا الشاعر إلى عالمه منذ الوهلة الأولى بتجسيد مشهده من خلال المزج بين عنصري المكان والزمان(ذلك البيت) و (كنت أطالع)
فاسم الإشارة (ذلك ) يشير إلى بعد البيت ، ولك أن تراه بعدا مكانيا أو زمانيا أو الاثنين معا.
والفعل (كنت) يدل على زمن مضى، ويطلعنا المشهد على طبيعة ذلك البيت القديم المتهالك الذي في سقفه حفرة لكنه لا يمنع قاطنيه من التأمل عبر نوافذ مشرعة
ولا يستغرق الشاعر كثيرا في الوقوف عند المكان والزمان إذ نكتشف أن هذا مجرد تمهيد لدخول الشخوص (رجال الضرائب والمشترين) بما يتسق مع بيت قديم ،
وها نحن نراهم في المشهد يتحركون حركة دائبة :
"يقيسون حجراته، ويجيئون بالرمل فوق الحديقة، يقتلعون السياجَ وأشجاره ويزيلون فوق الحصى أثري)
يجتهد الشاعر في رسم الشخوص - من خلال الأفعال التي تفقدنا التعاطف معهم كأن همهم أن يقتلوا الحياة(الأشجار) ويميتوا الذكرى( ويزيلون فوق الحصى أثري)
وهنا يمتزج عنصرا المكان والزمان مع عنصر جديد في المشهد هو عنصر الحركة.
ثم يعود الشاعر إلى عالمه هو :
"ذلك البيت كنت أطالعه حجرا حجرا واعود إليه كطفل
وأبصره قادمًا من بعيد إليَّ..
مرةً أخرى يعود الشاعر إلى الإشارة إلى البيت البعيد ولكن الإشارة هذه المرة معنوية في عالم الذكرى الخاص به ، والبيت هذه المرة لم يعد خلفية المشهد بل صار شخصا من شخوصه "أبصره قادما من بعيد"
ولا يبقى للشاعر ولنا إلى أن ينقل المشهد إلى الزمن المستقبل:
ترى أين أبصره ذلك البيت؟
مفترشا رمله وحصاه بلا كلل في الطريق".
وهكذا يلتقي مجازا البيت والطريق
إن البيت لا يكون بيتا بلا طريق يؤدي إليه ، وكذلك الطريق لا مغزى له بغير بيت يؤوي العابر إليه ، بعد مشقة المسير في الهجير.
ولذلك يؤكد لنا الشاعر كتابةً بالمسمار (كيلا ننسى منذ البداية) أنه:
"كان يحزنه أن يقول/دمه ضيعته الطريق"
فالطريق لدى شاعرنا ليس طريقا ممهدا بل هو طريق المشقة والشقاء..
وفي "قصائد الحرب" أولى قصائد الديوان : يبدأ الشاعر أيضا كعادته برسم المشهد :
فالمكان : مقهى طيني يتوقف فيه الأعراب وسيارات الأجرة"
وفي هذا المكان يُدخل الشاعر الشخص الأول :
"يعبر طفل محشور في باصٍ خشبي بين الأغنام/ويمد إلى المارّة عنقا ويغادر"
إنه دخول سريع وخروج أسرع ، لكنه يثري مشهد المقهى ببيان طبيعته ، وسياقه المكاني والاجتماعي.
ثم يحين دور الشخصيات الرئيسة ، ولكن الشاعر يقدمهم لنا عن طريق ملابسهم قبل أن نطالعهم إدراكا منه – بحسه المسرحي - بدور الأزياء في رسم الشخصيات:
"كانوا كوفياتٍ حمراء /أسمالا بقعها الزيت ورائحة البنزين المحروق
جنودا يستمعون إلى المذياع ".
تأمل معي ثراء المشهد باللون، والرائحة ، والصوت "
أضف إلى ذلك عنصر التشويق في دخول الشخصية إلى المشهد حيث بدأ بكونهم كوفيات ثم أسمالا ثم جنودًا.
ولاحظ أيضا المفارقة التي تجعل هؤلاء الجنود أسرى للزمان (الماضي والمستقبل) (حدودا كانوا – وحدودا سيموتون) كما هم أسرى للمكان (وحدودا سيعودون إلى مقهى طيني)
وهو المكان ذاته الذي كان في بداية المشهد!
ولا ينسى المشهدُ الطفلَ الذي دخل أوَّلا، بل يلتفتُ إليه بعد أن نما دراميا (من حالة الصمت إلى حالة البوْح)
هنا قال الطفل عبرت/وكان النجم غريبا / بين خرائب غادرها الناس ونيران القصف
:مَن القادم في الليل؟/الخبز رماد، والحزن عراقي جائعْ
ثم يرتقي المشهد أفقا جديدا ، تشارك فيه الطبيعة (القمر، والنجم ، والنهر ) ، والحرب، والجوع، والنباح والوحوش الكاسرة.
ويبقى مجاز البيت هنا مجسدا في "كوخ قصبي"
ويبقى الطريق متخذا شكلا جديدا (في أقصى النهر).
أما الزمن فيتجه به الشاعر جهة المستقبل:
في المقاهي الطينية لن تعبر الجثث/سيوقفها الريفيون كالضباع
ولن يتعرفوا على أحدْ.
سيجيئون حفاة، عارين بلا أثر."
ويوظف الشاعرُ إمكاناتِ اللغة في رسم الشخوص فيستخدم الحال في بيان هيآتهم بصور متنوعة على النحو التالي :
1- الحال المفردة: (حفاةً- عارين)
2- الحال الجملة: (يتبعهم في الليل :نُباح)
3- الحال شبه الجملة:(بلا أثر)
وقد نجح هذا التنوع في تقريب هذه الشخوص والخلفية التي يتحركون فيها إلينا في صور جلية حية.
ويختم الشاعر هذا المشهد بنهاية دائرية مكررا ما بدأ به
"في مقهى يتقاطع في الأعراب..."
ولكننا صرنا الآن نتلقاه بعين أخرى أكثر تفهما وتعاطفا.
***
المكان والزمان معا:
وفي المقطع الثالث من" قصائد الحرب" نطالع الزمان والمكان معا:
"عادة في النهار أو الليل/ننصب كالبدو خيماتنا بغتة
في الطريق/ أمام البيوت
ننادي الذين يمرون فوق السجاجيد.." (قصائد الحرب:3)
هكذا رُسم المشهد:
الزمان : النهار أوالليل
المكان : في الطريق أمام البيوت
وهاهو الطريق حاضر في المشهد ، بينما يجيء رمز البيوت في الخلفية حيث تحتل الصدارة بدائل له :(خيماتنا)
وسوف نكتشف أن هذه الخيمات سرادقات للعزاء
ولكن البيت يعود للصدارة فيما بعد:
"في أي بيت ترى ما يزال المعزون يأتون
أم ترى أقفلت بالتوابيت كل البيوت."
وهذه التساؤلات تجعل من البيت محورا مهما.
وختام المشهد بالأسئلة ملمح مهم آخر من ملامح بناء القصيدة لدى شاعرنا، كما نرى في ختام المقاطع ( 1، 3،4، 5 ، 6، 7 ،8 ، فهل في التساؤل حل للمشكلة حين تتعقد لديه؟
وهي دائما أسئلة عن الإنسان: (من العابر في الليل)، (ترى أينا مات؟)
و المكان : "أين ارتحلا؟/أين ارتحلت أمي؟
في أي مآتم تندب/أين ارتحلت؟/ أين". (قصائد الحرب:4)
لاحظ التكرار الدال على الإلحاح في سؤال المكان، وهو إلحاح نابع من إدراك لقيمته. وهو إلحاح يصل في بعض الأحيان إلى الاختناق:
"لكني أسأل مختنقا/كالسائر في موته: أين؟
ويتحول المكان بما فيه بعد أن يتفكك ويتحلل فيصير مقبرة:
كالرمل/تحملهم ريح/تتساقط فوق بيوت الأهل
تفك الأبواب/ وأثواب النسوة والأطفال
وتعوي في مقبرة خرساء".(قصائد الحرب:10)
وهنا وبعد كل هذه المشاهد العامرة بالحركة الدائبة ، والأصوات المتعددة يخيم الصمت وتنتهي القصيدة!
المشهد يتجلى صريحا:
أما في قصيدة :"الموقف" فيصرح الشاعر بأدواته الفنية ويكشفها لنا فيستخدم العناوين:مشهد1 - مشهد2- حوار، وشخصيات(متولي والإيراني)
ولا ينسى أن يبدأ بمقدمة تعرفنا بالمكان:"في موقف الصحراء"
ثم تتوالى الجمل التي تبين الأحداث الواقعة في هذا المشهد:توقظنا العصي – نجر في النوم السلاسل)(4)
ثم يأتي دور الزمان:"في النهار ندب خلف الظل"
ولننظر في مشهد يصرح الشاعر هذه المرة في العنوان الجانبي بأنه مشهد:
"وفي آخر الليل/ ينهض الإيرانيون والعرب الرحل
ويبدأون الرحيل/ حاملين بطانياتهم السوداء
وحين يصلون /يصطدمون بالجدارْ" (الموقف: مشهد(1)"
العنصر الطاغي هنا هو عنصر الزمان (في آخرة الليل) وتأمل معي التصوير الصوتي في مد الهمزة المعبرة عن طول الزمن.
أما الشخصيات(الإيرانيون والعرب) فيرسمها الشاعر مستعينا بجملة الحال(حاملين بطانياتهم السوداء) ومستخدما دلالة اللون(السوداء) الذي يلقي بظلاله على المشهد الحزين.
أما المكان فلم يصرح الشاعر به ولكننا نصطدم به في نهاية المشهد مع شخوصه:
"وحين يصلون/يصطدمون بالجدارْ".
أما في المشهد الثاني، فالمكان هو العنصر البارز:
أمام الباب الصغير/يحتشد الإيرانيون والعرب الرحل
يتلقفون أسماءهم كالخبز/ ويودعون بعضهم صامتين
وإذ يعودون منتشرين في الساحة المسقوفة بالغبار
تضج الكاسيتات/ وتلتصق الشمسُ بالحائط"
إن الشخوص هم شخوص المشهد الأول أنفسهم ولكن المشهد يتطور هنا مستعينا بالمفرقة بين صمت الناس وضجيج الكاسيتات
أما الزمان فيجيء التعبير عنه بطريقة مجسدة(وتلتصق الشمسُ بالحائط)
فبعد أن اصطدم الشخوص بالجدار في المشهد الأول نرى الشمس هنا تقوم بالحركة الدالة على الزمان والمكان في آن.
الحوار في بنية المشهد :
أما في مقطع "حوار" فنرى البيت يأخذ صورة جديدة هي صورة السجن وغرفه لكن الحيطان هذه المرة عالية ، ندرك هذه المعاني من خلال حوار يتميز بالذكاء فهو بعيد عن المباشرة والتقرير :
- هل تتذكر السجن؟
- ...
- وغرفه؟
- أظنها بلا أبواب.
- وهل حيطانه عالية
- وأظن فوقها أسلاك".
إن الأسئلة لا تجد أجوبة مباشرة وإنما تجيء استكمالا للفكرة وإضافةً إليها، بحيث تجعل المتلقي مترقبا في دهشة، وهذا الأسلوب في الحوار أبلغ من حوار السؤال والجواب، وتلك مهارة فنية أخرى تضاف إلى مهارات شاعرنا في رسم المشهد وإدارة الحوار.

حيوية الإيقاع:
في قصيدة "إيقاعات" يوظف شاعرنا الإيقاع توظيفا عضويا في بناء المشهد:
"ها أنا الآن أسمع أصواتهم كالصهيل ، ضياء/فوانيسهم آخر الليل، وقع حوافرهم في الطريق،
يجيئون مثل برابرة ..خلفهم تحمل العربات دنانا
من الخمر ..أردية بقعتها الحروب، نمورا مرقطةً،
وجيادا حوافرها حجرٌ ..يسفحون الطريقَ ويمضون..
لا أثرٌ خلفهم في الطريق".(إيقاعات: غزاة)
إن المشهد يحتفظ بمكوناته الأساسية من زمان ومكان وحركة ولون، ولكن تبرز الآن حيوية الإيقاع (أسمع أصواتهم كالصهيل)
ويتجلى وقع الإيقاع ليس خلفية موسيقية للمشهد بل جزءا حميما منه:
"أنت مائدتي/وابتهاج المريض بعافية الزائرين
أنتِ وقع الخُطى في النهار/ وأفراح عائلتي /أنتِ صمتي أحاوره ../وانتظاري في الصمت
والصرخات الخبيئة في رئتي
أنت فوق طريقي رنين خطى العابرين".(إيقاعات : هجس)
تتجلى قيمة الإيقاع منذ العنوان (هجْس) والهَجْسُ لغةً : "النَّبْأَةُ تَسْمَعُها ولا تَفْهَمُها"(5)
الكلمة توحي بصراع بين الصوت والصمت يؤكده المشهد بحوار الصمت ، والصرخات الخبيئة!
كما تبدو جدلية الخرس والنطق في شخصية "كاطع ملك الأجواء"
الأخرس في مدن الصيف/الناطق في السوق السوداء""
والذي يحرسه إيقاعٌ بارز هو :"
نقر الدف / وليل الخلان/من شر الناس/من شر الوسواس الخناس"
كأن الشاعر يعمد إلى إشاعة إيقاع داخلي بتوظيف صوت السين الموحي بالصوت الهامس.
ورغم الصمت الإنساني مازلنا نلمس الإيقاع وحيويته في وقع خطى الحبيبة، ورنين خطى العابرين.
ونسمعه في:" صدى الأجراس وسط صهيل الخيل والثغاء"(إيقاعات:استثناء)


الصوت والضوء:
لكن الصوت هنا ليس منفردا إذ يمزج الشاعر الصوت بالضوء(ضياء فوانيسهم)
لكن هذا الضوء الخافت ينمو ويتوحش :
"تعبر ساحة الأطفال أجنحة تضيء
نهم بالأحجار يصعقنا الضياء". (إيقاعات: طفولة)
وها هو الصوت والضوء يلتقيان في صورة مثيرة:
احذر الشمس باردة فوق كفيك موقدة عند رأسك في الليل
صاخبة في السرير"(إيقاعات: احذر الشمس)

مجاز البيت الوردة الحجرية :
تتآزر إمكانات الشاعر الفنية في قصيدة "وردة البيكاجي" تآزرا لتشكيل مشهدٍ ثريٍّ مفعم بالحيوية والحركة واللون الرائحة والصوت والضوء.
ويستخدم الشاعر في الوصول إلى هذا المشهد بوسيلة بلاغية كاشفة هي اسلوب الالتفات، حيث يبدأ مخاطبا البيكاجي:
حُملنا إليكَ مفاتيح سلمها الفاتحون ..قوافل تبكي وتصعد
سلَُّمك المتآكل.. تفتح أبوابك الغبرَ عن حائطٍ تختفي فيه
وردتك الحجرية.. أين اختفت؟
ثم يلتفت بالخطاب إلى الوردة الحجرية (التي تذكرنا بكعكعة أمل دنقل ):
غادر كل الهنود الأليفين إلاكِِ يا وردتي الحجرية.
ثم يلتفت عن كليهما فيستعمل ضمير الغائب:
سميته البيكاجي والبيكاجي سوق مقفرة"
ثم يعود على خطاب البيكاجي مرة أخرى:
أيها البيكاجي
يا محطة المنازل المهاجرة.
ومن ثم يلتفت إلى السكان:
يا سكان البيكاجي
أعلنت الساعة منتصف الليل/ فانتشروا/ حان رحيل العربات.
وبعد كل هذه الالتفات آن للبيكاجي أن يتحدث بنفسه (بضمير المتكلم ) متسائلا
أنا البيكاجي / لا أدري أأنا حجر أم حوت أم إنسان؟

والشاعر في هذه الالتفاتات كلها ، يأخذنا معه في انتقالاته تلك من حالة إلى حالة في التقاطات سريعة ، نكون من خلالها صورة للبيكاجي دون أن تفارقنا الدهشة التي نجح الشاعر في نقلها إلينا .فلا يعود البيكاجي مجرد مبنى بناه قوم وسكنه آخرون بل محطة مهمة من محطات الحياة ، وافقا يستشرف الدنيا كله:
والبيكاجي شرفة تطل على القارات الأربع: نداء الصوماليات
العذب على الساحل، وشم العدنانيات على الكفين( وفي
الجبهة تلتمع النقطة حمراء ،قراب الأحباش المنقوشة،
ضوضاء البحارة..
فهاهو الصوت (النداء والضوضاء) واللون يسهم في تجلية المشهد الذي تتحرك فيه شخوص عبد الكريم الأثيرة ، وهم المهمشون الذين يغالبون الحياة وتغالبهم : الإيرانيون والعرب الرحل – الأطفال الجائلون في الشوارع والموانئ والمقاهي - ثم : الصوماليات والعدنيات والبحارة.

ولا يغفل الشاعر تفاصيل البيكاجي من سلم متآكل وأبواب غبر وغرف متقابلة ، وهو يُعنى بهذه التفاصيل لأهميتها في تصور المعيشة فيه بما يتناسب مع الإخوة القانعين والقابعين المجرين والمسافرين
والبيكاجي يتشكل أمامنا بيتا وسوقا وباحةً ، ومحطة أخيرة لا تنتهي حتى ولو عبرته القطارات:
لقد عبرتك القطارات ولن تغادر أبوابك أبدا
تلك هي صلة عبد الكريم بالبيت – صلة وثيقة لا تنفصم ، حتى العابر منها في حياته. فإنه يظل معه دائما ممتزجا بالطفولة – كما نرى في الخاتمة:
ركض البيكاجي
رنت أجراس الخلخال
عثر البيكاجي/والتمَّ جميعُ الأطفال.(وردة البيكاجي: خاتمة)

وبعدُ
فتلك أمثلة تشير إلى أهم ملامح المشهد الشعري لدى شاعرنا المشهدي عبد الكريم .
فإذا كان الشعراء يكتبون – كما أخبرنا مالارميه- بالكلمات فإن شاعرنا يكتب بالمشاهد واللقطات.
وهي مشاهد – كما رأيت - ثرية مفعمة بالحياة ، تلقي بعض الضوء على عالم عبد الكريم كاصد الشعري السحري.


هوامش:
* الدكتور مصطفى عراقي حسن ، شاعر وناقد مصري
(1) نصوص عراقية: من حوار بعنوان : "محتفياً بالهامش والمنتبذ والعابر لأنه الأبقى" مع الكاتب العراقي كريم عباس زامل.
(2) إيلاف(elaph.com) : العدد 1740- السبت:25 فبراير- 2006م مهداة كما يقول الشاعر إلى: "جبار فرج" الذي شيّعناه في كوبنهاكن يوم 3-2-2006م
(3)الدكتور محمود أبو زيد ، الأهرام: 15-1-1999م
(4) ثمة أحداث أخرى في الديوان المطبوع ، ولكنني سأحترم رغبة الشاعر في الشطب عليها!
(5) الفيروزآبادي: القاموس المحيط(هـ -ج –س)
[email protected]
********************************************************************************************************
هذا المقال واحد من مقالات وحوارات عديدة ضمها ملف الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أ ُعد إحتفاءاً به في المربد الثالث في البصرة 2006 ، والذي سينشر كاملاً في دوريات ثقافية وكذلك سيصدر في كتاب من قبل وزارة الثقافة العراقية .
أعد الملف وقدم له الشاعر العراقي عبد الباقي فرج .

[email protected]



#مصطفى_عراقي_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى عراقي حسن - تجليات المشهد الشعري لدى عبد الكريم كاصد