أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاجر برياز - هكذا تشدو البلابل















المزيد.....

هكذا تشدو البلابل


هاجر برياز

الحوار المتمدن-العدد: 1564 - 2006 / 5 / 28 - 08:23
المحور: الادب والفن
    


في أمسية ربيعية ساحرة وجو صحو جميل، كانت إقبال ترخي جسدها في أريكة بحديقة بيتها، تتأمل بعينيها أرجاء الكون المحيط بها، كل شيء بجانبها يعج بالجمال والروعة، مويجات المسبح أمامها تراقص بعضها، أوراق الأشجار تهتز وتتمايل على أنغام الأثير، ومن حين لآخر كانت تدفع الأريكة بحركات خفيفة إلى الأمام وإلى الخلف، تريد لجسدها المسجون في شرنقة محكمة النسج أن يتنفس هواء نقيا، أن يغترف من بحرالأنوار والحرية كميات كبيرة. أغمضت عينيها حينا ثم فتحتهما، فعلت ذلك ثانية فإذا بها تعيش زمنا آخر, تحرق المسافات وساعات الزمن، وتردم الهوة بين ماض ولى وحاضر يحمل تداعيات عهد فات.
لم تكن تجاوز الثامنة عشر ربيعا، جميلة، رقيقة الملامح، كل خلق جميل فيها يتجسد وكل مشين عنه تعرض. كانت فرحة نجاحها تغمرها حتى الغرق، لقد استطاعت بذكائها وجدها أن تحرز أعلى الدرجات، وأن يذكر اسمها في المحافل المقامة على شرف المتفوقين. تذكرت كيف كانت ترفل في نعيم السعادة، كان أبوها على قدر كبير من الوعي والحكمة، وكانت رفيقته في كل آن وحين بعد أن حرمتها الأقدار صحبة أمها. جعلت منه سراجا تستضئ بنوره في مسيرة حياتها، وكانت هي قرة عين له، لأجلها عاش وكافح، ولها أهدى نجاحه في حياته. بفضله فقهت أمورا لم تكن لتعرفها وحملت قلبا كبيرا وفكرا حرا مستقلا. أحست وهي تعيش ذكراه بنار تشتعل داخل أضلعها. أحاط بها الحزن من كل مكان وطوقتها الكآبة والغم. كانت وفاة والدها نهاية عهد جميل لها. اكتسحت الظلمة فؤادها فغدت كالطير السجين قصت أجنحته فكوته نار العبودية.
وجهها تفكيرها إلى الانضمام لكلية العلوم، وكان حماسها الفتي وإرادتها القوية يدفعانها دوما نحو التفوق. وفي السنة الثانية تغير مجرى حياتها، فارقها والدها إلى الأبد، وبدأت تلوح لها في الأفق بوادر عهد ينبئ بالسوء.
أرقت الوحدة مضجعها، وعاشت لحظات لم تكن فيها تدري أحية هي أم من الموتى. افتقدتها فضاءات الكلية ورددت اسمها جموع الطلبة، توالت عليها زيارات التعزية والمواساة. وكان كريم أستاذ الفيزياء لا يبرحها لحظة، أثارت حالتها في نفسه مشاعر الشفقة والرحمة واستنبتت دموعها في قلبه رغبة جامحة في إخراجها مما هي فيه، حاول جاهدا سد الثلمة التي رسمت معالمها صيارم الزمن في قلبها. ومع الأيام بدأت إقبال تجد فيه سلوانها، استطاع أن يدخل حياتها وأن يعوضها غياب من أبعدتهم عنها يد الردى. تطورت علاقتها فكان لها بلسما شافيا إلى حد كبير. وبعد شهور أعلنا زواجهما، أسكنها روضة غناء وأحاطها بالحب والرعاية. لكن ذاكرة النسيان لم تكن قد فعلت فعلها بعد في حياتها، كان خيال أبيها يسكن روحها وماضيها يغلها. عجب زوجها كيف تحمل في جنباتها كل هذا الخنوع والاستكانة، وكيف صار عزمها القوي وإقدامها على الحياة استسلاما ونكوصا. كان يستشرف في الأفق مستقبلا غامضا. تركها لحالها وأوكلها للزمن عله يفعل بها خيرا.
وهاهي الآن وقد بلغت الواحد والعشرين من عمرها ماتزال حبيسة ذكرياتها. أعلنت أضواء المصابيح في الحديقة غروب الشمس، وانطلق في الأجواء صوت رخيم يرشح بالمهابة، يؤذن للصلاة، اخترقتها الكلمات، نفذت إلى وجدانها فألهمتها سكينة غمرت روحها، قامت تلبي النداء فإذا بها تفقد قواها. سبقت قوة كريم جاذبية الأرض فتلقفها قبل أن تهوي، أصابه الذعر وانتابه شعور غريب وهو يحملها بين ذراعيه، تعثرت خطواته فلم يدر أين يولي وجهته. لم تسترجع إقبال وعيها إلا وهي ممتدة على سريرها، جالت ببصرها أرجاء الغرفة، نظرت إلى كريم، لم تتبين ملامحه جيدا، ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة لا يسعها الكون، اقترب منها فطبع بين مقلتيها قبلة تفيض رقة وحنانا، أخبرها والفرحة تشع نورا من عينيه: ستصبحين أما يا إقبال، الدكتور فؤاد كان هنا.
رقص فؤادها فرحا وانبسطت ملامح وجهها لتعكس سرورا داخليا وبهجة امتلكا جوارحها امتلاكا، استرسلت عبراتها متدفقة على خديها، عقلت الفرحة لسانها وعجزت عن قول شيء، واطمأن قلب كريم، فقد آن الأوان لتفارق إقبال فترة حدادها الطويلة وأن يعيش الفرحة في وجهها، تفتحت وردة الحياة في قلبه بعد أن دفنتها هي في غياهب الحزن والانعزال وطوتها دياجير ذكريات مؤلمة. كان الحدث أكبر من أن يتصوره الزوجان، بعد شهور قلة سيشهد البيت ميلاد ابن لهما، يبعث الحياة في أركانه ويزرع بذور البقاء والإيمان بالمستقبل في جنباته. بدأت غيوم التوتر تنقشع عن البيت، وكان كريم يرقب حركات إقبال وسكناتها في كل لحظة وحين. أفرحه ما كان يرى من تبدل حالها واستشعر منها اهتماما بدأت تظهر ملامحه كزهرة تنعشها قطرات الندى. لأجل جنينها نجحت في أن تجعل من النسيان كفنا يلف أتراحها، انبعثت فيها روح جديدة ترنو إلى الآفاق الواسعة حيث الحياة تنادي والمستقبل الجميل يبشر بالخير، كانت البهجة تتورد في وجنتيها حين تفكر كيف تمنح الحياة مخلوقا زرعته الأقدار في أحشائها وعهدته إليها أمانة ترعاها، فكرت في كريم كيف كان معها حين لم تكن هي معه ولا مع نفسها، كيف تجاهل ذاته لأجل وعد قطعه على نفسه، أن يأخذ بيدها ليدخلها عالم الأنوار بعد أن استسلمت للعيش في عتمات مظلمة سلبتها طعم الحياة الجميل. تغير نظام أيامها وبدأت ترقب ساعة تدق عقاربها على نغمات صراخ طفلهما. وكان يوم الجمعة حين أخدها الطلق وجاءها مخاض الولادة، حملها كريم بكل عناية في سيارته وتوجها نحو المصحة، وهناك وجدا الدكتور فؤاد في انتظارهما، أولاها عناية كبيرة، ووفر لها ما يضمن سلامتها، فقد كان يعلم حالتها ويتابعها بكل اهتمام. تملكه شعور بالخوف من أن توثر فيها رواسب الماضي. لكن إقبالا كانت أقوى من كل شيء. في لحظات الوضع أرادت لوليدها أن يكون امتدادا لحياة أبيها الذي مات، ونورا يجعل من ذكرى أمها تمثالا صامدا تشع جنباته فيعكس في روحها حب العيش: لأجلها.. لأجلهما.. لأجل كريم ووليدها.
وفي غمرة وجعها، كان خيالها يرسم لها من روحي والديها شهابا على جنبات درب طويل يمشي، وكأنه الحياة بحلوها ومرها يدعوها لأن تقبل، أن تخوض الغمار، ألا تستسلم وتتراجع، أن تكون زهرة تتفتح، إن افتقدت قطرات الغيث لم تفقد جمال ألوانها. وبعد ساعات قليلة رأى وليدها نور الحياة، كانت طفلة عزفت أوتار حلقها الصغير نغمات تصرخ إني أحيا. شعرت إقبال بجنين آخر في أحشائها، رفعت رأسها قليلا وهي تكابد أوجاعها من أجل أن يعانق الجنين عالمه الجديد، فإذا بها تنعم برؤية توأم أخته تشهد الغرفة صرخاته الأولى كما شهدتها أسماع كريم. رقص قلبه واهتزت جوارحه، وبحركة سريعة فتح باب الغرفة لتبهره معالم صورة أخدت وثبتت نظراته نحوها، صورة رسمتها إقبال بابتسامة ساحرة وتوأماها بجانبيها تضمهما في حنان. أشارت إليه أن يقترب، فاكتملت للصورة معالمها. ضم الثلاثة بين ذراعيه المشرعتين وكأنه يضم الكون كله، وكذلك فعلت إقبال لتدخل عالما جديدا تنصرم فيه وحشة الموت ويشع منه نور الحياة.



#هاجر_برياز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ترقب
- لحظة وداع


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاجر برياز - هكذا تشدو البلابل