أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - قوى الإصلاح والديمقراطية - الحزب الشيوعي اللبناني - موضوعات في الأهداف والهوية















المزيد.....



موضوعات في الأهداف والهوية


قوى الإصلاح والديمقراطية - الحزب الشيوعي اللبناني

الحوار المتمدن-العدد: 448 - 2003 / 4 / 7 - 03:58
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


 

1- في تاريخ الحركات السياسية، يشكل نقد التجارب السابقة، ونقد الماضي أساساً ضرورياً للتجدد. النقد ليس هدفاً بل أداة لوعي دروس الممارسة النظرية والعملية، وتحديد الخطأ والصواب فيها. من دون النقد الصريح والملموس لا يتأسس الجديد، ولا يتكون وعي نظري قادر على القطع وإعادة البناء.
والنقد، بنظرنا، نقيض للتدمير والهدم. إنه عملية إحياء للممارسة السليمة في شروط مختلفة، واستجابة للعوامل الموضوعية الجديدة، وانطلاقة من الماضي إلى المستقبل تحمل كل إيجابيات هذا الماضي وتتخلص من سلبياته ومعيقاته.
والالتباس الذي نجده في الكثير من المقولات والمواقف الجديدة التي أقرتها مؤتمرات حزبنا ناتج، من ضمن أسباب عديدة، عن سبب رئيسي هو غياب النقد لتاريخنا وتجربتنا فيتراصف الجديد مع القديم وتميع الحدود بينهما. واليوم لم يعد كافياً حتى ذلك التقييم النقدي الرائد الذي قدمه المؤتمر الثاني للحزب تحت عنوان "25 عاماً من النضال"، وهو، بالمناسبة، المحاولة الوحيدة الشاملة في هذا المجال.
2- كل تاريخنا يؤكد صورة مرسومة عنا في الوعي الجماعي لمجتمعنا. وهذه الصورة هي أننا حزب الاشتراكية بنموذجها السوفياتي. فالاتحاد السوفياتي هو طليعة حركة التغيير العالمية وبالتالي، لمصالحه الأولوية على ما عداها. ورغم كل مواقفنا الوطنية والقومية، ورغم كل نضالنا من أجل مصالح الكادحين في بلادنا، وحتى رغم بعض التمايز عن المواقف الرسمية للاتحاد السوفياتي السابق، كنا بنظر الكثير من اللبنانيين، حزباً "خارجياً"، حزباً ينظر إلى الصراع الداخلي من خلال الصراعات العالمية للحرب الباردة، حزباً يضحي بالقيم النظرية والأخلاقية في سبيل مصالح المعسكر الذي ينتمي إليه.
ورغم أن المحصلة العامة لمواقف هذا المعسكر كانت تصب في مصلحة نضالنا التحرري، الإستقلالي، عربياً ولبنانياً، إلا أننا لم ننجح في تثمير هذه المحصلة داخلياً، ودمج آليات الصراع العالمي بخصوصياتنا المحلية المعقدة. كنا نتماهى مع مصالح الاتحاد السوفياتي وصراعه الكوني بدل أن نوظف هذا الصراع في الصورة التي نريدها لحزبنا في ظروف لبنان والعالم العربي.
وهذه المسألة ليست نقطة ضعف الحزب الشيوعي اللبناني وحده، بل الحركة الشيوعية بالجملة، وكل حزب شيوعي على انفراد (حتى الذين تخلوا عن السوفياتية لصالح الماوية، أو الأممية الرابعة وقعوا في الخطأ نفسه أو في خطأ مشابه).
 هذا التماهي العملي مع النموذج "الاشتراكي" منعنا من إنتاج فكرنا الخاص، وأعاقنا عن ممارسة وتطوير مقولات متميزة قدمها عدد من المفكرين التقدميين العرب واللبنانيين في حقل الصراع الاجتماعي والسياسي. فظل فكرنا إسقاطاً على الواقع، وظل حزبنا، بعقيدته الرسمية أسير النموذج النظري والعملي للنظام السوفياتي من جهة، وأسير مقولات الثورة البلشفية، من جهة ثانية، وأسير صيغة الحزب الثوري في طبعته الستالينية، من جهة ثالثة. والإنجاز الذي تحقق في المؤتمر الثاني لم يطل إلا زاوية واحدة من هذه البنية المعقدة والتابعة، هي دور الحزب الشيوعي في النضال القومي التحرري. أما محاولات التجديد في الجوانب الأخرى فظلت مقموعة ومجتزأة، لأسباب كثيرة جداً.
 في المؤتمر السادس قدمنا مساهمة جدية في نقد السوفياتية، والكشف عن مكامن الخلل في تلك التجربة: الملكية، الديمقراطية، القوميات، الدين، الحزب. وهذه مسائل لن نكررها هنا. فهي في جوهرها صحيحة ومعروفة على نطاق الحزب وخارجه. إلا أننا خرجنا من المؤتمر وكأن هذا النقد لا يطال إلا الاتحاد السوفياتي. أما تجربتنا نحن فكأنها عالية على النقد. واستمرت الممارسة، والرؤيا، والتنظيم كأن شيئاً لم يتغير. الأخطاء هي لدى الآخرين، أما نحن فمعصومون ولا داعي لتغيير ما نحن عليه. علماً أننا ورثنا كل هذه الأخطاء ونحن خارج السلطة، وزوّدناها بما يضاعف تأثيرها السلبي في ظروف واقعنا بل أضفنا إليها أخطاءنا الخاصة.
ويمكن تلخيص هذه الأخطاء تحت عنوانين كبيرين:
الأول، تقزيم عوامل الصراع الداخلي بالمقارنة مع العوامل المضخّمة للصراع القومي، والاستناد إلى موازين القوى الناتجة عن تأزم الصراع حول قضية فلسطين من أجل توظيفها مباشرة في خانة التغيير الداخلي. لقد مارسنا بصورة غير مباشرة نفس ما نتهم به القوى الطائفية اللبنانية تقريباً، أي الاستقواء بالخارج لحسم الصراع الداخلي. ومهما كان تقديرنا لنبل الغايات والأهداف الكامنة خلف هذا الاستقواء إلا أنه أسهم في إضعاف العوامل اللبنانية، بما فيها الوطنية، وسهّل بالتالي تغييب القضية الوطنية اللبنانية لاحقاً، عندما تغيّرت موازين القوى العالمية والإقليمية، وتغيرت العلاقات بين هذه القوى، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والحرب على العراق.
الثاني، هو ما يسمى "بالتحالف المرحلي وصولاً إلى الاشتراكية". إن فكرة التحالفات المرحلية هي فكرة منطقية وواقعية بلا شك. ولكن نظراً لارتباط أهدافنا من هذا التحالف بالوصول إلى الاشتراكية، ونظراً إلى التجربة المعروفة لمثل هذه التحالفات في البلدان الاشتراكية، أصبح التحالف المرحلي معناه الوسيلة الانتهازية للشيوعيين كي يصلوا إلى السلطة ويدمروا حلفاء الأمس.
 في المؤتمر الثالث حاولنا أن نخفف من سلبية هذه الصورة عندما طرحنا فكرة تداول السلطة، وتوازن القوى في التحالف وما شابه.. إلا أنه كان من المستحيل تكوين قناعة شعبية واسعة بجدية هذا الطرح لأن النموذج الذي كنا نتبناه بالجملة يمنع إمكانية تداول السلطة، ويدعو إلى إلغاء الطبقات الاجتماعية المتضررة من سيطرة هذا النموذج. وكيف يمكن تداول السلطة إذا كان الآخرون قد تم إلغاءهم؟
3- في المؤتمرين السادس والسابع قدّم الحزب بداية تصور جديد للأهداف البعيدة وسبل الوصول إليها. وجوهر هذا التصور يتناول الاشتراكية والثورة. فقد حدد أن الاشتراكية ليست نظاماً يبنى متكاملاً مرة واحدة بل هي عملية تاريخية تصاعدية تتكامل فيها تدريجياً عوامل تجاوز الرأسمالية من خلال صراع اجتماعي متدرج ومفتوح.
 وبالتالي لم تعد الثورة قطعاً إرادوياً مع كل ما سبقها بل تفاعل واغتناء بكل منجزات الحاضر وتطورها نحو مزيد من العدالة والتقدم، وإزاحة العوائق أمام قوى التقدم، وقضاء تدريجي على نظام الاستغلال الرأسمالي.
 وطبيعي أن هذه المفاهيم الجديدة على ممارستنا ووعينا تفترض بناء وعي جديد لصيغة الأداة التي ستحققها، أي الحزب. فالاشتراكية، كما رآها ماركس نظاماً عالمياً لا يقوم إلا على قاعدة المزيد من الحرية والعدالة، تستوجب حكماً أداة، هي الأكثر ديمقراطية في تاريخ الحركات الاجتماعية. وذلك ما يجب أن يكون عليه الحزب الذي يسعى إلى مجتمع حر وعادل.
4- إن النقد الذي قدمناه لهذه الأقانيم الثلاثة لم يتحول بعد إلى وعي إيجابي للمهمات الجديدة البالغة التعقيد في ظروف العالم المعاصر. فلا تزال هويتنا تتحدد بأننا حزب شيوعي تقليدي بفكره، وممارسته، وبنيانه التنظيمي. ولا تزال أعداد من رفاقنا وكوادرنا مقتنعة بأن المتغيرات لا تطال إلا الجزئيات أو القشور. أما في الجوهر لا يزال حزبنا بالنسبة لهم حزب الماركسية اللينينية، حزب التأميم الشامل، حزب الطبقة العاملة بتحديدها السطحي والضيق، حزب القوى الأكثر جذرية في عملية التغيير الاجتماعي، وبالتالي فهو في نظر الأكثرية من شعبنا، حزب سيطرة الدولة على كل شيء. حزب الخارجين على العادات والمفاهيم المسيطرة في المجتمع،حزب الملحدين، حزب العنف الاجتماعي، حزب المعارضة الدائمة، حزب الانغلاق على الذات والقرار الفوقي، والتضحية بالأفراد لصالح الجماعة، إلى ما هنالك من النعوت التي نجحت القوى المعادية في إلصاقها بصورتنا.
5- إن الهوية الجديدة التي نطمح إلى تكوينها يجب أن تستند إلى الأسس الصحيحة في تجربتنا وتاريخنا، إلى القيم التي نسعى إلى تحقيقها، إلى القطع الواضح مع ما نريد تجاوزه من السلبيات والأخطاء، وإلى تحديد المهمات الملموسة لحركتنا ونضالنا، انطلاقاً من رؤيتنا الواقعية لحل التناقضات الفعلية، وتجاوز المعيقات المادية لتقدم مجتمعنا.
 على هذا الأساس يمكن القول بأن تعريف حزبنا بأنه حزب الاشتراكية لم يعد يعني الكثير في الواقع العملي. فالاشتراكية، اليوم، لم تعد نموذجاً عملياً بل إطاراً نظرياً أخلاقياً لمشروع عالمي بعيد المدى، وثمرة تحولات كبرى في النظام العالمي. وبالتالي صار لزاماً علينا أن نحدد صورتنا لا في الأهداف الخيالية بل في المعارك الملموسة من أجل التغيير، وعلى أساس معايير الإمكانية أكثر من معايير الجذرية. مهمة الحزب السياسي أن يغير الواقع لا أن ينظّر لتغييره. وهذا هو الفرق بين حزب عالي الشعارات والصوت عاجز عن تغيير الواقع المادي، وبين حزب أقل جذرية في شعاراته ولكنه أكثر فاعلية في عملية التغيير. وهاتان عقليتان ونهجان يحددان كل برنامج الحزب، وخططه، وعلاقاته وممارسته...

6- عناصر الهوية:
- من أجل وطن كامل الإستقلال حيث الوطنية نقيض لكل أشكال الانغلاق والعنصرية، ورفض للتذويب وطمس الخصوصيات في البيئة العربية الأوسع. وحيث الانتماء إلى الوطن العربي يشكل امتداداً طوعياً للمواطنية اللبنانية وخياراً حراً للشعب اللبناني.
- من أجل التقدم الشامل للمجتمع اللبناني، بحيث لا تناقض بين عدالة التوزيع وتعزيز الإنتاج. فلطالما كانت الأولوية عندنا للتوزيع على حساب حوافز الإنتاج ومقوماته. علينا أن نسعى لبناء اقتصاد مزدهر، متمحور على قدراتنا، مساهم في تثبيت بنية متوازية ودولة مستقلة ومستقرة مع تطوير نظام الضمانات الاجتماعية وتعديل النظام الضريبي لجعله يستند إلى السلم التصاعدي وإلى الضريبة المباشرة.
وهذا يعني، على المستوى الاجتماعي، أننا نطمع للدفاع عن مصالح قوى الإنتاج كلها، بخاصة تلك التي تسحقها وتحاصرها آليات النظام العالمي والسوق المنفلتة. مع تحديد واضح للأولويات والأهداف في كل معركة اجتماعية، بحيث لا يضحى بحقوق العمال والأجراء، ولا تنتهك ضرورات النمو الاقتصادي.
- من أجل ديمقراطية راسخة تبدأ بنظام إنتخابي يمثل حقيقة الرأي العام، ويؤسس لدولة عصرية على حساب الزعامات الطائفية والتقليدية، وتنتهي بضمان حقوق الإنسان والمواطن، مروراً بالفصل الفعلي بين السلطات واحترام دور كل منها، ومروراً بأحداث إصلاح عميق في النظام السياسي، والإدارة، والمساواة أمام القانون، وتحديد دور الأجهزة الأمنية كلها بصورة لا تقبل أي تطاول على القانون، واحترام حرية الرأي الفردي والجماعي وأشكال التعبير عنه...
- من أجل أن نكون حزباً سياسياً بالمعنى الدقيق للكلمة. فشأننا هو الشأن السياسي - الاجتماعي، ومعيار الانتماء إلى تيارنا ينبع من هذا المجال تحديداً. نحن حزب يرفض أن يوصم بالإلحاد مثلما يرفض تحويل الدين إلى سياسة، وهو إذ يدعو إلى نظام علماني اختياري وإلى إلغاء الطائفية في الحياة العامة، يتيح لكل عضو من أعضائه أن يعبر عن قناعاته كاملة في مجال الدين كما السياسة والفكر الاجتماعي. فالإيمان قناعة فردية لا علاقة للحزب بها، كما لا علاقة لها بالخيارات السياسية والاجتماعية للإنسان.
- من أجل حزب النضالات الاجتماعية الواسعة، من البيئة إلى الشباب، إلى الإنماء، إلى البلديات... بديلاً عن التزمت الطبقي الذي مورس باسم الطبقة العاملة، حيناً، وبالنيابة عنها وعن جميع الكادحين. على الحزب أن يستعيد تلك الصورة التي ميزت مراحل نهوضه: صورة الحزب المتوثب، المتعطش، المتعاطف مع كل جديد، المستعد دائماً للتلقي والعطاء والتحاور مع كل حركة وكل صعود جماعي لقوى المستقبل.
- من أجل حزب يبني سياساته وبرامجه في التفاعل مع الثقافة والفكر الإنسانيين بكل تياراتهما، يغتني بمعارف العصر وعلومه، ويسعى لأن تكون السياسة امتداداً للقيم الأخلاقية، والممارسة تعبيراً صادقاً عن القول.
- من اجل حزب يعمل لبناء مجتمع عربي ديمقراطي، متطور، تقوم وحدته على تنوع مكوناته وتفاعلها، على الانتماء الحر والمصالح المتبادلة لشعوبه ودوله، وتعزز أسسه من خلال تكامل اقتصادي واجتماعي متصاعد وطوعي بين مختلف أجزائه.
- من أجل بنيان تنظيمي يجسد رؤيتنا للتغيير الديمقراطي، وينتج أفضل علاقة بين الحزب وبين محيطه الاجتماعي، يطور روابط التكامل والتمايز بين الفرد والجماعة، كما العلاقة بين الجماعات المحددة في المواقع المختلفة.
7- إن هذه الأهداف ليست بالطبع نهاية التاريخ، ولا هي حدود النضال الأخيرة. فالصراع الاجتماعي والسياسي المفتوح والقائم على التوق المستمر إلى التقدم والعدالة هو الذي يحدد طبيعة الأهداف في كل مرحلة. لكننا نعتبر أن تحديد الأهداف النهائية سلفاً، ومن دون سند كاف في المعطيات الموضوعية، هو ضرب من التنجيم والتعسف بحق التاريخ، والحركة الاجتماعية. نحن نتطلع إلى مبادئ وقيم مثل إزالة الاستغلال، تكافؤ الفرص بين الناس، تأمين الوفرة للجميع، إطلاق الحرية والإبداع... الخ، لكننا لا نستطيع أن نقرر منذ الآن آليات وصيغ تحققها، فذلك رهن بتناقضات المستقبل وبمستويات نضوج الوعي، وتوازنات القوى... وسوى ذلك من العوامل.
بناء على هذا الأساس، نعتقد أن الأهداف النضالية التي يسعى الحزب إلى تحقيقها هي التي ترسم صورته، وتحدد برامجه، والاسم جزء من الصورة والبرنامج. لذلك نقترح أن يحمل الحزب اسماً أكثر تواضعاً، وأقرب إلى المهمات المطروحة في المدى المنظور. فالشيوعية – التي وصفها ماركس بأنها بداية الحياة الإنسانية حقاً – ستكون نتاج أجيال، وقوى، ووسائل لا نستطيع حتى أن نتخيل طاقاتها وأشكال فعلها في المجتمع والطبيعة. فالتزامنا بتحقيق ما نستطيعه من مهمات المرحلة هو الذي يفرض ضرورة تغيير الاسم ليأتي منسجماً مع الأهداف والإمكانيات، مفهوماً من الناس، قريباً من حاجاتهم، وملبياً لضرورات التغيير الملحة في المجتمع.


أفكار حول الصيغة المناسبة
لحزب ديمقراطي

ترتدي الصيغ التنظيمية أهمية بالغة في تسهيل أو تعقيد تطور المجموعات البشرية في حركيتها. ومما لا شك فيه، أن الصيغة المثلى هي تلك التي تلبي موجبات الفكرة القائدة الموجهة التي تتبناها المجموعات البشرية، أكانت مجتمعات عامة، أو أحزاباً أو نوادي أو نقابات.
 وفيما نحن بصدده اليوم، هو إيجاد الصيغة المناسبة لما درجنا على إعلانه ومحاولة بلورته، عنيت الحزب الديمقراطي الساعي إلى التغيير بأفق اشتراكي.
 إن التغييرات الجذرية الحاصلة في فهمنا، لمهمة التغيير الاشتراكي، والمبينة في ما عالجناه تحت عنوان الهوية، تفترض حكماً تغييرات كبيرة في الصيغة التي تنظم الحزب في علاقاته الداخلية، وفي علاقاته مع المجتمع ومؤسساته. الحزب الثوري الانقلابي، الذي يرى في التغيير عملية جذرية، تفصل بين ما قبل وما بعد، من خلال رؤية إرادوية للتاريخ والتطور، إن مثل هذا الحزب يفترض تنظيماً أو صيغة تناسب هذا الهدف وتلبيه، حيث شرعية الهدف، وهنا شرعية الثورة، تسيطر على كل ما عداها. وفي مثل هذا الوضع تتراجع الهواجس الأخرى، هواجس الحقوق وهواجس علاقة الفرد بالجماعة الحزبية، وعلاقة الجماعة الحزبية، بغيرها من تشكيلات المجتمع المدني التي تعكس بدورها صيغاً لعلاقة الناس بالواقع، وصيغاً للتعبير عن المصالح والحقوق ورغبة التطور.
 من هذا المنطلق نحن نعتبر أن ما اصطلح على تسميته التنظيم اللينيني، أو صيغة المركزية الديمقراطية بصفتها القانون الأساسي المسيطر على الصيغة اللينينية، نعتبر هذه الصيغة، الصيغة الأكثر ملاءمة لمفهوم التغيير الثوري الانقلابي، حيث تطغى قدسية الهدف وشرعية الفكرة، على كافة الحقوق، وتصبح الفعالية هي الوظيفة الأولى، والصفة الأساسية لمثل هذه الصيغة أو الأداة (الطليعي - منظم الجماهير)، والخطأ الكارثي يحصل حينما نغير مفهومنا للتغيير، نغير مفهومنا لعلاقة الحزب مع المجتمع، ونحافظ على الصيغة القديمة، فيصبح مثلنا، مثل من يذهب إلى الحرب الحديثة راكباً حصاناً ومتمنطقاً درعاً وسيفاً.
 إن نقدنا لمفهوم "الثورة" بما هي كلمة - رمز تختصر كل مفهوم التغيير القطعي الإرادوي يفترض حكماً عملاً استكمالياً في تعديل قوانين الحزب وصيغته القديمة واعتماد صيغة جديدة تتناغم والهوية الجديدة لهذا الحزب.
 المركزية الديمقراطية هي صيغة سيطرة الفعالية الأوامرية المركزية على كل ما عداها من اعتبارات:
- علاقة الفرد بالجماعة
- علاقة الأخص بالأعم أو مبدأ الهرمية.
- علاقة الحزب بمؤسسات المجتمع الأخرى.
المركزية الديمقراطية: هي المفهوم التنظيمي المكثف لصيغة الحزب القائد الطليعي منظم الجماهير. والمركزية الديمقراطية في كل تجلياتها عبر تجربة الأحزاب الثورية أظهرت ميلاً جامحاً لسيطرة المركزية على كل مضامين الديمقراطية وتدجينها لصالح المفهوم - المركز. تبدأ القضية في جوهر علاقة الفرد بالجماعة.
1 - يشير مسار التطور الديمقراطي للمجتمعات والأوطان والمؤسسات إلى أهمية التوازن بين الفرد والجماعة، وكلما كانت العلاقة بين الطرفين متسامحة ورحبة، كلما كانت إمكانات التطور متاحة. الفرد ليس رقماً داخل الجماعة بل هو عنصر غني ومتميز ومبدع داخل الجماعة. من هذا المنطلق لا يجوز إلغاء علاماته الفارقة، وتميزاته، لأنها هي مصدر الإبداع والطوعية لديه، وبقدر ما تفسح التشكيلات الجماعية للفرد في أن يتطور ويغتني ويمارس طوعية انتمائه، بقدر ما تكون قادرة على الاستجابة لمتطلبات الإدراك الموضوعي لعملية التغيير المستمر. وبقدر ما تنغلق هذه التشكيلات وتلغي مميزات الأفراد وتمارس التعسف الجماعي على أفرادها، بقدر ما تساهم في إفقار طوعية الأفراد وفي مقدرتهم على الإغناء والعطاء، وهذا ينعكس تخلفاً على المؤسسة ودورها الفعلي مهما علا صراخ المزاعم. ومن يعتقد أن مثل هذا الفهم يمكن أن ينتج الفوضى، فهو زعم مغرض أو واهم، لأن الفهم المقترح يحل الالتزام الطوعي في القوانين بديلاً لكل أنواع الطاعة والرضوخ. إن مثل هذا الفهم لا بد أن يترك بصماته على مفهوم الوحدة الحزبية، وعلى مفهوم الأكثرية والأقلية، وعلى مفهوم القناعة والتنفيذ.
 الوحدة الحزبية: الأحزاب المركزية تتعامل بعنف معلن أو ضمني مع مبدأ الاختلاف، وتسعى إلى جعل الحزب بنياناً متراصاً متماثلاً، يذيب الفرد في الجماعة، ويلغي كل الصفات المميزة للأفراد. الفرد في الكل، والكل هو محصلة محو الأفراد. الكل ليس محصلة تفاعل الميزات المتنوعة للأفراد، وإنما هو كائن جديد يغتذي بسلب الأفراد ميزاتهم الخاصة الغنية بتنوعها ومفارقاتها، في الأحزاب المركزية أنت تغادر آخر فعل طوعي ملتزم يوم تنتمي إليها، وبعد ذلك تحل الطاعة مكان الطوعية والالتزام، ويبدأ التبشير بقيم التنازل عن الأنا وعن الذات وعن الفردية، وبقدر ما يمحى الفارق بين الفرد والجماعة بقدر ما تتعزز السمة الثورية لدى الطرفين.إن مثل هذه الوحدة ليس فقط لن تقيم وزناً للاختلاف، ولا للرأي ولا للتنوع، ولا للتيارات، بل ستسعى رغم المناداة بالديمقراطية وحرية الرأي، ستسعى إلى التطهر من كل مظاهر احترام الفرد، وكل مظاهر التشكل على أساس القناعة، بالإضافة حكماً إلى عدم الاعتراف بمبدأ الأكثرية والأقلية، وتعميم مفهوم الالتزام على مستوى التنفيذ والقناعة. الأكثرية المركزية تلغي الأقلية عبر إلزامها بقناعة الأكثرية بالإضافة طبعاً إلى تعميم التنفيذ القسري لإرادتها، رغم أن الأقلية في الفهم الديمقراطي، تنفذ قرار الأكثرية طوعاً انطلاقاً من معيار ترجيحي لقيمة الأكثرية، ولمشروعية مصالحها، وقناعة منها أن الأكثرية هي دائماً أكثرية مؤقتة قابلة للتغيير.
 إن المنطق المركزي الوحداني، يرفض هذا المفهوم للتنفيذ، أو للالتزام مصراً على تعميم مستوى الطاعة ليطال القناعة وقسرية الالتزام التنفيذي. في الفهم المركزي يغيب كلياً مفهوم شرعية الأكثرية القائم بالضرورة على شرعية وجود الأقلية، ليحل مكانه شرعية مطلقة، من يخالفها تنتفي عنه كل صفات المشروعية، ليتحول متمرداً أو مارقاً أو مرتداً.. الخ. صفات التحريم والرذل. وبناء على مثل هذا الوعي النافي لحق الاختلاف وتعدد الرأي وتعدد أشكال التعبير عن ذلك، فإن الوحدة الحزبية المقصودة من قبل هذا العقل ستكون دوماً مهددة، لكون التماثل لن يحصل إلا في حالة الموت، لحماية مثل هذه الوحدة، ستعمد القيادة دوماً لسلب الأفراد والمجموعات داخل الحزب حقوقها في الاقتناع والتعبير والاختلاف معرضة إياهم دوماً لاختيار جائر بين التخلي عن آرائهم في قضايا محددة مختلفة عن قناعة القيادة أو الأكثرية، إما هذا، أو التخلي الكلي عن العلاقة بالحزب. ومثل هذا الخيار الجائر لن يكون دائماً سهلاً ومتوفراً لدى الغالبية من أعضاء الحزب، وغالباً ما تحصل المساومة المؤلمة، عبر التخلي عن الرأي، سواء بالنسبة للفرد أو للجماعة. وبهذا يخسر الحزب أحد أهم مصادر غناه، عنيت الاجتهاد، وأحد أهم مبررات وجوده، عنيت الالتزام الحر أو القناعة الملتزمة، ويبدأ تدريجياً في الخروج من نبض الحياة الاجتماعية، ليتحول إلى عصبة متعصبة منغلقة على تقديس جملة أفكار مثالية بالمعنى الفلسفي، ومنفصلة عن تطور الواقع. وتبقى الحقيقة الصارمة ماثلة في كون هذا النموذج الحزبي يحاول سلب حقوق أفضل المواطنين، أولئك الذين يحاولون الالتزام لتغيير الواقع، فإذا بالتزامهم في هذا الحزب يعرضهم لسلب جزء من حقوقهم كمواطنين، بدل أن يسهم ذلك في تفتح شخصيتهم، واغتنائهم كأفراد وكمواطنين.
2 - في مستوى علاقة الفرع بالمركز أو بلغة الحزب المركزي علاقة الأدنى بالأعلى أو العلاقات الهرمية:
 في الواقع كل هذه القضية، تقع ضمن منطق علاقة الخاص بالعام، أو الأخص بالأعم، وفي الفهم التنظيمي المعاصر، فإن هذه القضية تحتل مركزاً مميزاً من الاهتمام، إذ على سلامة العلاقة بين الأخص والأعم، يتوقف الكثير من أسباب النجاح ومقاربة الموضوعية، وتعميم المبادرة بديلاً للتلقي والانتظارية. إن العلاقة بين المركز والفرع، ليست علاقة عسكرية قائمة على معيار حسن التنفيذ، إنما هي علاقة قائمة على تنوع الوظائف وتعدد الاختصاصات وتوزيع العمل وتعدد أشكال العلاقة مع الواقع.
 وانطلاقاً من هذا الفهم، افترضنا ضرورة وجود قانون يحمي التوازن النسبي بين هذه المستويات، لأن اختلال العلاقة فيما بينها، يؤثر حكماً على فعالية العلاقة مع الواقع المجتمعي والطغيان اللامحدود في الأحزاب المركزية للهيئات "العليا" على الهيئات "الدنيا" ما هو إلا محصلة للنظرة الانقلابية التي تمجد الانضباط والطاعة العمياء في خدمة اللحظة "الثورية" وفي انتظار الأوامر، فالقيادة تعرف كل شيء وما على المؤمنين إلا الطاعة وحسن التنفيذ. هذا هو جوهر فلسفة العلاقات الهرمية في الحزب المركزي، حيث الأعلى يلزم الأدنى دون حدود. ونحن نرى أن هذه العلاقة لا يمكن أن تستقيم وتنتج إلا ضمن التوازن في حدود الوظائف والاختصاص ولا يمكن إلا أن يكون هناك علاقة قائمة على مبدأ الحقوق والواجبات لكلا الطرفين، عنينا المركز، والفرع. السلطة اللامحدودة للمركز حكماً ستشل وظيفة المناطق أو الفروع، وبهذا يفتقد الحزب أهم مصادر تفاعله مع حركة الواقع، ومع ضرورة التعامل مع تنوع الواقع ومفارقاته وصفاته المميزة.إننا بأمس الحاجة لقوانين ومبادئ تكرس العلاقة التكاملية بين الخاص والعام، بين المركز والفروع، بما يضمن العملية التفاعلية بين مختلف المواقع، ويبقى السؤال مطروحاً حول حدود إلزامية الدور المركزي بعلاقاته بالمستويات الأقل شمولاً سواء أكانت مناطق أم قطاعات متخصصة.قبل تقرير نوعية العلاقة يجب الإشارة إلى عدة عوامل يفترض أخذها بعين الاعتبار قبل صياغة قانون العلاقة.
1- أهمية دور العام أو المركز أو القيادة ناتج عن كونها الجهة الأكثر تمثيلاً وليس لأنها أعلى أو أدنى. ولكي تكون كذلك من المفترض إبراز هذه السمة عبر تنقية التمثيل والاختيار من كل الشوائب، لأن شمولية التمثيل هي الصفة الأهم في تقوية مشروعية الإلزام لدى سلطة القيادة، ومما لا شك فيه أن الصيغ التي تؤمن حضور الرأي العام الحزبي وحساسياته في القيادة هي الصيغ الأفضل، ونحن نرجح أن الانتخاب المباشر من كل أعضاء الحزب وعلى أساس النسبية، يشكل الصيغة الأنسب لحسن التمثيل وشموليته. وهذا المنطق في الانتخاب يجب أن يشمل كافة هيئات الحزب في دائرة عملها، مناطقية كانت أم قطاعية.
 إن منطق الانتداب يقلص شمولية التمثيل كما أنه يعتدي على حقوق العضو أو الفرد الحزبي، انطلاقاً من ذلك، وفي مجال الانتخاب، يفترض تجنب كل الصيغ الانتدابية التي تلجأ إليها الأحزاب المركزية بهدف الوصول إلى نوع من الصفوة المختارة، وغالباً المختارة منها، مما يتسبب في ضعف مشاركة الأعضاء ويحد من قوة اختيارهم ومشاركتهم.
2- الجهة المقررة يحددها نوع القضية وموقعها وحدود تأثيرها (مناطقية - اختصاصية).
3- لا يجوز للعام أن يتعاطى مع الواقع الموضعي أو الخاص أو القطاعي بدون احترام كافٍ لقناعة الجهة المعنية بالقضية الخاصة.
4- العام بقدر ما هو بعد جديد، لا تطاله اهتمامات القطاعات والفروع، كذلك هو محصلات لتفاعل الرؤى والمعطيات الموضعية، وهذه معادلة تفترض أسلوب عمل، فبقدر ما يتم الدمج التكاملي بين المستويين وبقدر ما تكون العلاقة بين المستويات، مستندة إلى نظم تصون التوازن والمشاركة النسبية، بقدر ما سينتج عن ذلك مفارقات، تلبي الموضوعية وسلامة الالتزام معاً.
 بناء على هذه المبادئ نجد أنفسنا أمام علاقات جديدة بين مختلف الهيئات في الحزب وموقع هذه الهيئات من بعضها هو ليس تراتبية الأعلى والأدنى وإنما علاقة بين الأخص والأعم بين الأكثر تمثيلاً والأقل تمثيلاً وهذه وظائف لا يمكنها أن تعمل بين بعضها دون منطق التكامل والحرص على أن تقوم كل واحدة منها بوظيفتها بعلاقتها مع الواقع الذي افترضها. وحدود السلطة محكومة باحترام الوظيفة الخاصة. وتجاوز ذلك لا بد أن ينتج خللاً موضعياً وعاماً. إن السمة العامة لهذه الرؤية ولهذه العلاقات هي الديمقراطية ولطالما كانت الديمقراطية صمام الأمان للحفاظ على المقاربات الموضوعية ولتلبية موجبات التطور. وفيما نفترضه لا تتحول الديمقراطية إلى كثافة كلام يرد اسمها بشكل أجوف، وإنما إلى صيغ محددة، تجعل منها واقعاً ملموساً، وليس تبشيراً فارغاً بهدف ذر الرماد في العيون.

في علاقة الحزب مع مؤسسات المجتمع
 الحزب المركزي الانقلابي يعمل من خارج آليات المجتمع، وهو يحاول تحويل حركة الواقع باتجاه هدف أو فكرة وضعها سلفاً، والثورة هي عتبة التاريخ الجديد. الحزب هو الهدف والعلاقة مع الواقع ما هي إلا فرص اقتناص لتقوية دوره. الوعي الثوري يمثله الحزب، وهو الوعي الأعلى والأصفى، وكل أشكال الانتظام الأخرى وما ينتج عنها من نشاطات، ما هي إلا مراحل متدنية يفترض الارتقاء بها نحو الوعي الثوري، وعلى هذا الأساس، تصبح وظيفة الحزب دفع أطر الانتظام هذه، نقابات كانت أم منظمات ديمقراطية أم أندية أو جمعيات أهلية ومدنية، دفعها لتتماثل والحزب، لتصبح أدوات عمل له في سعيه نحو الهدف النهائي: الثورة. هذه الأطر، تفقد كونها وظائف متعددة للاجتماع البشري وظائف متنوعة تنوع اهتمامات ومصالح الناس، وهي ليست لا أدنى ولا أعلى من الانتظام الحزبي. الحزب المركزي يعتبر نفسه المكثف لمصالح الجماهير، والأطر الأخرى ما هي إلا وسائط مرحلية للوصول إلى هذه الجماهير، وبقدر ما تكون مطواعة لإرادته وملبية لغاياته، بقدر ما تكون في الموقع الصحيح، وعلى هذا الأساس يغيب كلياً دورها الفعلي كإطار معبر عن حاجات ومصالح من تمثل، وشرعيتها الحقيقية هي في مقدار تمثيلها مصالح الفئات المعنية بها وليس بمقدار اقترابها من خدمة هذا الحزب أو ذاك.
 إن مؤسسات المجتمع المدني بتنوعها وتعددها، وتعدد اهتماماتها، تعكس تنوع وتعدد الوظائف والحاجات الموجودة لدى المجموعات أو المتحدات الإنسانية، وهي لا يمكن اختزانها بعملية تغيير واحدة، عنيت الثورة أو الانقلاب. إن الطبقات والفئات تنتج أشكالاً متعددة من الانخراط الطوعي، تسعى من خلالها للارتقاء والتطور.. الخ.
 وعلى الأحزاب أن تحترم أشكال الانخراط هذه، وألا تعتبرها حالات عارضة أو أشكالا دنيا للوعي الذاتي، مما يدفعها لاستخدامها وتحويلها واجهات شكلية لخطة الحزب، تستمد شرعيتها من شرعيته الثورية، وليس من حجم تمثيلها لإرادة من تسعى لتمثيلهم، وبالتالي تلتزم الدفاع عن حاجاتهم الخاصة، كطبقة أو كفئة أكانوا عمالاً أو مهندسين أو أطباء أو طلاب أو أساتذة، ولا تجنح لأن تصبح منطلقاً للانتماء الكلي، كما هي الأحزاب والتنظيمات السياسية. النقابات والمنظمات الديمقراطية والبيئية والشبابية... الخ، هي أطر ووظائف ضرورية لتعبيرات المجتمع، ومن هذا المنظار نفهم الانتماء الحزبي بصفته بعداً جديداً للعلاقة مع الواقع، حاجة مغايرة، لا تلغيها الانخراطات الأخرى، لا بل تفترضها، كما أن الانتماء الحزبي يفترض ولا يتعارض وكل أنواع الانخراط الأخرى، وكل مسعى أو فهم يدفع هذه التعددية إلى التعارض، ما هو إلا بسبب الرغبة الاختزالية المتعامية عن تعقيد منطق الانخراط البشري وتعدد حاجاته.
 بناء على هذه المنطلقات، سنجد أنفسنا أمام ضرورة إعادة النظر بمجمل أشكال انخراطنا السابق مع مؤسسات المجتمع، أكانت نقابية أو ديمقراطية عامة: شبابية نسائية أندية جمعيات بيئية تعاونيات، بلديات.. الخ، آخذين بعين الاعتبار، الجهود الكبيرة المبذولة على مر السنين، والتضحيات العالية المبذولة التي من المفترض تقديرها، لأنها ليست هي المسؤولة عن المآزق التي وصلت إليها، وإنما لكونها كانت تستند إلى رؤية وخلفيات غير مناسبة لتطور علاقتها مع الواقع، مما أفقدها القدرة على تطوير صفتها التمثيلية لدى الجهات المعنية بنضالها. لقد حصل التناقض بين أولويات الحزب المركزي، وأولويات النقابات والمؤسسات الديمقراطية على تنوعها، وهذا التناقض مرده لغياب فكرة التكامل، وتعدد الوظائف وطغيان اعتبار أن الحزب هو الغاية النهائية لكل أنواع الانخراط عند أعضائه، فهو أداة الثورة وهو أداة التغيير النهائي. والتغيير يحصل من خلاله وليس من خلال تحولات معقدة على أكثر من صعيد، وميدان، وأن التغيير عملية مستدامة ومتطورة غير قابلة للإنجاز النهائي، حتى الثورة هي ليست فعل قطيعة بين ما قبل وما بعد، وإنما هي عمل تفرضه أحياناً ممانعة متمادية رافضة لمنطق التغيير والتطوير المستمر، وإذا لم تسارع القوى "الثورية" لمعاودة الاندماج بعد "الثورة"، فإنها تقع في خانة المعيق لمسيرة التغيير ولمسار التطور.


مشروع رؤية سياسية وخطة عمل

I- لبنان والعالم

مقدمة
يواجه لبنان تحديات ومخاطر ذات طابع مصيري في هذه المرحلة، من شأنها أن تؤثر بنيوياً في مسار تطوره اللاحق لسنوات أو عقود. والمؤسف أن الفاعلين الأساسيين في هذه العملية الحاسمة في مصيرنا جميعاً، هم عدد محدود من اللاعبين الدوليين والإقليميين، وبعض النخب السياسية اللبنانية المرتبطة في معظمها باللاعبين الخارجيين. أما الشعب اللبناني، وقوى المجتمع الحية، فهي مغيبة عن هذه العملية وبالتالي فإن المدخل إلى تغيير هذا الواقع يكمن في عودة الشعب اللبناني، عبر قواه وتنظيماته السياسية والاجتماعية، إلى لعب دوره في المشاركة في صنع القرار، وفي صنع السياسة في لبنان.
ولا تقتصر هذه التحديات والمخاطر على تلك التي تنبع من الأوضاع الوطنية فحسب، لا بل إن عناصر بالغة الخطورة والأثر على لبنان وشعبه، تنبع من المستويين العالمي والإقليمي أيضاً، وتجعل لبنان، كما بلدان وشعوب العالم والمنطقة الأخرى، في قلب تأثيرات هذه التطورات. وإذا كان مسار العولمة الراهن يشكل الإطار العام المميز لمسار التطور الحضاري منذ العقد الأخير للقرن العشرين، فثمة ثلاث قضايا سياسية أساسية في هذا المسار، تشكل الإطار العام السياسي العالمي والإقليمي، التي يتحرك فيها مسار الأزمة في المنطقة وفي لبنان، وتتطلب فعالية سياسية مباشرة في التعامل معها. وهذه القضايا الثلاث هي التالية:
أ?- تداعيات 11 أيلول والطور الحالي من العولمة الأمنية والعسكرية،
ب?-  الحرب على العراق،
ت?-  الطور الجديد من الاحتلال والعدوان على فلسطين وشعبها.

تداعيات 11 أيلول، وعسكرة العالم
لم يكن ما جرى في 11 أيلول حدثاً معزولاً بلا تاريخ أو بلا أسباب ومقدمات. إن حلقة المواجهات الحالية في نقطة بدايتها في 11 أيلول، هي بمثابة دورة فرعية ضمن الدورة الأكبر والأشمل للتحولات العالمية التي أطلقها انهيار نظام الثنائية القطبية، والتي تتميز باندفاع عدواني لنمط من العولمة الليبرالية، مع سعي لبناء نظام شامل أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية.
لقد أدت هذه التحولات إلى إطلاق سلسلة من الأدوات والآليات والأحداث، وسط خلل كبير في التوازن العالمي في غير صالح الشعوب، ولا سيما شعوب العالم الثالث وبلدن الكتلة الشرقية السابقة، وتمثل باعتماد آليات اقتصادية وسياسية عالمية منحازة بالكامل لصالح عدد قليل من دول المركز، وأدت إلى تركُّز الثروة العالمية والقرار العالمي في هذه الدول، وإغراق معظم بلدان الأرض وشعوبها في الديون والفقر والتهميش. كما أن الاختلال في موازين القوى، سمح للولايات المتحدة على وجه الخصوص، بالعودة لاستخدام العنف والحرب والغزو باعتبارها أدوات مباشرة لتحقيق أهدافها السياسية، فارضة على حلفائها الانضمام إلى حروبها، وعلى الأمم المتحدة الموافقة عليها وتغطيتها وتسهيل بلوغها لأهدافها.
إن سياسة الهيمنة الأحادية والإفقار والتهميش، وخطاب الغطرسة الأميركي تجاه شعوب العالم قاطبة، قد ولد في المقابل عداءً معمماً في كل قارات الأرض ضد السياسة الأميركية، وضد هيمنتها، بما في ذلك في أوروبا واليابان وداخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها. ولكن ردود الفعل الرافضة للهيمنة الأميركية لا تقتصر على أشكال التعبير الاجتماعي والمدني والسياسي والشعبي فحسب، بل تشمل أيضاً أشكالاً من الاعتراض الماضوي والعنيف يتغذى على القهر والشعور بالمهانة الذي تتحسسه شعوب العالم الثالث الفقيرة، وما يولد ذلك من ردود فعل عنيفة ومتطرفة. وما يزيد من تعقيد الوضع، الاندفاع في حدة الصراع العالمي الذي يتم على خلفية تراجع وضع البدائل اليسارية والديمقراطية لا سيما في دول العالم الثالث، مما يضيق الآفاق المستقبلية ويجعل مآلات هذا الصراع ونتائجه غير مضمونة من وجهة نظر مصالح الشعوب وتقدم البشرية.

الحرب على العراق
وتقع البلدان العربية في قلب هذه التحولات ونتائجها، ولا سيما في نقطتي العراق وفلسطين. فحرب الخليج الأولى والثانية في بداية التسعينات من القرن العشرين (بالإضافة إلى الحرب في يوغوسلافيا السابقة وعليها)، كانت التجلي الأكثر أهمية في التحول إلى استخدام الأساليب العسكرية والحروب في حسم الصراعات السياسية بشكل مباشر ومنفرد من قبل الولايات المتحدة (وحلفائها) وتهميش الأمم المتحدة ومنظومة الآليات التي تمت صياغتها غداة الحرب العالمية الثانية لحل النزاعات العالمية والإقليمية. وبعد اعتداءات 11 أيلول، تم الاندفاع في صيغة أكثر تطرفاً من هذا النسق الاستعماري العسكري الجديد، ساعياً للتقدم في "الحلقات الضعيفة"، بدءاً بأفغانستان، مروراً بالحرب المعلنة ضد العراق والتي تهدف إلى إنتاج صيغة هيمنة أكثر شدة على المنطقة بكاملها، وعلى نفطها بشكل خاص. ولا شك في أن النجاح الأميركي في الحرب ضد العراق، سوف تكون له نتائج بنيوية على أنظمة الخليج النفطية التي ستتعمق تبعيتها وهشاشتها إزاء الهيمنة الأميركية التي ستتحول إلى عنصر بنيوي داخلي في هذه الأنظمة على كافة المستويات. كما ستكون له آثار على كافة الأنظمة الأخرى، وهي آثار بدأت تظهر منذ الآن في سياسات التكيف مع متطلبات الحملة الأميركية ضد الإرهاب. وإذا كانت حرب الخليج الثانية عام 1991، قد شكلت العامل الأكثر أهمية في إطلاق عملية التسوية في مدريد (وقبل ذلك في أوسلو)، فإنه من المتوقع أن تطلق الحرب الجديدة على العراق، في إطار الاستراتيجية الأميركية الحالية للهيمنة على المنطقة، (تطلق) الطور الجديد من مسار التسوية على قاعدة موازين القوى الجديدة التي يجري تشكيلها على الأرض بعد الحرب على العراق، وبعد أن تنتهي إسرائيل بقيادة اليمين المتطرف من إنجاز حربها الخاصة ضد الشعب الفلسطيني وسلطته، كنموذج مصغر مكمل للحرب الأميركية على العراق.

الأنظمة العربية أمام امتحان مكافحة الإرهاب والحرب على العراق
تعاني الحكومات العربية، لا سيما تلك التي تدور في الفلك المباشر للسياسة الأميركية، والتي تعتمد في حكمها على الدعم الأميركي، من صعوبات حقيقية في اتخاذ موقف متكامل وصريح إزاء التطورات الأخيرة (المشار إليها في بداية هذا النص). وهذه الصعوبة هي النتيجة الطبيعية للسياق السياسي الذي اندفعت فيه منذ عقود، والذي ربطت بموجبه مصالحها كسلطات، بمصالح الولايات المتحدة الأميركية في العالم، وفي المنطقة. إن انفجار الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية، وبعض حلفائها وأدواتها السياسية والمخابراتية (الأفغان العرب وحركة طالبان) التي كانت قوة الصدام الأساسية في سياستها لمحاربة السوفيات خصوصاً أثناء احتلالهم لأفغانستان، قد أصاب بشظاياه حلفاء أميركا الأساسيين في المنطقة، ولا سيما باكستان وسلطات البلدان الخليجية.
إن الإيديولوجية الدينية السلفية والجهادية، التي تشبعت بها هذه الحركات بدعم من بعض الأنظمة العربية ومن الولايات المتحدة الأميركية في المرحلة السابقة في مواجهة السوفيات في إطار الحرب الباردة، وفي مواجهة البدائل الديمقراطية والعقلانية في المجتمعات العربية، كان لا بد أن تؤدي في سياق تطورها الطبيعي إلى مطالب تتناقض مع السياسات الأميركية ومع سياسات الحكومات العربية. فقد حصلت بعض التحولات في السياسات العالمية العربية الرسمية، وحصلت بعض التطورات الهامة في الوضع العالمي، في مدى زمني قصير نسبياً، بحيث لم يتح ذلك الوقت الكافي لهذه الحركات للتكيف معها، ولم يتح الوقت الكافي أيضاً لمن كان يرعاها لوضع خطة احتواء لها تأخذ بعين الاعتبار المستجدات. لذلك، دخلت هذه الحركات في تناقض مع حلفائها السابقين، وهي لا تزال تتمتع بقدرات تنظيمية ومادية ومعنوية هامة، وفي وقت لا تزال تتمتع فيه بتأييد شعبي ساهمت الأنظمة في بنائه. وهذه الأنظمة تجد نفسها الآن أمام ضغوط الولايات المتحدة الأميركية المتزايدة من جهة، وأمام ضغط جمهور تمت صناعة وعيه ورؤاه السياسية على قاعدة الإسلام السياسي السلفي، وهو يجد صعوبة في تقبل فكرة تعرض بلد عربي أو إسلامي لعدوان أميركا، دون التضامن والتعاطف معه.
إن رد فعل الأنظمة العربية على الضغوط الأميركية يتسم بشكل عام بالتكيف مع هذه الضغوط، مع محاولة تدوير بعض الزوايا، ومقايضة هذا التكيف ببعض التغيير اللفظي والثانوي في الخطاب الأميركي تجاه العرب والمسلمين، وبعض التعديلات التجميلية في المشاريع الأميركية الموضوعة للمنطقة، بما لا يضع هذه الأنظمة أمام اختبارات لا تستطيع اجتيازها.
وعلى هذا الأساس، وبذريعة "المصلحة الوطنية في ظل هذا الوضع الحساس"، توضع سقوف على الصعيدين العربي العام والوطني، لحركة الاعتراض على العدوان الأميركي، تتفاوت بين بلد وآخر ولكنها تشترك كلها في كونها تتراوح بين حد الاحتواء والمصادرة، وحد قمع حرية التعبير عن الموقف، ولا سيما التحركات الشعبية، والضغط لحصر أشكال الاحتجاج ضمن منتديات النخب المحدودة العدد، والضغط على الحركات الدينية والشعبية عموماً لإبقاء أشكال اعتراضها تقتصر على التنفيس والتعبير عن الموقف دون أن يقترن ذلك بخطوات عملية لتحويل هذا الموقف إلى فعالية تؤثر فعلياً في تعديل الموقف السياسي الرسمي. ولكن هذا السلوك قصير النظر، وهو لا يعالج إطلاقاً أساس المشكلة بل يحصرها ويكبتها فيما عناصر الاحتدام تتراكم دون قنوات تتيح تنفيس الاحتقان الذي قد ينفجر في أي لحظة بحكم التراكم، أو بحكم الانفعال أمام تطور غير محسوب يثير ردود فعل غير قابلة للضبط. إن سياسة من هذا النوع ستكون عاجزة أمام أي تطور أساسي مفاجئ، وقد تجد بعض البلدان نفسها غارقة في الفوضى أو أمام احتمال الأحكام العرفية المباشرة، والاتجاه نحو المزيد من التبعية العضوية والمعممة للولايات المتحدة الأميركية.
إن مخاطبة الأنظمة السياسية للحؤول دون هذه الاحتمالات هو جهد ضروري من الناحية السياسية، ولكنه قليل الجدوى من الناحية العملية. فهذه الأنظمة هي جزء من المشكلة، وليست جزءاً من الحل. وهي قد نجحت تماماً في اختبار التكيف مع الطلبات الأميركية في حرب الخليج الثانية، وفي تعاملها الخجول اللاحق مع الحصار على العراق، وفي تعاملها المفجع مع الانتفاضة الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي، ولا يمكن أن نتوقع منها سوى "النجاح" في التجربة الجديدة المتمثلة في تدمير المجتمع والسلطة الفلسطينيين، وفي الحرب الجديدة المعلنة على العراق، رغم الصعوبات والتعقيدات التي تواجهها.
إن وجهة اهتمام الحركات السياسية والاجتماعية العقلانية والديمقراطية في مختلف أنحاء العالم العربي، لا بد أن تعطي الأولوية لمخاطبة شعوبها، وقوى المجتمع المدني، لتنسيق الجهود فيما بينها على الصعيدين الوطني والعربي، من أجل إيجاد عناصر الحصانة وإنتاج مقاومة سياسية وشعبية فعالة في مواجهة الضغوطات الخارجية والتضامن مع الشعب العراقي في مواجهة العدوان الأميركي، وفي حقه وحق كل مواطن عراقي في أن يعيش في ظل نظام ديمقراطي يختاره بنفسه بحرية، يحترم حقوق الإنسان ويمكنهم من تقرير مستقبل بلدهم بأنفسهم.

الوضع في فلسطين
يتمثل الجديد في الوضع الفلسطيني في كون اليمين الإسرائيلي قد استفاد من التطورات الدولية، ولا سميا تطورات ما بعد 11 أيلول، من أجل اعتماد أهداف عدوانية أكثر جذرية وتطرفاً، تتضمن العمل على تدمير السلطة الفلسطينية مادياً ومؤسساتياً وسياسياً، وتدمير المجتمع الفلسطيني، وفرض حلول تتراجع حتى عن المستوى الذي كان موضوعاً في اتفاق أوسلو، ناهيك عن مؤتمر مدريد.
إن مصادر هذا الضغط على الواقع الفلسطيني متعددة وهي تتقاطع في نتائجها العملية، رغم اختلاف المنطلقات والجهات. وأبرز مصادر هذا الضغط الجهات التالية:
أول هذه الضغوط وأشدها تأثيراً، هو الضغط الإسرائيلي المتمثل حالياً في سياسة حكومة شارون. وهي سياسة تقوم على التدمير المادي والحصار وتفكيك السلطة والمجتمع والاغتيال.. الخ، أي على استخدام الأشكال القصوى من القمع والتدمير من أجل إسقاط السلطة الفلسطينية، ونسف فكرة الدولة الفلسطينية. والهدف من وراء ذلك هو العودة إلى ما قبل اتفاقيات أوسلو، وخلق وقائع مادية جديدة تجعل العالم يقبل التراجع عن أي صيغة أو مسار للتسوية في المنطقة يمكن أن يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية تتمتع بالحد الأدنى من إمكانية الوجود والبقاء.
ثانياً الضغط الأميركي، والذي يتمثل في تأمين التغطية الدولية لسياسة شارون العدوانية، وتوظيف ضغطه لفرض القبول بالولايات المتحدة وحلولها باعتبارها الملاذ الوحيد. وعلى الرغم من الانزعاج الأوروبي من التطرف الإسرائيلي ومن التفرد الأميركي الداعم له، إلا أن الموقف الأوروبي لم يتحول إلى عنصر ضاغط لتعديل المسار الراهن، وذلك لأسباب عدة، بينها افتقاره إلى مرتكزات عربية مساعدة بديلة للالتحاق العربي شبه المطلق بالأميركيين.
الضغط الثالث مصدره الوضع العربي العاجز بل والمتواطئ مع ما يتعرض له الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية أيضاً. وهو نوعان، الأول يتمثل بحالة العجز الناجم بدوره عن الالتحاق العربي شبه الكامل بالسياسة الأميركية، والتزامه بمتطلباتها خصوصاً بعد 11 أيلول، والإفادة داخلياً من حملة مكافحة الإرهاب الدولية لتعزيز استقرار بعض الأنظمة. والنوع الثاني من الضغط العربي يتمثل بالرضى على إضعاف الرئيس الفلسطيني والسلطة الفلسطينية بسبب التناقضات في الخيارات السياسية والعملية معها. ويعطي هؤلاء الأهمية الأكبر والأولوية لإضعاف خصمهم السياسي ولو كان ذلك على حساب تدمير فكرة قيام الدولة الفلسطينية نفسها، وهم لا يتصرفون على أساس إدراك الأبعاد الاستراتيجية والنوعية لسقوط فكرة الدولة الفلسطينية، وكونها أبعد وأعمق من الخلاف مع رئيس السلطة. أضف إلى ذلك، ضعف ردة فعل الشارع العربي، التي لا تتناسب على الإطلاق مع ما يجري في فلسطين، ومع حاجة الفلسطينيين إلى تضامن واحتضان عربيين رسميين وشعبيين في آن، لتعزيز الصمود في وجه الهجوم الإسرائيلي الشرس والدعم الأميركي له.
الضغط الرابع مصدره الداخل الفلسطيني نفسه، والتناقض بين السلطة وبعض قوى الانتفاضة، ولا سيما حماس والجهاد الإسلامي. إن نقطة الضعف الأساسية في الوضع الفلسطيني الداخلي، وفي الانتفاضة، يتمثل في عدم وجود استراتيجية موحدة لمواجهة خطط شارون والولايات المتحدة الأميركية. لا بل إن الأمر يتجاوز ذلك إلى وجود استراتيجيات مختلفة، لا بل متناقضة، لدى الأطراف المختلفة المشاركة في الانتفاضة.
إن موقفنا إزاء هذه النقاط ينطلق من ضرورة مواجهة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وعلى سلطته، ومواجهة الضغوط الأميركية أيضاً، بأفضل شكل وبأقصى فعالية ممكنين. لم يعد بالإمكان الاكتفاء برفع الشعارات فيما يتعلق بالمواجهة، بل على القوى السياسية أن تضع خطة تضمن النجاح في هذه المواجهة. إن النتائج لا النيات وحدها، هي المعيار في العمل السياسي العام، لا سيما في أوضاع شديدة الخطورة كما هي عليه الحال راهناً. إن وسائل النضال واستراتيجيات العمل والمقاومة لا بد وأن تنسجم مع المصالح الحقيقية الراهنة والمستقبلية للشعب الفلسطيني، وعلى الأطراف أن تراجع وسائلها وخططها، وأن تنخرط جميعاً في حوار وطني صريح وديمقراطي من أجل بلورة الخيارات ووضع استراتيجية وطنية موحدة بمشاركة الجميع، ويلتزم بها كل الأطراف، وتحظى بدعم سياسي وشعبي عربي واسعين.
إن لبنان وشعبه وقواه السياسية معنيون بنجاح الشعب الفلسطيني في الصمود وتثبيت ما انتزعه من اعتراف بحقوقه الوطنية المشروعة في بناء الدولة المستقلة وحق العودة، وذلك بحكم التلازم المشترك في المسار النضالي في مقاومة الاحتلال وبحكم التأثر المشترك بنتائج نجاح خطط اليمين الإسرائيلي والهيمنة الأميركية. كما أنه معني بشكل مضاعف بحكم وجود اللاجئين الفلسطينيين على أرضه، وضرورة صياغة موقف وطني رسمي وشعبي سليم من الحقوق السياسية، والحقوق المدنية والإنسانية للفلسطينيين المقيمين على أرضه، بما في ذلك صياغة مشتركة لموقف موحد من احتمالات التوطين وانعكاسات المخططات الإسرائيلية على لبنان وسبل مواجهتها.

الواقع العربي الجديد ودورنا العربي
إن مسألتي الانتماء والهوية العربية ولا سيما في ظل العولمة المتسارعة هما في غاية الأهمية ولا بد لأي حزب تغييري في العالم الثالث، وفي العالم العربي، من أن تكون له رؤية متقدمة لمضامين وآليات خوض الصراع على هذا المستوى، مع التركيز الخاص على الارتباط الحتمي بين التحرر الوطني والتنمية والتحويل الديمقراطي في مجتمعاتنا. وأن البعد المستقبلي للانتماء العربي وللهوية العربية، بما هي هوية حضارية ثقافية تشترك ليس فقط في اللغة وإنما في الإرث الثقافي والتاريخي ومشاعر الانتماء الحضاري، هي الأهم في رأينا. فمن الضروري بلورة هذه الهوية ببرنامج عملي يأخذ بعين الاعتبار عدم تبلور الهوية السياسية الموحدة ويعمل على إيلاء قضايا التنمية والتكامل الاقتصادي والديمقراطية أهمية كبرى وأولوية، مع الأخذ بعين الاعتبار، ضرورة مراعاة الشروط الخاصة والتمايزات التي انوجدت بين هذه البلدان في ظل الدول القطرية وتجاربها المختلفة. وتكراراً فإننا نؤكد أن مصير العلاقات بين الكيانات العربية أو دولها سوف يتحدد بناء لمدى قدرتها في بلورة مصالح شعوبها أولاً وفي كل دولة على حدة من خلال سلطات تمثل ديمقراطياً مصالح وطموحات هذه الشعوب، وثانياً، وهو وثيق الصلة بالواقع الأول، ترجمة المصالح المشتركة لدول المنطقة والسعي لتطوير العلامات فيما بينها على كل الصعد وباتجاه التكامل المتكافئ.
إن التكامل العربي، من حيث هو مسار ديمقراطي وشعبي لتنمية عناصر القوة العربية في مواجهة تحديات العولمة، بما فيه تحديات مسار التسوية والتطبيع وما إلى ذلك، هو من ضرورات المرحلة الحالية. وهذا الفهم العلمي والمستقبلي للتكامل العربي، لا بد أن يحل تدريجياً محل الكلام الشعري عن الوحدة العربية الشكلية المفرغة من أي مضمون تقدمي حقيقي، إلا التعاون على قمع الشعوب، وعلى الصلح مع إسرائيل تحت سقف التصورات الأميركية لمستقبل المنطقة.
إن نماذج التنمية التي اعتمدت في مختلف البلدان العربية (لغياب المواصفات الآيلة الذكر) آلت إلى الفشل، سواء على صعيد التجارب القطرية، أو تجربة التكامل القومي وصياغة مشروع عربي مشترك.
إن المسألة الأساس التي تعيق التنمية والتقدم في البلدان العربية تكمن في غياب مشروع وطني تنموي متبلور، على مستوى الدول والنخب الحاكمة. إلا أن السبب البنيوي الأكثر أهمية هو بالتأكيد غياب الديمقراطية، وسيطرة النظم الاستبدادية في معظم الدول العربية. إن خطة عمل اليسار على الصعيد العربي لا بد أن تشمل كافة المستويات، وبالتالي الانخراط في مبادرات وأنشطة تنسيق عربية المدى، على المستوى السياسي المباشر (أحزاب وقوى وشخصيات سياسية)، وعلى مستوى قوى المجتمع المدني.
وعلى الصعيد العملي، يعني هذا السعي لاستكشاف القوى السياسية والاجتماعية الناشطة في العالم العربي، التي يمكن لها أن تعمل بشكل مشترك على بلورة تدريجية لخطة بديلة للتعامل مع المشكلات الراهنة والتحديات المستقبلية، انطلاقاً من رؤية تكاملية ومن بلورة مشروع عربي للتنمية الشاملة، متضمناً بالتأكيد النمو الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والإصلاح السياسي على أساس الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. مشروع ينطلق بدوره من الانحياز إلى المصالح الوطنية ومصالح الشعوب في التعامل مع الخيارات المطروحة، ومع شروط العولمة. مشروع لا يخشى المجاهرة بطبيعته السياسية من جهة، ولا يكتفي بالعمل السياسي التقليدي والفوقي من جهة أخرى. بل يعمل على المستوى المجتمعي كله، ولا سيما تحقيق الترابط بين أطر العمل النقابي، والمهني، وشبكات العمل الأهلي، والعمل الحزبي المتجدد، في سبيل تحسين فرص التحول السياسي في العالم العربي باتجاه الديمقراطية، وباتجاه احترام المميزات لكل بلد على حدة بما يوصلنا إلى صيغة تكامل بين الخاص والعام.
إن فهماً من هذا النوع للانتماء العربي وللتكامل العربي، ضروري جداً من أجل اليسار اللبناني على نحو خاص. فلبنان مفتوح بقوة على المؤثرات والصراعات العربية بحكم موقعه الجغرافي وصراعه الطويل مع إسرائيل، وبحكم الحضور السياسي والعسكري السوري الكثيف فيه ؛ وبفعل وجود المخيمات الفلسطينية فيه أيضاً. كما أن عروبة لبنان، كانت أحد ابرز عناوين الصراع الداخلي، بما في ذلك أشكاله الأكثر عنفاً ودموية، وعناوين الخلاف في هذا الشأن لا تزال كامنة. إن شأن فهم عصري ومتقدم ومدني للمسألة القومية، أن يسقط بعض مبررات الصراع التناحري بين التيارات السياسية اللبنانية في هذا الشأن، التي تهدد الوحدة الداخلية والاستقرار السياسي، في كل مناسبة. كما أن هذا الفهم يشكل إطاراً موضوعياً لرؤية المصالح الوطنية اللبنانية في بعدها العربي، ومدخلاً مختلفاً لمعالجة إشكالات الوجود الفلسطيني في لبنان، والعلاقة مع سوريا، ومشاريع التنمية المستقبلية، بعيداً عن التشوهات والتطرفات الطاغية في النظر إلى هذه العلاقات في الحياة السياسية اليومية في لبنان.

في ضرورة مشروع نهضوي جديد
يجب أن نعترف أن مسار التقدم الحضاري في بلداننا ومجتمعاتنا قد أصيب بانتكاستين كبيرتين. الأولى تمثلت في تشوه عملية التحول إلى الحداثة في مجتمعاتنا وهياكلنا السياسية وثقافتنا، وذلك بحكم فشل مشروع النهضة العربية في بداية القرن العشرين، مما خنق بذرتي الديمقراطية السياسية والإصلاح الديني. والانتكاسة الثانية تمثلت في المآل الذي بلغه مشروع حركة التحرر الوطني العربية في مرحلة الاستقلال، والذي حصد فشلاً كبيراً أيضاً في مجال مواجهة إسرائيل، والتحرر من التبعية، والتكامل العربي (كي لا نقول الوحدة)، وفي مجال النمو الاقتصادي والتنمية. ونخشى أن تكون بلداننا أمام خطر انتكاسة ثالثة إذا ما تركت أمام خيار الالتحاق التبعي شبه المطلق بالخيارات السياسية والاقتصادية للعولمة النيوليبرالية، والخيار الذي تمثله التيارات الماضوية بشقيها الأصولية الجهادية أو السلفية المحافظة.
إن مجتمعاتنا العربية تواجه ضرورة أن تعيد إطلاق دينامية مجتمعية خلاقة، وأن تبدع حلولاً عصرية للقضايا الكبرى التي واجهت العالم العربي في مشروعي النهضة والتحرر الوطني. وقوى اليسار تحديداً، مطالبة بأن تكون حاملة لمشروع نهضوي معاصر، لا يقتصر على البعدين السياسي والاقتصادي فحسب، بل يشمل أيضاً التحول الاجتماعي والثقافي. وأمام اليسار العربي مهمة سياسية وإعلامية هامة، هي أن يخرج صورة المشهد السياسي والإعلامي العربي من ثنائية أمراء النفط و"الإرهابيين الأصوليين" التي تجتاح الرأي العام العالمي والعربي (والتي تُطعّهما أحياناً بعض الأصوات المنفردة لبقايا خطاب قومي شعبوي، أو بعض الأصوات المروجة لخطاب العولمة النيوليبرالية). وكما كان للبنان ورواده وقواه الطليعية دور أساسي في عصر النهضة في بدايات هذا القرن، وكما كان له دور ريادي أيضاً في مرحلة الاستقلال والتحرر الوطني في بناء تجربة متميزة من الحريات والكفاحية النقابية والسياسية في الشارع وعلى المستوى الثقافي، وكما كان له دور فريد في إطلاق الصمود في وجه العدوان والاحتلال الإسرائيلي ومقاومته وهزيمته، فإننا نرى أن لبنان، مدعو الآن أيضاً إلى دور مبادر وريادي للحؤول دون انتكاسة حضارية ثالثة، وفي تقديم إسهام متميز في إعادة إطلاق مشروع نهضة عربية معاصر. ونحن نعتقد أن دور اليسار، ودور القوى المتنورة والعلمانية، يقع في صلب هذه العملية الضرورية والمطلوبة بإلحاح اليوم.

الانعكاسات على لبنان
يقع لبنان في صلب هذه التطورات العالمية والإقليمية. فمع تقدم الخطة الأميركية سوف يشتد الضغط على لبنان (وعلى دول المنطقة) تحت عنوان مكافحة الإرهاب، من أجل الالتزام الكامل والشامل بمتطلبات السياسات الدولية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. ويتطلب من الدول الراغبة في البقاء على علاقة جيدة مع أميركا، القيام بالتزامات عملية أكثر انسجاماً مع المصالح الأميركية مما في السابق. أي أن هامش المناورة يضيق باستمرار، خصوصاً أن الوضع الداخلي مرتبط بمسار علمية التسوية، وبالعلاقة مع سوريا ورد فعلها ودورها المستقبلي، ولارتباط كل ذلك بالموضوع الفلسطيني وبالمواجهة مع إسرائيل، التي لا تزال مفتوحة من خلال جنوب لبنان، باعتباره ساحة مواجهة ومفاوضة إقليمية مع إسرائيل ومع الأميركيين.
وفي لبنان يتزامن هذا التطور الدولي، وانعكاساته الإقليمية والداخلية، مع استمرار الأزمة السياسية في أبعادها الداخلية، ومع تزايد حدة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، في وقت تتخذ فيه الحكومة مجموعة من التدابير والخطوات الاقتصادية، والسياسية والإدارية، دون مراعاة متطلبات الحوار والديمقراطية وصيانة الحريات، ولا متطلبات الإصلاح السياسي وا لإداري، ومتطلبات العدالة في توزيع أعباء حل الأزمة الاقتصادية.
أضف إلى ذلك، أن عناصر تأزم قوية لا تزال فاعلة في المجتمع والدولة في لبنان، أهمها:
- تأزم سياسي ذو أبعاد داخلية وطنية وإقليمية؛
- عناصر تأزم اقتصادي - اجتماعي؛
- وعناصر تأزم مجتمعي وسياسي - ثقافي يرتدي بعضه شكلاً طائفياً.
إن كل هذه العناصر لا تقلل من أهمية العوامل الداخلية في لبنان من وجهة نظر الفعالية السياسية الاستراتيجية النضالية لقوى التغيير، ولا سيما اليسار، بل هي من نجاح النضال الوطني في مواجهة هذه التطورات، مساهمة في النضال من مقاومة الهيمنة الأحادية والتأسيس لعالم آخر أكثر إنسانية، ومساهمة في فتح أفق لبديل ديمقراطي وعصري للمستنقع العربي الراهن والخيارات الماضوية المؤدية إلى خروجنا من التاريخ.
إن الهدف المحوري لفعالية الشعب اللبناني وقواه الديمقراطية هو تصحيح مسار الوطن اللبناني - مجتمعاً ودولة وعلاقات - بما يحول دون إعادة إنتاج الأزمات والحروب وأسبابها. كما أن الفعالية المباشرة يجب أن تصب نحو قيام ائتلاف وطني إصلاحي يحول دون تقويض ما تبقى من عناصر الحصانة الداخلية، ويبني تدريجياً بدائل واقعية وقابلة للتحقيق في المدى المنظور. ومن هذا المنطلق الذي يدمج بين مختلف الأبعاد الداخلية والخارجية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، المباشرة والمتوسطة والبعيدة المدى، يمكن بلورة المضمون الجديد والتكاملي للقضية الوطنية اللبنانية في الوقت الراهن، بما هي قضية استكمال التحرير وصيانته، واستعادة السيادة الكاملة، والإصلاح وبلورة مواطنية جديدة وثقافتها ونسق علاقاتها.
إن الأولوية في نضالنا يجب أن تكون للمستوى السياسي في المرحلة الراهنة، باعتباره يشكل تكثيفاً فعالاً لكافة مستويات الفعل المجتمعي، ولكونه - في الظروف الراهنة - المكان الذي تنعقد فيه كل العوامل الخارجية والداخلية، وتناقضاتها، ونتائجها. إن المستوى السياسي هو بهذا المعنى المدخل الإلزامي للمستويات الأخرى، وفيه تكمن التناقضات والعوامل القابضة على اتجاهات التطور العام في البلاد.
إن القضية الأكثر أهمية بالنسبة إلى شعبنا، وبالتالي بالنسبة إلينا كحزب وكقوى يسار، هي أن يكون لنا نحن اللبنانيين وطن ودولة تعبر عن المصالح الوطنية لهذا الوطن. وعلى هذه القضية المحورية يتوقف كل أمر آخر.
ومنعاً لأي التباس، وكما دلت على ذلك التجربة المرة والدموية التي عاشها لبنان في العقود الأخيرة، لا يمكن الفصل بين فكرة إعادة بناء الوطن والدولة، وبين المواصفات الضرورية لهذه العملية، وتفعيل دور أوسع القوى الاجتماعية والسياسية المعنية بذلك.
وإذا كان لا بد من صياغة مكثفة لمضمون القضية الوطنية اللبنانية في وقتنا الراهن، ببعديها الخارجي والداخلي، لاقتضى ذلك على الأقل الإشارة إلى ثلاث ركائز متلازمة ومترابطة فيما بينها هي التالية:
• التحرير وبلورة استراتيجية شاملة للتعامل مع مسار الصراع والتسوية في المنطقة.
• تصحيح العلاقات اللبنانية - السورية.
• تحقيق الإصلاح الشامل للنظام اللبناني.


القضية الوطنية في بعدها الإقليمي الخارجي

على الرغم من نسبية مفهومي الداخل والخارج، لا سيما في عصرنا الحالي وهذا شأن يطال كل الدول، إلا أن التمييز بين هذين البعدين يبقى معبراً عن حقيقة موضوعية، مع الإقرار بتداخلهما وترابطهما. وفي البعد الإقليمي الخارجي للمسألة الوطنية اللبنانية نتناول تباعاً ثلاث نقاط أساسية هي التالية:
1- قضية التحرير والتسوية،
2- الواقع العربي الجديد ودور الحزب وقوى اليسار عربياً،
3- تصحيح العلاقات اللبنانية - السورية،

التحرير والتسوية
إن الانتصار الكبير الذي تحقق بتحرير الجنوب يظل ناقصاً ما لم يندرج ذلك في إطار موقف لبناني استراتيجي سليم من موضوع التسوية بشكل عام، وما لم يندرج في إطار مشروع بناء الدولة الديمقراطية السيدة في لبنان، ووضع حد لمنطق لبنان - الساحة، بدءاً من اتخاذ التدابير الفورية لبسط سيادة الدولة على كل الأرض المحررة. ولا ينقص هذا ذرة واحدة من الدور الكبير الذي لعبته المقاومة الإسلامية، وقبلها المقاومة الوطنية، في عملية التحرير.
وبشكل عملي، يتضمن مثل هذا الموقف المركب العناصر الأساسية التالية:
• صمود اللبنانيين: لقد فرضت المقاومة على إسرائيل انسحاباً غير مشروط من لبنان، وهذا الإنجاز تجاوز لبنانياً معادلة الأرض مقابل السلام. يجب تثبيت هذا الموقف، ورفض أي مشروطية لاحقة في إطار "التسوية الشاملة في المنطقة"، بحيث نقبل في إطارها بشروط مضرة بمصالح لبنان الوطنية.
• إن الدور الكبير الذي لعبته المقاومة في التحرير، ولا سيما المقاومة الإسلامية، يتحول إلى نقيضه إذا استمر الموقف الرسمي اللبناني، والإقليمي، الذي يعيد إنتاج حالة ميليشياوية ويفرض سلطة حزبية وطائفية على المناطق المحررة. إن هذا الواقع المفروض بعد التحرير، وبفعل الطابع الطائفي لهذه الحالة، يعطل مساهمة عملية التحرير في إعادة بناء مشروع وطن ودولة ديمقراطية، ويدخل التحرير نفسه في دوامة النزاع الطائفي والسياسي الداخلي. ولذلك لا بديل عن دخول الجيش إلى المناطق المحررة، وتحمل الدولة وحدها مسؤولية الأمن والاجتماع وحماية الحدود وضمان الحريات الشخصية والعامة للمواطنين والقوى الاجتماعية والسياسية، ما يؤمن للوطن مرحلة من الاستقرار، ويخرجه من دائرة الاستخدام كساحة، ويخلق ظروفاً أفضل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
• من الناحية العملية أيضاً، فإن تحرير الجنوب ليس حدثاً عادياً دون تأثير على السياسات الداخلية والخارجية للبنان، وعلى استراتيجية مقاومة إسرائيل في لبنان. وعلى استراتيجية المقاومة أن تأخذ بعين الاعتبار الحقائق التالية:
- الحقيقة الأولى تتمثل في كون المقاومة تتم اليوم، (كما كانت في السنوات الأخيرة أيضاً)، بعد توقف الحرب الأهلية، وفي ظل إعادة بناء الدولة، واستعادة السلطة المركزية لدورها. في هذا المجال، فإن المقاومة لا بد أن تندرج تحت العنوان الأكبر لإعادة بناء الدولة والمجتمع في ظروف ترسيخ السلم الأهلي، ووحدة البلاد والمجتمع.
- الحقيقة الثانية تتمثل في تحرير معظم الأرض اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي، وما تبقى من مشكلات (مزارع شبعا، الأسرى، المياه، التعويضات..) كلها مشكلات تحتاج إلى حل من ضمن استراتيجية عمل استشرافية تضمن حماية الإنجاز الكبير الذي تحقق إلى الآن، ولا تعرضه للتهديد. وبهذا المعنى، فإن انفراد أي طرف، مهما كان دوره في التحرير، في اتخاذ قرار الحرب والسلم في لبنان، أو في تقرير شكل تحقيق الأهداف الوطنية، يصبح بالغ الخطورة. ولا يغير من هذا الأمر واقع الدعم الرسمي اللبناني لهذا الطرف، الذي يغطي استقالة لبنان الرسمي من أداء دوره الوطني على هذا الصعيد. ويزيد من خطورة هذا الواقع، طغيان البعد الإقليمي لمسار التسوية على البعد الوطني اللبناني في تقرير شكل المواجهة في الجنوب، على إيقاع مسار التفاوض على المسار السوري، وخدمة لأهداف هذا الأخير. لقد أعطت هذه السياسة من الناحية البراغماتية نتائج إيجابية في عدد من النقاط، ولكنها تسببت أيضاً بأعطاب بنيوية في الأداء السياسي والإنمائي اللبناني، ونتج عنها تغييب للدور اللبناني المستقل في عملية التسوية. لا بل أبعد من ذلك، جعلت هذه السياسة من سياسة لبنان الخارجية مجرد ملحق للسياسة السورية، وحتى ربط النشاط المقاوم بسوريا، وأدى في بعض المناسبات إلى توتر في علاقات لبنان مع الأمم المتحدة، في وقت لا تبدو فيه قراراته في هذا الشأن صادرة عن إرادته المستقلة، في نظر الدول الأخرى، وفي نظر الأمم المتحدة.
في سياق هذه المعطيات، فإن موقفنا كقوى يسار وكقوى وطنية وديمقراطية، لا بد أن يعطي الأولوية للدعوة إلى بلوغ توافق لبناني على خطة التعامل مع الوضع الناشئ في الجنوب بعد التحرير على قاعدة قيام الدولة بدورها الكامل. كما لا بد من تحديد خطة مواجهة الخطط الإسرائيلية والأميركية للمنطقة وفق تصور متوسط وبعيد المدى يضمن مصالح لبنان الوطنية، المتوافقة مع مصالح حقوق الأطراف العربية الأخرى، ولا سيما حقوق سوريا وحقوق الشعب الفلسطيني. إن مثل هذا التوافق وحده، من شأنه أن يحرر الجنوب والمواجهة مع إسرائيل من منطق التلزيم والإقطاع والتفرد، ويضمن بالفعل لا بالقول، وحدة الموقف الشعبي والرسمي اللبناني، وتعبئة قوى لبنان كله ضد أخطار الاحتلال واحتمالات التسوية، بعيداً عن الشعاراتية وعن التوظيف السياسي والإعلامي الفئوي في الصراع الداخلي والإقليمي.

تصحيح العلاقات اللبنانية - السورية
تنحكم العلاقة بين لبنان وسوريا، كما بين أي بلدين، بجملة معقدة من العوامل تمتد بين توازن القوى والمصالح الآنية، وبين الرؤى والأهداف المستقبلية لكل من البلدين. وتكتسب العلاقات وجودها المتحقق من خلال هذا التجاذب بين ما هي عليه واقعاً بحكم ميزان القوى، وما يجب أن تكون عليه انسجاماً مع الأهداف والرؤى المتوسطة والبعيدة المدى، وبين مصالح النخب والنظم والطبقات المستفيدة، وبين طموحات الشعوب والمصالح الوطنية غير الفئوية. إن دور الفعل السياسي والاجتماعي يتحدد على هذا الصعيد في ممارسة التأثير على هذا المسار بحيث يقلص الهوة تدريجياً بين الواقع والواجب، وبين الفئوي والوطني.
وفي ظروف لبنان تحديداً، وبما يتجاوز الخطاب السياسي المسطح والآني، وحيث يكثر الكلام عن مستويات متقدمة من وحدة الموقف والمسار والمصير بين لبنان وسوريا، أو عن هيمنة وإلحاق، فإن نقطة البداية الأنسب في رأينا تتمثل في ضرورة صياغة فهم مشترك، بالمعنى الحرفي للشراكة، للمصالح العليا للبلدين والعمل بموجبه. وفي أساس هذا الفهم المشترك، تبن صريح من قبل البلدين لخيارات متقاربة في مجال النظرة إلى التنمية باعتبارها قائمة على التكامل العربي، وعلى إشاعة الديمقراطية والإصلاح السياسي وتداول السلطة من خلال الانتخابات الحرة، وعلى صياغة مشتركة للمصالح المباشرة والمتوسطة والبعيدة المدى للبلدين والشعبين في إطار عملية التسوية، وفي إطار مواجهة تحديات العولمة.
فإذا وضع فهم مشترك من هذا النوع، يمكن وضع خطة مشتركة لمواجهة تحديات عملية الصراع العربي الإسرائيلي وعملية التسوية في المنطقة على قاعدة احترام المصالح الوطنية للبلدين. كما يمكن أن يبدأ مسار متدرج لتقليص التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية بين البلدين، ولا سيما لجهة أكلاف الإنتاج، ومستوى الأجور، وحرية انتقال السلع والخدمات والقوى العاملة عبر الحدود، وتقارب مستوى الضمانات الاجتماعية والحماية النقابية للعمالة المهاجرة، وتوحيد مستويات الدعم للزراعة والقطاعات الأخرى، والتكامل في مجالات الأفضليات التنافسية، واستثمار مصادر المياه المشتركة بين البلدين، والتعاون في مجال الطاقة، والبيئة.. الخ.
كل هذه أمور ممكنة، وضرورية من وجهة نظر حزب كحزبنا يتجاوز في رؤيته الحدود الوطنية، إلى البعد القومي العربي، والبعد العالمي والإنساني. ولكن شروط ذلك، التكافؤ في العلاقة، واحترام المصالح الوطنية اللبنانية، وصيانة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحق لبنان والشعب اللبناني، في أن يختار بشكل حر نظامه السياسي، ومؤسساته الدستورية.
إن النمط الحالي من العلاقات اللبنانية - السورية لا تتوفر فيه المواصفات المشار إليها نظرياً. وما يغلب عليها كأمر واقع هو طابع الانتفاع السياسي والاقتصادي على حساب لبنان، الذي تفرض عليه خيارات لا تتناسب مع خياراته الحقيقية ولا مع مصالحه الوطنية. ويولد ذلك الكثير من الاحتقانات، ومن الأحقاد في قاعدة المجتمع، تنتظر أي فرصة لتتفجر بشكل لا يخلو من العنصرية التي نرفضها كل الرفض. ولكننا نؤشر إلى عناصر تكونها الموضوعي.
وفي الوقت الذي تزداد فيه الحاجة إلى أن تتولى المؤسسات الدستورية اللبنانية التعبير عن المصالح الوطنية اللبنانية، والتنسيق عن قناعة مع الموقف السوري، نرى قصوراً في هذا الجانب، مرده إلى تسليم السلطة اللبنانية من جهة بشكل اتكالي إلى سوريا واستقالتها من مهامها، وخوف وخشية الطرف السوري من فقدان السيطرة من جهة أخرى، ما يفرض نوعاً من الإملاء والمصادرة.
لقد أظهرت التطورات الأخيرة أن تصحيح العلاقات اللبنانية السورية هي من الأولويات السياسية الضاغطة على الصعيد الشعبي، والإعلامي، وداخل المؤسسات الدستورية. نظراً لحجم تأثيرها السلبي على كل مستويات الواقع اللبناني: الوطني - السياسي - الاقتصادي الاجتماعي. إن تجاهل هذا الواقع ومحاولة قمع التعبير الحر عن الآراء في هذا المجال، من قبل سوريا وبعض السلطة، من شأنه أن يزيد من الاحتقان السياسي والشعبي، وأن يشجع الطروحات المتطرفة على كل الصعد، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى معالجة متقدمة وعقلانية في آن لهذه المسألة.
إن اليسار اللبناني مطالب على هذا الصعيد بموقف متميز للجمع بين الطرح المتقدم والعقلاني في آن. ويتطلب ذلك صياغة موقف على الأسس التالية:
• حق الشعب اللبناني بكل فئاته وتشكلاته السياسية والاجتماعية في إبداء الرأي في هذه المسألة التي تطال كل مجالات الحياة المجتمعية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والشخصية.
• إن السلطة اللبنانية، ولا سيما مؤسسات الحكم الدستورية، تدين بسلطتها إلى الدعم السوري المباشر، وبالتالي هي ليست محاوراً صالحاً لسوريا فيما يتعلق بالعلاقة بين البلدين. كما عدم تنظيم حوار داخلي سابق وهادئ في هذا الموضوع الوطني، يجعل السلطة اللبنانية غير مزودة بالمواقف الحقيقية للبنانيين بمختلف اتجاهاتهم، لتعبر باسمهم عن هذا الموقف. بناء عليه، يتمثل مدخل معالجة هذا الموضوع في إطلاق حوار وطني بين اللبنانيين فيما يختص بالعلاقة بين لبنان وسوريا، وبلورة خطوط عامة لتوافق وطني لبناني في هذا الموضوع، يليه إطلاق الحوار مع سوريا حول المضامين والآليات المناسبة والهادئة والدستورية لتصحيح هذه العلاقات بما يضمن مصالح البلدين.
• إن العلاقات الاستراتيجية السورية - اللبنانية تتطلب أن يكون لبنان حاضراً دوماً لنصرة سوريا في الصراع العربي - الإسرائيلي كما في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة تعبر عن حقوقه الوطنية والتاريخية المشروعة. ولقد لعب لبنان دوراً بالغ الأهمية في مقاومته للاحتلال الإسرائيلي ولمشاريعه في لبنان بالتحالف مع سوريا وكانت مثالاً عملياً لعلاقات الشراكة والتحالف بين بلدين عربيين. ويستطيع لبنان ويجب عليه أن يكون متفهماً ومتجاوباً مع كل المتطلبات العسكرية الاستراتيجية السورية فيما يخص الصراع مع العدو المشترك. إلا أن هذا لا يجب أن يكون على حساب حق لبنان في أن يكون دولة مستقلة سيدة على أراضيها، وحقه في اختيار نظامه السياسي ومؤسساته الدستورية المستقلة وانتخاباته الحرة الممثلة لشعبه وقواه تمثيلاً صحيحاً.
• إن هذه العملية الشراكة الاستراتيجية يجب أن تتم بين بلدين مستقلين سيدين متوافقين على المصالح المشتركة بين شعبين. وهذا يتطلب احترام اتفاق الطائف كوثيقة وفاق وطني وتطبيقها تطبيقاً أميناً وصريحاً ما يستدعي إعادة انتشار للقوات السورية على أساس نص اتفاق الطائف ثم التفاهم على هذا الانتشار بين البلدين على أساس متطلبات الصراع المشترك مع إسرائيل دون أن يكون له مفاعيل على السيادة والتدخل المباشر وغير المباشر في الشؤون الداخلية اللبنانية. ففي حين نرى أننا ملزمون وراغبون بمراعاة المصالح الاستراتيجية لسوريا في صراعها مع إسرائيل بما فيها وجودها العسكري الذي يخدم هذا الهدف، فنحن نرى كذلك أن سوريا غلبت حتى اللحظة مصالح انتفاعها السياسي والاقتصادي في لبنان، وعملت على إيجاد آليات سيطرة محكمة على الحياة السياسية اللبنانية الداخلية، ما أوجد مناخاً متوتراً بين البلدين عنوانه الاستقلال والسيادة ورفض الهيمنة.
• مراجعة كل الاتفاقات الاقتصادية واتفاقيات التعاون بين لبنان وسوريا وتثبيت الصالح منها، وتعديل الواجب تعديله بما يصون المصالح الوطنية اللبنانية. أن المآخذ على الاتفاقات المعقودة تعود في قسم منها إلى عدم وجود الشفافية الكافية في معرفة مضمون هذه الاتفاقات، كما تعود إلى المشكلة الأصلية الكامنة في علاقة التبعية القائمة بين السلطتين لصالح سوريا. بالإضافة إلى الملاحظات الفنية التي أبداها عدد من الخبراء. إن حل هذا الموضوع يكون بقيام الطرف اللبناني بمراجعة متأنية لهذه الاتفاقيات، مراجعة تشترك فيها الهيئات الاقتصادية والنقابية المعنية، والخبراء، والقوى السياسية، ليصار في ضوئها إلى وضع أفضل صيغ التكامل بين البلدين في مختلف المجالات، وضمن رؤية تنموية مستقبلية مشتركة.
• حق لبنان في أن تكون له سياسته الوطنية فيما يتعلق بالتسوية مع إسرائيل، وفيما يتعلق بالوضع في الجنوب، وكيفية التعامل معه. وهذه السياسة في اعتقادنا، تؤكد التنسيق والتكامل مع سوريا وسياستها في استعادة حقوقها الوطنية، وعلى أساس دعمها دعماً قوياً وفعالاً في مواجهة شروط إسرائيل وأميركا. إن ذلك لا يتعارض في رأينا مع وضع سياسة وطنية لبنانية في إطار التنسيق هذا، وسياسة الغياب والتغييب الحالية في هذا المجال، غير مقبولة وغير قابلة للاستمرار. إن التنسيق مع سوريا في مجال السياسة الخارجية هو حالياً مزيج من الالتحاق والتقية والمسايرة والقبول على مضض يغير القناعات الحقيقية. وما ندعو إليه، هو بلورة موقف وطني لبناني، حقيقي من موضوع التسوية، والتنسيق مع سوريا والتكامل معها انطلاقاً من متطلبات المصلحة الوطنية، والواقعية السياسية، والإقتناع الحقيقي بوحدة المصالح في المدى الأبعد.
إن اليسار مطالب على هذا الصعيد أن يكون في صلب حركة سياسية لبنانية، ديمقراطية متقدمة في طروحاتها، قادرة على توسيع قاعدتها الجماهيرية، تخرج حركة التململ هذه من مأزق الانتظار بحجة الواقعية، والأصح من ذلك قوة الأمر الواقع. ومأزق الانفعال المدمر المتشح بالتعصب وكره الأجانب. إن المنطق السائد حالياً يبقي مسألة العلاقات اللبنانية السورية أسيرة منطقها الراهن المغلق، الذي يعيد إنتاجها باستمرار دون التكيف مع التغيرات، والذي يعيد إنتاج النخب الحاكمة نفسها في لبنان، وهذه الأخيرة ترفض بدورها أي تصحيح لهذه العلاقات. إن مصير الدوائر المغلقة على نفسها، هو الاستمرار دون تغيير حتى انهيارها النهائي دفعة واحدة. إن الإصرار على إبقاء العلاقات اللبنانية السورية في صيغتها الراهنة دون تصحيح، هو خيار مدمر، وشديد الكلفة للبلدين مهما كان لباسه الخارجي بديهياً ومريحاً لأصحابه والمستفيدين منه.

اتفاق الطائف وضرورات الإصلاح
إن الطائف الذي يشكل عنوان المرحلة الحالية والإطار الأكثر أهمية في العمل السياسي، وهو في الحقيقة طائفان:
- الأول، هو أقرب إلى النص، وإلى ما كان في لحظة من اللحظات احتمالاً لحوار داخلي ينتج وفاقاً لبنانياً.
- والثاني، وهو صيغة النظام والممارسة السياسية الراهنة، بما هما نظام وصيغة يعيدان إنتاج الالتحاق بالخارج، وعناصر التأزم والانقسام والتفكك والحرب في لبنان.
وبدل أن يتحول الطائف إلى مسار متحرك للحوار الداخلي يولد دينامية وطنية للتغيير والتقدم، نجحت موازين القوى في لحظة تكوين الاتفاق ووضعه موضع التنفيذ العملي، ولاحقاً بعد حرب الخليج والتفويض العربي والأميركي لسوريا، في قتل هذا الاحتمال، وحولت موازين اللحظة إلى مؤسسات دائمة وبنى عديمة المرونة، تخنق كل احتمال للحركة، وتفرض نفسها بالقوة على الواقع المتحول. إن نظام الطائف ومؤسساته وممارساته، قد أعاد إنتاج الوضعية نفسها التي كانت بين الأسباب الرئيسية للحرب، وهي جمود مؤسسات الدولة وغربتها عن المجتمع، وقصورها عن التكيف مع التغيير في قاعدة المجتمع بشكل ديمقراطي. ونظام الطائف هو في الوضعية نفسها الآن، مع استناد أكبر إلى الدعم الإقليمي، وسعي أكثر عنفاً لتكييف المجتمع والواقع لينسجم بالقوة مع المصالح السياسية الفئوية المؤسسة خلافاً للقانون ولمصالح الناس.
إن نظام الطائف هو مأسسة لمجموعة من المصالح الفئوية الداخلية والإقليمية، ومحاولة لتأبيدها في نظام سياسي مغلف بخطاب إيديولوجي هجين وديماغوجي. وهو بهذه الصفة اغتيال لمستقبل لبنان.
إن تجاوز نظام الطائف يصبح المهمة الرئيسية أمام اللبنانيين الطامحين إلى مستقبل أفضل. وتجاوز نظام الطائف ليس دعوة إلى نزاع تناحري في البلاد، بل هو مسار تجاوز الأزمة وترسيخ السلم الأهلي نفسه من خلال حوار وطني موصل إلى مصالحة وطنية حقيقية وتوافق على الخطوط العامة لصيغة جديدة لميثاق وطني لبناني قابل للحياة. إن نظام الطائف المتحقق لا يستمر إلاّ على قاعدة تعطيل الحوار الداخلي، وإعادة إنتاج عوامل الانقسام والتفكك. والخيار البديل، هو بالضرورة خيار تنسجم فيه الغايات مع الوسائل، ويقوم على مسار نقيض من الحوار والتفاعل والتوحد الوطني والاجتماعي.

الإصلاح السياسي والإداري، الديمقراطية، الطائفية
تقديم
تندرج تحت هذا العنوان مجموعة من المسائل البالغة الأهمية المتصلة بتطوير النظام السياسي في لبنان، وإصلاح نظام الحكم ومؤسسات الدولة. ونرى أن عملية الإصلاح على هذا الصعيد لا بد أن تنحكم بشكل واضح وحاسم بجملة من المبادئ والأسس تتيح التقدم على طريق بناء دولة ديمقراطية مدنية وعصرية، ووقف الاتجاه المخابراتي الأخذ في النمو في لبنان، واحترام مبدأ سيادة القانون واستقلالية القضاء، وإصلاح قانون الانتخاب، ومعالجة المسألة الطائفية، وضمان حقوق الإنسان، وصيانة الحريات العامة. كما يتطلب ذلك تحقيق الإصلاح الإداري بالمعنى السياسي، ولا سيما تعزيز تعطيل وظيفة الريع السياسي للدولة وأجهزتها ؛ بالإضافة إلى اعتماد اللامركزية وتعزيز القدرات البشرية والمؤسسية والمادية للبلديات (والمجالس المحلية)، وتوفير متطلبات الإدارة العصرية.
إن طرحنا لهذه المسائل كلها لا يفترض أن يبقى في إطار العموميات، ولا أن يقتصر على تكرار الخطابات الإيديولوجية المتعددة التي سادت سابقاً، والوقوع مجدداً في الشعاراتية. إن تجربة الحرب بكل قساوتها، ومآل محاولات الإصلاح، الجادة منها والاستعراضية، تشكل تجربة غنية جداً لا بد أن نستفيد من دروسها ونحن نتناول مسألة الإصلاح السياسي والإداري اليوم. وعلى قاعدة هذا الخلفية، نقدم إسهامنا هذا باعتباره مساهمة في حوار وطني عام مطلوب، أكثر مما نقدمه باعتباره حلولاً جاهزة ندعو الجميع إلى تبنيها. ونحن نحدد هذه المساهمة بكونها مساهمة من موقع وطني علماني ديمقراطي.
إن الإصلاح ضروري، ولا بديل عنه، على أسس ديمقراطية سلمية لاعنفية، ومستندة إلى ميزان قوى داخلي وثقافة تسامح وتسوية مع مصالح الآخر.
إن هذه الدروس المستخلصة من تجربة الحرب، هي صحيحة أيضاً في جوهرها في مرحلة الطائف في التسعينات، حيث أن عناصر التأزم السياسي تستمر، وضرورات الإصلاح تقرع الباب بإلحاح أشد، كلما تقدمت الأيام بنظام الطائف، نظام الترويكا والمحاصصة الطائفية وتفشي المذهبية والهدر والشخصانية والتبعية كسمة منطقية وأساسية لهذا النظام في بنيته وفي تحققه.

الإصلاح السياسي: في معنى الديمقراطية السياسية
كي نتلافى الإطالة والتكرار، نقتصر هنا على عرض العناوين الموجزة لما نعتبره محاور الإصلاح السياسي الديمقراطي في لبنان. فالديمقراطية السياسية، أو الديمقراطية في النظام السياسي تعني بالنسبة إلينا النقاط التالية:
1- أن تكون شرعية السلطة في البلاد مستمدة من قاعدة داخلية عريضة، لا أن تكون مستمدة من مصادر خارجية. وبالتالي أن تكون هذه السلطة قابلة للمساءلة أمام الشعب اللبناني، وأن يكون اللبنانيون عبر مؤسساتهم المختلفة وأحزابهم وأشكال انتظامهم المتعددة، مؤثرين في تكوينها، وفي سياساتها، وفي استبدالها.
2- وضع قانون عصري وديمقراطي للتمثيل النيابي، يتضمن خلاصة المبادئ المتوافق عليها لتأمين التمثيل الصحيح المنسجم مع واقع التشكل السياسي والاجتماعي اللبناني من جهة، والذي يفتح المجال أمام تطوير الحياة السياسية على أسس تتجاوز العصبيات الضيقة. ومن هذا المبادئ نقترح اعتماد نظام مركب بين النسبية والدائرة الفردية، وخفض سن الاقتراع إلى 18 سنة، ووضع سقف للنفقات الانتخابية، وضمان حق المرشحين المتكافئ في استخدام الإعلام الرسمي وغير الرسمي، وإشراف هيئة قضائية مستقلة على الانتخابات، واعتماد البطاقة الانتخابية المقرونة بالاقتراع في مكان السكن.. الخ.
3- ضمان استقلال القضاء وتحصينه إزاء السلطة السياسية التنفيذية والتشريعية، واعتماد مبدأ انتخاب القضاة للهيئات القضائية العليا بدل التعيين.
4- الالتزام بمبدأ سيادة القانون باعتباره الضامن لحماية المواطنين من تعسف السلطة وليس العكس، وباعتبار هذا المبدأ يجسد أولوية النص الدستوري والقانوني وإلزاميته وتفوقه على النص السياسي.
5- الالتزام الفعلي بحقوق الإنسان، ولا سيما حق المواطن في التعبير والتجمع والانتظام في أحزاب ونقابات، واحترام حرمة المراسلات والاتصالات والتنقل، واحترام الأصول القانونية في كل ما يتعلق بالإدعاء ضد الأفراد وتوقيفهم واستدعائهم أمام القضاء.
6- احترام حق الجمعيات في التأسيس بحرية، وتطبيق نظام العلم والخبر بشكل سليم يحرر الجمعيات من رقابة الأجهزة الأمنية غير المبررة، واحترام استقلاليتها وضمانها بالقانون والممارسة.
7- تفعيل كل الهيئات المثلثة التمثل المشكل بموجب القانون، من المجلس الاقتصادي الاجتماعي، ومجلس إدارة الضمان الاجتماعي، ومجلس الجامعة، واللجان المشتركة بين القطاعات الحكومي والخاص والأهلي في مختلف المجالات والمشروعات، بحيث تصبح هذه الهيئات صاحبة قرار فعلي معبر عن محصلة الحوار بين الأطراف المكونة. وتعميم هذه الصيغة من المشاركة في المؤسسات والقطاعات التي لم تعتمدها بعد.

في الإصلاح الإداري
نبدأ أولاً من توضيح الجوهر السياسي للإصلاح الإداري. فالدولة الحديثة من حيث هي تعبير بعيد المدى عن المصالح الكلية للتحالف السياسي - الاجتماعي المسيطر تتصف بالسمات التالية:
• أنها تعبر إجمالاً عن المصالح المندمجة للتحالف الحاكم، وليس بالضرورة عن كل المصالح التفصيلية والفئوية للأطراف المكونة لهذا التحالف.
• أنها تتمتع بهامش من الاستقلال النسبي بحيث تبدو (حسب التعبير الماركسي) فوق الصراع الطبقي مع الطبقات المحكومة، وفوق الصراع بين أطراف التحالف الحاكم نفسه.
• أنها، من حيث هي جهاز، لا بد أن تكون متسقة في بنيتها وأدائها بالحد الأدنى الضروري لضمان المصالح الكلية للتحالف الحاكم. وبهذا المعنى هي تخضع لأصول وقواعد، وتشكل وحدة متكاملة، ولا يمكن أن تكون أجزاء متنافرة كل جزء منها هو أداة سياسية وإدارية مملوكة من أقطاب النظام والقيادات المحلية.
ولكن ماذا عن التجربة اللبنانية على هذا الصعيد؟
إن الدولة اللبنانية تتميز بمخالفتها المزمنة والمستمرة لهذا القواعد، بنسب متفاوتة، ولا سيما في المرحلة الراهنة. فلا هي تعبير عن المصالح المندمجة للتحالف القائم، إذ ما يقوم حالياً بين أطراف هذا التحالف هو تراصف أو تجاور وتقاسم في المنافع ذو طابع انتقالي مؤقت ومتفجر كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وما يضمن استمرار التحالف ليس تدامج المصالح والرؤى المتوسطة والبعيدة المدى، بقدر ما هو التساند المتبادل الراهن والضغط الإقليمي.
ولا تتصرف الدولة في لبنان على أساس هامش استقلالها النسبي عن مصالح الأطراف، بل هي تمعن في التصرف كأنها طرف مباشر في الصراع، بما في ذلك الصراعات الثانوية والتفصيلية، وكأن الدولة ملكية شخصية لمن هم في مواقع السلطة.
أبعد من ذلك، أن ما يميز التجربة اللبنانية في بناء الدولة، والتي عبر عنها استخدام مفهوم الإقطاع السياسي، أو تعبير الدولة - المزرعة الشائع الاستخدام، هو عكس هذه المبادئ المشار إليها تماماً، بما في ذلك تقاسم أجهزة الدولة نفسها بين أقطاب السلطة. وهذه كلها من مظاهر تخلف بنية الدولة، واحد مرتكزات التناقض الداخلي بين بنيتها ومضمون الأدوار الواقعية التي تقوم بها من جهة، وبين الشكل الحديث والقانوني لهذه الدولة، المتسق موضوعياً مع وظيفة الدولة كتعبير عام وبعيد المدى، وأكثر تعقيداً، عن المصالح الطبقية والاجتماعية، وعن محصلات الصراع الاجتماعي العامة من جهة أخرى.
إن الجوهر السياسي للإصلاح الإداري يكمن بالضبط في تقليص دور الدولة من حيث هي جهاز وإدارة، في إعادة إنتاج السلطة السياسية ككل، وكأجزاء، الحؤول دون استخدام الدولة - الجهاز كأداة للريع السياسي وتقديم الخدمات للمحاسيب، بما يجعلها الأداة الأكثر أهمية لإنتاج الزعامة التقليدية، ولإعادة إنتاج النخب الحاكمة نفسها. وهذه الفكرة بدورها تستند إلى الفهم المعاصر للتمييز بين السياسي والإداري في الدولة وفي الحكم والحكومة، وهو من أركان مفهوم الدولة الحديثة. وهذا الفهم غائب إلى حد بعيد في الممارسة السياسية في لبنان، وهو ما يفترض أن يشكل لب عملية الإصلاح الإداري.
وعلى هذا الأساس فإن إصلاح النظام الانتخابي، وتطوير العمل السياسي الحزبي بمفهومه العصري، وبناء الدولة المدنية على أساس سيادة القانون واستقلال القضاء، هي الممهدات المرتكزات للإصلاح الإداري بمعناه المباشر. إذ أنها تشكل الشروط الضرورية لإطلاق عملية الإضعاف المتدرج لوظيفة الريع السياسي الذي تؤديه الإدارة وجهاز الدولة.
وفي البنود الفرعية للإصلاح الإداري بمعناه المباشر، يمكن طرح الأسس التالية:
- إعطاء أولوية لإلغاء طائفية الوظيفة وحصر الاستخدام بالمباراة العامة وعلى أساس الكفاءة. ويمكن التدرج في تحقيق ذلك بالالتزام بما جاء في اتفاق الطائف حيث يعني ذلك الالتزام العملي منذ الآن بهذا المبدأ، باستثناء المدراء العامين، على أن يتعمم المبدأ على الجميع تدريجياً، وخلال مهل زمنية محددة. إن مسألة إلغاء طائفية الوظيفة لا بد أن تحتل مكاناً متقدماً في النشاط العملي، نظراً لأهميتها العملية المباشرة وفي المدى الأبعد في إصلاح النظام، وتجاوز الطائفية.
- وضع تصميم خاص للامركزية إدارية فعالة تسهم في تحقيق الإنماء الشامل، وردم التفاوت القائم حالياً بين المناطق. ولا بد لهذا التصميم أن يلحظ كيف لا تؤدي هذه اللامركزية إلى المزيد من التباعد والتفاوت المناطقي، كونها تأتي في ظل نظام سياسي واجتماعي يقوم على الطائفية والولاءات المناطقية والعائلية. وبالتالي، فإن تعزيز اللامركزية، وأدواتها من بلديات ومجالس أقضية ومحافظات، لا بد أن تساند المسار العام للإصلاح السياسي لبناء دولة مدنية وعصرية وديمقراطية، وأن تشكل القاعدة المادية الصلبة لهذا التحول على الصعيد المحلي. إن ذلك يتطلب إصلاح نظام البلديات، بإخراجها أولاً من وصاية وزارة الداخلية، وبتقصير دورة الانتخابات البلدية إلى ثلاث أو أربع سنوات، وبتعزيز قدرات البلديات على التحول إلى أداة للتنمية المحلية. كما لا بد من اعتماد أسس علمية وديمقراطية في إنشاء مجالس الأقضية، وضمان طابعها التمثيلي الصحيح، وعلى أساس الشراكة مع هيئات المجتمع المدني ضمن النطاق المعين.
- المستوى الثالث للإصلاح الإداري يتعلق بالجوانب التقنية إن صح التعبير، مثل ضرورة التحديث والمكننة، وتبسيط المعاملات والتشريعات الإدارية، وتمديد دوام العمل الرسمي، وتحسين مستوى معيشة الموظفين بزيادة الرواتب والتقديمات الاجتماعية، والتشدد في الرقابة على فعالية عملهم، مع ضمان حق التنظيم النقابي للعاملين في القطاع العام كآلية انتظام صحية من داخل الإدارة بديلة للولاء للزعامة السياسية خارج الإدارة، وكوسيلة تحصين ضد الفساد.
- أخيراً، لا بد من التنبه بشكل خاص لمسألة الفساد والهدر المستشري في الإدارة. وفي هذا الصدد، لا بد من التنبيه من حصر الإصلاح الإداري بمكافحة الفساد والرشوة.. الخ. فهذه المظاهر على أهميتها، لا تطال جوهر الخلل البنيوي في عمل الإدارة في لبنان. إن مكافحة الفساد والهدر لا بد أن تذهب أبعد من ملاحقة صغار المرتشين في الإدارة، لا بل أبعد من ملاحقة كبار المسؤولين أيضاً. إن الإصلاح لا بد أن يطال بالدرجة الأولى إعادة النظر في نظام توزيع المنافع المعمم في الإدارة اللبنانية، والذي يشكل المصدر الأساسي للهدر، سواء كان هناك سرقات بالمعنى الحرفي للكلمة، أم لم يكن. إن نظام توزيع المنافع هذا، وهو الأساس المولد للهدر المستمر، والأساس الذي يغطي ويحمي ويبرر الاختلاسات والصفقات والفساد بمعناه الضيق في الإدارة اللبنانية.

في المسألة الطائفية
تشكل الطائفية إحدى أبرز الظاهرات الاجتماعية والسياسية في لبنان المعاصر، وأكثرها خطورة وأثراً على تطوره. فالطائفية اليوم قائمة في كتب التاريخ، في التعليم، في علاقات الناس ووعيهم البسيط، في النظام السياسي والإداري بكل تفاصيله، في إعلام الزعماء وممارستهم، وفي ميادين عديدة أخرى. كما أن للطائفية أساساً تاريخياً حاضراً في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وفي الوعي الشعبي.
وإذا كانت الطائفية ظاهرة بهذه الأهمية، فبديهي ونحن نتعامل معها، أن لا نقع في فخ البديهيات والتبسيط، وأن نطور منظومة تحليل ومنظومة عمل تتعامل بفعالية مع مستوياتها المختلفة، وتسمح لنا بتجاوزها إلى بناء دولة ومجتمع مدنيين. وبالتالي علينا تجنب الوقوع في المقاربة الجزئية أو الشعاراتية للظاهرة الطائفية، خصوصاً وقد تبين مدى قصورها من خلال تجربة الحرب الأهلية، وعهد ما بعد الطائف.
وثمة انحرافان أساسيان في مقاربة الطائفية يهددان الفهم والعمل على حد سواء، وهما التاليان:
• الانحراف الأول، هو المبالغة في أهمية الطائفية في تاريخ لبنان وحاضره ومستقبله، إلى درجة اعتبارها جوهر وجود لبنان ورسالته (كما في الفكر اليميني الطائفي المتطرف)، أو اعتبار الطائفية في المقابل علة العلل في النظام، بحيث يصبح التخلص من الطائفية هو الحل الشافي لكل مشاكل لبنان (كما في بعض المبالغات في الخطاب اليساري أو القومي أو الشعبوي). ففي مقاربة من هذا النوع، يجري عزل الطائفية عن أساسها المادي التاريخي، لتصبح جوهراً متعالياً، فيه كل الخير أو كل شر. وهو ما يضفي على الطائفية هالة من الغموض، ومسحة من الإطلاق بحيث يعطل ذلك إمكانيات الفعل السياسي لتجاوزها، ويضع الحركة السياسية أمام خيارات القبول المطلق، أو الرفض المطلق، باعتبارها خيارات تتخذ دفعة واحدة، ويجعل من خيار تجاوز الطائفية خياراً غير قابل للتحقق إلا بصفته إلغاء يتم دفعة واحدة بانقلاب تغييري حاسم. كما أن من مفاعيل هذه المقاربة، أنها تعطل فهم الآليات الواقعية لعمل النظام السياسي، وحركة الصراعات الطبقية والسياسية، لأن تفسير كل شيء، أساسياً كان أم ثانوياً، يحال إلى الطائفية كمبدأ مفسر شبه وحيد للمسار المتعرج والمتحقق تاريخياً لحركة التناقضات والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
• الانحراف الثاني، يتمثل في اجتزاء الظاهرة الطائفية عن باقي مكونات عملية الإصلاح السياسي، وفي اختزالها في الفهم أو الممارسة العملية في الطائفية السياسية. وما من شك أن الطائفية السياسية هي العقدة الأكثر أهمية في الإصلاح السياسي، ولكن لا يمكن إهمال الأبعاد والمستويات الأخرى في الظاهرة الطائفية في المجتمع وفي الوعي وفي السلوك العملي للبنانيين. وإذا كان ممكناً من الناحية النظرية على الأقل التحدث عن إلغاء الطائفية السياسية (ولو المتدرج)، فإن تعبير الإلغاء لا يصح إطلاقاً عندما يتعلق الأمر بالوعي والسلوك والتشكل الاجتماعي. وبالتالي، فإن اجتزاء النظرة إلى الطائفية واختزالها في الطائفية السياسية، يحمل معه أيضاً خطر التعامل الإرادوي والإداري مع حالة في الوعي وفي المجتمع، وهو ما مصيره الفشل الأكيد. كما أن الوجه الآخر لهذا الاجتزاء يتمثل في التوهم بإمكانية إلغاء الطائفية السياسية بمعزل عن مستوى نضج تجاوز الطائفية في قاعدة المجتمع. أي بكلام آخر، هل يمكن لأي طرف سياسي أن يطرح شعار إلغاء الطائفية السياسية بمعزل عن تبنيه خياراً عملياً ممارساً بالعمل على تجاوز الطائفية في المجتمع، وفي الدولة، باتجاه الصيغة المدنية غير الملتبسة؟ ونحن نميل إلى ترجيح عدم إمكانية ذلك، وهو ما يقودنا بالضرورة، في ممارسة نشاطنا السياسي والاجتماعي، لكي نضع خطة عمل شاملة لكل مستويات الظاهرة الطائفية، والابتعاد عن تكرار التجربة السابقة التي انطلقت من مقدمات صحيحة، لتتجمد في الشعار، وتنفصل عن مواكبة الحياة، وبالتالي تفقد فعاليتها، أو تجري مصادرة شعار إلغاء الطائفية من قبل الطائفيين أنفسهم.
إننا باختصار من دعاة إسقاط هالة الغموض والشمولية عن الظاهرة الطائفية، ورؤية مستوياتها المختلفة، وتفكيكها إلى عناصرها المكونة: إن الطائفية ليست مبدأ متعالياً مفسراً لتاريخ لبنان وحاضره، بل هي ظاهرة تحتاج هي نفسها إلى تفسير في ضوء هذا التاريخ، وبهدف واضح هو تجاوز الطائفية إلى حالة أرقى.
إن مستويات الطائفية المقصودة بالتناول في هذا النص هي، على الأقل، المستويات التالية:
• الطائفية في المجتمع، وهو المستوى الذي ينظر في أساس الطائفية الكامن في النسيج الاجتماعي والعلاقات التقليدية. فالطائفية لا تستمد عناصر بقائها من وظائفها السياسية وحسب، أو قل أن الأساس الاجتماعي المادي الذي أتاح للطائفية أن تؤدي هذه الوظائف السياسية الراهنة، إنما تعود إلى استمرار وجود وفعالية الأشكال التقليدية للانتظام الاجتماعي المتمحور حول ثنائية العائلي - المناطقي. وحقيقة الأمر، أن الكثير من أسرار الطائفية واستمرارها عبر الزمن، يصبح قابلاً للفهم والعلاج إذا نظر إليه من منظور استمرارية التشكلات التقليدية التي تعتبر بمعنى ما بمثابة البناء التحتي للطائفية، التي هي بمثابة البناء الفوقي والتأطير الإيديولوجي لهذا الانتظام الاجتماعي التقليدي، وقناة انتظامه في التشكل السياسي الأوسع للنظام اللبناني.
• الطائفية السياسية بتجلياتها في نظام التمثيل السياسي، وتشكل مؤسسات الحكم، وفي الإدارة والتوظيف، وفي علاقات الاستقطاب السياسي التقليدي. ولكن هنا أيضاً علينا التنبه إلى تمازج البعد الطائفي في العلاقات والنظام السياسيين، بالبعد العائلي والمناطقي، إذ حتى الطائفية السياسية لا توجد نقية بمعزل عن هذين البعدين. وحقيقة الأمر، أنه من وجهة نظر التاريخ السياسي الحديث للبنان، فإن ما يميزه حقاً هو توارث عدد محدد من العائلات السياسية السلطة في لبنان خلال القرنين الماضيين. وبهذا المعنى، فإن مادة الخلل الأساسية في النظام السياسي اللبناني، خصوصاً في مرحلة ما قبل الطائف، كانت تتمثل في توارث السلطة ضمن العائلات السياسية ذات النفوذ، والطائفية هنا تلعب دور الإيديولوجيا السياسية للنظام التي تسمح بتحالف ممثلي هذه العائلات، أكثر مما هي مصدر سلطتهم، لا بل أن نفوذ هذه العائلات هو مصدر قوة الطائفية السياسية. والواقع يشير إلى أنه غالباً ما يكون رجال الدين من الطوائف المختلفة في خدمة زعمائها السياسيين المدنيين الأقوياء، وإن دورهم لا يتنامى إلاّ عندما يضعف نفوذ الزعامات التقليدية، حيث يبرز البعد الطائفي البحث في الطائفية السياسية بقوة أكبر، وحيث يشكل الاستقطاب الطائفي المباشر، والالتفاف حول رجال الدين، صمام الأمان للتماسك الداخلي في النظام السياسي، والمخرج الممكن بانتظار استعادة الفعالية السياسية من خلال القيادات المدنية. وكما في العلاقات السياسية بشكل عام، كذلك في الدولة وأجهزتها، حيث أن الدولة تلعب دوراً متزايداً في إنتاج الطائفية وإعادة إنتاجها الموسعة، في الزمن الراهن بشكل خاص. إن القول بأن الدولة هي أساس تشكيل الطائفية السياسية، أكثر صحة من القول بأن الطوائف هي في أساس تشكيل الدولة.
• مستوى الوعي الشعبي والثقافة السياسية، وهنا لا يمكن تلافي البحث في علاقة الوعي الطائفي بالوعي الديني، وآليات الانتقال من الأول إلى الثاني وبالعكس. وهذا الترابط يعطي للطائفية الاجتماعية والسياسية بعداً ثقافياً يرسخ من حضورها في الحياة السياسية والاجتماعية باعتبارها أمراً طبيعياً. وينسحب ذلك على الثقافة السياسية السائدة، التي تروج لقبول فكرة أن تكون الطوائف هي الأدوات الأكثر أهمية للتمثيل السياسي، ولممارسة السياسة في مؤسسات الدولة وفي الشارع. وفي المقابل تبدو الأشكال العصرية من العمل السياسي، والحزبية منها بشكل خاص، وكأنها أمر دخيل على السياسة اللبنانية، إلا عندما يكون الحزب صيغة أخرى للاستقطاب التقليدي الفردي، أو العائلي، أو الطائفي.
• مستوى السلوك اليومي والبعد الوظيفي للطائفية لجهة دورها كإطار يساهم في توفير الخدمات الحياتية اليومية. فالطائفية بهذا المعنى هي شبكة القنوات والآليات التي يستخدمها المواطن يومياً في حياته العادية. فالتشريع جعل المحاكم الشرعية للطوائف مسؤولة عن كل تفاصيل حياته الشخصية؛ والتمثيل السياسي يتم على أساس طائفي؛ والتوظيف في الإدارة أو حتى في القطاع الخاص أحياناً كثيرة يخضع للمعيار والقنوات الطائفية؛ والحصول على خدمات تعليمية أو صحية يتم من خلال الأطر الطائفية.. وبهذا المعنى، فإن المواطن مجبر في الكثير من مجالات حياته على أن يسلك سلوكاً طائفياً، أي أن يستخدم القنوات الطائفية، وإن كان يحمل قناعات مغايرة. وهذه الطائفية السلوكية، هي في مضمونها نوع من البراغماتية والسعي إلى الحلول العملية للمشاكل اليومية، أكثر من كونها في الأصل وعياً طائفياً. وبالتالي، لا بد من التنبه لهذا البعد الهام جداً، وهو أن الطائفية مفيدة من الناحية العملانية في روتين الحياة اليومية، وبالتالي هي تؤدي وظيفة مفيدة وتسد حاجات أساسية للمواطن. وبهذا المعنى، لا يمكن إلغاء الطائفية بدون إلغاء وظائفها هذه. إن مساحة الطائفية في حياة المواطن تتقلص بمقدار ما تتقلص وظائفها، وبمقدار ما تتسع مساحة الحيز المدني وقدرته على التحول إلى أقنية وآليات مستخدمة في الحياة اليومية للمواطن، لتلبية احتياجاته. وهذا ما يدفعنا إلى التركيز على وظيفة أساسية على الدولة ومؤسساتها أن تلعبها في لبنان، وهي أن تكون مساحة التفاعل الوطني المدني، وإحدى الآليات الأكثر أهمية في تحقيق الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية، بما يتجاوز الحالة الطائفية.
في ضوء ما تقدم، ومن وجهة نظر الفعالية السياسية الهادفة إلى تحقيق تغيير حقيقي باتجاه بناء الدولة المدنية، ونشر الوعي الديمقراطي والعلماني، نقترح الأسس التالية في توجيه النشاط السياسي الهادف إلى تجاوز الطائفية في المجتمع وفي النظام السياسي في آن. وهذه المبادئ هي:
• عدم فصل مسألة تجاوز الطائفية السياسية (أو إلغائها حسب التعبير الذي لا يزال متداولاً) عن مسار الإصلاح السياسي للنظام. وبشكل ملموس، نقترح أن لا يجري وضع برنامج عمل مستقل تحت عنوان "إلغاء" الطائفية السياسية، بل أن يأتي علاج المسألة الطائفية من ضمن خطة عمل لتحقيق الإصلاح السياسي باتجاه بناء الدولة المدنية والعصرية.
• إن العلاقات الطائفية تلعب دوراً مادياً في الحياة اليومية باعتبارها قناة للتعبير والتمثيل السياسي (من خلال نظام الانتخابات بالدرجة الأولى)، وباعتبارها آلية فعالة لتلبية الاحتياجات وتوفير الخدمات، بما فيها الخدمات الاجتماعية الأساسية كالتعليم والصحة. إن الطائفية من حيث هي مشكلة أو تشوه اجتماعي أو سياسي، لا تكمن في وجود الطوائف ومؤسساتها، بل تكمن في أن تعطى لها أدوار تشريعية أو سياسية أو اجتماعية لا تقع ضمن طبيعتها من حيث هي تفريعات للانتماء الديني، كما هو متعارف عليها في المجتمع والدولة الحديثين. وبهذا المعنى، فإن معالجة المشكلة الطائفية في لبنان، تكمن بالضبط في تقليص دور الطوائف ومؤسساتها إلى مجالها الأصلي، بما يجعل من التمثيل السياسي، والتشريع، وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطن من اختصاص الدولة، والمؤسسات المدنية الطابع، وعلى أساس المواطنية وما يتفرع عنها من حقوق.
• من الناحية العملية، تحتل مسألة تحسين فعالية التعليم الرسمي لجهة توفيره للجميع، ومجاناً في مراحله الأساسية، أهمية كبيرة، وكذلك ما يتعلق بتوفير الخدمات الصحية والحماية الاجتماعية من خلال الدولة والمؤسسات المدنية الطابع. أضف إلى ذلك، إصلاح الإدارة، ولا سيما إلغاء طائفية الوظيفة، وحصر التوظيف بالمباريات التي يجريها مجلس الخدمة المدنية. إن تعزيز التعليم الرسمي، وإصلاح النظام الصحي، وتوسيع تغطية أنظمة التأمين الاجتماعي، بالإضافة إلى حصر التوظيف بالناجحين بمباريات مجلس الخدمة المدنية، هي مساهمات كبيرة جداً في تجاوز الطائفية، بما في ذلك في الطائفية السياسية، لكونها تقلص عملياً من الوظائف التي تؤديها، وتوفر بدائل واقعية عنها.
• يحتل أيضاً العمل على إصلاح النظام الانتخابي مكاناً هاماً في تجاوز الطائفية السياسية بشكل خاص. كما أن تنشيط دور البلديات على أسس حديثة، واقترابها بالممارسة من لعب دور أساسي في التنمية المحلية، من شأنه أن يرسخ بالممارسة السلوك المدني المبني على فكرة الحق، بديلاً للولاء التقليدي الذي يلتبس فيه العائلي بالطائفي.
• أخيراً إن خطة العمل المقترحة لا بد أن تشمل الحيز التربوي بشكل عملي وفعال، من نوع تدريس التربية المدنية، والكتاب الموحد لتعليم تاريخ الأديان.. الخ. كما لا بد أن يشمل الاهتمام وسائل الإعلام، ومضمون ما تبثه، وشكله، ارتباطاً بمسألة الطائفية وبمسألة الإصلاح.
وغني عن البيان، إن التقدم على طريق تجاوز الطائفية، وفي صلبها الطائفية السياسية ومجمل عملية الإصلاح السياسي، لا يمكن أن تتم تلقائياً. وفي هذا الصدد لا بد من بناء حركة سياسية واجتماعية ضاغطة من اجل وضع آلية لإطلاق هذا المسار والبدء بإجراءات عملية في هذا الاتجاه، بدءاً من العمل على إصلاح نظام التمثيل الشعبي، وفصل الإدارة عن السياسية، وصولاً إلى تشكيل هيئة وطنية لتجاوز الطائفية من قوى المجتمع المدني، وفرض إطلاق هذه الآلية على المستوى الرسمي. إن مثل هذا النشاط لا يمكن أن يحصل تلقائياً، ما لم يضع الحزب وقوى اليسار على جدول أعمالهما الحقيقي مسألة تنسيق جهود العلمانيين وغير الطائفيين في هذا البلد، من أجل تحقيق الإصلاح السياسي والإداري وتجاوز الطائفية، باعتبارها أبعاد متكاملة لعملية إصلاحية واحدة.
كما نقترح آلية محددة هي السعي لإنشاء هيئة وطنية شعبية وأهلية لبدء الحوار في تجاوز الطائفية السياسية والإصلاح السياسي، كوسيلة ضغط لإلزام الحكومة بتشكيل الهيئة الوطنية المقرة في الطائف لهذه الغاية، وكوسيلة عملية لإطلاق حوار بين قوى المجتمع السياسية والاجتماعية حول آليات التجاوز، وتدرجها، ومضمونها. كما نقترح بشكل ملموس أن تعطي الأولوية في هذا المجال للآليات أكثر من الشعارات العامة، وأن نقتنع فعلياً بضرورة التوصل بشكل مشترك إلى بلورة آليات هذا التحول البالغ الأهمية في الحياة العامة في لبنان.


البعد الاقتصادي والاجتماعي

في منهجية العمل: نحو مشروع للتنمية الشاملة في لبنان
في وثيقة سياسية تعنى بالشأن الاقتصادي والاجتماعي، لا يمكن للحزب السياسي أن يكتفي بالتحليل ذي الطابع الأكاديمي، بل أن يربط المعارف العلمية المتوفرة في المجتمع والمعرفة المتكونة لديه، بمتطلبات العمل من أجل تحسين الأوضاع المعيشية للناس، وتطوير الاقتصاد الوطني. كما عليه الحرص أن لا يقتصر ذلك على تحقيق تحسن آني باعتماد سياسات وإجراءات مؤقتة، تحمل معها عناصر تأزيم في المديين المتوسط والبعيد.
إن الجمع بين الأهداف الآنية، وضمان الخروج من الآليات للأزمات، يتطلب وجود رؤية استشرافية لآفاق المرحلة، تكون ذات طابع عملي في الوقت نفسه. ونقصد بالطابع العملي، أن تكون مستجيبة لتناقضات المرحلة، وتحمل معها القدرة على إقناع القوى الاجتماعية المستفيدة منها، وذات المصلحة في تحقيق الأهداف المطروحة. إن الجمع بين الرؤيوية والعملانية لا يتحقق باعتماد مقاربات مجزأة أو قطاعية، لا تلحظ الارتباط بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والإدارة، إدراكاً علمياً وعملانياً يتجاوز الشعاراتية السياسية والإيديولوجية. كما أن هذا الإدراك، لا بد أن يتجلى عملياً في عدم التعامل مع المطالب الخاصة بكل فئة اجتماعية، أو الخاصة بمعالجة أحد جوانب الأزمة، بشكل معزول عن المطالب الأخرى، وبمعزل عن الانعكاسات المباشرة والمتوسطة والبعيدة المدى على المستويات كافة.
في ضوء ما سبق، نقترح أن يحتل مفهوم التنمية مكاناً محورياً في خطابنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فهذا المفهوم يتضمن الترابط المشار إليه بشكل عضوي، وله طابع رؤيوي وعملاني في الوقت نفسه، وهو قابل ليشكل أساساً لحوار وتوافق ذي قاعدة اجتماعية واسعة، وهو يتوافق مع متطلبات المرحلة ويحمل مضامين متقدمة وراديكالية مقارنة بالخطاب السائد حالياً لدى السلطة والمعارضة، بما في ذلك المعارضة اليسارية.
إن العمل لفرض اعتماد أولوية الشأن الاجتماعي في السياسات الحكومية، يكتسب في ظل اعتماد المفهوم التنموي المشار إليه، بعداً خاصاً. ففي هذه الحال، لا يتعلق الأمر باعتماد سياسات اجتماعية مجزأة، بل بتعديل كل السياسات الاقتصادية والمالية والإدارية، بحيث يصبح تحسين أوضاع الناس، ولا سيما الفقراء منهم، في صلب كل السياسات والاستراتيجيات الوطنية والقطاعية المعتمدة. وبالتالي، ينوجد بذلك الإطار النظري العام الذي يربط المستوى المطلبي بالمستوى السياسي بشكل طبيعي.
ومن الناحية العملية المتعلقة بتجميع القوى الاجتماعية المعنية بتحقيق الأهداف المتعلقة بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي، فإن فكرة الميثاق الاقتصادي - الاجتماعي التي تبلورت عشية المؤتمر السادس، هي فكرة شديدة الخصوبة ومن شأنها أن تشكل إطاراً عاماً لسياسة الحزب وتحالفاته الاجتماعية، وينتج عنها آليات حوارية لتشكل التحالفات الاجتماعية التي يفترض بها أن تنشط عملياً من أجل العمل التغييري في هذا المجال. وفي ضوء ذلك، يمكن وضع خطة عمل ومهمات ذات طابع عملي، تغطي كافة المستويات، وتلحظ الترابط وهوامش الاستقلال الذاتي لكل مستوى في الوقت نفسه. وبناء عليه، لا يمكن للحركة السياسة أن تستقيل من ممارسة دورها في النضال الاقتصادي والاجتماعي على المستوى السياسي، وأن توكل ذلك حصراً إلى الحركة النقابية. كما يتطلب ذلك نظرة مختلفة إلى النقابات والعمل النقابي، وإلى كافة مؤسسات المجتمع المدني، تعيد النظر جذرياً في الاستخدام "المنبري" و"السياسوي" لهذه المؤسسات بديلاً عن قيام الأحزاب السياسية بدورها السياسي المباشر فيما يتصل بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية. ولا بد في هذا الصدد من إعادة الاعتبار إلى سلوك وممارسة تحترم هامش الاستقلال الذاتي لهذه المؤسسات، وتحترم التمثيل الاجتماعي الذي تعبر عنه، ملتزمة بمبدأ الارتقاء الطبيعي من داخل المؤسسة وباقتناع المنتسبين إليها، إلى مستويات أعلى تدرك الروابط بين مستويات العمل في إطار الحوار الاجتماعي لتحقيق الأهداف التنموية المشتركة.

قراءة في التطورات الاقتصادية المعاصرة
تتطلب قراءة التطورات الاقتصادية والاجتماعية خلال العقد الأخير، والاستفادة من دروسها من أجل رسم تطلعات مستقبلية، تحديد العوامل الكبرى التي تحكمت في مسار التطور الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. هذا المسار الذي لا يمكن فصله عن تأثيرات العولمة، ولا عن عملية التحول الجارية على الصعيد الإقليمي، ولا بالتأكيد عن الخيارات الوطنية المعتمدة في هذا المجال.

المؤثرات العالمية
إن فهم الآليات الجديدة للتوسع الرأسمالي العالمي، وتجلياته الإقليمية والوطنية، أصبح ضرورة معرفية وعملية في آن، بحكم ظاهرة العولمة وما ينتج عنها من تزايد دور المؤثرات العالمية لتصبح العامل الحاسم في تقرير الخيارات الاقتصادية التي تعتمدها الحكومات الوطنية. لقد تسببت العولمة في العقود القليلة الماضية في انقسام العالم ككل، وانقسام المجتمعات الوطنية بشكل حاد، بين قلة تحتكر الثروة والسلطة، وغالبية متوسعة من ضحايا العولمة والأنساق الاجتماعية والاقتصادية المتولدة عنها، ما يعني موضوعياً إمكانيات متوسعة لبناء حركة مقاومة للمفاعيل السلبية للعولمة الرأسمالية على الدول والشعوب والفقراء في العالم.
وتتخذ تأثيرات العولمة أشكالاً ملموسة من خلال السياسات وآليات الشروط التي تضعها المؤسسات الدولية، والدول الصناعية المتقدمة، لعمل الاقتصاد العالمي، والاقتصادات الوطنية لدول البلدان النامية على وجه الخصوص. وفي هذا السياق، احتلت برامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي مكاناً خاصاً منذ بداية الثمانينات في التحكم في الدول النامية عموماً، والمدينة منها بشكل خاص؛ كما يبرز مؤخراً دور منظمة التجارة العالمية الفريد من نوعه، بحكم قدرتها الكبيرة على التحكم بشروط التجارة العالمية، وبسبب الطابع الملزم لقراراتها، ما يجعلها بمثابة قوة أو "حكومة" "فوق قومية" متحكمة بسياسات الدول والحكومات.
وفي ظل طغيان دور العوامل العالمية تتقلص هوامش الحرية للحكومات الوطنية في رسم سياساتها الاقتصادية والاجتماعية على وجه الخصوص، وتضم هذه الأخيرة إطار خيارات تتراوح بين التكيف النشيط مع شروط العولمة الراهنة، أو الانصياع الكامل لها. ولبنان لا يخرج عن هذا السياق، فالخيارات الاقتصادية الأساسية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة بعد توقيع اتفاق الطائف، لم تخرج أي منها عن الالتزام بموجبات المجرى العام السائد عالمياً، والمحكوم بهيمنة المذاهب الليبرالية الجديدة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

علاقة لبنان بالمؤثرات العالمية
ارتبط لبنان باكراً بالأسواق والاقتصاد العالميين، معتمداً اقتصاداً ليبرالياً ومؤدياً وظيفة الوساطة التجارية والمالية بين المراكز الرأسمالية والعالم العربي في ظروف مساعدة. كما أن تخصصه التجاري والمالي كان عنصراً مساعداً دون شك، لأنه كان ارتباطاً مع القطاعات الأكثر ربحية في الاقتصاد العالمي مقارنة بالتخصص الزراعي أو المنجمي، وحتى الصناعي.
هذا المسار انقطع مع اندلاع الحرب عام 1975، وأدى ذلك إلى نتائج خطيرة على الاقتصاد الداخلي الذي تدهورت مؤشراته بمعظمها. كما نتج عن الحرب انقطاع لبنان عن السياق العالمي للتطور الاقتصادي بكل مفاعيله السلبية، والإيجابية أيضاً. فعشية الحرب، كانت ديون لبنان الخارجية ضئيلة جداً. وأدت الحرب إلى إعطاء أولوية للاهتمام الدولي السياسي بلبنان، ما جنبه الدخول في سياق العولمة وفورة الديون الخارجية التي شملت معظم البلدان النامية، بما فيها دول المشرق، في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين. وخرج لبنان من الحرب في بداية التسعينات من القرن العشرين دون ديون خارجية كبيرة خلافاً لجيرانه.
مع انتهاء الحرب وضعت الحكومات المتعاقبة - لا سيما الحكومتين الحريريتين الأولى والثانية - المعالم الأساسية لخيار لبنان الاقتصادي والاجتماعي. وتجلى ذلك أولاً بوضع خطة عشرية منحازة وغير واقعية اجتماعياً لإعادة إعمار البلاد. وقد تضمنت الخطة منذ تصميمها الأول على الورق، تحقيق النمو من خلال زيادة المديونية، زيادة الضرائب غير المباشرة ورفع أسعار الخدمات، المترافق مع تقليص الإنفاق الحكومي "غير المجدي". وهذه التوجهات تحمل مضامين اجتماعية واضحة بما فيه الكفاية.

مستويات الأزمة
إن الوجهة التي يندفع فيها لبنان وفق الخيار الحالي، تتضمن تغليب وزن الرأسمال المعولم المرتبط بالاقتصاد الإقليمي والعالمي على الرأسمال المحلي الارتباط، وابتلاع الرأسمال الكبير للرأسمال الصغير والمتوسط. ويرتبط بهذه التحولات حصول اتجاه إلى تعديل في التحالف الاجتماعي - السياسي الحاكم، الذي كان يجمع بين بورجوازية تجارية - مالية، وأرستقراطية عائلية - سياسية تتولى وظيفة التمثيل السياسي من خلال نفوذها الاجتماعي والسياسي في إطار نظام طائفي. إن ملامح التحول المحتمل تشير إلى حاجة ممثلي الرأسمال المعولم إلى الإمساك بمراكز القرار في السلطة بشكل مباشر، ومن خلال ممثليهم المباشرين، وليس من خلال العائلات السياسية التقليدية. إن المشروع الاقتصادي النيوليبرالي هو بالضرورة مشروع سياسي أيضاً. وهذا بعد آخر لتفسير الأساس الاقتصادي والسياسي للتناقضات داخل مؤسسات الحكم نفسها، التي لا تزال محكومة بتوازنات اجتماعية وسياسية، داخلية وإقليمية تحد من الهيمنة الكاملة لأصحاب القرار الاقتصادي على كامل مراكز ومؤسسات القرار السياسي في النظام والدولة.
وعلى المستوى الاجتماعي، حملت خيارات النمو المعتمدة بعد الطائف مضامين وآثاراً اجتماعية سلبية. فالاتجاه الثابت نحو الالتزام بموجبات خطط التثبيت المالي في إطار الخيار النيوليبرالي المشار إليه أعلاه، أدى إلى زيادة حدة التفاوتات الاجتماعية والمناطقية، وإلى استمرار آليات الإفقار المؤدية إلى التوسع العددي والنوعي للفئات المشمولة بعملية الإفقار هذه. إن الدراسات المتبناة رسمياً من قبل الجهات الحكومية والدولية تعتبر أن ثلث السكان على الأقل يعيشون في حدود خط الفقر المباشر أو دونه. كما أن هذه الدراسات نفسها تشير إلى استمرار ظاهرة أكثر تعقيداً وعمقاً مما كانت عليه في بداية الستينات حيث اتسمت آنذاك بالتفاوت في توفر البنى التحتية والخدمات الأساسية، في حين هي اليوم تشمل التفاوت في التركيب الاجتماعي - الطبقي ومستويات الدخل، ومحدودية النشاط الاقتصادي وفرص العمل. كما يشمل هذا التفاوت الأبعاد السياسية والثقافية التي تخلق مشكلات حقيقية فيما يتصل بالاندماج الاجتماعي والوطني في لبنان.
أيضاً على الصعيد الاجتماعي، تراجعت فعالية الخدمات ذات الطابع الاجتماعي، على اختلاف طبيعتها. إن أكثر من نصف السكان غير مشمولين بأنظمة التأمين الصحي والاجتماعي. والنظامان الصحي والتعليمي في البلاد ضعيفا الفعالية ومرتفعا الكلفة التي يتحمل معظمها المواطنون، في حين أن الإنفاق الحكومي في هذين الميدانين الأساسيين ضعيف المردود. كما أن فعالية الخدمات الاجتماعية الأخرى باتت ضعيفة جداً، وتتعرض لعملية تسييس مفتعلة تؤدي إلى تحويلها إلى جماعات من المنتفعين على أساس سياسي.
كما أن بعض المشكلات الاجتماعية الخاصة لا زالت دون حل، ومنها: مشكلة المهجرين، والمعوقين، ومشكلات الشباب على اختلافها، واستمرار بعض أشكال التمييز ضد المرأة.. الخ. وهذه كلها تترك بدورها تأثيراً على تماسك النسيج الاجتماعي، وتبطئ فعل آليات التماسك الاجتماعي الصحية لصالح آليات التفكك، أو الاستقطاب التعصبي أو الفئوي.

الجواب الحكومي على الأزمة
لقد تميز جواب الحكومات المتعاقبة على الأزمة، ولا سيما نهج الحكومة الحالية بالإهمال شبه الكامل للشأن الاجتماعي والتعامل معه كأنه نتاج فرعي للسياسات الاقتصادية والمالية للحكومة. أما هذه السياسات الأخيرة، فإن ما تتميز به هو الاندفاع الكبير في نهج الخصخصة، وإعادة هيكلة الإدارة والمؤسسات العامة، والاندماج غير المشروط في السوق العالمية، وزيادة الدين العام مع ميل لترجيح الوزن النسبي للدين الخارجي، والاستمرار بسياسة الفوائد المرتفعة ودعم سعر صرف الليرة لاعتبارات سياسية.. الخ.
من جهة أخرى، تعتمد الحكومة على آليات سياسية توزيعية لتنفيس الأزمة الاجتماعية، ولهذا الغرض تستخدم الصناديق المختلفة (صندوق الجنوب، صندوق المهجرين، الصندوق البلدي المستقل)، والأشكال الأخرى من توزيع المنافع (مخصصات زفت النواب، توزيع المشاريع والتعهدات في وزارات الأشغال، وتوزيع المساعدات من خلال وزارات الخدمات - صحة، شؤون اجتماعية، وحتى مساعدات توزيعية من خلال الوزارة الأخرى). وقد نتج عن ذلك شبكة متكاملة من قنوات التوزيع الموزعة على أساس سياسي، يأخذ كل طرف سياسي منها بقدر ما يستطيع الاقتطاع، وبتفاوت واضح في غير صالح المناطق والفئات الأقل تأثيراً في مركز القرار السياسي. وتؤدي هذه التوزيعات إلى تنفيس مؤقت للأزمات، وإجهاض التحركات الشعبية، وتشويه العمل النقابي والمطلبي عن اتجاهاته الصحيحة باتجاه الانتفاع المباشر من خلال رفع التعويضات والصفقات المخفية وراء كل اتفاق يطال مؤسسة أو إدارة ما. ومن المتوقع أن يصل هذا النهج إلى نهايته المتوقعة في مدى زمني قريب جداً، وأن ينفجر بحكم تناقضاته الداخلية نفسها، وهو ما بدأت ملامحه تظهر في أزمة الميدل إيست، وفي التناتش بين القيادات السياسية والحزبية على إنشاء مجالس إنماء المناطق المحرومة، وعلى الغبن أو التمييز الحاصل في نظام التوزيع هذا.
إن استمرار عملية إعادة هيكلة القطاع العام والمؤسسات العامة، والخصخصة المقرونة بالصفقات والمحاصصة، سيؤدي في المدى المباشر إلى زيادة ملحوظة في البطالة والتهميش الاجتماعيين، كما أنه سيعلن الفشل النهائي لنظام التوزيع المشار إليه، بعد أن يكون قد استنفد كامل مجالات الانتفاع الكامنة فيه، والتي تتقلص باستمرار في دولة تعاني من عجز مزمن يجعلها على شفير الإفلاس العملي.
وفي هذا المجال، فإن تحالف نهجي "المزرعة" و"الشركة الخاصة" في التعامل مع البلاد، يتحملان بالشراكة مسؤولية ما آل إليه الوضع من تأزم، ومسؤولية ما سيتولد عن المعالجات الراهنة من تفاقم للأزمة الاجتماعية، والاقتصادية أيضاً. ويتطلب هذا إعادة إطلاق الحركة السياسية والاجتماعية والنقابية على أسس جديدة، استشرافية، متحررة من هذين النهجين معاً، ومتجاوزة للمطلبية البسيطة التي لا تنفع في التعامل مع مشكلات من النوع والحجم الذي يواجهه لبنان.

ما العمل؟
إن الطابع المصيري للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية هو الغالب في المرحلة الراهنة. ذلك أن هذه المشكلات العميقة والعامة والمتعلقة بالخيارات الاستراتيجية للحكومة وللنظام، تترك مفاعيل وآثار سلبية ومباشرة على حياة المواطنين، تتطلب علاجاً فورياً. بمعنى آخر، تتزامن الآن في لبنان الأزمتان الاقتصادية والاجتماعية. كما أن الهامش بين البعد الاستراتيجي والبعد الآني في أسباب الأزمة ومفاعيلها يضيق باستمرار، ما يجعل المعالجات الآنية وثيقة الصلة بمعالجة الأسباب العميقة للأزمة، ولا تقتصر فقط على معالجة الآثار السلبية المتعلقة بالمعالجات والتدابير الآنية التي تتخذها الحكومة. وبهذا المعنى، فإن خطة العمل المطلوبة هي ذات طابع سياسي (بمعنى تتعلق بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية)، أكثر مما هي مطلبية الطابع. كما أن خطة العمل المطلوبة تطال المستوى السياسي نفسه، لكونه شديد الارتباط بالمستويين الاقتصادي والاجتماعي، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، وكما سنبين فيما يلي.
• تنتج الأزمة أولاً عن طبيعة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية لكون هذه الخيارات تعمق استقطاب الثروة، والخلل القطاعي، ومركزة النشاط الاقتصادي، وتزيد من درجة تمفصله على الخارج وتحد من تغذيته وتطويره للدورة الاقتصادية الداخلية. وينتج عن ذلك، توسع في انتشار الفقر، واستمرار وإعادة إنتاج التفاوت بين المناطق وتفاقم ظاهرة الحرمان المناطقي، كما ينتج عنه استمرار تهميش القطاع الزراعي والريف والساكنين فيه، كما أنه يزيد من مخاطر إفلاس وتدهور الشرائح الدنيا من الفئات الوسطى وصغار الموظفين والعاملين بأجر وأصحاب الحرف والمؤسسات الصغيرة، ولا يساهم في معالجة مشكلتي البطالة والهجرة.
• وتنتج الأزمة ثانياً عن الخصائص السياسية للنظام في مرحلة ما بعد الطائف. فالتحالف الهجين الذي يحكم لبنان اليوم، يمثل هذه الشراكة النفعية والمفروضة بقوة العوامل الإقليمية بين نهجي المزرعة والشركة الخاصة. وكلاهما لا يحملان مشروعاً وطنياً، بمعنى مشروع التنمية المتمحور على المصالح الوطنية للبنان. بالنسبة لأصحاب نهج المزرعة، الدولة وسيلة انتفاع، يدركون تماماً أنها مؤقتة وتنتهي بانتهاء وجودهم على رأس مؤسسات الحكم، بالتالي فإن مرحلة حكمهم هي مرحلة الانتفاع الأقصى دون اعتبار لمتطلبات الوطن ولمتطلبات الشعب والناس. وبالنسبة لأصحاب نهج الشركة الخاصة، فإن الدولة في نهاية المطاف هي زائدة لا ضرورة لها إلا بمقدار تسهيلها لنشاط القطاع الخاص، والوطن نفسه يصبح مفهوماً أقل أهمية من مفهوم السوق الذي ينظر إليه باعتباره سوقاً عالمية. فإن ازدهرت الأعمال، فإن الوطن مزدهر ولا مشكلة، ولو كان ذلك على حساب الاستقلال، والهوية الوطنية، وعلى حساب العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق المواطن. إن كل هذه المفاهيم لا أهمية لها إلا باعتبارها أدوات في الصراع على السلطة، وأدوات في تسهيل تعظيم الاستثمار المربح.
إن لبنان يعيش اليوم تزامناً حاداً بين الأزمة الاقتصادية والأزمة الاجتماعية وهذا التزامن وثيق الصلة بنهج التحالف السياسي المهيمن على البلاد. إن الطبقة السياسية المسيطرة على كل مقاليد السلطة بكل أبعادها التنفيذية والتشريعية والعسكر - الأمنية - ونقول مسيطرة لأن قدراً حاسماً من قوى نفوذها نابع من الدعم الذي توفره لها بأساليب متنوعة قوى الأمر الواقع السوري - إن هذه الطبقة السياسية المتعاونة مع الأمر الواقع السوري غلبت على سياساتها منطق الإنتفاع الخاص بعيداً عن متطلبات نهوض الاقتصاد الوطني وبعيداً عن المصالح المعيشية لغالبية اللبنانيين.
إن مثل هذا الواقع يجعل من مطالبة التحالف المسيطر على البلاد بانتهاج سياسات بديلة أمراً مخالفاً للمنطق فهي تقوم بما تقوم به قسراً وطوعاً خدمة لمصالحها ولمصالح حماتها بتقصد كامل، مع إدراكها لتعارضه مع مصالح البلاد وغالبية الشعب اللبناني، وإلا فكيف يمكن لعاقل أن يتفهم إصرارهم على:
- حماية فساد الإدارة المفضوح والمكشوف والإمعان في تثبيت أسسه.
- الهدر الواضح لأموال المكلف اللبناني في وزارة الصحة وتعاونيات الموظفين المدنيين والعسكريين والضمان الصحي رغم الدراسات المتعددة التي أثبتت بالدليل القاطع إمكانية سياسات بديلة تؤمن خدمات أجود وبأكلاف أقل.
- الميزانيات العسكرية الضخمة والتقديمات السخية للضباط وصفوف الضباط والإصرار على إبقاء خدمة العلم إضافة إلى تفريغ أجهزة أمنية متعددة، فضفاضة ومكلفة وذلك كله يحصل تحت سقف سياسي لا يلحظ دوراً أو استراتيجية عسكرية لهذا الجيش الكبير بالنسبة لبلد صغير ما يستنفذ أموالاً طائلة غير مجدية يدفعها المكلف اللبنانية. أما حجة الأمن وهو العنوان الوحيد الذي يتداول لتبرير دور القوات المسلحة والأجهزة فهذا الشأن، الكل يعلم، أنه يمكن تأمينه بأعداد أقل بكثير وبأجهزة أقل تعدداً وعديداً وفي النهاية الأمن في البلاد أولاً وأخيراً يرتكز بشكل حاسم على العامل السياسي.
- الإصرار على بقاء الصناديق والمجالس وتكريس دورها كأدوات انتفاع مالي وسياسي بشكل فاضح وملموس.
- التغاضي المشبوه والمتعمد عن معالجة مسألة التخابر الدولي وتشعباتها المحلية والإقليمية وما يكلفه ذلك من خسائر لخزينة الدولة.
- موضوع الأملاك البحرية وما يمكن أن يوفره لخزينة الدولة وهذا الأمر بات واضحاً ومفنداً أكثر من مرة ويتغاضى عنه خدمة لبعض ذوي النفوذ.
- ملف الكهرباء - الفضيحة، برمته.
- مخصصات النواب سنوياً وكيفية استخدامها لصناعة المحاسيب بالإضافة للانتفاع الشخصي.
هذه الأمور وغيرها تتردد يومياً على كل شفة ولسان دون جدوى. إن مجمل هذه القضايا لو توفرت للبلاد سلطة وطنية حريصة على مصالح الناس لوفرت لخزينة الدولة وبالتالي للمكلف اللبناني أرقاماً مالية ضخمة علماً أننا لم نتطرق إلى الهدر والسمسرات في المشروعات بدءاً بالمشروع الأكبر سوليدير وصولاً لكافة المشروعات المنفذة وصولاً لمسألة حقوق الدولة في موضوع الهاتف الخلوي، وموضوع شراء الفيول والغاز، وموضوع العرض العراقي - سعر الكهرباء المشتراة من سوريا - عناوين يتم التستر عليها وتحاط بكل أنواع الكتمان وطمس المعطيات الرقمية حولها لأن طابعها المافياوي يفترض ضبط روائحها الكريهة.
وكيف يريدنا التحالف المسيطر أن نقتنع بتدابيره وتدبيجاته المالية- علماً أنه أمر ليس مطلوباً - طالما هو يتربع على هذا الهرم الكبير من الانتفاع والإساءات المتعمدة للاقتصاد الوطني ولمستوى معيشة الناس. فمنذ الطائف وحتى اليوم عاشت البلاد نوعاً من التناوب الترويكي المحمي. المتواطئ على نهب خيرات البلاد والعباد بالإضافة إلى سياسات اقتصادية متعسفة لم تفسح بالمجال لأي نوع من أنواع الحوار والنقاش والتصويب والذي سهل لهذه السياسات المتعسفة أن تصبح أمراً واقعاً مكلفاً وكارثياً هو غياب المؤسسات أو بشكل أدق حضورها المفروض والمفبرك والمتواطئ وهذا الواقع طاول بتشوهاته السلطة القضائية التي حرمت من هوامش استقلالها ما أضعف حصانتها وسهل اختراقها وتدجينها إلى حد كبير. وهكذا حرم المجتمع من أهم حصون حقوقه، وفقد المواطن مرجعية الاحتكام العادل وبات التحالف المسيطر هو الخصم والحكم.
الحقيقة المرة أفضل من الاستيهام المزيف. خاصة وأن عقارب ساعة الحقيقة بدأت تقترب وحينها فإن بهلوانات الاقتصاد الرسمي سوف يفرون تاركين حطام البلاد لأهلها. إننا ندرك جيداً أن مزاج اللبنانيين يميل إلى التمسك بالأمل وإن كان واهماً وكاذباً، ونحن نقدر بعمق تمسكهم بحبل نجاة وهمي غير مربوط ببر الأمان، ولكن هل سيغير هذا المنطق مسار الاستحقاق القادم؟
وحين نطالب الناس بالتخلي عن أمل وإن كاذب؟ فهل يا ترى في المستطاع اعتماد خيارات تحول دون حصول الأسوأ؟
أولاً علينا أن نعترف أن الجواب صعب ولكنه ليس مستحيلاً.
صعب لأن التحالف المسيطر محلياً وإقليمياً لا زال قادراً على فرض الأمر الواقع بعد أن أحدث أعطاباً عميقة في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي اللبناني. إن سياسات بديلة ومسارات بديلة للواقع المأساوي ممكنة حتماً، ولكن ذلك يتطلب موازين قوى جديدة. ومثل هذا الخيار يتطلب فعلاً مختلفاً ومساراً نهضوياً مغايراً لحالة الركود المفروضة على المجتمع اللبناني وعلى قواه المحركة. مؤسسات وقوى المجتمع المدني. مثقفين وأحزاب ونقابات وجمعيات وتجمعات وبلديات.. الخ.
لقد قدم المجتمع اللبناني سابقات مشجعة وتمكن في ظل ظروف بالغة السوداوية والتعقيد أن يقدم على خيارات غير متوقعة أو ليس هذا ما حصل سنة 1982 مثلاً في العمق استجاب المجتمع اللبناني وفي ظل سلطة مفروضة وغير مؤاتية وفي ظل واقع عربي كان ولا يزال عاجزاً، استجاب المجتمع اللبناني، عبر جزء من مكوناته، لا فرق من هي، أن ينجز استثناءً عربياً تمثل بتحرير أول أرض عربية دون قيد أو شروط. ولعلنا لا نغالي حين نفترض أن أكثر التحليلات تفاؤلاً واستشراقاً ما كانت قادرة على توقع الاختراق الذي أنجزته المقاومة اللبنانية الابنة الشرعية لقوة المجتمع اللبناني؟ ولا شك أن سابقة المقاومة ليست يتيمة فهناك مثيلات لها كمثل تحملنا ثلاثين عاماً من التعسفات الداخلية والخارجية ويبقى الوطن اللبناني قائماً مجالداً وإن على حال من السوء الكبير.
لقد انطلقنا من القول بصعوبة الخيارات البديلة ونفي استحالتها، وفي هذا الكلام التزام وليس مطالبة فنحن ندرك بقوة، عمق الفجوة بين الناس، والتشكيلات السياسية وخاصة الأحزاب والشخصيات، وتشكيك الناس له ما يبرره وأولى خطوات تجاوز فقدان الثقة وسيادة اليأس تكمن في الاعتراف بهذا الواقع، والمعالجة التدريجية لمسبباته.
الأحزاب خذلت الناس.
الأحزاب خذلت جماهيرها.
الزعامات إلى حد كبير لم تحترم عهودها.. الخ.
المصداقية هي العتبة السحرية التي يجب على المعارضة البدء بإعادة ترميمها والانطلاق منها وإذا نجح مثل هذا الأمر الحاسم فمما لا شك فيه أن المجتمع اللبناني سيكون قادراً على التحرك التدريجي والديمقراطي باتجاه تعديل الواقع القائم وإنتاج موازين قوى جديدة تسمح بفرض الحوار والتفاوض والتغيير بنهج وتركيبة التحالف القائم.
ومما لا شك فيه أن هذا الخيار لا يمكن أن ينطلق لا من موقع جزئي ولا من موقع كلي، وإنما بتحرك شامل يتواصل فيه المستوى الموضعي مع المستوى الوطني العام. فمن الشأن البيئي إلى الإضراب في مصنع، ومن تطوير تعاونية معينة، إلى قانون انتخاب ملائم، من قضية المزارعين إلى قضية المساواة بين المرأة والرجل، إلى موضوع إعادة تموضع القوات السورية ورفع الهيمنة، ومن مسألة الحريات إلى موضوع انتشار الجيش في الجنوب. من تطوير الجامعة اللبنانية وموضوع الضرائب، إلى استقلال القضاء، إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني. كلها مستويات متداخلة متفاعلة ساعية إلى تعديل موازين القوى، وبالتالي إجراء التحويل الديمقراطي جزئياً أو أكثر من جزئي في مسار التحالف المسيطر.
إن التجارب المتكررة للنخبة المعارضة في لبنان، وعلى الرغم من بعض إنجازاتها، باتت تفترض تحولاً جذرياً في أساليب عملها ومنطق حضورها. إننا لا نقول أن الكتابات الفردية والبيانات الجمعية والنقاشات النيابية، كانت دون فعل وتأثير، بالعكس لقد أثرت تأثيراً إيجابياً وفعالاً، وانطلاقاً من ذلك لا بد لها أن تتطور، لتتجاوز وحدانية حضورها النخبوي، وتندمج بمسلكيات إضافية قادرة على إنتاج حالة من التشارك العملي مع الحالة الشعبية في شتى المواقع.
غالباً ما يطرح السؤال: نذهب للناس لنقول لهم ماذا؟ أي برنامج؟ أية خيارات. ما هي القضايا والاقتراحات المقنعة والمحركة؟
إن اعتقادنا أن أزمة البلاد الاقتصادية - الاجتماعية متلازمة إلى حد بعيد بسياسات المعادلة السياسية المسيطرة على البلاد ليس فيه مجافاة للحقيقة وللموضوعية.
إن الأزمة الاقتصادية اللبنانية ليست أزمة خيارات اقتصادية، وليست أزمة نموذج نظام اقتصادي معطل وغير قادر على الفعل. الأزمة الاقتصادية اللبنانية هي أزمة إرهاق الاقتصاد الوطني وإعاقته، من خلال مسلكيات مفروضة من قبل تحالف قوى الأمر الواقع، والمعالجة المناسبة لمثل هذا الواقع تقوم أولاً على الحد من قدرة التحالف المسيطر على نهب وإعاقة الاقتصاد الوطني، وبناء لهذه المحصلة، فيما لو كانت إيجابية، يمكن الانطلاق من خلال الخبراء والاختصاصيين والحريصين أن يصار إلى صياغة الخيارات الأكثر تناسباً لمعالجة مضاعفات التركة التي أوصلت المجموعة المسيطرة، البلاد إليها. ولا شك أن خيارات متعددة وإجراءات قاسية ستكون مطروحة في ظل سلطة موثوقة عاملة بمعيار المصلحة الوطنية. أما ما قبل ذلك فيصعب أن يقتنع المرء أن أي إجراء أو رؤيا ستكون قادرة على أحداث تحول إيجابي. وبالتأكيد فإن حجم الاقتصاد والنمو والتنمية والتوظيف كلها أمور مرتبطة بطبيعة السلطة ومستوى ارتباطها بمصلحة البلاد ومصلحة الشعب اللبناني.



#قوى_الإصلاح_والديمقراطية_-_الحزب_الشيوعي_اللبناني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشروع قرار تنظيمي مقترح صدوره عن اجتماع 16 شباط 2003
- مشروع موقف سياسي مقترح


المزيد.....




- -لغز كبير-.. أثريون هواة يكتشفون قطعة رومانية غامضة بـ12 وجه ...
- بين الأمريكية والصينية.. لمن تميل كفة حاملة الطائرات الأحدث ...
- بي بي سي في جنوبي لبنان: منازل تحوّلت إلى -تلال من الركام-
- جامعة أمريكية توافق على إعادة النظر بعلاقاتها مع شركات مرتبط ...
- السلطات تجلي السكان بعد ثوران بركان جبل روانغ في إندونيسيا ...
- -الانفجار الكبير- ـ آفاق وتحديات توسيع الاتحاد الأوروبي
- الحكم بالسجن 6 سنوات على هاكر سرق بيانات 33 ألف مريض في فنلن ...
- إصابة 55 شخصا على الأقل جراء اصطدم قطار بحافلة في لوس أنجلوس ...
- سوريا: بين صراع الفصائل المسلحة والتجاذبات الإقليمية.. ما مس ...
- لا، جامعة هارفارد لم تستبدل العلم الأمريكي بالفلسطيني


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - قوى الإصلاح والديمقراطية - الحزب الشيوعي اللبناني - موضوعات في الأهداف والهوية