أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر جمعة زبون علي البهادلي - الرّواية بين التّحولات الفكرية والعولمية















المزيد.....


الرّواية بين التّحولات الفكرية والعولمية


جعفر جمعة زبون علي البهادلي

الحوار المتمدن-العدد: 6363 - 2019 / 9 / 28 - 18:29
المحور: الادب والفن
    


الرّواية بين التّحولات الفكرية والعولمية
د. جعفر جمعة زبون علي البهادلي
تنطلق العولمة في الأدب من طروحات المقاربة بوسائلها المتداولة الآن كافة، من حيث سهولة وتلاقح الأفكار وإيصالها وتقبل الآخر لنتاجات أدبية قد لا تكون مرتبطة بالضّرورة بجذور واضحة ومعروفة عند المتلقي البعيد عن منشأها من جهة الفكر والمعنى. فأصبح من ذلك العمل الأدبي المعروض ممتلكاً لمساحة أوسع مما كان وارداً سابقاً، بفعل الأدوات التي أتيحت للقراء وإمكانية تقريب المسافات كنتاج لمسعى المراكز في محو الحدود وإلغاء فوارق استقبال وتقبل معنى المنتج الأدبي "إنَّ العالم لم يعد مسكنا لكيانات مجتمعية مفصولة ومعزولة عن بعضها البعض وإن العالم صار مترابطاً بصورة عضوية.. بحيث إنَّ ما يحدث في أي بقعة فيه يؤثر في جميع بقاعه الأخرى مهما تباعدت المسافات أو تنافرت الثّقافات" . فالأديب امتلك غطاءً قوامه الإندماج الكلّي في خط شروع فهم متسع للنّتاجات المتنوعة من مختلف الأقطار. فباتت الوسائل التّقنية وبسبب تميزها في جهات دون سواها، تؤمن ذيوع مسلك أو اتجاه إسلوبي يرافقه زخم إعلامي يكون الغرض من ورائه تأمين القبول عند الآخر، وإنْ تحقق بدرجات متفاوتة عند قرائه المختلفين من حيث الانتماءات الإبتدائية. وإنَّ مفهوم الإنصهار الثّقافي لا يشترط، أو يسعى لجعل المتلقي على قدم المساواة مع المرسل لتلك الأعمال الفنية، لتذويب مفهوم المستويات الذّوقية وتعادل درجات التّقبل، ليؤمن بذلك وصول تأثير التّيار أو الحركة الأدبية إلى أوسع مدى ممكن تحقيقه "ومع ما بعد الحداثة محو الحدود بين الثّقافة العليا والثّقافة الدّنيا. .. تؤدي إلى اختلاط الامور لدرجة يصعب معها الفصل بين الأدب الرّفيع وانماط السّوق. أي الدّخول إلى عملية تهجين ثقافي لا يبقى هنالك شيء اسمه ثقافة أصيلة" . فالأدب في العولمة لا يتم إطلاقه من خلال القفز على الثّقافات الرّافضة، بل يتم من خلال جعل الفهم العام متقارباً، أو في أقل تقدير فهم طروحات الآخر حتى مع الاحتفاظ بأصل ثقافي يعرف عن جذور حضارة أو تجمع بذاته. بما يجعل ذلك إمكانية موازاة الاتجاهين (الأصيل والوارد حديثاً) مع بعض بمسعى دمجهما في النّهاية، والاشتغال أدبياً وفق طروحات المستقدم وتزينها بحلة محلية واضحة.
وهذا ما نلمحه واضحاً في قصة وسيناريو فلم (بابل) للكاتب (غييرمو أرياغا) مكون من ثلاث قصص درامية متكاملة تدور أحداثها في المغرب، اليابان، المكسيك والولايات المتحدة. إذ تجري أحداثه في الصّحراء المغربية، عندما يقرر أخوان طفلان يرعيان قطيع الماشية المملوك لعائلتهما، أن يختبرا بندقياتهم، ولكن تذهب أحد الطّلقات بعيداً جداً، وتتغير حياة خمسة مجموعات من النّاس في ثلاث قارات مختلفة. تشمل المجموعات زوجين أمريكيين (براد بيت، كيت بلانشيت) إذ تصاب الزّوجة بالطّلقة وهم في الحافلة السّياحية، ومراهقة يابانية صماء ووالدها إذ إنَّ البندقية كانت ملكاً للياباني، ومربية أطفال مكسيكية برفقة طفلين أمريكيين عبرت بهم الحدود وهذان الطّفلان هما ابنا الزّوجين الأمريكيين والمربية أرادت فقط حضور زفاف في العائلة لكن ذلك كلفها الكثير.
إنَّ ما يميز العولمة ليس فقط قدرة الصّهر الثّقافي وإرسال الخطاب المؤدلج ليكون في صميم تجربة الجهة المستقبلة، وإنَّما من خلال إحلال مفاهيم أعم تمثل قاعدة لأجل إنجاح خاصية الاستقبال. فالتّركيز بداية يكون على مفاهيم التّقبل والاستعداد الإبتدائي لتداول الوافد الجديد، حتى يتسنى لأساليب الأدب العالمية من أنْ تغزو المحاور البعيدة عن مراكز الإنتاج العام. وإنَّ مفهوم الأدب في ذاته لم يعد حكراً على مواقع مكانية بعينها، وإنما كان للتّقدم التّقني دورٌ في جعل النّتاج الأدبي من المقتنيات الشّخصية، أسوة بفن الرّسم وكذلك الخزف أو النّحت أو الأشرطة والأقراص المدمجة الموسيقية، مع وضع ذوبان الحدود وتبلور ظاهرة التّهجين كمعاضد لذلك المسعى ومكمل لطرائق عولمة المنجز الفني بشكل عام، والأدبي بشكل خاص وبعد أنْ انتشرت ثقافة الاقتناء وأصبحت البيوت بمثابة المكتبات الصّغيرة لجمع المقتنيات الأدبية، غير أنَّ الانتقالة الأهم هي التي أحدثتها التّقنية العالمية اليوم، إذ تم تأسيس أمكنة افتراضية جديدة، استطاعت أنْ تحقق انتشاراً كبيراً وعظيماً في الوقت ذاته، لما لها من القدرة على تجاوز خاصية المكان والزّمان واللّغة وغير ذلك. فيلاحظ من ذلك أنَّ سعي العولمة بطريقتين هما: الأول في إذابة حدود وفواصل الكيانات المتنوعة للأدب، لينتج من ذلك البديل المتسع مساحة، مقارنة بماضي الأدب؛ والثّاني إذابة فواصل الذّوق العام ومقاربتها أو توحيدها إنْ أمكن، ومن ثمَّ تكون المحصلة عتبة تلاقح أدبي بين مرسل ومستقبل تؤمن هيمنة المرسل المستند على أدوات العولمة وقدرات المراكز ذات الجذب الأعلى.
هذا الإنصهار المتقابل بين المادة الأدبية والجهة المتسعة أو القاعدة الافقية من الجمهور، باحتساب أنَّ أدباء الأطراف سيمثل لهم وفق ذلك جمهوراً يقرأ النّتاج الوارد ويعيد تشكيله من جديد. ومن ثمّ فإنَّ المدى أو المسار الذي يسلكه الأُسلوب العام، أو المنتج الأدبي الجديد، سيبلغ مديات قصوى من التّأثير ما كانت لتتحقق لروائيي العصور المنصرمة. وبما يرجح سرعة ظهور نتائج مشابهة عند الأطراف بزمن قياسي نسبياً. وقد يتبين من ذلك أنَّ المراكز تستثمر تعالقات العلم والطّروحات التّقنية، لربطها مع الأفكار والمخارج الشّكلية أو سبل الإظهار الأمثل لتأمين سرعة تحقيق المنجز ووصوله، وبذلك يتبين "أن ّرفض فكرة النّظر إلى الفن بوصفه ابداعا اصيلا ومتفردا في الزّمان والمكان. ومهد الطّريق للقول ان رسالة ما بعد الحداثة تكمن في أن الصّورة قد اصبحت الآن سلعة تنتج آليا، وجزء من منظومة السّلع والاتصالات الكلية، إذ يمكن التّقاط الاساليب المدركة والمنقولة عولميا في اي مكان، وفي اللّحظة نفسها، مكنها أنْ تتحرك حرة أيضاً من قارة إلى اخرى" . فيمكن من ذلك اعتبار الرّوائي في المراكز والمؤسسات الأدبية مشروع انتاج يأخذ في حساباته عولمة ما يقدم، وزيادة ضخ النّتاج وسرعة انهائه بفعل دور الآلة المتسارع الارتباط والتّعالق مع مسار الأدب. لتكون النّتيجة زخماً إنجازياً يؤمن استمرارية التّأثير وإغراق المتلقي بالمنجزات التي تزاحم المحلي وتتعالق معها في أقل تقدير.
لذلك فإنَّ الأدب العالمي المعاصر، أفاد من دور الآلة، الذي سهل عملية الإنجاز واختصار الوقت والجهد. وما كان يحقق بعددية أكبر سابقاً، بات الآن يشتمل على ترجيح دور الأفكار فوق الإنجاز اليدوي الحرفي، وبما أعان على اختبار نتائج الأفكار التي لم تجد لها صدى مسبقاً، فتحقق عن ذلك نتائج مفصلية في مسيرة الأدب العالمي. الأمر الذي مثل انزياحاً واضحاً في خط الإنجاز التّقني. وبما يدعو إلى اعتبار التّقنية المستحدثة في ذاتها ستمثل تأثيراً مضافاً يحسب للعولمة.
فالأمر من ذلك يعد دعوة وتشجيعاً للاشتراك في هذا الحقل وما يحمله من إغراء متزايد بفعل سهولة الإنجاز موازنة بما تقدم. فالتّقنيات المعاصرة باتت تقدم بشكل دعائي تجعل الأديب ينزح نحو تجربتها واستثمار قدراتها. والأمر لم يعدْ مقتصراً على الرّوائي فقط، فالأدب أخذ ينزوي تباعا عن التّقنيات الحرفية لمصلحة تمثيل الأفكار في وسائط أداتية، بات يجذب العديد ممن يرومون التّجريب في ذلك السّياق، دون الحاجة إلى تأكيد قدراتهم الأدبية الابتدائية، ما دام العالم تسوده اليوم منتجات أدبية تتسم باللاتشخيص ومقاربة المنجز الآلي المستخدم في الحياة اليومية، والتّي تمثل على بساطتها الظّاهرة، عامل إغراء لكل قرائها على مختلف انتمائاتهم المكانية والثّقافية، لأجل تقديم المقارب منها، أو المنجز تحت إيحائها، وبذلك يمكن عدّ "الثّورة التّقنية قد أسفرت عن ثورة في الآداب منذ أن أصبحت متوافرة وفي متناول الجميع" . فالأمر وفق ذلك يمثل تحولاً واضحاً في المفاهيم والتّعامل مع الطّروحات الأدبية الرّوائية، بعد أنْ تمكن الأدب التّشخيصي من الثّبات طويلاً في التّأثير على العامة من المتلقين وعلى الأجيال النّاشئة تباعاً من الرّوائيين. لذلك يمكن القول إنَّ حتمية التّحول في ظل المعاصرة وبفعل مفاهيم العولمة، أحالتّ المنجز الأدبي المعاصر إلى دائرة اشتغال أوسع وأبعد مدى من حيث أدوات التّنفيذ الإبتدائية (المعالجات الفكرية) والنّهائية (المخرجات أو الاظهارات التّقنية)، فليس بالمستغرب أنْ تكون الطّروحات السّابقة بمثابة الدّافع أو المحرض الواضح لأجل توحيد الخطاب الأدائي في تلاقح واضح بين المراكز والأطراف المتنوعة، ما دام الرّوائيون، بإختلاف مشاربهم وثقافاتهم، قادرين على استثمار ذلك في طروحات أدبية تماهي مفهوم التّقبل المحلي لديهم، من خلال تسخير تلك الآلية الأدائية وجعلها متوافقة والفكر المبني على المحلية لأجل الوصول إلى منجز يتسم بالجدة والتّأثير لديهم، أو ربما أبعد من ذلك من خلال إعادة تصدير المستورد بحلة جديدة. ومن ثمَّ سيكشف ذلك عن مفهوم العولمة في مجال الأدب بصورة جلية عند المتتبع، من دون الحاجة إلى الدّخول في ما يقدمه منجز المهمش من مضمون قد يكون منغلقاً على العالمية بسبب إيغاله في محليته. الأمر الذي سيشكل تواشجاً مع العالمية على مستوى عتبة الإنجاز الأدائي وليس على مستوى إرسال الأشكال المنجزة، فيكون تحقيق التّأثير من خلال اسلوب الصّياغة والبناء (المتداول عالمياً) فقط.
هذا الأسلوب من التّوحيد العالمي، الذي يروم الدّمج بين الأساليب، إنْ لم يكن عن طريق وحدة المضمون، سيمثل أرضية مشتركة تكون بمثابة لغة متداولة بنطاق عالمي، تمهد الطّريق نحو تقارب الطّروحات وإنْ كانت بصيغة غير مباشرة، أو أنْ تقارب بين قدرات الحوار الرّوائي بين المنجزات الرّوائية وبين المتلقين المختلفين بسبب مرجعياتهم الثّقافية. بذلك يمكن اعتبار أنَّ العالم برمته يتجه في بنية التّداول لما يسمى بوحدة السّياق الكوني، أو يمكن القول بأنَّه يتجه نحو اللّغة الموحدة في بنية الخطاب بشكل عام. من تلك العتبة يتم الإنطلاق نحو التّنوع الذي يبقى في دائرة القراءة الكلّية العالمية.
فليس ذلك بمستغرب على أنْ تقام المعارض العالمية الجماعية للأدباء والرّوائيين، أو أنْ يقدم روائي أوربي أو آسيوي نتاجاته في قارة أخرى. وعلى ذلك لا يعدو الأمر سوى اتساع في دائرة المتلقين لتشتمل جمهور العالم المهتم بتلك الحقول الأدبية بأجمعها. وبالنّتيجة فإنَّ المشترك أو الجامع العام في الاسلوب، أو في المخرجات الشّكلية، قاد حتماً إلى جعله نقطة مركزية يتسع نطاق محيط دائرتها مع تفرع الأدباء الذّين يقدمون أعمالهم تحت سقف تأثيرها. وبما يجعل العولمة واسطة تقفز من خلالها الأعمال الأدبية من فوق العوائق التي تفرض سلفاً، دون الحاجة إلى أنْ تستصحب معها الشّروحات التي تؤمن هيمنتها.
لذلك يمكن استثمار كل فكرة جديدة، أو إعادة صياغة وتحديث ما مضى من طروحات قابلة للمواءمة مع موجة توحيد السّياق التي تسود العالم اليوم. ما دامت المسوغات التي تؤمّن العولمة قد أخذت استقرارها وسط نسيج التّواصل بين أقطاب العالم وأركانه المتنوعة.
لا يتم الإبداع الرّوائي في عصر العولمة بوحدة اسلوبية بوصفها غاية وحيدة، فالتّنوع في ذاته يشكل مناخاً لتلاقح ودمج الجميع في مسار جامع لما يطرح. وعلى ذلك سيكون التّنوع عامل ديمومة في الوحدة الكلّية. فما ينتج من جديد في المركز أو الهامش، يكون قابلاً للانتقال سريعاً نحو مكان آخر بمجرد دخوله على واسطة التّواصل الآخذة في التّوغل في صميم بناء المجتمع المعاصر. والتّميز الفردي على ذلك يبقى جزئياً ومحكوماً ضمن الإنساق العامة التي يؤديها الرّوائي، بحدود وأطر المناخ العام الذي يغلغل نتاج المرحلة الرّوائية بكلّيته وكما يتضح من كون التّنوع لا يعني الإختلاف بالضّرورة، من خلال فعل الرّوابط التّقنية، أو الموجات الاسلوبية التي تؤلف بنية النّتاج الرّوائي المعاصر. فإنْ تم استنباط أو تطوير لمفصل اسلوبي ما، وحاز على سعة الانتشار الإعلامي، فإنَّ تطبيقه سيكون متنوعاً بصورة مرجحة، توحي بالتّنوع والتّعدد على الرّغم من أنَّها ترجع لأصل واحد. كما حدث مع الرّوائي العراقي (أحمد سعداوي) ورواية (فرانكشتاين في بغداد) إذ تمت ترجمتها إلى أكثر من خمس عشرة لغة ما منحها التّعدد والإنتشار الإعلامي، وفي مفاهيم العولمة ستكون المراكز المؤثرة هي صاحبة الإرسال في الغالب، أو أنَّها ستستثمر طروحات روائيي الهامش لإعادة إرسالها بمواءمة أوضح نحو سعي الأقطاب المهيمنة في بث طروحاتها على وسائط جمالية وأدبية أوسع.
إنَّ الرّواية أدبٌ يشتمل على إدخال غير الوارد قبلاً، وانتشار تلك الظّاهرة عالمياً، الأمر الذي دفع المهتمين حتى مع انعدام الاستعداد الإبتدائي والقدرة على تشكيل المنتج الأدبي وفق المألوف سابقاً، سيقود إلى اتساع دائرة المفردات البنائية، ما دام كل شيء متاحاً بمنطق المعاصرة، شريطة أنْ يكون الجديد مؤثراً وفاعلاً بأقصى المديات الممكنة على المتلقين والأدباء الآخرين، فليس مستغرباً – بعد ذلك – أنْ تكون المنتجات المخصصة لأغراض وظيفية وبعيدة عن مجال الأدب والرّواية بشكل عام، أنْ تستقدم وتكون في صميم التّجربة الرّوائية المعاصرة، كظاهرة جديدة قدمتها مراكز إرسال عالمية لتغزو التّفرعات وتكون ظاهرة جديدة تضاف لتراكم الاستقدامات المتواترة منذ مرحلة الحداثة ولهذا الوجه من الأداء قدرة تحفيز وتنقيب وإعادة توظيف لما مر بنا ولم نعرهْ أيّ اهتمام أدبي.
وبذلك قد يكون منهاج التّنقيب له دور في إعلاء هوامش وإطاحة مراكز، ما دامت عتبة الأداء متاحة للجميع ودون استثناء، ما خلا الأفكار التي قادت نحو ذلك التّباري في تقديم المنجزات الرّوائية المعاصرة. فلا يكون وفق ذلك مستغرباً أنْ تنشط دولة أو عاصمة في مكان ما من العالم وتقدم كصيحة أدبية من خلال نتاجات تحوز على الإدهاش والتّفاعل من قبل أماكن أخرى، ما دام الأمر لا يعتمد على الخزين المدخر من الإرث الأدبي. ونشير إلى أنَّ تلك الإبداعات في مجال الأدب قد اعتمدتها أمريكا لأنها لا تحتاج إلى الماضي الفني؛ لأنَّ لها من التّأثير ما تأمن فعله نتيجة لدور العولمة الثّقافية وصبغ التّنوعات في التّلقي بمسحة من الانصهار في سياق عام يتيح للمختلف أنْ يحل بديلاً للأصيل في أيِّ بقعة من العالم، أو أنْ يشاركه في التّأثير وتفاعل الجمهور معه.
فضلاً عن وجود مساعدة تقدم للنّتاجات التي تتعثر في الوصول إلى الآخر بفعل مخالفتها الواضحة، أو امتلاكها للإبهام الذي يعقد إدراك غاياتها. وتتمثل تلك المساعدة من خلال الوسطاء الذّين يقدمون الشّروحات الاستباقية أو المسايرة للمنتج، وبوسائل شتى، حتى يكون له قاعدة تقبل أوسع وتأثير أعلى. وبالطّبع فإنَّ ما للعولمة من أذرع امتدت بها إلى بقاع العالم المتنوعة، قد ضاعفت من فرص وصول تلك التّوضيحات والدّعايات، ومن ثمَّ إقناع أعلى يحوز عليه المنتج الرّوائي الذي يبحث فيه الرّوائي عن التّغريب والتّفرد باستمرار، مثل الكتب الحائزة على تقييم خمس نجمات في الانترنيت. وبما يجعل أيَّ فكرة محلية تملك النّجاح وفق منهاج العولمة، مادة تستحق الإشهار والادعاء عليها إنْ لزم الأمر حتى تحقق أفضل حضور ممكن، من خلال هؤلاء الوسطاء القادرين على فعل ذلك "الوسطاء الثّقافيون يعملون بين الاعلام والحياة الفكرية والاكاديمية ليساعدوا على تسهيل نقل أو تداول البرامج الفكرية الشّعبية إلى الإعلام" ، هذه الآلية التي وظفت في خدمة منطلقات العولمة لغرض انجاز هيمنة أدبية، إنْ لم يكن بوساطة تأثير المنتج مباشرة، فإنَّها ستكون من خلال الدّفع الإعلامي المصاحب له. ومنه يتبين أنَّ الرّوائي إنْ لم يكن له حظوراً على ساحة الاعلام، حتى وإنْ امتلك مقومات النّجاح، فإنَّه سيبقى مختفياً في الظّل، نتيجة توجه الجمهور نحو مناطق إضاءة إعلامية دون سواها؛ لأنَّ الإعلام يكون ركناً من عملية الإشهار التي يرتجيها الرّوائيون المعاصرون. ولاسيما في مناطق الإرسال والمراكز العالمية المضطلعة بذلك.
إنَّ العولمة في أدب الرّواية لم تنشأ من العدم، إذ كان لابد من وجود مرتكزات ابتدائية تسمح بأستخدام أدوات العولمة ومفاهيمها، فتكون النّتائج المستثمرة تباعاً تحقيقاً لغايات الهيمنة والإنتشار، ما دام الإتجاه العام للحركة الأدبية والثّقافية يروم الوحدة الكلّية مع امتلاكها لتنوع ضمني، وكان لابد من وجود مرتكزات شكلية أو اسلوبية يحسب فيها أنْ تكون ذات صبغة عالمية، أو أنْ تكون قابلة للاستثمار فيما سيلحق من فترات متقدمة. وسيكون لبعض روائيي الأجيال السّابقة حضورٌ واضحٌ في المعاصرة، كونهم اعتمدوا صيغاً بنائية تمكنت من الصّمود مع موجات التّبديل السّريعة والمتعاقبة، كما توسع مجال الأدب ليشمل عددية ما كانت تقدم فيما سبق.
لم تكنْ ولادة تلك القفزات الاسلوبية أو الشّكلية بمعزل عن بواكير توجه فكري عام اضطلعت به أمريكا، من خلال بث ثقافات معينة يكون لها تأثير مباشر على الذّوق العام وعلى تسيد اتجاهات وأساليب أدبية دون سواها، الأمر الذي يجعل الرّوائيين يعملون بمقتضى ايحائها، فتكون النّتائج المستقبلية خدمة لأجل ترسيخ تلك المفاهيم. وفي قراءة مباشرة لمفهوم الاستهلاك وثقافة الابدال المتسارعة، يتبين المغزى والجدوى من زيادة عدد الرّوائيين، أو المشتغلين في مجال التّخصص الرّوائي، ما دامت كلمة روائي ستطلق على كل من يملك فكرة جديدة تطوع بوسائط موائمة وتقدم بعدّها عملاً روائياً فنياً، فخلف ثقافة الاستهلاك ذاتها اللّعب أو اللّهو السّاخر، إنَّها ضد الموقف المتحفي والأكاديمي في عمل الأدب وكيانه. واتساع سوق الأدب وتزايد الرّوائيين والفنانين والعاملين في المهن أو الحرف المساعدة ولاسيما في مراكز العواصم . فالأمر يكون انقلاباً على الأدب الأكاديمي المتوارث، بمقدار ما مثل تحولاً نحو منطلقات عالمية جديدة يتيح للانتشار أنْ يعاضد سمات العولمة ويخدمها. حتى وإنْ كان تأثر الرّوائيين وعملهم، سواء في المراكز أو الأطراف، بمعزل عن إدراك تلك الرّسالة المحملة على اتجاهات الأدب والرّواية المعاصرة.
تسير مع تلك الآلية في عولمة الأدب المعاصر، مظاهر ثقافية تسند ذلك التّوجه وتحيطه بالمبررات على الاشتغال بهديه، كانبثاق مصطلحات الوحدة البشرية من حيث الحرية المطلقة وضرورة النّهوض عن أرضية مشتركة وجامعة. الأمر الذي سيقوم بتوحيد القاعدة الجماهيرية مثلما سيقوم بمقاربة رؤى الرّوائيين بالإجمال "فالقول بالمساواة بين البشر، والحرية الفردية عند البعض يعتبر عند الآخرين ازدياداً في القدرة على المعالجة الأيديولوجية" ، فالتّأكيد على مفهوم الوحدة العامة والمقاربة بين المختلفين، سيشكل الرّكن الأساس في منظومة بث الخطاب المعاصر دون الحاجة إلى تجزئته بغية قبوله من قبل مختلف الثّقافات، الأمر الذي سيسهل قيام الأساليب الرّوائية المعاصرة بالانتشار السّريع والقبول عند الآخر. فإنْ امتلك مركزاً ما قيادة الأساليب والإتجاهات الأدبية بصورة أعلى من المراكز الأخرى، فإنَّ ذلك سيولد له حاضنة في الأطراف المستلمة تتيح له أنْ يكون مركز بث ونقطة الجذب، لحين وجود بدائل تفرض نفسها دوناً عنه.
ولذا فإنَّ العولمة ستقدم هجيناً واضحاً وخلطاً مقصوداً بين المتوارث والوارد حديثاً. وإنَّ عامل الإيحاء وإغراء المستورد سيشكل مرجعاً، مثلما سيكون للنّخر حظورٌ هو الآخر، والنّتيجة ستكون وحدة يقدمها الدّمج المستمر، بفعل ضغط الإعلام والذّي سهل وصول الجديد عند الرّوائي، دون الحاجة إلى الذّهاب عند موارد الإنتاج، فإذا كانت هذه الآلية تتضمن ذهاب الرّوائيين إلى عواصم الأدب المعاصرة، فالنّتائج المتحققة في مسعى العولمة ستكون أوضح ظهوراً في نشوء اسلوب لدمج التّراث الغربي بالشّرقي وذلك بصهر إرث هذه الآداب معاً.
إنَّ العولمة وبما تقدم من سياقها، لا يعني أنَّها قد سيطرت على مجمل نتاج المعاصرة الرّوائي، أو الأدبي بشكل عام. إذ امتلكت العديد من الأطراف والمراكز، سمات التّفرد والابتعاد عن حالة الانصهار العالمية، والإبقاء على الطّابع المحلي وجعله هويتها المعرِّفة لها، بمعزل عن هيمنة النّسق العالمي الآخذ في ابتلاع الهويات الخاصة وجعلها جزءاً من كل، واجب القيام، حتى يمكن لها أنْ تقدم ذاتها عالمياً، وإنْ كانت المراكز أو الأطراف الرّافضة لحالة الإنصهار تلك، تروم الابقاء على ذاتها المنزوية عن قبضة العولمة، فيتوجب أنْ تملك إرثاً وخصائصاً متفردة في مجال الأدب، فضلاً عن الثّقافة، التي تعينها على البقاء مستقلة وحاضرة في ذات الوقت وبما يعزز تصور أنَّ العولمة وإنْ كانت تبغي توحيد الذّوق أو مقاربته. من حيث قاعدة الاستقبال أو من حيث الرّوائيين الذّين ينضمون أدائياً في سياقهاً، فإنَّ نتائجها النّفعية ستسير نحو أقطاب دون سواها، بعدّه الموجه الأول للعولمة والمفيد من معطياتها المستحصلة. فتحول هاجس الآخرين إلى حالة من الرّفض والبحث عن التّفرد من خلال الخروج عن النّسق وتشكيل أقطاب مرسلة، في محاولة لمزاحمة الجهات المسيطرة في عولمة الأدب المعاصر.
إنَّ هذه المعادلات في البحث عن تواجد عالمي، وسط المجموع، أو بالإنزواء عنه، سيولد صراعاً تتجاذب فيه الأقطاب ويؤدي دور المؤثر الأكبر والهيمنة العالمية، متى ما أمتلكت مقومات النّجاح والإرتقاء، وبذلك يكون سياق الأدب العالمي المعاصر، حالة من التّفاعلات والتّجاذبات المستمرة وغير المنتهية، على مستوى العالم ككل، أو حتى ضمن البلد الواحد؛ لأنَّ المستورد لا يدخل ويستوطن بيسر دون أنْ يجابه بمعارضة متوقعة، ومن المرجح أنْ تكون ثلاثة مستويات في داخل أيّ قطب يستلم أو يتفاعل مع المادة الأدبية المستوردة: المستوى الاول يمثله التّمسك بالمرجع المحلي دوناً عما يرد من الخارج. ومستوى ثانٍ يرحب بما يقدم حديثاً لكونه صيغة الأداء العالمي والطّريق نحو الحضور خارج حدود المحلية. ومستوى أخير يكون خليطاً بدرجات بين ما هو موجود مسبقاً وما يقدم حاضراً كما "إنَّ الثّقافات المتنوعة تتواصل فيما بينها هذه الايام الأمر الذي جعلها اكثر نفوذية حتى ضمن البلد الواحد. فالثّقافة اليابانية تعد ثقافة غربية واسيوية، والثّقافة التّركية تعد ثقافة اوربية واسلامية، والثّقافة الاسترالية ثقافة انكلو ساكسونية وثقافة اسيوية" . لذلك من الممكن أنْ تنشأ الثّقافات الجديدة، التي يبدو فيها جلياً التّنوع بإمكانية إعادة جزئياته وانسابها إلى مواطن قدومها، أو قد يكون لذلك التّجاذب نتائج جديدة لا تمت بصلة لأيِّ مرجع مباشر. وفي هذه الحالة سيتحقق فعل العولمة في الأدب المعاصر، فبات الاسلوب أو الطّراز العربي على سبيل المثال، رافداً وجزءاً من كل عام، في نمط مقروء وفق منهاج العولمة، ومن جانب آخر بقي حائزاً على خصوصيته ويقدم وفقها، ونمط قراءة آخر يغرق في تأكيد المحلية والارث الحضاري المتوارث.
هذه الخلطة المستحدثة كفيلة بجعل مفهوم الهوية والأصالة متخلخلاً قابلاً للتّراجع أمام المد العالمي الذي تسوقه المراكز على الأطراف، وإنْ كان من تبدل في الذّوق وطبيعة تقبل الوافد من الخارج والتّفاعل معه، قد شابها التّبدل التّدريجي لصالح الرّؤية التّوسعية. فإنَّ قيمة المحلي ستتراجع قطعاً لمصلحة الفوضى العولمية التي يحققها الإندماج والتّواشج الحاصل بفعل عولمة الأدب المعاصر. ومن ثمَّ يكون لطبيعة القراءة المعاصرة، عدم الاهتمام نحو الاحتفاظ بما يقرأ كخزين في الذّاكرة، سيكون لها دور كبير في جعل التّكرار والإضافة ممتلكة لذات القيمة التي تحققها النّتاجات الرّوائية المتفردة أو السّباقة في الطّرح. هذا الاختلاط المقصود والممنهج ولّد حظوراً مستمراً للأساليب المتجددة، ما دام الرّوائي يروم البحث عن الموائم مما يقدم له، أكثر من كونه باحثاً عن تحديد هوية ما يعرض له، سيما وإنَّ الجديد يحمل معه الإغراء نتيجة الصّدمة ومخالفة التّوقع التي توطن على رؤيتها الرّوائي والمتلقي في مرحلة المعاصرة.



#جعفر_جمعة_زبون_علي_البهادلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر جمعة زبون علي البهادلي - الرّواية بين التّحولات الفكرية والعولمية