عبد الزهرة شذر
الحوار المتمدن-العدد: 1529 - 2006 / 4 / 23 - 08:08
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
هل يمكن القول ان العالم الرأسمالي نجح في نزاعه مع العالم الاشتراكي محققا بذلك انتصارا ساحقا وعلى كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، معتمدا على عنصر مهم ومؤثر في ذلك هو المبادرة الفردية واعطاء الفرصة لكل انسان في القدرة على النمو والتوسع وحرية الحركة (دعه يعمل دعه يمر), فضلا عن الاستفادة في رصد الهوة التي تحدث في البناء الاجتماعي لذا تم تحقيق اصلاحات واسعة في النظام الضريبي والتأمين الاجتماعي عبر مؤسسات مهمتها الحفاظ على مستوى من الاعانات تحفظ للانسان حدود كرامته. وهذه الصورة لم تكن هكذا، بل حدث فيها تطور نتيجة لنمو المطالبة بالحقوق الاجتماعية والسياسية عن طريق الاضراب والتظاهر والممارسات الديمقراطية المتعددة التي اخذت بالنمو على مدى القرنين السابقين.
يقول تزفتان تودورف: (جئت من بلد يعد اشتراكيا سعدت بمغادرته نحو بلد من بلدان (الانحطاط البرجوازي) مثلما كان يقال في بلغاريا. وقد فوجئت هنا عندما اكتشفت ان الناس، خصوصا في الاوساط الفكرية والفنية، يدعون بمحض ارادتهم الى افكار يتم قبولها في بلغاريا وحدها لان الامر كان جبريا! من هذه الزاوية وجدت (السنوات الثلاثين المجيدة) للاقتصاد سنوات ركود على صعيد السجال الفكري الذي كتم انفاسه النموذج الماركسي الثقيل.
ما اذهلني فضلا عن ذلك هو القطيعة بين ما يدعو اليه اصدقائي الجدد- الطلبة المتقدمون والباحثون الشبان- ونمط حياتهم فهم يحيون كافراد حياة (البرجوازي البوهيمي) مثلما يقال اليوم، كافراد تطغى عليهم النزعة التحررية والنزعة الفردية بينما هم يحافظون في الوقت نفسه على نوع من الهواجس او من اليوتوبيا الغامضة التي لو قدر لها ان تتحقق لادت الى الغاء احب الاشياء اليهم في هذه الحياة حرية المرء ومرونته وانفتاحه على العالم الخارجي.)
هذا ما قاله تودورف عن رحلته الى باريس هربا من المعسكر الاشتراكي واصفا ما هم بحاجة اليه حتى جاء اليوم الذي هربت فيه حشود الالمان الشرقيين الى جدار برلين لتعبره الى المانيا الغربية وكان يوما مشهودا.. حدث ذلك ونحن الان نتطلع الى حدوث المزيد ولكن لا نريد ان يكون ذلك وهما نندم عليه بعد ان نكتشف ان العالم الحر ليس حرا بما يكفي لكل العابرين.
محنة تودورف لم تكن وحده بل كان هنالك المئات والالوف من الذين هربوا طلبا للخلاص مما كان يحيق بهم ويمحقهم، وما زال الخوف من الحرية حتى في المعسكر المنتصر هاجسا مقلقا.. لتداعي الانتصار الى تحول للعالم باسره الى ميدان لورقة اختبار.
الحالمون بالاشتراكية لم يكونوا يعلمون ان حلما صغيرا لدى بائع على الرصيف سيصبح كبيرا لدرجة انه يمتد من بولندا الى المانيا حتى حدود روسيا، انه حلم بمشروع الفرد الذي سيظل يقاوم عجلة القوى الاكبر والتي لا تستطيع ان تقرأ هواجسه.
لم يكن العالم مقيدا الى هذا الحد حتى بزوغ القرن العشرين حيث تسارعت فيه الاحداث فصارت الحرب العالمية الاولى والحرب الثانية والحرب الباردة وكلها كانت تغطي ملامح القرن بكامله، وهي تخضع الانسان الى حلقة من الموت والدمار والمصادرة لا نجد لها نظيرا.. فبات مسعى الانسان الى التحرر والانعتاق ليس سوى اكذوبة ولكنه رضي بالجزء المائع منها ولو على حساب بعض اشيائه فأوربا تحلم بما يريده الاوربيون وامريكا تحلم بالقضاء على رأس (الناتو) والشرق يخشى من خارطة لا يجد فيها نفسه وقد يكون مرميا الى اقصى الغرب..ان العالم ما بعد (الحرب الباردة) قد تحول الى صراع من نوع اخر لم تعد فيه القوى النووية ذات فعالية ساحقة، والتهديد بها ليس مقبولا.
بل انبثقت الاحداث عن انماط دينية كانت حتى منتصف القرن الماضي لا يحسب لها حساب، حتى ان (بريجنسكي) قسم العالم الى ثلاث مجموعات ثقافية تتنازع المواقع اولها المجموعة الامريكية وثانيها المجموعة الاسلامية وثالثها المجموعة الكونفشيوسية. اي ان الملامح الجديدة للعالم تختزل الى مكونات اقل ما يمكن ان يقال عنها انها دينية بالاساس مسيحية، اسلامية، كونفشيوسية, ولغوية: انكليزية، وعربية، وصينية.. هكذا يعيدنا العالم الى رحم ابنائه الثلاثة حام وسام ويافث الذين يقتسمون العالم من جديد ولكن هذه المرة سيكون الطوفان وفي مناطق محددة. ان تعمد اختزال العالم الى صورة واحدة في النهاية منظور تلح عليه اطراف لا ترى في التعدد شيئا ذا جدوى والادعاء متأت من طبيعة تلك الايديو/لوجية المزهوة بانتصاراتها والتي لا ترى في الاخرين الا محميات لم يتبق من حصونها شيء شوى بنائها الثقافي والذي يمكن تهشيمه من خلال سطوة الاعلام ووسائل سياسية واقتصادية يمكنها ان تلقى قبولا على اعتبار ان العولمة لا تحتمل اكثر من مظهر واحد، يجب ان يعيش تحت شروطه كل العالم ومن لا يحتمل تلك الشروط فهو مضاد لحركته الجديدة..
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟