أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد علي الأتاسي - معلومات مضللة عن إدوارد سعيد: كنعان مكية واليمين الأمريكي الجديد















المزيد.....



معلومات مضللة عن إدوارد سعيد: كنعان مكية واليمين الأمريكي الجديد


محمد علي الأتاسي

الحوار المتمدن-العدد: 429 - 2003 / 3 / 19 - 02:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أخبار الشرق - 16 آذار 2003

تقدم حملة التشهير الإعلامية التي تعرض لها البروفيسور إدوارد سعيد على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، أي منذ نشره مقالته النقدية اللاذعة عن الكاتب والمعارض العراقي كنعان مكية، فرصة نادرة لعرض طبيعة علاقة مثقفي "البلاط" الجدد بالإمبراطورية الأمريكية، والدور الذي يمكن أن يلعبه في مواجهتهم المثقف النقدي، من أجل تعرية هذه العلاقة والضريبة التي يتوجب عليه دفعها ثمنا لمواقفه النقدية هذه. هنا قراءة في السجالات التي أحاطت بهذه القضية والتي لم تنته فصولها بعد.

في 3/12/2002 نشر البروفيسور ادوارد سعيد مقالة في جريدة "الحياة" تحت عنوان "معلومات مضللة عن العراق" (نصها الإنكليزي نشر في صحيفة "الأهرام ويكلي")، ضمّنها هجوما عنيفا على سياسة الحرب الأمريكية حيال العراق، وانتقادا شديد اللهجة لدور بعض اطراف المعارضة العراقية المتعاونة مع واشطن، وعلى رأسهم المعارض العراقي المقيم في الولايات المتحدة والأستاذ في جامعة "براندايز" كنعان مكية. ولم يأت إدوارد سعيد في مجمل مقالته على أي جملة يستشف منها تأييد مضمر أو علني للنظام الدكتاتوري في بغداد. ومع ذلك، ومنذ ظهور هذه المقالة، وإدوارد سعيد يتعرض لحملة تشكيك إعلامية لا سابق لها تجاوزت صفحات جريدة "الحياة"، حيث لمكية أصدقاء كثر، وامتدت إلى مختلف مطبوعات المعارضة العراقية ومواقعها على شبكة الإنترنت. إن الوقوف على مجريات هذه القضية وعرض بعض تداعياتها بات ضروريا اليوم لأنها تتجاوز في أهميتها ما صوّره البعض على أنه مجرد خلاف في وجهات النظر بين مثقفين من أصل عربي مقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية. فهذه القضية بتشعباتها المختلفة تدخل في صلب إشكالية دور المثقف النقدي في مواجهة السلطة، وهي تتناول موضوعات شائكة ليس أقلها حاضر العراق ومستقبله بين دكتاتورية صدام حسين والهيمنة الأمريكية. وكذلك تبيّن تحامل بعض أطراف المعارضة العراقية على المثقفين العرب المستقلين بسبب رفضهم تأييد الحرب الأمريكية على العراق. كما أنها تطرح، من خلال الطريقة التي تم بها تحريف مقولات ادوارد سعيد، مصداقية بعض أجهزة الإعلام في مثل هذه القضايا، وعدم قدرتها على التزام الحد الأدنى من الموضوعية، عندما يتعلق الأمر بحقيقة ما يحاك لحاضر العراق ومستقبله.

الحملة على سعيد
لقد اتُهم إدوارد سعيد بالتواطؤ مع النظام الدكتاتوري في بغداد، بل بتأييده ونفي جرائم الإبادة التي ارتكبها بحق شعبه. وهو الذي كان على الدوام من أوائل المثقفين العرب الذين أدانوا الأنظمة الدكتاتورية الممسكة برقاب شعوبها، ولم يوفرها بالاسم ولم يستثن منها أحدا، بما فيها نظام البعث في العراق.

ومع ذلك فإن هذا كله لم يشفع له لدى بعض أطراف المعارضة العراقية ومن لف لفهم من الكتّاب والصحفيين، بسبب "تجرؤه" على نقد أحد رموز المعارضة العراقية الأكثر إثارة للجدل، السيد كنعان مكية، وتشكيكه بحقيقة كفاءته الأكاديمية ومصداقيته السياسية، وكشفه لطبيعة الخدمات التي يقدمها للإدراة الأمريكية. ومنذ نشر مقالة ادوارد سعيد وسلسلة الردود المتهجمة عليه لم تتوقف لا في جريدة "الحياة" (تسع مقالات)، ولا في مطبوعات المعارضة العراقية في الخارج. ونستطيع القول إن معظم هذه الردود، إذا لم تكن كلها، لم تجب على أي من التسأولا ت التي طرحها سعيد ولم تناقشه معمقا في أي من طروحاته عن مستقبل العراق وما ينتظر شعبه من تدمير وقتل في حال نفذت الولايات المتحدة تهديداتها بالهجوم على هذا البلد.

وتشكل هذه الردود بمعظمها أمثلة نموذجية في فن الشتائم والتحامل وسوء النية بحق أحد أهم الأكادميين العرب في أمريكا وأكثرهم مصداقية واستقلالية. فإدوارد سعيد يتهم تارة بالمكارثية وبالعمل كمخبر يراقب ويشهر بكنعان مكية بطريقة "يندى لها الجبين" (أهيف القادري "الحياة" 27/12/2002)، وتارة يوصف بشبهة "الانتماء إلى مدرسة الملا عمر وابن لادن" (مصطفى الكاظمي "الحياة" 29/12 2002)، وأخيرا وليس آخراً بـ "البحث عن الشعبوية المتبقية من ثقافته الشعبية وعشق السير مع العوام" (محمد الرميحي "الحياة" 21/12/2002).

وإذا كان إدوارد سعيد عُرف على الدوام بموقفه النقدي تجاه كافة أشكال السلطة وابتعاده عن التدليس للأنظمة الحاكمة، أكانت على شاكلة النظام العراقي أو الحكومة الأمريكية، فإن أول ما يظهر من هذه الردود هو إجماعها على أن إدوارد سعيد متواطؤ مع نظام صدام حسين، لا لشيء إلا بسبب معارضته للحرب الأمريكية على العراق. فالصحفي الكويتي محمد الرميحي يرى في مقالة سعيد "وقوفا مع الجلاد ضد الضحية .. وورقة مساعدة للبروباغندا العراقية" ("الحياة"، مصدر سابق). في حين يرى مصطفى الكاظمي (عضو مستقل في مؤتمر المعارضة إلى جانب صديقه مكية) أنه "على الرغم من أن سعيد يقر علنا بدكتاتورية صدام حسين لكنه لم يدنها بل يساند هذه الدكتاتورية التي تعتاش على دماء العراقيين" ("الحياة"، مصدر سابق)، وكأن وصف نظام صدام حسين بالنظام الدكتاتوري غير كاف كدليل إدانة! ويلخص عبد الخالق حسين (مرشح لمؤتمر المعارضة العراقية على قائمة كنعان مكية) في رده على سعيد جل المسألة بقوله، وبكل بساطة: "إن معارضة الحرب تعني مناصرة صدام" (موقع "إيلاف" 13/1/2003).

إن المشاعر الشوفينية تجاه العرب والتشكيك بكل ما هو عربي ودعوة المثقفين العرب إلى الالتفات إلى شئون بلدانهم وترك العراق وشأنه وعدم ربط قضيته بالقضية الفلسطينية، باتت اليوم تجد مكانا واسعا لها في بعض اوساط المعارضة العراقية المتأمركة. وكان كنعان مكية من أوائل المروجين لهذا النوع من الأفكار المقلوبة وقد سبق له أن صرح في مقابلة لجريدة "الغارديان" (12/11/2002) بالآتي: "إسرائيل بنيت على أنقاض 400 قرية فلسطينية، ولكن هناك ثلاثة أو أربعة آلاف قرية دمرها النظام العراقي .. إذا كنت تعيش في العراق لن تكون فلسطين سؤالك المركزي".

وبمثل هذه النزعة الشوفينية والمتحاملة على القضية الفلسطينية سيواجه أيضاً ادوارد سعيد. فحيدر الشيخ علي يتوعد في رده على سعيد قائلا: "لا أسمح لأي كان بالنيابة عن هموم شعب يتعدى سكانه العشرين مليونا، ولا بتخوين الإجماعات التي ارتضاها العراقيون لأنفسهم" ("الحياة" 4/1/2003)، ويحذر الكاتب من تنامي مشاعر الكراهية والبغضاء بين "من يراد لهم على الضد من الطبيعة أن يكونوا ذوي قضية واحدة هي القضية الفلسطينية". أما الكاتب الكردي هلكوت حكيم فيرى في تشكيك سعيد بفكرة الفيدرالية كما طرحها كنعان مكية لمستقبل "العراق الغير عربي"، رفضا منه لحقوق الأكراد، هذا مع أن سعيد لم يأت على ذكرهم في مقالته، ويكتب حكيم متسائلا: "لماذا يدعم ادوارد سعيد بهذه القوة حق شعبه في تقرير مصيره وإنشاء دولته ولا يحق في نظره للأكراد أن يحصلوا على أقل من ذلك؟ وما هي المقومات المتوافرة لدى الفلسطينيين والمنعدمة عند الأكراد" ("الحياة" 4/1/2003). ويخاطب الروائي جاسم المطير إدوارد سعيد بالآتي: "أيها المثقف العربي ادوارد سعيد، أختلف مع كنعان مكية مثل غيري من المعارضين العراقيين، لكنه اختلاف جنديين في جبهة واحدة لكل رؤيته الخاصة في الأحداثية فلماذا حشرت نفسك ولمصلحة من ..؟" ويختم المطير مقالته شاتماً بـ "اغربوا عن وجه قضيتنا العادلة أيها الغربان" (موقع "الرافدين" 12/26/2002). هذا في حين تختم ليلى محسن مقالتها الناقدة لإدوارد سعيد في "الحياة" بعبارة تعتبرها لسان حال العراقيين في حال لم تقدم أمريكا على اسقاط صدام حسين: "يا ويلنا من عرب صدام حسين".

أما كنعان مكية فقد جاء رده على إدوارد سعيد بعد ما يزيد عن الشهر، ففي مقالة نشرها في "الحياة" (14/1/2003) ولم يأت فيها على ذكر انتقادات سعيد، بل خصص مقالته بالكامل للترويج لفكرته عن فيدرالية العراق ما بعد صدام حسين، واكتفى مكية بإيراد جملة وحيدة متعالية تحاول أن تحط من قيمة أفكار إدوارد سعيد وتشبهها بالعمليات الانتحارية، وهنا نصها الحرفي: "ليس لدي ما أقوله عن خطبة التشهير اللاذعة التي ألقاها السيد إدوارد سعيد بحقي وحق أسرتي. إذ أن لغتها وأسلوبها هما للخطاب الذكي مثل العمل الانتحاري للسياسة. فهناك، في الشيئين، أمر لا عقلاني يجمع بين المأسوي والمثير للشفقة".

ولا ندري إذا كنا سنثير شفقة القارئ على ضعف مخيلة كنعان مكية عندما نعلمه أن تشبيهه الرخيص لآراء سعيد في كتاباته، لم يبتدعه بنفسه وإنما اقتبسه من مقالة ضد إدوارد سعيد كتبها دفاعاً عن مكية والمستشرق العنصري برنار لويس صديقهما المشترك مارتن كريمر ونشرها في موقعه على الإنترنت ووصف فيها شخصية سعيد بـ "قنبلة انتحارية تستهدف كنعان مكية وبرنار لويس". وكريمر لمن لا يعرفه هو أستاذ جامعي وأحد أشد المؤيدين لإسرائيل في أمريكا وشغل سابقاً منصب مدير "مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا" في جامعة تل أبيب. ويقود حالياً مع زميله دانيال بايبس حملة تحريض وتشهير عنصرية من خلال نشر قوائم على الإنترنت يوضع فيها اسم أي أستاذ جامعي أمريكي يتجرأ وينقد سياسات إسرائيل.

إدوارد سعيد ناقداً مكية
ولكن ما الذي قاله إدوارد سعيد بالضبط حتى يثير عليه هذه الحملة الإعلامية الشعواء؟

 يبدأ إدوارد سعيد مقالته بذكر الطبيعة الدكتاتورية للنظام العراقي ويشير إلى قلقه من ما يسميه "سيل التقارير والتسريبات والمعلومات المضللة والتقارير عن الحرب الأمريكية المقبلة على دكتاتورية صدام حسين في العراق"، بحيث بات من المستحيل أن يعرف (ونعرف معه) إذا كانت الحرب ستقع فعلا أم أن الأمر جزء من حرب نفسية ذكية. ويؤكد سعيد أنه "من الواضح لكل من لديه اهتمام بشأن عذبات هذا البلد الغني والمزدهر في الماضي ان سنوات حكم البعث كانت كارثية، على رغم برنامج التنمية والبناء الذي نفذه النظام في البداية". وينتقل إدوارد سعيد بعدها إلى تحديد الهدف من كتابة مقالته هذه، فيقول: "ما أرغب في مناقشته بشكل خاص هو ما يبدو بوضوح جزءاً من جهد متواصل يبذله مغترب عراقي، كنعان مكية، ليقدم نفسه بوصفه مبتكر ما يقول إنه بلد غير عربي ونظام غير مركزي في مرحلة ما بعد صدام حسين"، ويشير سعيد إلى المنابر الكثيرة التي باتت تعطى لكنعان مكية في الولايات المتحدة من أجل نشر آرائه. ويؤكد إدوارد سعيد على ضرورة معرفة "من يكون مكية وما هي الخلفية التي برز منها لتقدير أهمية مساهمته ولادراك الميزة الخاصة لأفكاره ومقاصده على نحو أكثر دقة".

وضمن هذا السياق يوضح سعيد أنه عرف كنعان مكية لأول مرة عندما كان هذا الأخير يدرس الهندسة المعمارية في معهد "إم آي تي" في بوسطن في بداية السبعينات وكان مكية يومها على صلة وثيقة بالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ومن ثم اختفى عن أنظاره و"عاد وظهر إلى السطح في عام 1990 تحت اسم سمير خليل مؤلفاً كتاباً عنوانه (جمهورية الخوف) تضمن وصفا لحكم صدام حسين فيه الكثير من الترويع والإثارة". وإذا كان إدوارد سعيد يؤكد "أن أحدا لم يتهم مكية بالتواطؤ مع نظام من الواضح أنه يمقته"، فإنه مع ذلك يشير إلى استفادة كنعان مكية من أموال النظام من طريق غير مباشر بواسطة عمله في مكتب الهندسة الذي يملكه والده المعماري العراقي الشهير محمد مكية، ويستشهد إدوارد سعيد في هذا السياق بكنعان مكية نفسه الذي اعترف في مقابلة مع جريدة "نيويوركر" بأن "صدام، بمعنى ما موّل تأليف كتابه بشكل غير مباشر". وكان سبق لفواز طرابلسي أن أشار إلى هذه المعلومة (مجلة "النهج" السنة 11، العدد 40، 1995) في رده المحكم على كتاب مكية "القسوة والصمت" (1993) وما تضمنه من اتهامات كاذبة لبعض المثقفين العرب النقديين بالتواطؤ مع نظام صدام حسين. ونستطيع أن نقرأ في تبرير مكية لعمله في مكتب الأسرة الهندسي، والذي نفذ في العراق مشروعات ليس أقلها مبنى القيادة القومية لحزب البعث ومبنى قصر المؤتمرات، الآتي: "كان لا بد لأحد أن ينفذ العمل، وكان الأحرى أن يجري تنفيذه على أفضل وجه" (مجلة "النيوركر" 6/1/1992).

ويتطرق إدوارد سعيد في مقالته بصحيفة "الحياة" إلى كتاب "القسوة والصمت" والذي شنّ فيه كنعان مكية هجوما متحاملا على الكثير من المثقفين العرب، ومن بينهم إدوارد سعيد نفسه وابراهيم أبو لغد وأدونيس وأنسي الحاج والياس خوري وعبد الرحمن منيف ونزار قباني ومحمود درويش وصبحي حديدي وكمال أبو ديب وفواز طرابلسي وسواهم، لأنهم، كما يدعي، تزلفوا لبعض أنظمة الحكم العربية أو لزموا الصمت على انتهاكاتها لحقوق الإنسان وسكتوا على جرائم صدام حسين. وعن هذا الكتاب يقول إدوارد سعيد في مقالته آنفة الذكر: "هاجم المثقفين العرب الذين اتهمهم بالانتهازية واللاأخلاقية لأنهم إما أشادوا بأنظمة عربية مختلفة أو لزموا الصمت على الانتهاكات التي تقترفها الحكومات المختلفة ضد شعوبها. لم يقل مكية شيئا، بالطبع عن صمته هو بالذات واشتراكه بالجريمة كأحد المستفيدين من سخاء النظام، على الرغم أنه كان يملك الحق، بالطبع، في العمل مع من يشاء. لكنه تفوه بأخسّ الأشياء عن أشخاص مثل محمود درويش وعني لكوننا قوميين ونؤيد التطرف حسب ما زعم، ولأن درويش كتب قصيدة لصدام. كان معظم ما كتبه مكية في الكتاب مثيراً للاشمئزاز، إذ استند إلى تعريض جدير بالازدراء وتفسير مضلل".

وإدوارد سعيد لم يكن في رده هذا متحاملا على كنعان مكية، فجلّ اتهامات مكية تقوم في هذا الكتاب على أمثلة مجتزأة على طريقة "لا تقربوا الصلاة .."، أو على تأويلات سريالية لبعض نصوص المثقفين العرب النقديين. وكان فواز طرابلسي قد اتهم، من خلال الأدلة البينة، مكية بممارسة "القنص الفكري"، أما الناقد صبحي حديدي فقد بين في قراءته النقدية الهامة لكتاب "القسوة والصمت" (جريدة "القدس العربي" 20/5/1993) مقدار قلب الحقائق والغش والتلاعب الذي لجأ إليه مكية في استشهاداته المجتزأة والملفقة لنصوص هؤلاء المثقفين العرب. ونستطيع أن نقرأ في نص حديدي كشفا مدعما بالأمثلة الصارخة للاستراتيجات التي اتبعها مكية في كتابه، وعلى رأسها، كما يقول صبحي حديدي: "اختلاق نص جديد سواء ببتره عن سياقه أو رفده بما يكفي من كلمات - مفاتيح تجعله يصرخ ناطقا بما يريد مكية تلبيسه لصاحب النص من آثام". فمكية يتهم مثلا الشاعر الفلسطيني محمود درويش بمديح صدام حسين بسبب ورود عبارة تحيل إلى "قمر بغداد" في نصّ كلمته التي ألقاها في عام 1986 في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الأدباء العرب الخامس عشر في بغداد. يقول درويش: "شكراً لقمر بغداد الذي يجعلنا ننتبه إلى الظلام بطريقة أوضح، شكرا للحظة الابداع التي تُعرف الشعر على أمه وأبيه وبيته وذوويه". أما مكية فلا يكتفي بتأويل "قمر بغداد" على أنه صدام حسين، بل يضيف اسم الدكتاتور العراقي إلى عبارة درويش التي يستشهد بها بين مزدوجتين بحيث يبدو اسم صدام حسين وكأنه يرد على لسان الشاعر الفلسطيني.

وحال إدوارد سعيد وبقية المثقفين العرب ليس بأفضل من حال محمود درويش في كتاب مكية، والأمثلة التي يوردها صبحي حديدي أو فواز الطرابلسي في ردهما على مكية أكثر من أن تتسع لها هذه المقالة، وهي، كما يقول صبحي حديدي، "لا يليق بها سوى الإجراء القانوني الصرف".

وتجدر الإشارة إلى أن مكية في كتابه هذا، تناسى ذكر مئات الكتاب والصحفيين الذين قالوا في مديح صدام حسين ونظامه ما لم يقله مالك في الخمرة، لا لشيء سوى لأنهم أيدوا فيما بعد حرب تحرير الكويت، وتسابقوا على كشف جرائم صدام السابقة بعد أن انقلبت موازيين القوى في المنطقة.

ومن المؤلفات التي وضعها كنعان مكية في السنوات الأخيرة بالإضافة إلى كتب "جمهورية الخوف" و"النصب" و"القسوة والصمت" ونشرت جميعها في البداية تحت اسم مستعار هو سمير خليل، هناك رواية "الصخرة، قصة القدس" عن قبة الصخرة وقد نشرها مكية مؤخراً موقعه باسمه الحقيقي بعد أن زار "إسرائيل". وعن هذه الرواية يقول ادوارد سعيد: "رواية ثقيلة الظل تثبت بطريقة ما أن قبة الصخرة بناها في الواقع يهودي".

لكن ما يتوقف ادوارد سعيد عنده بالتفصيل ويخصص له جزءاً كبيراً من مقالته فهو التقرير الذي أعده كنعان مكية في إطار عمله كموظف مقيم في وزراة الخارجية الأمريكية ونشره في مجلة "بروسبكت" البريطانية (عدد تشرين الثاني 2002). ويأخذ إدوارد سعيد على مكية بناء ورقته على افتراضات بالغة الغرابة منها مثلا "أن عزل صدام ينبغي أن لا يحدث بعد حملة جوية"، وأن مكية يعتبر ان الأمريكين سيأتون بالديمقراطية للعراق، كما أنه لا يشير إطلاقاً إلى "حقيقة أن الولايات المتحدة مصممة على اسقاط النظام العراقي بسبب احتياطي البلاد النفطي ولأن العراق عدو إسرائيل".

ويشكك سعيد بادعاء مكية بأن العراقيين ملتزمون بالفيدرالية بدلا من حكم مركزي، ويتساءل سعيد: "أما من أين يفترض أن تأتي الفيدرالية كنظام - سوى من طاولته في وزارة الخارجيةالأمريكية - فإنه لا يكلف نفسه الإفصاح عن ذلك". بل إنه يقرن الفيدرالية باقتراحه أن يكون "العراق الجديد غير عربي".

وإذا كان إدوارد سعيد يفترض محقاً أن كنعان مكية "يمثل ظاهرة زائلة"، فإنه يبدو، وللأسف الشديد، أن دوره وأفكاره في التهيئة لعراق ما بعد صدام حسين تأخذ بفعل دعم صقور الإدارة الأمريكية لها أبعادا واقعية جدا سيكون لها بعيد الآثر على حاضر ومستقبل هذا البلد. وهذا ما سنحاول التطرق له في السطور اللاحقة.

مستخدم الإدارة الأمريكية
بدأ كنعان مكية نشاطه السياسي في بداية التسعينات من القرن المنصرم كمسئول عن ملف حقوق الإنسان في "المؤتمر الوطني العراقي"، وقام في نهاية حرب الخليج بنشر مقال في جريدة "النيويورك تايمز" حث فيها الرئيس جورج بوش على الزحف على بغداد واسقاط نظام صدام حسين. وفي عام 1992 دعا في كلمته أمام مؤتمر المعارضة العراقية الذي انعقد في مدينة صلاح الدين بكردستان، إلى تبني نظريته عن الفيدرالية، وهو ما نجح به جزئياً في تلك الفترة. لكن نجومية وتأثير كنعان مكية بدآ يخبوان في حقبة التسعينات مع وصول الرئيس بيل كلينتون وطاقم حزبه الديمقراطي إلى الحكم وتفضيلهم التركيز على الصراع العربي الإسرائيلي وإبقاء العراق تحت وقع العقوبات وسياسة "الاحتواء المزدوج"، وانصرف مكية إلى عمله كأستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة براندايز اليمينية وكمدير لمشروع الأبحاث والأرشفة العراقية في جامعة هارفرد، كما حافظ على علاقاته بأوساط اليمين الجديد في الحزب الجمهوري.

ومع وصول جورج بوش الابن إلى السلطة وارتفاع اسهم التيار المتشدد في الإدراة الأمريكية في أعقاب هجمات 11 أيلول، برز من جديد اسم كنعان مكية لينضم إلى عتاة المتشددين في وزارة الدفاع والداعين إلى شن حرب فورية على العراق. وبالمناسبة فإن نائب الرئيس ديك شيني ومستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس ووزير الدفاع رولاند رامسفليد ومفوض الرئيس للملف العراقي خليل زاده كان سبق لهم أن وقعوا رسالة مفتوحة إلى الرئيس كلينتون يطالبونه فيها بالحسم العسكري مع الدكتاتور العراقي، وهو الرأي الذي كان يتقاسمه معهم كنعان مكية منذ ذلك الزمن. والطريف اليوم أن الصراع الذي يظهر أحياناً بين صقور الإدراة وتكنوقراط وزارة الخارجية الأمريكية، سرعان ما يجد صدى له في تصريحات مكية الصحفية والتي لا يتأخر فيها عن انتقاد المترددين في وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات الأمريكية CIA ويشيد فيها بالصقور في الإدارة الذين يدعمون مشروعه (مشروعهم) لمستقبل العراق. وقد وجد مكية مؤخرا له موطئ قدم في وزارة الخارجية حيث أصبح مسئولا مشرفا في "مجموعة عمل المبادئ الديمقراطية" التي تتألف من 32 عضوا عراقيا يعملون تحت إشراف توم دريك على إنجاز "مشروع مستقبل العراق".

أما الورقة التي نشرها مكية في مجلة "البروسبكت" في شهر تشرين الثاني من عام 2002، فهي حصيلة عمل هذه المجموعة. وكان سبق لمكية أن قدمها في صياغة أولى إلى المؤتمر الذي عقده معهد "أمريكان أنتربرايز أنستتيوت AEI" اليميني الريغاني تحت عنوان "اليوم القادم: التخطيط لعراق ما بعد صدام حسين" بتاريخ 3 تشرين الأول 2002. وقد حضر المؤتمر من الجانب العراقي إلى جانب مكية، أحمد الجلبي وأتباعه. وألقى كلمة الإفتتاح مدير المعهد ريتشارد بيرل، وهو بالمناسبة من صقور وزارة الدفاع ويرأس مجلس سياسة الدفاع فيها كما أنه أحد المنظرين للسياسة اليمين الجديد الخارجية. ولم يجد ريتشارد بيرل ما يقوله في كلمته وهو يشير بيده إلى مكية والجلبي سوى الآتي: "الحل الوحيد في العراق هو إحلال طغمته الحاكمة بأناس من مثل هؤلاء الموجودين من حول الطاولة" (انظر موقع المعهد على الإنترنت www.aei.org).

ومن الشروط التي طرحها مكية في ورقته هذه، نستطيع أن نقرأ الآتي: "أن تلتزم حكومة الولايات المتحدة بإسقاط صدام وأن تعمل على إعادة اعمار وتشجيع الديمقراطية وأن توقع اتفاقية تنص على بقاء القوات الأمريكية على الأراضي العراقية لفترة زمنية تسمح بضمان وحدة أراضيه، وأن لا يسقط ضحايا مدنيون عراقيون أو إسرائيليون بأعداد كبيرة وأن تلتزم المعارضة بصيغة الفيدرالية الاقليمية".

ونحن لا ندري هنا ما علاقة المدنيين الإسرائيليين بالحرب على العراق! أما بقاء القوات الأمريكية في العراق فإن مكية يوضح أن الفترة برأيه يجب أن لا تقل عن الخمس سنوات! وطبعاً من دون أن يطلب أي ضمانات لانسحابهم فيما بعد.

ولكن ما يستحق التوقف عنده فهو شرح مكية لمفهومه عن الفيدرالية الإقليمية التي يريد تقسيمها على أساس الأقاليم وليس على أساس الإثنيات، وهذا ما يدفعه إلى تغييب الطابع العربي لأغلبية الشعب العراقي حتى لاتُضهد الأقليات كما يزعم. يقول مكية في هذه الورقة: "عامل آخر يلعب لصالح الاقليمية كمبدأ أساسي للنظام الفيدرالي وهو استحالة اعتبار الدولة العراقية الجديدة كياناً عربياً .. العراق الديمقراطي يجب أن يكون لكل مواطنيه وبغض النظر عن عرقهم أو دينهم أو انتمائهم القبلي، وهذا يعني أن فرضية الدولة العربية مُقصاة". والمضحك المبكي أن بعض الحاضرين في واشنطن من الأمريكيين الذين جاءوا يستمعون في معهد AEI لمكية، راحوا يسألونه بكل جدية إذا ما كان عراق ما بعد صدام حسين سينضم لحلف الناتو! (جريدة "نيويورك تايمز" 16/11/2002). ومن يدري ربما سينضم فعلا، بعد أن يعلن مكية وأحمد الجلبي وأتباعهم رغبتهم في انسحاب العراق من الجامعة العربية!

وكان سبق لمكية في أعقاب هجمات 11 أيلول أن نشر مقالا في جريدة "الحياة" (21/10/2001) تحت عنوان "حضارة في أزمة"، ضمنه فهمه لتركيبة شعوب الشرق الأوسط، وجاء فيه: "عقدة الضحية تنطبق بدرجة أو أخرى على كل شعوب الشرق الأوسط". ومن ثم يفتح مكية قوسين ويذكر من هذه الشعوب المجموعات الآتية: "الفلسطينين والإسرائيليين والأرمن والتركمان والشيعة والسنة". نعم هكذا وبكل بساطة فإن طائفة السنة أوالشيعة تشكل، كلاً على حدة، شعبا بمفرده له نفس منزلة شعوب المنطقة الأخرى، أما العراق فهو غير عربي!

قد يعتبر البعض أن هذه الأفكار ليست إلا تهويمات أحد مثقفي المقاهي، ولكن عندما نعرف أن مكية بات ينطق بلسان مراكز أساسية لصنع القرار في الإدارة الأمريكية، وأن ورقته لمستقبل العراق استخدمت كمسودة لكتابة البيان السياسي الختامي لمؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في لندن (شارك مكية بصياغة البيان ورشح للمؤتمر قائمة بخمسين عضوا من المستقلين)، فيجب علينا فعلا أن نخاف على مستقبل العراق وهو يُرسم على أيدي أشخاص من طراز مكية، يريد لهم ريتشارد بيرل أن يحكموا العراق. وإلا فكيف نفسر تبني مؤتمر المعارضة العراقية بتعدد مشارب فصائله السياسية، لوثيقة عن مستقبل العراق تخلو من أي كلمة أو حتى تلميح للعراق كبلد عربي أو حتى كعضو في الجامعة العربية، في حين لا تجد أي غضاضة في الإشارة إلى الإسلام كدين للدولة، إرضاءً ربما لبعض رجال الدين المشاركين في المؤتمر، وهي هنا تأتي على عكس ما كان يريد مكية نفسه؟

وكتأكيد على أهمية الدور الذي يلعبه مكية لصالح الإدارة الأمريكية ومكافأة لجهوده في هذا المجال، فقد إستقبله الرئيس بوش في 12 كانون الثاني 2003 برفقة اثنين من المعارضين العراقيين وبحضور نائب الرئيس ديك شيني والمستشارة كوندوليزا رايس. وصرح آري فليشر المتحدث باسم البيت الأبيض "أن الاجتماع كان فرصة نادرة للاستماع إلى بعض الخبراء والمثقفين البارزين" حول آفاق مستقبل العراق. وقد ذكرت جوديت ميلر صديقة مكية والصحفية في "نيويوك تايمز" أن المعارضين الثلاثة أكدوا للرئيس بوش الذي أبدى قلقه من الكيفية التي سيستقبل بها الجنود الأمريكيون بأنهم سيستقبلون "بالحلويات والورود". وكان سبق لمكية في مقابلة مع الراديو الوطني العام الأمريكي NPR أن نصب نفسه ناطقا باسم الشعب العراقي مؤكدا "أن كل الشعوب العربية هي ضد التدخل الأمريكي ما عدا الشعب العراقي الذي سيستقبل الجنود الأمريكيين بالورود والحلويات" (تسجيل المقابلة موجود على موقع الراديو في الإنترنت).

طبعاً يحق لآري فيشر ورؤسائه في البيت الأبيض وصف مستخدمهم كنعان مكية بـ "المثقف والخبير البارز". لكن مثقف السلطان هذا لن تحمله إلى العراق المدمر بفعل القصف الأمريكي، كتبه وأبحاثه، بل هو سيعود كمشروع سلطة تحمله على ظهورها الدبابات الأمريكية. ومن هنا تأتي أهمية دور ادوارد سعيد في تعرية مكية من ورقة توت الثقافة والفكر التي يحاول أن يتلطى بها.

والمضحك - المبكي في قصة مكية وأقرانه مع الإدارة الأمريكية، هي أنهم حتى الآن لم يضمنوا تماماً مكاناً لهم على ظهر هذه الدبابة. ومشروع فرض إدارة عسكرية مباشرة على العراق بعد الحرب يمكن له أن يطيح بكل جهودهم في تسلم مقاليد الحكم في العراق. فأساليب التزلف والتبعية لا تنفع دائماً مع السيد الأمريكي الذي يحتكم في النهاية إلى مصالحه الخاصة في ضوء التوازنات الإقليمية. ويبدو أن كنعان مكية لم يتعلم جيداً هذا الدرس، بل أنه، وبعد أن تبين مؤخراً أن الإدراة الأمريكية لن تفي بكل وعودها إلى المعارضة العراقية، لم يجد شيئاً آخر يفعله سوى كتابة نداء استجداء إلى الرئيس بوش نشره في صحيفة "الأوبزرفر"، وقال فيه: "أنا أتوجه إلى الرئيس الذي أراد رؤية عراق ديمقراطي، وإلى كل الأمريكان الذين وضعوا ثقتهم به وأناشدهم: ادعمونا .." (الأوبزرفر 17/2/2003).

المثقف والسلطة
إن موقف سعيد النقدي تجاه ظاهرة مكية ليس بالجديد، وكان سبق لإدوارد سعيد في بداية التسعينات من القرن المنصرم أن تناول بالنقد كتابات كنعان مكية من دون أن يحدده بالاسم، وذلك في سلسلة محاضرات "ريث" الرصينة التي دعي لإلقائها في هيئة الإذاعة البريطانية في عام 1993 وظهرت بعد ذلك في كتاب عن المثقف ودوره، صدرت ترجمته العربية عن "دار النهار" في عام 1996 تحت عنوان "صور المثقف". ومن الذي قاله إدوارد سعيد عن مكية في هذا الكتاب، نستطيع أن نقرأ الآتي: "اكتشفت حفنة قليلة جدا من المثقفين العرب، فجأة، دورا جديدا لنفسها في أوروبا والولايات المتحدة .. ومن بينهم، بوجه خاص، رجل كان في ما مضى تروتسكياً وفياً، هجر اليسار لاحقا وتحول، مثلما فعل كثيرون آخرون، إلى الخليج حيث عاش بوفرة من أعمال البناء. وقبيل أزمة الخليج تقدم الحلبة مجدداً وأصبح ناقداً منفعلاً لنظام حكم عربي معين. لم يكتب أبداً موقعاً اسمه الحقيقي، لكنه ومن خلال استعماله سلسلة من الأسماء المستعارة، التي حمت هويته ومصالحه، قام بشن هجوم ضار على الثقافة العربية برمتها، من دون تمييز، وعلى نحو هيستيري، مقدماً على ذلك بأسلوب يكسبه اهتمام القراء الغربيين"(صور المثقف، ص119).

لكن ما الذي تغيير بين الأمس واليوم ودفع أستاذاً جامعياً بمكانة وأهمية ادوارد سعيد إلى أن يضع كل ثقله المعنوي ومكانته الرمزية ليكرس مقالة صحفية بالكامل في نقد كنعان مكية شخصياً، وهو الذي فضل في الماضي أن ينتقد الظاهرة التي يمثلها مكية من دون حتى أن يتجشم عناء ذكر اسمه؟

لا تنبع أهمية كنعان مكية ومكانته من جدية كتبه وما قدمه لمجال المعرفة والفكر، ولا هي ترتبط بدور جريء ومميز يمارسه صاحبها داخل عالم الثقافة والمثقفين، بل إنها تأتي من حاجة دوائر صنع القرار الأكثر يمينية وعنصرية في الولايات المتحدة إلى صوت عربي يبعد عنها شبهة العنصرية والتطرف ويروج لسياساتها المجحفة بحق شعوب المنطقة عموما والشعب العراقي بشكل خاص. وخطورة نماذج من أمثال كنعان مكية هي أنها تتسلح بعلاقتها المميزة مع الإدارة الأمريكية وبمركزها الأكاديمي وبانتمائها المفترض إلى عالم الثقافة، من أجل أن تعطي لأطروحاتها حول مستقبل بلد وشعب بأكمله، مشروعية كاذبة تسمح بتمريرها وتكريسها.

والحقيقة أنه لا يمكن فهم رد فعل إدوارد سعيد الحاسم والقوي على ظاهرة كنعان مكية وتعيينه لها بالاسم ونزع الغطاء الثقافي عنها، إلا في إطار مشروع إدوارد سعيد الأساسي في تفكيك وتعرية العلاقة بين السلطة والمعرفة، وفي التزامه الدائم بدوره كمثقف منشق ونقدي يجاهر بالحقيقة ويرفع من قيم الحرية والعدالة. إن دفاع ادوارد سعيد عن مفهوم معين للأستاذ الجامعي والمثقف النقدي يأتي في مواجهة نماذج من شاكلة مكية تشكل نقيضه المباشر، لأنها تمثل محاولة اختراق حقيقي له من الداخل، أي من طريق الانتماء إلى العالم الأكاديمي وادعاء الإنتماء إلى الثقافة، من أجل خدمة مآرب بعيدة كل البعد عن قيم البحث العلمي المستقل والفكر النقدي التي كرس لها إدوارد سعيد جلّ وقته وجهده وأعماله.

وإذا كانت الساحة الثقافية العربية لا تزال تشكو من شحّ هذا النوع من الأدب النقدي الجذري، فإن التاريخ الثقافي للقرن المنصرم يبين لنا أن أهم المعارك الفكرية في لحظات الصمت الحرجة خاضها مثقفون عالميون لا يقلون مكانة عن إدوارد سعيد مع مدّعي ثقافة لا يقلون خطورة ووضاعة عن كنعان مكية. ويكفي هنا أن نذكر بالنقد الحاد والجذري الذي وجهه عالم الاجتماع الكبير بيير بورديو إلى مدّعي الثقافة ونجومها في فرنسا من أمثال برنار هنري ليفي وفيليب سولير.

وإذا كان كنعان مكية في جنوحه اليميني والمعادي للعرب يريد أن يصفي حسابه مع تاريخه الشخصي المرتبط بالتروتسكية والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، فإن لا شيء أفضل يقال له ولأمثاله من أشباه المثقفين المتراقصين بين اليسار واليمين، سوى سؤال ادوارد سعيد لهم: "لماذا آمنت وأنت المثقف بإله ما، على أي حال؟ وفوق ذلك من أعطاك الحق كي تتصور أن ايمانك سابقا وخيبة أملك لاحقا هامان جدا؟ ومن سخرية الأقدار أن المهتدي السابق والمؤمن الجديد هما في أحيان كثيرة جدا متعادلان من حيث التعصب، متساويان في الدوغماتية والعنف" (صور المثقف، ص115).

في مقالة أخيرة له في جريدة "لوموند ديبلوماتيك" (كانون الثاني 2003) يحذر المثقف العراقي عصام خفاجي من الذي ينتظر العراق فيكتب الآتي: "وبعد هذه المرحلة الطويلة من معاناة لا توصف عاشها ملايين العراقيين لا أحد يستغرب أن يتحرك بعض من قدامى الجزارين كأبطال يحملون الأفكار الشائعة، أفكار الليبرالية والتبادل الحر والتقرب من أمريكا".

وأمام هذا المستقبل الأسود الذي ينتظر العراق، يصبح من الواجب على المثقفين العرب والعراقيين أن يرفعوا أصواتهم عالياً ليس فقط من أجل تعرية حقيقة المخطط الأمريكي لاستعمار العراق، ولكن للتنديد أيضاً بنظام صدام حسين الدكتاتوري وكشف جرائمه البشعة بحق شعبه. فبقدر ما نكون واضحين في إدانتنا من دون لبس لدكتاتورية صدام حسين، بقدر ما نكون فاعلين في رفض الحرب الأمريكية على العراق. إن الحليفين السابقين في الأمس والعدوان اللدودان اليوم (صدام والإدراة الأمريكية) هما وجهان لحقيقة واحدة هي نهب العراق وتركيع أبنائه. وهذا هو، بالضبط، ما قاله ويقوله إدوارد سعيد.

__________

* كاتب سوري - أوكسفورد (بريطانيا)



#محمد_علي_الأتاسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملف خاص: حوار مع رياض الترك الترك: الهدف الوطني الأول تداول ...
- حوار : الشاعر السوري فرج بيرقدار يروي تجربة الاعتقال والحرية


المزيد.....




- إيلون ماسك ونجيب ساويرس يُعلقان على حديث وزير خارجية الإمارا ...
- قرقاش يمتدح -رؤية السعودية 2030- ويوجه -تحية للمملكة قيادة و ...
- السعودية.. انحراف طائرة عن مسارها أثناء الهبوط في الرياض وال ...
- 200 مليون مسلم في الهند، -أقلية غير مرئية- في عهد بهاراتيا ج ...
- شاهد: طقوس أحد الشعانين للروم الأرثودكس في القدس
- الحرب على غزة| قصف إسرائيلي مستمر وبلينكن يصل السعودية ضمن ج ...
- باكستان.. مسلحون يختطفون قاضيا بارزا ومسؤول أمني يكشف التفاص ...
- كلاب المستوطنين تهاجم جنودا إسرائيليين في الخليل
- بلينكن يصل إلى السعودية للاجتماع مع وزراء خارجية دول مجلس ال ...
- ما علاقة الحطام الغارق قبالة سواحل الأردن بالطائرة الماليزية ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد علي الأتاسي - معلومات مضللة عن إدوارد سعيد: كنعان مكية واليمين الأمريكي الجديد