أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبدالفتاح ديبون - الإنصاف في التربية: حق أريد به باطل















المزيد.....


الإنصاف في التربية: حق أريد به باطل


عبدالفتاح ديبون

الحوار المتمدن-العدد: 1503 - 2006 / 3 / 28 - 06:54
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


من عدالة المساواة إلى عدالة التنوع

بين مدرسة الوحدة الوطنية ومدرسة التنوع الكوني، جرت مياه كثيرة في العالم المعاصر، جرفت مفاهيم، وأنبتت أخرى، وعدلت ثالثة، وفق ما استجد من صراعات حضارية، ومذاهب فكرية، وتيارات إيديولوجية. ولعل مفهوم الإنصاف التربوي واحد من هذه المفاهيم، التي غيرت ألوانها عبر هذا المسار التاريخي، ففي الوقت الذي كان مقرونا بالمساواة وتكافؤ الفرص منذ الثورة الفرنسية، صار مع منعطف العولمة دالا على التنوع.
فلماذا أصبح خاطئا اليوم ما كان عين الصواب بالأمس؟
وهل من السهل أن تتخلى الأنظمة السياسية عن مفهوم عدالة المساواة الذي ظل دوما ضامنا للوحدة الوطنية؟
ألا يعتبر الإنصاف بمفهومه الجديد خدعة تربوية، لتحقيق أهداف غير تربوية؟


1-عدالة المساواة:
ارتبط مفهوم الإنصاف التربوي، في الدساتير العالمية، بالمساواة بين جميع المواطنين، في الولوج إلى التعليم، وجعل الفرص متكافئة بينهم، في إطار الوحدة الوطنية، واللغة الرسمية للبلد، فالمدرسة مؤسسة وطنية وظيفتها ضمان الانسجام والتماثل المعرفي والثقافي، لجميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم السوسيوثقافية، أو العرقية، أو الدينية، كإحدى مقومات الانتماء القومي أو السيادة الوطنية اللتين يتطلبهما بناء الدولة الحديثة المنسجمة والقوية..
وقد ساهمت في فرض هذا التصور عوامل كثيرة لعل أهمها المد الإمبريالي الذي عرفته البشرية، وما ترتب عن ذلك من حروب بين الأمم وصلت ذروتها في الحربين العالميتين، ثم مرحلة الحرب الباردة.

"كان "بناء الأمم" هدفا بارزا خلال القرن العشرين، وسعت معظم البلدان إلى إقامة دول متجانسة ثقافيا لها هوية أحادية، وقد نجحت هذه المحاولات أحيانا، لكن بثمن القمع والاضطهاد".
تقرير التنمية البشرية 2004

لكل هذا يمكن أن نفهم لماذا لم يتعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 في مادته السابعة والعشرين القول بأن لكل "فرد الحق في أن يشترك اشتراكاً حراً في حياة المجتمع الثقافي"، ولم يتجاوز الاعتراف في المادة 26 بأن "لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزامياً وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني، وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة". لم يكن الأمر ليتجاوز ذلك الحد لأن خلافات حادة حدثت أثناء صياغة الإعلان العالمي حول ما إذا كان من الممكن الاعتراف صراحة بحقوق الأقليات، فقد عارضت فرنسا وكندا ودول الأمريكتين حقوقا مماثلة
ولم يحمل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يناير 1976 أي جديد في الموضوع، إذ عادا معا ليؤكدا على المساواة بين المواطنين، في الحقوق والواجبات، وحريتهم في الرأي والعقيدة، وفيما يلي أهم الإشارات الواردة في العهدين:

المادة 2 تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيها ، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها ، دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون ، أو الجنس ، أو اللغة ، أو الدين ، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي ، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة ، أو النسب ، أو غير ذلك من الأسباب
المادة 14 الناس جميعا سواء أمام القضاء
المادة 18 لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما،وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في أظهار دينه أو معتقده بالتعبد واقامه الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع جماعة ، وامام الملأ أو على حدة
المادة 27
لايجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الإقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم واقامة شعائره أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم.
المادة 13
تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل فرد في التربية والتعليم . وهي متفقة على وجوب توجيه التربية والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها وإلي توطيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية .
وهي متفقة كذلك على وجوب استهداف التربية والتعليم تمكين كل شخص من الإسهام بدور نافع في مجتمع حر ، وتوثيق أواصر التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم ومختلف الفئات السلالية أو الإثنية أو الدينية ، ودعم الأنشطة التي تقوم بها الأمم المتحدة من أجل صيانة السلم .

يبدو إذن، أن المساواة، وتكافؤ الفرص، والمجانية، لم تكن غير مفاهيم سياسية تحمل في طياتها كثيرا من الظلم والتهميش والاستبعاد، لكل الفئات غير المستفيدة من الأنظمة الحاكمة. وبينما كانت الأنظمة السياسية تفتخر بتعليمها الموحد والمتساوي بين كل المواطنين، كانت الممارسات التعليمية تخلف كثيرا من الضحايا، لسبب أساسي أن الفرص لم تكن متساوية بين المتعلمين ، إما لعامل اللغة، وإما للانتماء العرقي أو الديني، أو الجغرافي، وبذلك تحولت المدرسة من مؤسسة وطنية لكل أفراد الشعب، إلى مؤسسة نخبوية لفئات قليلة من المحظوظين.
وعلى الرغم من ظهور خطاب تربوي كشف إلى حد كبير الظلم الممارس على فئات كبيرة من المواطنين، مستفيدا من علم اجتماع التربية، منذ السبعينات (بورديو، بودون، استابليت، بوشار)، فإن المدرسة لم تلتفت إلى ذلك لأن القبضة السياسية كانت أقوى، لقد كان هاجس الخوف من المساس بالوحدة الوطنية، ضد أي التفات إلى كل خطاب يدعو إلى التعدد اللغوي، أو إقرار حقوق الأقليات في التعليم.

"تستطيع الدولة أن تكون عمياء إزاء الدين، لكنها لا تستطيع أن تكون صماء إزاء اللغة. فالمواطنون بحاجة إلى التواصل، كي يشعروا بالانتماء واختيار لغة رسمية يرمز إلى الهوية القومية. لهذا السبب تقاوم دول كثيرة الاعتراف بلغات متعددة، حتى عندما تؤازر الحريات المدنية والسياسية". التقرير السابق

في الوقت الذي ربحت فيه الأنظمة السياسية حدودها الجغرافية، واستمرارية النخب الحاكمة، في الوقت ذاته خسرت ملايين المواطنين الذين ظلوا مستبعدين، وكانت الفاتورة الاجتماعية ثقيلة جدا، من خلال عدد الفئات المستبعدة اجتماعيا، وتنوعها.

ضحايا عدالة المساواة:
الفقراء:
تفيد التقارير أن معظم الدول زادت نسبة الفقر فيها عن سنة1990 ويعيش أكثر من مليار نسمة بأقل من دولار واحد في اليوم. أغلبهم يعيشون في البوادي، وهذا يعني أن ربع ساكنة العالم، محرومون تماما من الخدمات الضرورية، ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:
-إقامة هذه الفئات في مناطق بعيدة عن المؤسسات التعليمية.
-حاجة الآباء إلى مساعدات أبنائهم، في الحقول، أو لجلب الماء، أو لدفعهم عمالا صغارا.
-عدم القدرة على تحمل تكاليف التعليم.

الانتماء العرقي:

ليس بمستطاع التلميذ الكردي بتركيا، ولا الأمازيغي بمنطقة المغرب العربي، أن يتعلم بغير اللغة الرسمية للدولة، التي ليست هي لغته الأم تأكيدا، كما لا يسمح لتلميذة مسلمة أن ترتدي الحجاب في المدارس الفرنسية.. إنها أشكال من الاستبعاد التي تتكرر في العالم أجمع، والهدف واحد إقبار كل أشكال التنوع والاختلاف، تحت ذريعة الحفاظ على الكيان الوطني الموحد.
إن الانتماء العرقي بات يشكل تهديدا لكل دول العالم، بعدما فشلت لعقود خلت تدبير التنوع والاعتراف بالفروق الفردية والجماعية بين المجموعات المشكلة للكيانات الوطنية.
نقصد بالانتماء العرقي، الأصول العرقية والسوسيوثقافية، التي تتحدر منها مجموعة أو مجموعات بشرية مكونة لبلد ما، وبناء عليه لا يمكن أن نتصور وجود بلد ما لا توجد فيه انتماءات عرقية متنوعة، إذ تفيد التقارير أن 150 بلدا توجد بها أقليات عرقية كبيرة.
في مقدمة هذه المجموعات يمكن أن نتحدث عن السكان الأصليين، الأقليات، المهاجرين.

السكان الاصليون:
يضم العالم حوالي 300 مليون من مجموعات السكان الأصليين، لكن الدراسات تفيد أن أعدادهم تناقصت كثيرا، ففي أستراليا والأمريكتين مثلا، تناقص السكان الأصليون بنسبة %95 ، واندثرت في أستراليا وحدها 500 لغة منذ وصول الأوربيين، وما زال السكان الأصليون يعيشون على هامش مجتمعاتهم، إما بسبب التطهير العرقي، وإما بسبب الاستبعاد. ففي المكسيك يعيش 81%من السكان الأصليين بدخل دون عتبة الفقر، مقارنة ب 18% كنسبة عامة.

الأقليات:
توجد في 150 بلدا أقليات عرقية أو دينية كبيرة، وهناك 30 بلدا فقط توجد بها أقلية دينية أو عرقية تشكل أقل من 10%من السكان. وتعيش هذه الأقليات عموما مستبعدة من مجمل الخدمات الضرورية، فنسبة البطالة بين الأمريكيين من أصل إفريقي تبلغ ضعفي مثيلتها بين المواطنين البيض، ولا يستفيد أطفال الروما من الخدمات التعليمية في جمهورية الصرب والجبل الأسود، إلا نحو الثلث.

المهاجرون:
في سنة 1960 كان عدد المهاجرين هو 76 مليون ثم ارتفع سنة 1990 إلى 154 ليصل سنة 2000 إلى 175 مليون. وهناك كثير من المدن لا يمكن الحديث فيها عن الخصوصية الوطنية، في ظل التنوع الكبير لساكنتها، فمدينة ميامي مثلا تصل نسبة سكانها المولودين خارجها 59%، و في لندن يتكلم الأطفال في مدارس الدولة نحو 300 لغة مختلفة.
وبقدر ما يفيد هذا التنوع اقتصاديا، بقدر ما يشكل عائقا اجتماعيا للدول الغربية، لعجزها عن إيجاد حلول حقيقية، بعيدا عن دعاوى الاندماج، والتخلي عن أصول المهاجرين الثقافية.

يطرح هذا التنوع مشاكل كثيرة على الأنظمة التعليمية العالمية، لأن هذه الفئات لا تستفيد من الخدمات التعليمية تماما، أو لا تترقى فيها، وذلك لاعتبارين اثنين: اللغة، والمحيط السوسيوثقافي.

اللغة:
يقدر عدد اللغات التي وجدت على مر الزمن بعشرة آلاف بقي منها 6000 لغة، وتذهب التوقعات أن ينخفض العدد بين 50 و90%خلال السنوات المائة المقبلة. وفي أغلب الأحوال لا تستفيد الفئات المختلفة لغويا عن اللغة الرسمية للبلد، من لغتها الأصلية في التعليم، ومن ثم يكون محكوما على أطفال هذه الفئات بالفشل الدراسي، وهذا ما تؤكده الدراسات التي تعرضت للفئات المختلفة لغويا. جاء في تقرير التنمية البشرية "وقد يؤدي تقييد مقدرة الناس على استخدام لغتهم الأم –مع القدرة المحدودة على تكلم اللغة السائدة أو اللغة القومية الرسمية- إلى إقصائهم عن التعليم والحياة السياسية والحصول على العدالة. وليست هناك وسيلة ل"تشجيع" الأفراد على الانصهار في ثقافة مهيمنة، أقوى من جعل كل المنافع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مرهونة بتخليهم عن لغتهم الأم". ص33
وتأكد من دراسات أجريت في أمريكا اللاتينية، أن توفير التعليم للأقليات باللغات المحلية، وتوظيف معلمين من المجموعات نفسها، حقق نتائج مهمة. وتوصلت دراسات في إفريقيا إلى نتائج مماثلة، فقد ازداد التواصل بين المدرسة والأسر والجماعات، وتعزز التفاعل بينهما، في المدارس التي تستعمل لغتين في التعليم: اللغة المحلية، واللغة الوطنية. ففي بوركينا فاسو بينت دراسة أن نسبة النجاح في الحصول على شهادة ابتدائية، في مدرسة ثنائية اللغة هي 72% بينما لا تتجاوز النسبة 14% في مدرسة لا تدرس باللغة المحلية، أي أن التلميذ يحتاج إلى ست سنوات فقط للحصول على الشهادة الابتدائية في المدرسة، بينما يحتاج إلى 37 سنة في مدرسة لا تستعمل لغته المحلية.
وفي الدراسات التي أنجزتها دول التعاون والتنمية الاقتصادية، تبين أن أبناء المهاجرين لا يحصلون على نتائج جيدة لأن اللغة المستعملة في المنازل ليست هي تلك التي تستعمل في المؤسسات التعليمية.

المحيط السوسيوثقافي:
هذا المشكل هو نتيجة للمشكل السابق، فعندما "تختار الدولة لغة وتفضلها على سواها، فإنها غالبا ما تعطي الإشارة إلى هيمنة أولئك الذين تكون لغتهم الرسمية لغتهم الأم"، وبذلك تتحول اللغة من أداة تواصل ، إلى معيار للاصطفاء أو الإقصاء الاجتماعي، وهو ما يولد نوعا من الحقد قد يتحول مع مرور الوقت إلى مواجهات دامية، على نحو ما حدث في سيريلانكا حينما جعلت اللغة السنهالية اللغة الرسمية الوحيدة وتم إقصاء اللغة التاميلية.
وعموما، فعادة ما يكون المحيط السوسيوثقافي للفئات المختلفة ثقافيا مختلفا عن المركز الرسمي الذي تحاول المدرسة أن ترسخه، ولذلك يجد الأطفال المتحدرون من ثقافة مغايرة أنفسهم غرباء في المدارس، في ظل غياب تام لثقافتهم، وعاداتهم ورموزهم الاجتماعية والفكرية، ومن ثم تكون نتيجتهم الرفض غير المعلن للخدمة التعليمية المقدمة، وقد يتحول ذلك إلى عداء مبطن، قد يجد طريقه إلى التعبير بمختلف الأشكال.
ويكتسي الأمر بعدا تراجيديا حينما يجد أبناء المهاجرين المسلمين في الغرب، مثلا، أنفسهم أمام مواد تعليمية تعادي قيمهم الدينية، أو تنتقص من شأنها، أو تريد أن ترسخ قيما مسيحية. إن هذه الأمور تولد لديهم ردود فعل غالبا ما تتسم بالعنف المادي من كل ما يمت بصلة للمؤسسة التعليمية.
من جهة أخرى أثبتت الدراسات أن أبناء الفئات المتوسطة، حتى وإن كانوا يمتلكون الرأسمال الثقافي نفسه، فإنهم لا يتفوقون في دراستهم، لأن الظروف التي تكون في المنزل لا تشجعهم على إنجاز مهماتهم التعليمية. فقد انتهت دراسة البرنامج العالمي لتقويم تعلمات التلاميذ (بيزا 2003) أن أبناء الأطباء أو الأساتذة الجامعيين، ورجال القضاء.. يتفوقون على أبناء الفلاحين الصغار، وسائقي الشاحنات، والعمال الصغار بنصف المعدل.

إجمالا يمكن القول إن عدالة المساواة لم تكن إلا ذريعة إيديولوجية لكي تحافظ نخب معينة على مصالحها السياسية والاقتصادية، بينما ظل سواد الأمم مستبعدين إما بدافع الفقر وإما بدافع الاختلاف اللغوي أوالإثني أو الديني.

"يمثل السبيل إلى النمو الشامل والمستويات العالية من الصحة والتعليم، بصياغة سياسات للبلد بأكمله، وليس لجماعات المصالح، التي تخلق السياسات المحابية لها مشكلة في جميع البلدان وليس في المتعددة الثقافات فقط".

عدالة التنوع

يعتبر إعلان مكسيكو 1982 بداية الاعتراف بالتنوع الثقافي، وإقرار حقوق الأقليات اللغوية.
وفي 2 نونبر 2001 تبنت الدورة31 للمؤتمر العام لليونسكو بالإجماع، إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي، وإطار عمل، وكان ذلك حدثا هاما نحو إرساء أسس الإنصاف الاجتماعي. حيث تم الاعتراف في الفصل الثاني صراحة أن مجتمعاتنا متنوعة، مما يفرض العمل على رعاية هذا التنوع ليكون أداة تقدم وإبداع، أما الفصل السادس فحث على ضرورة منح كل الثقافات وسائل التعبير عن ذاتها، وبلغاتها الخاصة، بكل الوسائل المتاحة (الإعلام بكل أنواعه، الإبداعات الفنية).
لكن تقرير التنمية البشرية لسنة 2004 كان قويا في خطابه، عنيفا في محاكمته للأنظمة السياسية في تعاملها مع الثقافات المختلفة، هدميا لكثير من الطروحات التي قامت عليها مفاهيم الوطنية والقومية، كمفهوم الهوية الذي أكد أنه ليس إلا وهما صنعه الإنسان، هذا في الوقت الذي انتهت فيه كل دراسات البنك الدولي، وتوصيات المؤتمرات العالمية للتربية أن عدالة التنوع شرط أساسي لتعليم القرن الواحد والعشرين.

فلماذا التركيز على التنوع بدل الوحدة؟
هل لرد الاعتبار لتلك الفئات التي ظلت مهمشة طيلة هذا المسار التاريخي الطويل؟
وهل يمكن تحقيق أنظمة تعليمية متنوعة في البلد الواحد؟

من المنظور التعليمي الخالص، يبدو الاعتراف بالتنوع شرطا ضروريا لنجاح المنظومة التعليمية، لان المتعلم يكون مؤهلا للفهم والتواصل إذا استعمل لغته الأصلية التي يوظفها في البيت، ومن شأن هذا الإجراء أن يقلل من ظاهرة الترسب التي يذهب ضحيتها ملايين التلاميذ في السنة للأسباب التي أشرنا إليها سابقا.
لكن من منظور إجرائي ليس الأمر بالسهولة التي تقدمها دراسات البنك الدولي، هل ستسمح الولايات المتحدة الأمريكية –مثلا- لكل الأجناس المشكلة لساكنتها إقامة أنظمة تعليمية وفق ثقافتها الخاصة؟ هل توفر فرنسا لأبناء المهاجرين العرب تعليما باللغة العربية؟ هل ستقبل بريطانيا أن يكون في لندن تعليما بثلاثمائة لغة، عدد أجناس ساكنتها؟
إنه أمر يتجاوز حدود الإبداع التي يتحدث عنها تقرير التنمية البشرية، ليمس السيادة الوطنية التي ما زالت تغرد بها الحكومات الأوربية "الديمقراطية".
إذن فلماذا يضرب البنك الدولي على هذا الوتر الخطير جدا؟

"إن توسيع الحريات الثقافية هدف عام في التنمية البشرية، هدف يحتاج إلى عناية عاجلة في القرن الواحد والعشرين، فالناس جميعا يريدون أن تكون لهم الحرية في أن يكونوا من يريدون، وكل الناس يريدون أن يكونوا أحرارا في التمييز بين هويتهم كأفراد في مجموعة لها التزامات وقيم مشتركة، سواء كانت الجنسية أو العرق او اللغة أو الدين، وسواء كانت الأسرة أو المهنة أو الهواية.
تولد العولمة تفاعلات آخذة في التزايد بين شعوب هذا العالم، الذي يحتاج إلى مزيد من الاحترام للتعددية والتزام أكبر بالوحدة على حد سواء، وعلى الأفراد أن يتخلصوا من الهويات المتجمدة إذا كانوا يريدون الانتماء إلى مجتمعات تعددية، ومناصرة القيم الكونية، قيم التسامح والاحترام لحقوق الإنسان العالمية... وإذا كان التاريخ الوجيز للقرن الواحد والعشرين لم يعلمنا أي شيء آخر، فقد علمنا أن التهرب من هذه القضايا ليس خيارا".ص12

يفيدنا هذا النص بالحقائق التالية:
لا تنمية بشرية بدون حرية ثقافية، أي حرية الأفراد في اختيار أنماط الحياة التي يريدونها.
كل الناس، بدون تحديد، يريدون أن يكونوا أحرارا
الهوية اختيار فردي، لا يمكن بحال من الأحوال أن تتخذ أبعادا وطنية ولا قومية.
تقوم العولمة على التفاعل المبني على احترام التعددية .
ضرورة تخلي الأفراد عن الهويات الجامدة، أي هويات الانتماء القطري أو القومي، ومعانقة الكونية.
يتضح إذن أن هذا النص على قصره، يحمل روح خطاب العولمة، بما يعني تقويض سلطة الدولة الوطنية، وتحرير الأفراد من كل أشكال الوصاية، وإحلال القيم الكونية محل القيم القومية. وتلك هي مطامح البنك الدولي والمؤسسات التابعة له، لأنه يعتبر المنظر الأوحد لما ينبغي أن يكون عليه القرن الواحد والعشرون.
هكذا يتضح بجلاء، أن عدالة التنوع التي يبشر بها الخطاب الدولي الآن، ليست، الدفاع عن الفئات المستبعدة، فهذا ليس إلا الغطاء، وإنما في العمق، إقامة تعليم معولم أهم ملامحه:
-تخليصه من السياسة وإلحاقه بالاقتصاد، أي ألا يبقى التعليم للتنشئة السياسية، وإنما التنشئة الاستهلاكية التي ستتولاها الشركات الكبرى.
-التخلي عن مفاهيم الوحدة الوطنية والهوية القومية واللغة الرسمية، لصالح الحرية الذاتية، فلا وصاية على الأفراد في زمن العولمة.
-سرعة الوصول إلى الأفراد حيثما كانوا، وتوسيع أسواق الاستهلاك وتنويعها، فنحن نستهلك أكثر إذا كانت احتياجاتنا متنوعة ومتعددة.
جاء في تقرير التنمية أنه "في أحيان كثيرة جدا، يكون الأمر المستلزم للبلدان المتعددة اللغات اعتماد صيغة اللغات الثلاث (مثلما أوصت بذلك اليونسكو) التي تمنح الاعتراف العلني لاستخدام ثلاث لغات هي:
-لغة دولية، غالبا ما تكون اللغة الرسمية للإدارة في البلدان التي كانت مستعمرة. وفي عصر العولمة هذا تحتاج كل البلدان إلى أن تكون ماهرة في لغة دولية للمشاركة في الاقتصاديات والشبكات العالمية.
-لغة تواصلية/مشتركة، يسهل وجود لغة تخاطب محلية الاتصال بين مجموعات لغوية مختلفة، مثلما هي اللغة السواحلية في بلدان غرب إفريقيا، حيث يتكلم الناس أيضا لغات عديدة أخرى.
-اللغة الأم: عندما لا تكون اللغة الأم للناس اللغة التواصلية أو اللغة الدولية فإنهم يريدون، ويحتاجون إلى، أن يكونوا قادرين على استخدام لغتهم الأم" ص 60
إن الأمر واضح الآن، فعلى دول العالم أن تهرول نحو الإنجليزية لأنها هي لغة العولمة، بل هي الكوجيطو الأمريكي الجديد "أنا أتحدث الإنجليزية إذن فأنا موجود".
إنها مرحلة جديدة من الاستبعاد والتهميش، الذي سيشمل ليس فقط مجموعات بشرية متناثرة هنا وهناك، بل سيجرف دولا بكاملها ليست لها القدرة على الانخراط في العدالة الجديدة.
كأني بالبنك الدولي يقول للأنظمة السياسية، لقد انتهى دوركم، طوبى لكم ولما نهبتم من أموال شعوبكم! هنيئا مريئا! لكم أن تستريحوا في جزر الكارايبي، ريثما أهيئ لكم كوكب المريخ لتقاعد مريح. الآن جاء دوري أنا لأحكم، ولأمتص ما بقي من دماء. ألا أستحق ذلك؟



#عبدالفتاح_ديبون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل الجنس شرط في العلاقات العاطفية؟
- خدعة بيداغوجيا الكفايات
- كيمياء الحب
- حقا أنت لا تفهمني: قصة التعايش الصعب بين المرأة والرجل


المزيد.....




- السعودية.. القبض على مواطن بتهمة ابتزاز قاصرين على شبكات الت ...
- ما هي مطالب طلاب الجامعات الأمريكية بخصوص الحرب في غزة؟
- عشرات الملايين يستخدمون تطبيق واتساب سرا في الدول التي تحظره ...
- بسبب دعمه لحماس على تطبيق واتساب.. ضابط شرطة بريطاني يواجه ت ...
- ترمب يستغل توقف محاكمته لاستئناف حملته الانتخابية
- تركيا تعتقل 41 شخصا للاشتباه في ارتباطهم بتنظيم -داعش-
- قراءة في المتن على هامش -انتفاضة الجامعات الأميركية-
- صحف عالمية: نتنياهو تائه وكمين إستراتيجي ينتظره برفح
- ما سيارات أشهر وأهم الشخصيات في عالم التقنية الآن؟
- محكمة إسرائيلية ترفض التماسا للأسير مروان البرغوثي


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - عبدالفتاح ديبون - الإنصاف في التربية: حق أريد به باطل