أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي القريشي - حدود اللحظة الجزء الأول















المزيد.....

حدود اللحظة الجزء الأول


محمد علي القريشي

الحوار المتمدن-العدد: 1494 - 2006 / 3 / 19 - 10:59
المحور: الادب والفن
    


1 ـ محطة
لم أجد في ذلك الوقت بالضبط ، وفي ذلك المكان المعين أي شئ يمكن أن يثير انتباه الزائر. ومع ذلك كان شئ غريب يدفعني للتوغل أكثر وسط محيط صحراوي .. تساءلت مع نفسي إذا ما كنت أبحث عن شئ .. لكن ، عن ماذا يمكن للإنسان أن يبحث في مكان مثل هذا ؟ عن ماء ، فزادي منه يكفيني لنهار كامل وليلة .. عن طعام ، فحقيبتي الصغيرة ، التي أحملها على كتفي الأيمن ، فيها من الخبز والجبنة وبعض الفواكه الجافة ما يلبي حاجتي لنهار كامل وليلة . إذن يجب ، قبـل التوغل كثيرا في هذه الصحراء المترامية بلا حدود ، أن أحدد هدفي وأرسم خطة لمساري حتى لا أسقط في عشوائية ربما تؤدي إلى هلاكي .. لحظة أيتها الصحراء .. لأجلس بعض الوقت على تلك الربوة الصغيرة . إنها أعلى مكان يبدو لي في هذه المساحة الشاسعة من الرمل ، وتسمح لي بأن أطلق بصري بعيدا وأقيس حدود المكان والبصر .. منظر رهيب يبدو لأول وهلة . لكن عندما تدقق النظر وتبسط بصرك بعيدا حتى يختلط السراب بالرمل والسماء ؛ عندها يمكن أن تمتع نظرك .. فتحس أنك أمام لوحة ، عظيم راسمها .. في لحظة تتخيل نفسك على قارب رملي تقطع به محيطات السراب فتصل السماء..
عفوا ، فيمكن للإنسان أن يطلق عنان مخيلته أمام هذا المنظر الذي يبدو من أعلى الربوة الرملية . إنما ، والأهم من ذلك ، أن هذا اليوم، الذي وجدت نفسي فيه أمام صحراء دخلت معي منذ اللحظة الأولى في حوار عجيب ، هو يوم عطلة اخترت أن أجعل منه يوم معرفة مكان لم يسبق لي أن زرته من قبل .. يمكن أن نعتبر هذا اليوم يوم نزهة استطلاعية ، وبما أن النزهة تجلب الراحة ؛ فلنجعله يوم راحة .. لكن كيف يمكنني جلب راحة في هذه الصحراء التي بدأت تكلمني بلغة الرمل والسراب والسماء ، ثم فرضت علي أن أدخل معها في الحوار .. كيف يجب علي أن أخاطبها ؟ أي لغة يستحسن أن أحاورها بها، وأي موضوع أبدأ به محادثتها ؟ .. يظهر لي ، وعلى اعتبار أنني أوجد وحدي في هذه اللحظة ، أن أبدأ معها الحديث الصامت عن العزلة .. ربما يكون الموضوع مهما ؛ خاصة وأن الصحراء أدرى بعزلة الناس ، وبهروبهم إليها بعيدا عن ازدحام الكون .. إن الصحراء متعودة ، هي الأخرى ، على استقبال العزل ؛ ومتعودة كذلك على إهدائهم صورتها مع الرمل والسراب والسماء حتى يدخلوا معها في حوارها الصامت ، فتخرجهم بهدوء طبيعي من عزلتهم ويبدأوا بالبحث عن كيفية التجاوب معها .. كيفية التعايش !
عجيب كيف يرسم الإنسان خططه ويحدد أهدافه .. إذن لأجعل من خطة الحوار أول وسيلة توصلني إلى التجاوب الصامت مع هذه اللغة الرمزية التي تقدمها الصحراء ... لكن ما شأني وهذا الحوار الصامت وكل هذا التعب في حل الألغاز والرموز ؟ ربما كان شيئا متعبا ، خصوصا في يوم نزهة ! لأعدل عن هذه الخطة وعن هذا الهدف السراب وأبحث عن شئ آخر .. في هذه اللحظة زاد يقيني بأنني أبحث فعلا عن شئ .. لكن ، عن ماذا يمكن للإنسان أن يبحث في هذه الصحراء الناطقة بالصمت الأزلي ؟ .. عن ماء ؟ فعندي منه مايكفيني لنهار كامل وليلة .. عن طعام ؟ فحقيبتي الصغيرة ، التي وضعتها بجانبي فوق الربوة ، تحتوي على خبز وجبنة وبعض الفاكهة الجافة . . عن كلمات ومفردات ؟ فاللغة الرمزية المنبسطة أمامي بكل قواعدها الطبيعية تعوض لي كل قصور في معاجم اللغة ودواوين الشعر ... أما الربوة التي كنت أعتقد أنها أعلى مرتفع في هذا المكان ، فقد أظهرت لي أن هنالك ، في أفق ليس ببعيد ، نخلة ربما تفوقها ارتفاعا .. لحظة أيتها الصحراء .. لأنزل من فوق هذه الربوة وأبدأ طريقي في اتجاه مغيب الشمس .. يقال أنه كلما مشيت في اتجاه المغيب كلما تأخرت الشمس عن الغروب .. هكذا يمكنني قياس سرعتي في المشي فوق الرمال .. يجب علي أن أسرع في خطاي ليتأخر أكثر مغيب الشمس ويطول نهاري ... إنها بالفعل خطة رائعة تهدف إلى إطالة الإنسان لنهاره .. يمكن أن يكون جميلا إذا عشت نهارا بدون غروب ! لكن إلى أي حد يمكنك المشي دون توقف ؟ فقد تعترضك بوابة حدود ربما تكشف عنك حتى رؤية غروب الشمس ، ولن تستمتع بجمال الغروب وبهاء ألوانه في صحراء تتكلم الصمت وترسم لوحات رملية من السراب .. ويذهب سدى نهارك الذي خصصته للنزهة ، وتجد نفسك متعبا ومرهقا بكثرة المشي فوق الرمال ... لأعدل عن هذه الخطة وعن هذا الهدف البعيد ، وأبحث عن شئ آخر ! لكن ، عن ماذا يمكن لإنسان خرج للنزهة أن يبحث في هذه الصحراء المترامية على حدود البصر ؟ .. عن ماء ؟ لقد بقي منه عندي ما يكفيني لليلة كاملة .. عن طعام ؟ فحقيبتي ، التي بدأت أحملها على كتفي الأيسر ، فيها خبز وجبنة وفواكه جافة .. عن مكان وزمان معزولين عن جداول الأفكار وخارج كل اللحظات ؟ .. لحظة أيتها الصحراء .. أظن أن الوقت حان كي أتناول شيئا من الخبز والجبنة حتى تصمت بعض الأصوات التي بدأت ترتفع منددة بوضعها داخل أمعائي .. أو الأفضل أن أتناول قليلا من هذه الفاكهة الجافة وأنا متكئ بظهري على هذه النخلة الوحيدة .. لحظة أيتها الصحراء .. لحظة صمت .. صمت رهيب يفرغ الكون من ضجيجه الحركي ، ويجعل دقات القلب تقرع طنينا موجعا على أبواب الصدور العتيقة ، فيجتم بكل ثقله على أضلع الزمن الحزين .. تكثر الأسئلة الضمنية دون أن تنطق بكلمة ، تصبح أحرف ومضات برق معصور بدم الأهازيج الصوتية ، تخنق العبارات في الحلق، لا التمر أو التين المجفف ، وتردع بعيدا وراء حدود السكوت الأزلي .. لحظة أيتها الصحراء الصامتة .. كيف تضئ تلكم النجيمات الصغيرة وتبسط بصمتها البعيد بساطا من النور المشحون بالظلام الكاسح ؟ كيف تخنق تلك الكلمة في بطن الصمت وترمى في رحم الهامش ؟ كيف تترك شهرزاد حكاياتها تتسول على أعتاب بلاطات الطرق الجرداء ؟ كيف .. ؟ وكيف هذا الصمت الرهيب يصبح سلطانا على مملكة الأناشيد ! ؟
ربوة بعيدة صامتة .. نخلة وحيدة صامدة .. إنسان حيوان متكلم صامت .. صحراء صامتة ... قتل الصمت سنابل زرع فارقتها ريح الشمال النشيطة ، فتصلبت ترثي بصمت عميق جذورها المغتالة .. صمت عميق يبسط مساحاته الكئيبة في كون الحركة الميتة ، ويتجول شوارع المدن المبهمة حيث الإزدحام تغتاله محلات الصمت الوهمية ... لحظة أيتها الصحراء .. لحظة صمت .. ربما سيصبح هذا القمر، المعلق في سمائك ، وساما توشح به صدور البكم ؛ ويطلق كل نجم أصم زغرودة تدفن في بطن رمالك لتنجب صبارا يتيما ظهرت على خديه زهرتين بلون الرمل .. لحظة .. لم أكن أعرف من قبل قصة هذا الصبار ، فلولا صموده المنفرد وسط هذا المحيط لما دفعني حب المعرفة لتقسي خبره .. إنه يعرف كيف يتعامل مع الكائنات والأشياء .. اتفاقيته الأخيرة مع الرمل أبرمت بكل مسؤولية وانضباط : ( ... يجب أن لانزعج هذا الطائر الذي يحط على إحدى كتفي الصبار دقيقتين ليستأنف رحلته في اتجاه الجنوب ، ويجب كذلك أن نحترم هذه الحياة التي تدب في عروق الصبار فتنجب زهرتين تنموان على شكل فاكهة تخرج من عروق الشوك لترطب حلق كل تائه في صحاري الهلاك ... ) . . أتسمح لي بالسؤال أيها الصبار ؟ لماذا اخترت بالضبط هذا المكان لتجعله محرابا لصلواتك ؟ أعرف أن لك الحرية في اختيار مكانك .. وأعرف أن الإختيار يكون ، في غالب الأحيان ، صعبا .. لن أرغمك على الجواب مادامت اتفاقيتك مع الرمل أبرمت في سرية ، وأنا لاأريد أن أكون فضوليا كي أثير معك مواضيع ربما تزعجك أو تقطع عنك صلواتك .. ربما أن للمكان وللبصر حدودا لا يمكن تجاوزها ، فكذلك بالنسبة للحوار وللمعرفة .. ولا تقل لي أنه بإمكانك تجاوز هذه الحدود .. ذكرتني أيها الصبار بالرغم من أن الذكرى مؤلمة ، نعم .. وأنا أقترب منك في طفولة بعيدة ، هبت ريح عليك لتلقي بكل أشواكك في عيني .. لا أتذكر كثيرا ما إذا كنت وقتها قادرا على الدفاع عن نفسي ، لكنني أتذكر بأن كل دمعة عبرت وجنتاي كانت ترسم عليهما شريطا من الألم ، وتكتب عليهما تاريخا للبكاء .. لذلك لن أقترب منك كثيرا حتى نبقى صديقين ، وتشهد هذه النخلة التي تجاورك ، أننا لم نتعدى حدود الألفة .. ولا تسألني ما إذا كانت للألفة حدود ؟ وللصداقة حدود ؟ وللحدود حدود ؟ ولللحظة حدود ؟



#محمد_علي_القريشي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- استقبل الآن بجودة عالية HD.. تردد روتانا سينما 2024 على الأق ...
- -انطفى ضي الحروف-.. رحل بدر بن عبدالمحسن
- فنانون ينعون الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن
- قبل فيلم -كشف القناع عن سبيسي-.. النجم الأميركي ينفي أي اعتد ...
- بعد ضجة واسعة على خلفية واقعة -الطلاق 11 مرة-.. عالم أزهري ي ...
- الفيلم الكويتي -شهر زي العسل- يتصدر مشاهدات 41 دولة
- الفنانة شيرين عبد الوهاب تنهار باكية خلال حفل بالكويت (فيديو ...
- تفاعل كبير مع آخر تغريدة نشرها الشاعر السعودي الراحل الأمير ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 158 مترجمة على قناة الفجر الجزائري ...
- وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبدالمحسن عن عمر يناهز 75 عاماً ب ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي القريشي - حدود اللحظة الجزء الأول