أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عادل جندي - المرجعية الدينية للدستور والقوانين لا مكان لها في الدولة المتحضرة















المزيد.....


المرجعية الدينية للدستور والقوانين لا مكان لها في الدولة المتحضرة


عادل جندي

الحوار المتمدن-العدد: 1488 - 2006 / 3 / 13 - 10:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يدور كلام هذه الأيام حول تعديل الدستور المصري. ومرة أخرى نكرر أن أية محاولة لإصلاح هذا الدستور، أو استبداله، لا بد أن تمر عبر إلغاء المادة الثانية المتعلقة بالمرجعية الدينية للدولة (دين الدولة والمصادر الدينية للتشريع)، وهي المادة التي سبق أن اعترضنا واعترض غيرُنا عليها. نقول ذلك لمجموعتين من الأسباب: الأولى عامة ومبدأية، والأخرى تتعلق بما يطلق عليه "الشريعة الإسلامية".
***
في البداية لا بد من بعض المقدمات:
1. يستند المجتمع، بالمعنى الحديث للتعبير، إلى عقد سياسي مزدوج التوجه: عقد اجتماعي مع من يقومون بالحكم، يتوافق فيه المواطنون على السلم المدني ونبذ العنف على المستوى الفردي؛ وعقد يربط المواطنين معا بمجموعة من المباديء السياسية والأماني المشتركة". الدستور هو إذن، كما يقول جان جاك روسو، "تسجيل لعقد يحول رغبات الأمة إلى مباديء محددة للعمل".
2. الدولة كائن معنوي لا دين له، وليس من مهامها إدخال الناس للجنة. بينما الدين والشريعة، كما يقول المستشار العشماوي، مَعنِيان بالإنسان لا بالنظم؛ بالضمير أكثر من القواعد القانونية.
3. يزعم، أو يظن، الكثيرون أن الحكم الديني (الثيوقراطي) يعني قيام رجال الدين بالحكم مباشرة. ولو صح هذا فإنه لا توجد في عالم اليوم سوى دولتين ثيوقراطيتين: إيران والفاتيكان!! لكن تعريف الدولة الدينية الصحيح (طبقا لموسوعة السياسات والدين، التي يرأس تحريرها روبرت ووثنو) هو في الواقع: "الحكم الذي يكون فيه الجهد الأساسي موجها نحو تطبيق قوانين إلهية". وبالتالي فهو يعني أي نظام حكم يستند بصورة أو بأخرى إلى "مرجعية دينية". إذن فالدستور المصري يؤسس لنظام حكم ديني (ثيوقراطي).
4. مفهوم الدولة الحديثة ككيان سياسي اجتماعي، يستند إلى الشعب مصدراً للسلطات، يتنافى بصورة مبدأية مع شكل ومفهوم الدولة الدينية. الدولة الحديثة لا تستلهم السلف الصالح على حساب الخلف الطالح. الدولة الحديثة تتعامل مع النسبي والواقعي وليس مع المطلق والغيبي. الدولة الحديثة عقلانية ولا تزعم أنها دولة الكمال، لكنها دولة "السعي المستمر نحو الأفضل".
5. عندما استخدم مصطلح "دين الدولة الرسمي" في بعض الدول الأوروبية حتى عهود قريبة، فهذا لم يكن يعني أكثر من تنظيم إداري بحت، مثل أن يقوم جهاز الدولة بتحصيل تبرعات (مع الضرائب) من المواطنين الراغبين لصالح المؤسسة الدينية الرئيسية في البلاد، مع ضمان حق باقي المواطنين في دفع تبرعاتهم (التي تتمتع بنفس المميزات الضريبية) لمؤسسات دينية أخرى بحسب اختيارهم. ولم يكن المصطلح يعني بأي شكل من الأشكال أن تنال تلك المؤسسة (أو الدين الذي تتبعه) معاملة تفضيلية، ولا أن تتأثر الدولة في سياساتها أو قوانينها بتوجهات تلك المؤسسة (أو الدين الذي تتبعه) ولا أن تقوم بدور "الدعوة" داخل البلاد أو خارجها. وعلى سبيل المثال، فإن دستور إيطاليا "أرض الكاثوليكية" ينص على أن "كافة الديانات تتساوى أمام القانون". أما في اليونان "أرض الأرثوذوكسية" فالدستور يذكر أن "الديانة السائدة في اليونان هي الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية" ولكنه يؤكد على كون "حرية الضمير الديني لا يمكن التعدي عليها. والتمتع بكافة الحقوق والحريات المدنية لا يتوقف على المعتقدات الدينية للفرد".
6. البديل للدولة الدينية ليس "الدولة المعادية للدين" (كما حدث في النظم الشيوعية) بل الدولة العَلمانية (أي الدولة الحديثة) التي تحفظ للدين مكانه في القلوب إيمانا وتعبدا، وفي الضمائر والأخلاقيات عملا، وفي المجتمع دورا يليق به بدون فتح الباب لاستغلاله.

***
أولا: أسباب عامة ومبدأية لضرورة إلغاء المادة الثانية

1. إقحام الدين في السياسة ونظم الحكم، هو خلط يسيء لكليهما، إذ يسعى لسحب غطاء التقديس على ما هو غير مقدس ظنا، أو ادعاء، بأن في ذلك تنفيذاً لإرادة الإله وإعلاءً لشرعه. والاعتراض على قوانين أو ممارسات ذات مرجعية دينية سرعان ما تجري إدانته وحظره باعتباره تعديا على الدين نفسه، ثم الدخول في دوامة الاتهام بالكفر والإلحاد تودي بالمجتمع كله في هاوية سحيقة لا بد أن تنتهي إلى أعمال العنف والإرهاب. بينما الأصل أنه لا توجد قداسة أو نجاسة في نظم الحكم والسياسة؛ بل كل شيء قابل للنقاش والمجادلة، طبقا للمصلحة العامة ولتراضي الفرقاء من أبناء الجماعة الوطنية في إطار احترام مباديء الحرية والمساواة والعدالة.
2. وجود مرجعية دينية في الدستور يعني بالضرورة قيام رجال الدين وفقهائه (بل وأدعيائه) بتفسير النصوص الدينية (التي هي بطبيعتها عامةٌ وحمالةُ أوجه وقابلة للتأويل) واستخلاص الأحكام التي تروق لهم منها منها والقيام بدور الرقيب على الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية، وانتحال حق التفسير والتفقه والتوجيه. والتاريخ يعلمنا أن هذا لعب بالنار لم يحدث أن نجا منه أحد في الماضي. ونذكر أن مرشد الإخوان السابق، رحمه الله، قال عندما سئل عن "ولاية غير المسلمين على المسلمين" أن هذا أمر سيقوم ببحثه، في الوقت المناسب، "أهل الحل والعقد". من هم هؤلاء، ياترى، وما هي سلطاتهم ومن يعينهم ويفصلهم ومن يراقبهم ويحاسبهم؟ وماذا لو لم يختلفوا (إذ في اختلافهم رحمة) بل اتفقوا على فرض أمور تتناقض مع معايير حقوق الإنسان العالمية الحديثة؟
3. وجود مرجعية دينية في الدستور يفتح الباب أمام مزايدات المتطرفين. وكلنا نذكر ما حدث أثناء الانتخابات البرلمانية عندما صرح مرشد الإخوان بأن هدفهم هو "تفعيل وتطبيق الدستور الذي ينص على الشريعة، لا أكثر ولا أقل". أي إن الإخوان أصبحوا في موقع "حماة الدستور" والمدافعين عنه، مما يضع الدولة في موقف غريب وعجيب! وأيضا ما حدث عندما أثير موضوع إلغاء الشريعة الإسلامية من الدستور وما قاله زعماء الإخوان من أن هذه المطالب "خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه، كما أن الاقتراب منه سيفجر حربا أهلية داخل مصر". وبغض النظر عن كون المطالبة بإلغاء الصبغة الدينية للدولة واستبدال الدستور بآخر "مدني" هو، أولا وقبل كل شيء، مطلبُ أعدادٍ لا تحصى من المسلمين العقلانيين المستنيرين المتحضرين الذين يعرفون تماما أن هذا أمر أساسي لا بديل عنه لإقامة دولة حداثية متحضرة في مصر، فإن التهديد بالمذابح وحمامات الدم يبين بوضوح إلى أي مدى يمكن أن يصل دعاة الدولة الدينية الفاشية.
4. وجود مرجعية دينية في الدستور يحجر على دعاة الدولة المدنية الحداثية حرية التعبير والعمل السياسي، ويترك الساحة مفتوحة ومقصورة على دعاة الدولة الدينية. بينما العكس ممكن: ففي الدولة المدنية يمكن لدعاة أيه أيديولوجية أن يعملوا بكامل حريتهم. ويكفي التذكير بأن قانون تنظيم الأحزاب السياسية ينص في مادته الرابعة على أنه "يشترط لتأسيس أو استمرار أي حزب سياسي عدم تعارض مقومات الحزب أو مبادئه أو أهدافه أو برامجه أو سياساته أو أساليبه فى ممارسة نشاطه مع مبادئ الشريعة الإسلامية بإعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع (..)".
5. وجود مرجعية دينية في الدستور ينسف الأساس الذي تقوم عليه أي نصوص أخرى، مذكورة في نفس الدستور أو في القوانين، حول المساواة في حقوق المواطنة أو حول الحريات الأساسية وضماناتها؛ إذ لا يمكن أن تُفَسر مثل هذه المواد إلا في "ضوء" تلك المرجعية.
6. وجود مرجعية دينية في الدستور يفتح الباب أمام خلط الأمور، بل وإمكانية الإساءة للدين نفسه. وعلى سبيل المثال فقد قضت محكمة القضاء الإداري المصري في القضية رقم 35721 لسنة 59 قضائية بإلغاء قرار لوزير الداخلية بتغيير خانة الديانة في البطاقة الشخصية لمن يشهر إسلامه بعد أن يقوم بتوثيق ذلك في "الشهر العقاري". وقد جاء الحكم "استنادا إلى المادة الثانية من الدستور (..) وخاصة أن الإسلام لا يتطلب سوى النطق بالشهادتين...". وبغض النظر عن كون القرارات المشار إليها تتحدث فقط عن "إشهار الإسلام" وليس "تغيير الدين" بصفة عامة، فإنه في ضوء الحكم المذكور يكفي أن "يتطوع" اثنان بسماعهما أحد الأفراد ينطق بالشهادتين لكي يصبح ذلك الشخص مسلما، سواء رغب في ذلك أم لم يرغب؛ وبكل ما يتبعه هذا التحول من تبعات...
وعلى سبيل المثال أيضا فقد قضت الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري بتاريخ 8 نوفمبر 2005 برفض الدعوى القضائية رقم 3253 لسنة 60 قضائية ضد رفع شعار "الإسلام هو الحل" أثناء الحملة الانتخابية لمجلس الشعب، وجاء في حيثيات الحكم: "إن هذا الشعار لا يدعو إلى إثارة الفتنة الطائفية، فالمادة الثانية من الدستور تنص على أن دين الدولة هو الإسلام ومباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع".
ولا نعلم إن كان المدعون قد استأنفوا الحكم، لكن المرء لا يحتاج لأن يكون خبيرا دستوريا ليدرك أن الحكم يشوبه فساد الاستدلال، كما يقول أهل القانون، لاستناده إلى مادة دستورية موجهة للمشرع وليس للقاضي الذي عليه الالتزام بنصوص القوانين السارية؛ إذ يبدو أن المحكمة في تعاملها مع القضية قد انتحلت وظيفة المحكمة الدستورية العليا لتحكم في شأن "دستورية أو عدم دستورية القانون الذي يحظر استخدام الشعارات الدينية"، وهو سؤال لم يطرحه المدعون أصلا. وعلى أي حال فلا يسعنا أن نخفي تعجبنا من الإهانة التي تضمنتها حيثيات الحكم التي يبدو وكأنها تتعامل مع "الإسلام" كأيديولوجية سياسية مثل الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية الخ.
7. وجود مرجعية دينية في الدستور يفتح الباب أمام الغوغاء ومثيري الشغب و "ضعاف النفوس" لأخذ الأمور بأيديهم وفرض أو منع ما يعتقدون أن تلك المرجعية الدينية تتطالبهم بفرضه أو منعه ويسبغ نوعا من الشرعية على ما يقترفون. والحوادث المتكررة التي يقوم فيها همج متوحشون بالاعتداء على الكنائس في أنحاء مصر (غالبا تحت أعين، بل وبتشجيع، مسئولي الأمن والإدارة والحزب الحاكم، ودائما بدون أن ينال المعتدينَ عقابٌ) بحجة أنها "غير مرخص لها"، ما كان لها أن تحدث بهذه الصورة المنفلتة لو كان لمصر دستور مدني متحضر يتساوى فيه المواطنون في الحقوق والواجبات.
8. في دراسة مقارنة بين دساتير العالم قمنا بها ونشرت منذ حوالي عامين، وبصورة أكثر توسعا (بالإنجليزية) في يوليو 2005، خلصنا إلى أنه لا توجد في العالم اليوم دولة متحضرة ومحترمة واحدة يستند دستورها إلى شريعة دينية أيا كانت؛ وإلى أن مصر تمثل حالة شاذة لا مثيل لها: فهي الدولة الوحيدة في العالم ذات أقلية دينية لا يستهان بها، التي تفرض شرائع الأغلبية الدينية على الأقلية.

***
ثانيا: أسباب تتعلق بما يطلق عليه "الشريعة الإسلامية"

نكتشف فجأة كم نمر مرور الكرام على نص المادة الثانية من الدستور المصري بأن "الإسلام هو دين الدولة ومباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"؛ وآن الأوان لكي نفحصها بشيء من التدقيق.
[نفتح قوسا لنؤكد أن النقاش في العقائد، وخاصة عبر الإعلام العام، أمر لا جدوى منه؛ لأنها تبقى في نطاق المقدس مما يجعل الموضوعية في التناول أمرا بعيد المنال، وخاصة في مجتمعات متخلفة كمجتمعاتنا. ومن ناحية أخرى؛ بما أن الدين، أو جانبا منه، قد دخل السياسة والقوانين والدساتير، فإن البحث والكتابة والمناقشة فيه تصبح ليس فقط حقا لكل مواطن بل واجبٌ. والإحجام لا يعنى سوى الوقوع في الحفرة التي حفرها أصحاب خلط الدين بالسياسة، بهدف أن يصبح لهم وحدهم حق التفسير والتوجيه. وإذ نتعرض هنا لماهو ديني المرجع في السياسة سنبقى بالطبع بعيدا عن العقائد والعبادات. ونغلق القوس].

*** نلاحظ أولا أن نص المادة الثانية من الدستور يتحدث عن "الشريعة"، بينما هو في الحقيقة يتعلق "بالفقه". وقد فتح المستشار الجليل محمد سعيد العشماوي العيون في كتاباته الغزيرة على الأمر إذ يقول أن "لفظ الشريعة لا يعني في القرآن الكريم ولا في قواميس اللغة العربية: القواعد القانونية، وإنما معناه: المنهج، السبيل، الطريق، وما شابه". ويضيف أنه قد "حدث للفظ الشريعة في الفكر الإسلامي تعديل عدة مرات: من المعنى الأصلي ثم اتسع ليشمل القواعد القانونية (التشريعية) الواردة في القرآن الكريم ثم امتد ليضم هذه القواعد والقواعد المماثلة التي وردت في الأحاديث النبوية. ثم تغير المعنى ليشمل الشروح والتفسيرات والاجتهادات والآراء والفتاوى والأحكام التي صدرت لإيضاح هذه القواعد أو القياس عليها أو الاستنتاج منها أو تطبيقها؛ أي الفقه. وأوضح أن كاتبي تقرير اللجنة الخاصة حول التعديل الدستوري في مايو 1980 خلطوا الأمور وأصبحوا يتحدثون عن الفقه باعتباره الشريعة، بل أن الترجمة الانجليزية للنص الدستوري حول "الشريعة" تتحدث عن "الفقه" (jurisprudence) وليس الشريعة.
إذن فالأمر يتعلق بفقه وضعه أناس معرضون للخطأ والسهو والنسيان، عاشوا في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وكانوا يعكسون أحوال مجتمعاتهم السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية في فهمهم وإسقاطاتهم للنصوص الدينية. بل إن الإمام الشافعي غير في فقهه عندما انتقل من العراق إلى مصر، مع عدم تغير الزمان، بينما الظروف كانت متقاربة. وبالتالي ليس هناك سبب لتقديس ما انتهى الفقهاء إليه في مدارسهم المختلفة.

*** ونلاحظ ثانيا أن نص المادة الثانية من الدستور يتحدث عن "مباديء" الشريعة.
"المبدأ" طبقا لتعريف القاموس هو "تعميم أولي يُقبل على أنه حقيقي ويمكن استخدامه كقاعدة للتفكير أو التصرف" ـ "قاعدة أو معيار يشكل أساسا لشيء آخر" ـ "قانون أساسي أو حقيقة أولية مثل "القاعدة الذهبية هي أن تعامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك" ـ "إطار عام موجِه على مستوى عام وقابل للتطبيق بصورة عامة".
ولو تساءل أحد عن "مباديء الثورة الفرنسية" لتذكر بسرعة الشعار الشهير "حرية ـ مساواة ـ (إخاء)" وما عليه بعدها سوى الرجوع إلى نص "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الصادر في أغسطس 1789.
ولو تساءل أحد عن "مباديء حقوق الإنسان" فما عليه سوى الرجوع إلى اتفاقيات دولية موقعة بهذا الشأن ليجد ضالته فيها وأن يشير إليها على وجه التحديد.
ولو تساءل أحد عن "مباديء الشريعة الموسوية" لاتجه الفكر ناحية أمرين. أولهما "الوصايا العشر" (وقد أعطى المسيح خلاصتها وروحها عندما بين أن "الناموس (الشريعة) يتعلق بكلمتين فقط: تحب الرب إلهك من كل قلبك، وتحب قريبك كنفسك". وفي توضيح لمن هو "القريب" أعطى مثال "السامري الصالح" الذي بموجبه يصبح القريب هو "كل إنسان"، حتى لو كان عدوا). الأمر الثاني هو مبدأ "العين بالعين والسن بالسن" الذي يضع قاعدة التناسب بين الجريمة والعقاب.
في ضوء ما سبق: ماهي ياتري "مباديء" الفقه (الشريعة) الإسلامي التي لها صفة العمومية والتي هي معروفة للكافة وهناك إجماع شامل حولها؟
الحقيقة هي أننا لا نعلم بالضبط وعلى وجه التحديد!
وكم نتمنى أن يتكرم أهل العلم والحل والعقد بعمل قائمة من المباديء المحددة بوضوح قاطع، يسمح لها بأن تكون صالحة للاستعمال في المقارنة والمقابلة مع غيرها من المباديء عند محاولة كتابة نص خطير يتعلق بمصادر التشريع في دستور عصري حديث.
لكن في سياق مناقشة الموضوع، فلنرجع إلى المذكرة الإيضاحية للجنة الخاصة للتعديل الدستوري في مايو 1980 والتي تقول: "ومن المسلم به أن الشريعة الإسلامية باعتبارها تنظيما شاملا لأمور الدين والدنيا تتضمن مبدأين جوهريين في معاملة غير المسلمين من أهل الكتاب (أولهما) لا إكراه في الدين و (ثانيهما) لهم ما لنا وعليهم ما علينا". ولنا هذه التعليقات السريعة:
1 ـ مبدأ "لا إكراه في الدين": بالطبع لم يذكر كاتبوا المذكرة هذا "المبدأ" لانعدام القدرة على كتابة نص منفرد وواضح في بنية الدستور حول حرية الاعتقاد، بل فقط من باب طمأنة القبط وتبديد خشيتهم من أن اعتبار "الفقه" الإسلامي (أو ما أطلقوا عليه "الشريعة") كالمصدر الرئيسي للتشريع لن يمثل جورا أو حجرا عليهم. بمعنى آخر هو نص دفعي احترازي سلبي وليس تأكيديا إيجابيا.
لكن ما هو بالضبط معنى "لا إكراه في الدين"؟ إن كان يعني أن الناس في البلاد التي "فُتحت" لم يُجبروا على دخول الإسلام، فهذا صحيح نسبيا إذ أنهم أُعطوا الخيار بين الإسلام والجزية والسيف؛ ولكنها خيارات لا تحمل شبهة "حرية العقيدة" من قريب أو من بعيد. (والدليل هو وجود حد الردة). من ناحية أخرى، فإن هذا "المبدأ" مع كونه يستند إلى نص قرآني، إلا أن هناك من سيسرعون للقول بأنه نص مكي نُسخ بأُخر مدنية أو، على الأقل، أن هناك نصوصا مخالفة ومناقضة له (لا داعي للدخول في تفاصيلها فهي معروفة..).
لكن ولنفترض جدلا أنه يعني حرية العقيدة "كمبدأ جوهري" كما تشير المذكرة، وهنا يحق لنا التساؤل:
ـ لماذا، إذن، كُتِبت العهدة العُمَرية (سواء نسبت إلى عمر بن الخطاب أو عمر ابن عبد العزيز؛ أو حتى لو كان النسب انتحالا وضعه الفقهاء ـ كما يقول د. عبادة كحالة).
ـ ولماذا كانت أحكام "أهل الجزية" (أهل الذمة) التي ذكرها الإمام الشافعي (180ـ 230 هجرية) والتي يقول فيها مثلا في كتابه "الرسالة" (نقلا عن كتاب زكريا أوزون "جناية الشافعي") تحت عنوان "إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية": "وليس لكم أن تظهروا في شيء من أمصار المسلمين الصليب ولا تعلنوا بالشرك ولا تبنوا كنيسة ولا موضع مجتمع لصلاتكم ولا تضربوا بناقوس ولا تظهروا قولكم بالشرك في عيسى بن مريم ولا في غيره لأحد من المسلمين، وتلبسوا الزنانير من فوق جميع الثياب الأردية (..) وتخالفوا بسروجكم وركوبكم وتباينوا بين قلائسكم وقلائسهم بعَلم تجعلونه بقلائسكم، وأن لا تأخذوا على المسلمين سردات الطريق ولا المجالس في الأسواق، وأن يؤدي كل بالغ من أحرار رجالكم جزية رأسه..". إذن لاداعي لتصديق الهراء الذي يقال أحيانا حول تبرير الجزية باعتبارها مجرد ضريبة تفرض على "أهل الكتاب" في مقابل الدفاع عنهم أو كبديل عن الزكاة الخ؛ فالنقطة المركزية في فقه أهل الجزية (أهل الذمة) هي الإذلال (عن يد وهم صاغرون).
ـ ولماذا تطور فقه أهل الذمة ليصبح على يدي ابن قيم الجوزية (691 ـ 751 هـ) سفرا هائلا "أحكام أهل الذمة" (يبلغ 829 صفحة ـ طبعة دار الجيل بيروت، حققه أيمن عارف الدمشقي)، اختتمه برسالة عنوانها "النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار". وهو سفر ينضح بعنصرية وغطرسة بغيضتين ينبغي أن يندى لهما جبين أي إنسان جدير بهذه الصفة.
ـ بل ولماذا مازالت تصدر في مصر قرارات جمهورية بشأن بناء كل دار عبادة لغير المسلمين، وتذكر في ديباجتها "بعد الاطلاع على الدستور.."؟ فما هو النص الستوري الذي يبرر لرئيس الجمهورية الافتئات على حق أصيل من حقوق المواطنة (يشير إليه نفس الدستور في المواد 40 و 46!)؟ لا شك إن هذا القرارات تستند إلى "المادة الثانية" كمبدأ عام، وهي التي تتضمن فقه أهل الذمة تفصيلا وتحديدا. فالحقيقة المرة هي أن الوضعية الذمية قد انتهت قانونيا منذ 1856 (تحت الضغوط الأوروبية على الدولة العثمانية) إلا أن آثارها بقيت مجتمعيا وسياسيا. وإن كانت تلك الآثار أخذت في التراجع، وخصوصا أثناء فترة الحكم الليبرالي (1919ـ1952)، لكنها عادت للتزايد مع الثورة ثم أصبحت مقننة بصورة مباشرة مع التعديل الدستوري الساداتي في مايو 1980.
إذن يمكننا القول بأن الارتكان إلى نص عام في الدستور يشير ضمنا (وحتى هذا غير مؤكد) إلى مبدأ "لا إكراه في الدين" لا يعني إطلاقا الاقتراب من مباديء حقوق الإنسان التي تأصلت بعد وصول الرقي البشري لمرحلة متقدمة. ومبدأ حرية الاعتقاد والضمير المرجو تأكيده، تقننه المواثيق الدولية طبقا لنصوص قطعية واضحة، ولا حاجة لنا بالتمسح في "مباديء الشريعة الإسلامية".
2ـ مبدأ "لهُم ما لنا وعليهُم ما علينا" الذي قد يُراد به الإيحاء بنوع من "المساواة" بين المسلمين وغير المسلمين. وبغض النظر عن أن التعبير يحوى في الـ "هُم" والـ "نا" من التعالي ما يجعله يُرسـخ نقيض ما يراد أن يُفهم منه، فالحقيقة هي أن استعراض الفقه الإسلامي يمكن معه الاستنتاج بكل إطمئنان إلى مبدأ ثابت على مدار التاريخ هو "لا مساواة بين المسلم وغير المسلم". وهناك الكثير مما يؤيد هذا، مثل: لا تُقبل شهادة غير المسلم ضد المسلم؛ لا يُقتل مسلم بكافر؛ لا يرث غير المسلم في المسلم. وبينما يُصرَّح بزواج المسلم من "الكتابية"، فالعكس (أي زواج "الكتابي" من المسلمة) مُحرَّم برغم عدم وجود نص قرآني صريح بذلك؛ وذلك لأن الفقهاء استندوا ببساطة إلى مبدأين في آن واحد وهما: "لا مساواة بين المسلم وغير المسلم" (الذي يستند بدوره إلى مبدأ "الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه")، ومبدأ "الرجال قوامون على النساء" (أي لا مساواة بين الرجل والمرأة).
وبعيدا عن الفذلكات التي تحاول أن تفسر (وهي في الحقيقة تبرر)، فالأمر يبدو واضحا بما فيه الكفاية. إذن فالارتكان إلى "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" (حتى لو افترضنا أن هذا "مبدأ جوهري" من مباديء الشريعة) لا يؤكد من قريب أو بعيد على المساواة التي ينبغي أن يكون النص الدستوري حولها قاطعا وحاسما وبدون التواء.
***
يبقى بعد ذلك عدد من الأمور التي نجدها في الكتابات حول الفقه (الشريعة):
1ـ "الحدود" العقابية، التي توقف العمل بها فعليا في مصر ومعظم الدول الإسلامية لأنها في قسوتها وفظاظتها تتنافي تماما مع ما وصلت إليه الإنسانية اليوم، حيث التشريعات المتعلقة بأخذ حق المجتمع من الجاني تهتم "بتقويم الجاني" أكثر من "الانتقام منه". ولكن الإسلاميين بأطيافهم يحلمون بإعادتها بأول فرصة ويتلمظون لرؤية الأعناق تُدَق والأيادي والأقدام تُبتَر. هل "تفعيل" الحدود هو المقصود عند الإصرار على تطبيق "الشريعة"؟
2ـ يقال أيضا أن مبدأ "العين بالعين والسن بالسن" هو جزء من أصول الفقه على أساس أن "المسلمين هم أولى بشرائع من سبقوهم". ولا اعتراض لنا على هذا بالطبع، وإن كنا نلاحظ أن هذا المبدأ لا يعني في الأصل التوراتي أكثر من مراعاة التناسب بين الجريمة والعقاب ولكن هناك في "الحدود" الإسلامية ما يتناقض مع هذا. فلا تناسب هناك،على سبيل المثال، بين سرقة بضعة دراهم وقطع يد السارق.
3ـ أحكام الزواج، وهو ما لا نريد الدخول فيه ولكننا لا نرى المانع في أن ينص الدستور تحديدا على أن تستلهم قوانين "الزواج الديني" لأتباع كل دين شريعتهم الخاصة، كل على حدة.
4ـ هناك مباديء مثل "لا ضرر ولا ضرار" (أي بالعربي: " كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض")، و "لا تزر وازرة وزر أخرى" و "رفع الضرر خير من جلب المنفعة" و "الضرورات تبيح المحظورات" الخ. وكلها أمور طيبة، ولكنها من بديهيات القوانين المعاصرة، ولا يحتاج الأمر إلى نص دستوري حول "الشريعة" لكي يقننها. بل إن المستشار العشماوي يجد فيها تشابهات مع الفقه الروماني، لأن الفقه الإسلامي نشأ ابتداء في دمشق حيث كان القانون الروماني مطبقا بالفعل منذ ما قبل الإسلام.

***
خلاصة الأمر هي أن أسس الدولة الحديثة (الحرية والمساواة والعدالة ـ الشعب مصدر السلطات ـ الديموقراطية كنظام متكامل الأركان وليس فقط مجرد "صناديق اقتراع") ومواثيق حقوق الإنسان العالمية تكفي تماما لكي يبنى عليها دستور أي دولة متحضرة أو تسعى للتحضر، وبدون الحاجة لمرجعية دينية مضار الإشارة إليها تفوق منافعها ملايين المرات.
وإن كان ما تحويه هذه الأسس والمواثيق من مباديء حضارية يتماشى مع "مباديء الشريعة الإسلامية" (التي مازال يجب تحديدها بوضوح) فهذا خيرٌ وبركةٌ عظيمان؛ وفي هذه الحالة يكفي التمسك بها بدون التمسح في "الشريعة". وإن كان هناك فيها ما يرى أهل الحل والعقد أنه لا يتماشى مع "الشريعة"، فلن نقول "يفتح الله"؛ بل فقط نطلب أن يتكرموا ويقولوا لنا ماهو بالضبط هذا الذي لا يعجبهم!



#عادل_جندي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إسهام حضاري للعالم العربي الإسلامي: دمقرطة الإرهاب وإرهاب ال ...
- نجاح الإخوان في الانتخابات البرلمانية المصرية ليس مفاجأة
- الإصــــــلاح والتصليــــــح
- التفسير الجُحاوي للتاريخ
- زوابع التصحير
- عـرض كتـاب هـام حول مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية - الح ...


المزيد.....




- خلال اتصال مع نائبة بايدن.. الرئيس الإسرائيلي يشدد على معارض ...
- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عادل جندي - المرجعية الدينية للدستور والقوانين لا مكان لها في الدولة المتحضرة