أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هاشم صالح - ليسنغ والتنوير















المزيد.....

ليسنغ والتنوير


هاشم صالح

الحوار المتمدن-العدد: 18 - 2001 / 12 / 26 - 09:36
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الشرق الاوسط
---------------

الأزمة التي عاشها ليسنغ هي نفس الازمة التي يعيشها الوعي الاسلامي المعاصر امام قيم الحداثة، والتراث الاسلامي العظيم قادر على انجاب مصلحين كبار من امثال ليسنغ، فمستقبل الاسلام امامه لا خلفه.
يعتبر ليسنغ (1729 ـ 1781) اول ناقد ادبي الماني، واول مؤسس للنقد المسرحي، ولكن اهميته لا تقتصر على ذلك، ففي زمن ديدرو وفولتير اثبت انه اكبر كاتب في عصره، وقد وضع قلمه في خدمة فلسفة التنوير، وخلال ثلاثين سنة كان قد انخرط بكل شغف في دراسة تاريخ الاديان، ودخل في معارك حامية مع بعض اللاهوتيين المسيحيين، واذا كان قد رفض مهنة الكاهن المسيحي، التي اشتهرت بها عائلته ابا عن جد، فذلك لأنه فقد بشكل مبكر، ايمانه باليقين التقليدي اي بالارثوذكسية المسيحية او اللوثرية، ونقصد بالارثوذكسية هنا مجموعة من العقائد والطقوس التي ينبغي عليك ان تعتنقها وتمارسها وإلا اعتبرت خارجا على الدين، بهذا المعنى فإنه توجد ارثوذكسية مسيحية كما توجد ارثوذكسية اسلامية، او يهودية، بل وتوجد داخل المسيحية ارثوذكسية لوثرية بروتستانتية، وارثوذكسية كاثوليكية، وداخل الاسلام ارثوذكسية سنية، وارثوذكسية شيعية.. الخ. واي تفسير حر او شخصي للدين يعتبر خروجا على الارثوذكسية ويدان من قبل الهيئات الدينية العليا.
بالطبع فإن جميع فلاسفة التنوير خرجوا على الارثوذكسية العتيقة والخانقة، ومن هنا سرّ معاركهم مع رجال الدين. مهما يكن من امر، فإن ليسنغ كان في حالة بحث عن ايمان جديد قائم على العقل لا النقل.
وكان يطالب بحقه في تطبيق المنهج التاريخي النقدي على النصوص المسيحية المقدسة، ومن كتاباته الاولى: مسيحية العقل، أي المسيحية القائمة على العقل، وهي تختلف بالطبع عن المسيحية المسيطرة لرجال الدين والقائمة على النقل، والتقليد، وهيبة الاقدمين، في هذا الكتاب تتجلى فكرتان اساسيتان من افكار ليسنغ، الاولى: تقول بأن الله يقع خارج كل الانظمة اللاهوتية أيا تكن، فلا يمكن سجن الله داخل نظام عقائدي لاهوتي، مسيحيا كان ام غير مسيحي، فالله اكبر من اي عقيدة خصوصية، واما الفكرة الثانية فتقول بأن اعمال الانسان هي الاساسية وليس معتقداته او حتى صلواته و عباداته، فإذا كان يفعل الخير ويحب الآخرين وينفع المصلحة العامة فإنه مؤمن جيد، حتى ولو لم يصلْ ركعة واحدة في حياته، واذا كان انانيا، غشاشا، راكضا وراء المنافع الشخصية والمصالح الضيقة فإن ذلك لن ينفعه في شيء حتى ولو صلّى كل يوم الف ركعة! وبالتالي فالدين هو المعاملة او الممارسة الفعلية، وليس الاقوال او التمتمات او الهمهمات.
في الواقع ان فلسفة ليسنغ الدينية مدينة كثيرا لسبينوزا، كما يتجلى ذلك في كتابه «حول حقائق الاشياء خارج الله»، وقد افضى بهذه العقيدة الى الفيلسوف جاكوبي قبيل موته بفترة قصيرة، وهذا الموقف المتحرر جدا من اللاهوت القديم دفعه للدخول في معارك فكرية مع العديد من رجال الدين وبالاخص القسيس غويز، والواقع ان عقيدة ليسنغ مشروحة جيدا في آخر كتاب اصدره قبيل موته، تربية الجنس البشري، وملخص اطروحته في هذا الكتاب ان البشرية، خلال تاريخها الطويل، تمشي من وحي الى وحي، بمعنى آخر، فإنها انتقلت من مرحلة الشرك وتعددية الآلهة، الى مرحلة الوحي الموسوي، الى مرحلة الوحي المسيحي، فالمسيح دشن المرحلة الاخلاقية الثانية من تاريخ البشرية، وغدا قد يظهر عصر ثالث للبشرية، حيث يصبح البشر واعين تماما بقدراتهم ويفعلون الخير من اجل الخير لا رغبة في الثواب الأخرويّ ولا خوفا من العقاب الآلهي، والواقع ان ليسنغ تنبأ بالعصر المقبل قبل ان يحصل، فالبشرية الاوروبية المستنيرة، اصبحت تتّبع المبادئ الاخلاقية في المعاملة، حتى بعد ان خرجت من اللاهوت القديم، وربما لأنها خرجت منه. بهذا المعنى فإن ليسنغ كان استاذا للاجيال القادمة، ومن معطفه خرجت الفلسفة المثالية الالمانية: اي فلسفة هيغل، وشيلنغ، وفيخته..
من المعلوم ان التربية كانت الشغل الشاغل لفلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر، ويكفي ان نذكر بهذا الصدد جان جاك روسو وكتابه «اميل، او في التربية». كان هؤلاء الفلاسفة يهدفون الى تخليص البشرية الاوروبية من ظلمات الجهل، وجعلها تتوصل الى نور الحقيقة، وبالتالي الى السعادة والتقدم، والرفاه، وفي هذه الكلمات البسيطة لخصنا مشروع التنوير كله، لكن فلاسفة التنوير لم يذوقوا طعم هذا المشروع ولم يتح لهم الوقت الكافي لرؤيته متحققا على الارض والاستمتاع به، وانما هم زرعوا لكي يحصد الآخرون، فمن كثرة ما عانوا من الجهل، والتعصب الديني، والفقر، فإنهم ارادوا ان يشقوا للبشرية الاوروبية طريق الخلاص الذي ينقذها من كل هذه الآفات التي تنغص عيشها وتجعله جحيما لا يطاق، كان هؤلاء الفلاسفة يؤمنون بأن الانسان طيب في جوهره، وانه يريد ان يتعلم ويتقدم على طريق الخير، ولكن الظروف والعقلية الخاطئة والجهل تمنعه من تحقيق ذلك.
بتأليف هذا الكتاب قبيل موته راح ليسنغ يستعيد المسألة الاساسية التي شغلته طيلة حياته كلها، وهذه المسائل تتلخص في الاسئلة التالية: ما هي القيمة التي يمكن ان نوليها للكتابات المقدسة، اي للانجيل اساسا؟ وهل بقي من شيء صحيح في الكتب التي وصلتنا منذ عهد لوثر، اي منذ مائتي سنة واكثر؟ ومعلوم ان هذه الكتب اللاهوتية تقع في قلب وصميم العقيدة المسيحية، كيف يمكننا التدقيق بين ما ورد في الكتاب المقدس، وبين مطالب الوعي الاخلاقي والتحليل العلمي؟ فنحن نلاحظ ان الكتب الدينية المسيحية تحتوي على اشياء كثيرة مضادة للروح العلمية الحديثة، ولضمير الانسان الحديث، فكيف يعقل ذلك، وكيف يمكن قبوله؟ ان الانسان بحسب ليسنغ، يتخيل فكره الحق والخير كمثل اعلى، وهو يطمح بشكل طبيعي الى التوصل اليهما، الى تحقيقهما، انه يريد باستمرار ان يحسن وضعه، ان يكون افضل من السابق، كما يريد ان يتوصل الى اعلى مستوى اخلاقي ممكن، انه يبحث باستمرار ودون توقف، عن الحقيقة والكمال، وهذا البحث يشكل معنى وجوده وحقيقته، ثم يردف قائلا: ان الدين المسيحي هو من اعظم الاديان، والاخلاقية العالية التي يتحلى بها تدفعه في هذا الاتجاه، وبهذا المعنى، فإن ممارسة المسيحية الحقيقية تتطابق مع البحث عن الحقيقة الاخلاقية، ولكن لماذا نلاحظ تناقضا كبيرا بين مبادئ هذا الدين وسلوك اغلبية المؤمنين به؟ لماذا نجد ان الكتب اللاهوتية المسيحية تصدمنا الآن بقساوتها، بفجاجة اخلاقياتها، بيقينياتها المتناقضة تماما مع كتب الطبيعة والعلم الحديث؟ وكيف يمكن التوفيق بين مضمون هذا «الوحي» الذي تفرضه علينا المسيحية، وبين مبادئ الضمير الاخلاقي.
لا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا اذا ضحينا بأحد جانبي الصراع، فإما ان نمنع العقل من التدخل في الشؤون الدينية والعقائد اللاهوتية، ونحظر عليه نقد النصوص المقدسة او دراستها بشكل عقلاني وعلمي، وهذا ما يفعله اعداء ليسنغ من رجال الدين الاصوليين، وإما ان نتخلى بكل بساطة، عن هذه الكتب المسيحية الصفراء التي علاها الغبار، والتي تعتبر الغذاء اليومي للمسيحي التقليدي: اي لملايين البشر في عهد ليسنغ، وعندئذ نلتحق بفولتير وتصوره الطبيعي عن الدين والاخلاق، فالدين الحقيقي هو الدين الطبيعي، اي العقلاني الذي ينطبق على جميع البشر، وليس اللاهوت المسيحي الموروث ابا عن جد والذي يسيطر علينا بحكم البطالة والعطالة وتراكم القرون، هنا تكمن النقطة الاساسية لازمة الوعي الاوروبي في ذلك الزمان، وعن هذه الازمة الرهيبة تمخضت الحداثة لاحقا، فالازمة اذا ما انحلت بشكل ايجابي عادت بالخير العميم على الناس، ولكنها قد تدمر الانسان اذا لم تجد لها اي منفذ او خلاص، عندئذ تنفجر انفجارا وتحرق الاخضر واليابس، وبالتالي فهناك نوعان من الازمات: ايجابية وسلبية، الاولى تحرر والثانية تدمر، ونحن نقول بأن الازمة التي عاشها ليسنغ هي نفس الازمة التي يعيشها الوعي الاسلامي المعاصر امام قيم الحداثة، كل ما نأمله هو ان يستطيع هذا الوعي حلّها عن طريق شيء آخر غير العنف والارهاب، والتدمير، بل وحتى الانتحار الذاتي، وكلنا امل في ان التراث الاسلامي العظيم سوف يقدر على توليد مصلحين كبار من امثال ليسنغ واشباهه، مصلحين ينقذونه من الوهدة التي انحدر اليها والازمة التي يتخبط فيها حاليا، فهذه الامة التي انجبت المفكرين الكبار في الماضي، قادرة على انجابهم في المستقبل وربما في مكان ما من العالم الاسلامي، وفي اللحظة التي اكتب فيها هذه السطور، ذلك الطفل الذي سيصبح فيما بعد المصلح الاكبر للاسلام، بل ربما كان هذا المصلح موجودا بين ظهرانينا اليوم، وانا اعتقد انه موجود وقد تحدثت عنه مرات ومرات، ولكننا لا ننتبه اليه او لا نعير كلامه الاصغاء الذي يستحقه، ذلك انه لا نبي في قومه، ولكن وقته سيجيء حتما لاحقا، فالاسلام مستقبله امامه لا خلفه، وهو لن يجيء على يد التقليديين المتحجرين الذين يكررون الكلام نفسه منذ مئات السنين، وانما على يد المبدعين والمجددين، هذا المصلح الذي اتحدث عنه جزائري الاصل، اي ينتمي الى ذلك الشعب المعطاء والكريم، ذلك الشعب المجاهد الذي ضحى بكل شيء من اجل حريته واستقلاله، فهل من قبيل الصدفة ان يكون منتميا الى ذلك الشعب الذي يخوض الآن معركة التحرير الثانية، اقصد المعركة الشرسة بين التنويريين والاصوليين؟

كاتب سوري مقيم في باريس



#هاشم_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأصولية الظلامية والمعركة التي لا بد منها..


المزيد.....




- قناة أمريكية: إسرائيل لن توجه ضربتها الانتقامية لإيران قبل ع ...
- وفاة السوري مُطعم زوار المسجد النبوي بالمجان لـ40 عاما
- نزلها على جهازك.. استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 20 ...
- سلي أولادك وعلمهم دينهم.. تردد قناة طيور الجنة على نايل سات ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...
- نزلها الآن بنقرة واحدة من الريموت “تردد قناة طيور الجنة 2024 ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...
- كاتب يهودي: المجتمع اليهودي بأمريكا منقسم بسبب حرب الإبادة ا ...
- بايدن: ايران تريد تدمير إسرائيل ولن نسمح بمحو الدولة اليهودي ...
- أستراليا: الشرطة تعتبر عملية طعن أسقف الكنيسة الأشورية -عملا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هاشم صالح - ليسنغ والتنوير