أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أَكرِمَ عَبْدُ الْقَيُّومِ عبَاسَ - حِينَ تَحْتَفِيَ الْأُمَمُ بِمُفَكِّرِيهَا فِي ذِكْرَى اِسْتِشْهَاد الْأُسْتَاذِ مَحْمُود مُحَمَّد طه















المزيد.....


حِينَ تَحْتَفِيَ الْأُمَمُ بِمُفَكِّرِيهَا فِي ذِكْرَى اِسْتِشْهَاد الْأُسْتَاذِ مَحْمُود مُحَمَّد طه


أَكرِمَ عَبْدُ الْقَيُّومِ عبَاسَ

الحوار المتمدن-العدد: 5763 - 2018 / 1 / 20 - 00:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أن التمايز بين الأمم والشعوب فيما تلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، أعتمد على أساس طفرة الصناعة ومكاسبها المادية والحضارية . لكن الإنطلاقة الضروية لتلك الطفرة كانت طفرة تاريخية أخرى ترافقت فيها العوامل الموضوعية والذاتية معاً . الثورة التقنية والعلمية ضمنتها تحولات معرفية متزامنة ، فقاعدة الثورة الصناعية بُنِيت على إنهاء متزامن لاستبداد السلطة الدنينة ودور الكنيسة . وهذا في حد ذاته لم يكن ممكناً الوصول إليه في غياب العقل الذي يستطيع فهم طبيعة الأزمات التي عاشتها مجتمعات ماقبل الصناعة وتناقتضها الاجتماعية والظروف المادية التي يعيشها جمهور هذه الشعوب . هذا العقل هو خلاصة إعمال مفكري تلك الأمم والشعوب ، حيث صارت هذه المصفوفات الفكرية جزءً من المكتسبات الاجتماعية والسياسية والاستراتيجية لتلك الشعوب ، بل حاجزاً يمنع الأترداد على ثورتها الحضارية والمعرفية ، لذلك ظلت هذه الشعوب تحتفي بمفكريها.
عقب إستشهاد الأستاذ محمود محمد طه 18 يناير 1985م ، خصصت مجلة جون آفريك ذات الإنتشار الواسع في الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية ، في عددها بتاريخ 30 يناير غلافها الأمامي لخبر الإعدام بعنوان "الجريمة: إعدام محمود محمد طه بسبب أفكاره" ، حيث قالت المجلة: ( إننا لا نعرف عنه شيئاً كثيراً – ولكن إستشهاده قد مسنا عميقاً.). في ذات السياق أوردت مجلة الدستور في عددها الصادر بتاريخ 11 فبراير 1985 ، تقريراً عن الاجتماع الذي نظمته الأحزاب البريطانية في الثلاثين من شهر يناير ، وذلك للتنديد بالجريمة البشعة التي ارتكبها النظام السوداني بتنفيذ حكم الإعدام بالشهيد محمود محمد طه.. ترأس الاجتماع السير غراهام توماس أحد كبار الموظفين السابقين بحكومة السودان، وقد لخص أهداف الاجتماع في ثلاث كلمات "الحزن والأسى والتقدير"، الشعور بالحزن أمام هذه الفاجعة ، والشعور بالأسى بالنسبة للذين ارتكبوا هذه الجريمة ، والشعور بالإجلال والاحترام أمام محمود وشجاعة الذين ضحوا بالغالي والنفيس لإعلاء كلمة الحق والذين كان المرحوم محمود محمد طه ينتمي إلى صفوفهم".
نشر الباحث في الدراسات الدينية محمود مراد مقالاً بعنوان محمود محمد طه الرسالة الثانية من الإسلام ، بتاريخ 28 مايو 2014م ، وذكر في صدر مقاله (إنّ أكثر ما يثير الحزن في نفس المفكّر أن يتمّ تشويه أفكاره عمداً ، إذا لم تتماه تلك الأفكار مع مصالح الطبقات المسيطرة ، بل وتهدّد بتقويض تلك السيطرة لحساب المعرفة الإنسانية . ولعل ما حدث مع الأستاذ محمود محمد طه الذي حلّتْ ذكرى وفاته في يناير (أعدم على يد نظام جعفر النميري في السودان في 18 يناير سنة 1985) ، يُعتبر نموذجاً على ما يمكن أن يعانيه المفكر ، عندما يهمّ بالخروج عن نمط التفكير السائد ومخالفة العقل الأوحد ، إذ سيكون وقتها هدفاً لقوى الظلام التي ترى أنّ مصلحتها تقتضي تكريس الرجعية وتدعيم أسس الاستبداد التي تحفظ لها هيمنتها الثقافية والسياسية.)
في ذات السياق كتب الدكتور باسم المكي (لاشكّ في أنّ محمود محمّد طه (1909- 1985) يمثل علمًا بارزًا في تجديد الفكر الإسلامي ذلك أنّ الرجل صدع بآراء طريفة دفع حياته ثمنًا لها . غير أنّ فكر طه بقي مجهولاً نتيجة تضييق السلطتين السياسية والدينية عليه.)
مثل الأستاذ محمود محمد طه الذي ولد في مدينة رفاعة بوسط السودان حوالي عام1909 ، علامة فارقة في سياق الفكر الحداثوي السوداني بل تخطى حدود المدى الزماني والمكاني ليصبح رمزاً لتحدي المعرفة لتجليات السلطة ، وتمثل ذلك في وصف الأستاذ محمود مراد (شكّل محمود محمد طه تحدّياً أخلاقياً في مواجهة وُعّاظ السلاطين وفقهاء السلطة ، ومحترفي التجارة بآلام الشعوب وتطلّعاتها ، ولم تكن حادثة إعدامه سوى شاهد حيّ على مأساة بشرية ستكلل بحبل المشنقة ، وهنا لم نجد تقريظاً لحياة الرجل سوى أن نردّد معه "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء"، وهو الحديث النبوي الذي كان يردده طه ، ويكثر من الاستدلال به دوماً ، ويحفظه عن ظهر قلب عملاً وقولاً ، ليدفع حياته في النهاية ثمناً لتلك الغربة القاسية.)
كان مشروع الأستاذ الفكري الحداثوي متسقاً مع مسيرته الحياتية والمهنية ، حيث انتقل الأستاذ محمود في عام 1932م ، بعد إتمامه دراسته الوسطى بمدينة رفاعة، إلى الخرطوم ، ليتسنّى له الالتحاق بكلية غُردون التذكارية ، تخرج الأستاذ محمود في عام 1936م وعمل مهندسًا بمصلحة السكك الحديدية ، وكانت رئاستها بمدينة عطبرة . أظهر الأستاذ محمود انحيازاً إلى الطبقة الكادحة من العمال وصغار الموظفين ، كما أثرى الحركة الثقافية والسياسية بالمدينة من خلال نشاطه في نادي الخريجين ، فضاقت السلطات الاستعمارية ذرعاً بنشاطه ، فنُقِل إلى مدينة كسلا في شرق السودان في العام 1937م ، غير أن الأستاذ محمود تقدم باستقالته من العمل في عام 1941م ، واختار أن يعمل في القطاع الحر كمهندس ومقاول.
في 26 أكتوبر 1945م أنشأ الأستاذ محمود وثلة من رفاقه حزباً سياسياً أسموه (الحزب الجمهوري)، وتفرد الحزب الجمهوري عن بقية الأحزاب في المطالبة بالحكم الجمهورى ، وفي المطالبة بالاستقلال التام ، في الوقت الذي كانت فيه فصائل من الحركة الوطنية السودانية ، مثل الحزبين الكبيرين (الأمة - الوطني الاتحادي)، تنادي بالاتحاد مع مصر أو الاستقلال تحت التاج البريطاني.
خاض الأستاذ معارك محتدمة مع حكومة الأستعمار، وذاق مرارة السجن في العام1946 م نتيجة لصدامه المستمر مع الاستعمار وافكاره . والسودان يدخل فترة جديدة من البناء الوطني عشية الاستقلال 1956م ، أهتم الاستاذ محمود بحركة التأليف ، والنشر ، ومنابر الحوار ، وأركان النقاش التى تقام فى الطرقات العامة والميادين والحدائق ودور العلم والأحياء . كان شعار ثورة التغيير هذه هو الكلمة (لا اله الا الله) بعد أن رفعها الاستاذ محمود فى دعوته الجديدة الى مستوى من التحقيق جعلها منهاجا ً لتغيير النفوس . كانت حركة الحوار الفكري هذه معالم بارزة فى حياة الشعب السودانى حيث كانت كثير من أركان النقاش فى الجامعات ، وفى الطرقات والأماكن العامة ، حيث كان الجمهوريون يذهبون الى لقاء المثقفين ورجال الدين والمفكرين فى مقابلات خاصة يتم فيها الحوار الفكرى وتعرض الدعوة الى الرسالة الثانية من الإسلام وتقدم لهم فيها نسخاً من كتب الفكرة الجمهورية .
تعرض الأستاذ للاتهام بالردة بعد ثورة اكتوبر 1964 م ، وفى نوفمبر 1968م حُكم على الاستاذ محمود بالردة بعد محاكمة صورية سريعة استغرقت نصف الساعة . أنتبهت دوائر السلطة وإذيالها المعرفية منذ وقت مبكر لخطورة المشروع الذي يؤسس له الأستاذ محمود. حيث بعث الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بتاريخ 5 يونيو 1972 رسالة للسيد الأستاذ وكيل وزارة الشئون الدينية والأوقاف بالسودان ، كتب فيها ( وقع تحت يدي لجنة الفتوي بالأزهر الشريف ، كتاب الرسالة الثانية من الإسلام ، تأليف محمود محمد طه ، طبع في أم درمان الطبعة الرابعة عام 1971م ص. ب 1151. وقد تضمن هذا الكتاب أن الرسول بعث برسالتين فرعية ورسالة أصلية . وقد بلغ الرسالة الفرعية ، وأما الأصلية فيبلغها رسول يأتي بعد ، لأنها لا تتفق والزمن الذي فيه الرسول . وبما أن هذا كفر صراح ولا يصح السكوت عليه ، فالرجاء التكرم باتخاذ ما ترونه من مصادرة لهذا الفكر الملحد والعمل على ايقاف هذا النشاط الهدّام ، خاصة في بلدكم الإسلامي العريق . وفقكم الله وسدد خطاكم) .
جاء رد محمد أحمد ياجي ، وكيل وزارة الشئون الدينية والأوقاف ، بتاريخ 23 يوليو 1972، كالآتي (بالإشارة إلى خطابكم المؤرخ 5/6/1972 والخاص بكتاب الرسالة الثانية من الإسلام تأليف الأستاذ محمود محمد طه ، إن موضوع مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه ونشاطه الذي يقوم به موضوع دراسة دقيقة بواسطة هذه الوزارة وسلطات الأمن المختصة في جمهورية السودان الديمقراطية ، وستتخذ فيه الاجراءات المناسبة بعد اكمال دراسة الموضوع من جميع جوانبه . هذا وتجدر الاشارة إلى أن المحكمة الشرعية العليا بجمهورية السودان الديمقراطية كانت قد أصدرت حكمها غيابياً في القضية نمرة 1035/1968 في 18/11/1968م ضد الأستاذ محمود محمد طه وحكمت غيابياً بأنه مرتد عن الاسلام وأمرته بالتوبة من جميع الأقوال والأفعال التي أدت إلى ردته ، وتجري الآن عملية جمع هذه الحقائق للمساعدة في الدراسة واتخاذ الإجراءات اللازمة ).
واتبعت السلطة قولها فعلاً حيث أصدر مجلس الأمن القومي لنظام مايو في العام1975 م ، قراراً بمنع الأستاذ محمود من القاء المحاضرات العامة . لم يقف قلق إذيال السلطة عند هذا الحد فقد نشرت صحيفة الأهرام المصرية ، بتاريخ 16 ابريل 1976، رسالة بعثها الأستاذ محمد عبدالله السمان ، أحد مؤسسي جماعة الأخوان المسلمين إلى الصحيفة ، وجاء في متنها (أن هذه الجماعة تقوم بنشاطها العلني منذ سنوات بعيدة ، ولها مقرها المعروف في ام درمان ، كمنطلق لها لنشر الهوس الديني ، الذي تؤمن به ، ومع ذلك فلم يتعرض لها علماء الدين ، وهم من الكثرة بمكان في السودان ، بالإضافة إلى أن للأزهر هناك عدداً لا يُحصى من علمائه ، لم يتكرم واحد منهم بإرسال مذكرة عن هذه الجماعة للأزهر ليصدر بياناً يحذر فيه من أفكار هذه الجماعة الضالة المضلة التي لم اعرض من عقيدتها في هذه الكلمة السريعة إلا القليل).
وبلغ السيل الزبى حين نشر الأستاذ في العام 1976م، كتاباً بعنوان (اسمهم الوهابية ، وليس اسمهم أنصار السنّة)، والذى أثار غضب السلطات الدينية السعودية ، حينها قامت سلطة مايو باعتقال الاستاذ محمود وعدداً من قادة الأخوان الجمهوريين ، وقامت بايداعهم سجن كوبر . انتقل صراع الأستاذ مع التيارات التقليدية لمرحلة المواجهة الكاملة أثناء فترة حكم جعفر النميري ، والتي بدأت إرهاصاتها منذ توقيع ماسمي بالمصالحة الوطنية بين الأحزاب المعارضة لنظام جعفر نميري ورأس النظام في ذلك الوقت بوساطة عربية وشاركت على إثر ذلك الأتفاق الأحزاب المعارضة في السلطة الحاكمة وعلى رأس تلك الأحزاب الحركة الأسلامية السودانية بقيادة حسن الترابي . حينها قال الأستاذ (بالمصالحة الوطنية انتهت المرحلة الأولى من مايو ، وبدأت المرحلة الثانية والأخيرة).
أعلن جعفر نميري في سبتمبر من العام 1983م قوانين الشريعة الأسلامية ، لتصل مايو مرحلتها الأخيرة كما تنبأ الأستاذ ، لكن في ذات الوقت ليبدأ فصل جديد من مشروع الأستاذ . وكما جاء في وصف الأستاذ محمود مراد (تصدّى الأستاذ مع رفاقه وتلاميذه لهذه القوانين ، وقاموا بإصدار منشور حمل عنوان "هذا أو الطوفان"، هاجموا فيه "قوانين سبتمبر" تلك التي هدّدت الوحدة الوطنيّة وشوّهت الدين وجعلت من الإسلام فزّاعة ، ونجح المنشور في الوصول إلى كافّة قطاعات المجتمع السوداني ، وهنا لم يكن أمام النميري ونظامه بديل عن إسكات هذا الصوت وإلى الأبد ، فسارعت قوّاته بالقبض على الأستاذ طه وتقديمه مع أربعة آخرين من رفاقه إلى المحاكمة ، لأنّه تجرّأ وأصدر منشوراً معارضاً لأمير المؤمنين ، وكان نميري قد أخذ البيعة من عدد من الجهات الرسمية في السودان وعلى رأسهم قضاة المحاكم والفقهاء الذين كان من بينهم الدكتور حسن الترابي ، لتنصيبه أميراً للمؤمنين . جرت وقائع المحاكمة بشكل عجول وهزلي ، وبالإضافة إلى تهمة تكدير السلم العام والخروج على "أمير المؤمنين"، أضيفت التهمة التي تم استخراجها من دفاتر القضاء ، والتي تعود إلى ما قبل ذلك بسبعة عشر عاماً ، عندما أدين طه في عام 1968 بالردة عن الإسلام ، لتكتمل فصول المحاكمة العابثة بمهزلة قضائيّة لم يسبق لها مثيل ، قامت فيها محكمة الاستئناف بافتراض أنّ الشخص المُدان قد تقدّم باستئناف إليها ، وتبرّعت بإضافة تهمة جديدة لم يُحاكم المتّهمون وفقها أصلا ، بل وقامت باقتراض حكمٍ صدر قبل سبعة عشر عاما من محكمة أخرى ليست بذات اختصاص بنص الدستور نفسه الذي كان موجوداً وقتها).
نشرت مجلة المستقبل ، بتاريخ 26 مايو 1985م ، تقريراً بقلم الكاتب أحمد بهاء الدين تحت عنوان (الحلاج الجديد في الخرطوم)، جاء في التقرير(قالت وكالة الأنباء الأجنبية أنه أقتيد إلى المشنقة وهو مغطى الوجه والرأس ، وحين أزيح الغطاء لحظات ، ليرى الناس وجهه ، ويتأكدوا أنه هو الذى صدر عليه الحكم ، طبقاً للقانون بدا وجهه مبتسماً . ذلك هو الشهيد محمود محمد طه رئيس جماعة الأخوان الجمهوريين المسلمين في السودان . وقلنا إعدامه لن ينفذ وسمعنا عن وساطات إسلامية لإيقاف المهزلة الدامية ولكن حكم الإعدام نفذ بعد أيام شنقاً حتى الموت . إنني هنا لا أناقش دعوة محمود طه ولا كلامه ولكنني أعرف فقط أنه لم يحمل سلاحاً ولا حرض على شغب ولكنه مضى كما شاء أن يمضي 40 عاماً ، يدعو إلى طريق ربه ، كما تصوره ، بالحكمة والموعظة الحسنة . ونحن نرى الزعماء المتحدثين باسم الإسلام ، يرددون علينا ، صباح مساء ، أن الإسلام عرف حقوق الإنسان قبل العالم بقرون ، وأنه دين الحرية والمساواة ، وهذا كله صحيح ، ولكنه أيضاً صحيح في فجر الإسلام وضحاه . وليس صحيحاً في الذين سحبوا على هذا الضحى المشرق عبارة الليل والظلام ، وما يزالون . صحيح في تعاليم الإسلام، ولكنه ليس صحيحاً في أساليب بعض الحاكمين باسم الإسلام . وإن حدثاً من هذا النوع لا يرفع راية للإسلام في أي مكان ، لأنه يسيئ إلى روح الإسلام ، ويشوهها . ولعل الحكم في الخرطوم رأى أن كسب معركة صغيرة في ساحة سجن الخرطوم، أسهل من كسب معركة في حرب جنوب السودان).
في وصفه للقيادة الإلهامية يقول ماكس فيبر (إستراحة التفاني الإستثنائي للقداس المتوقع ، البطولة أو الرمز النموذجي من الشخص الفرد ، والأساليب المعياريّة أو طلب مكتشف أو محدد منه ، القيادة الإلهامية كجودة محددة لشخصية فرديّة ، بالتفضيل الذى يراه عن الآخرين العاديين ويعامل كموهبة خارقة للطبيعة ، كائن بشرى سوبر ، أو على الأقلّ لديه إستثناء قوي خاص . هذه المواصفات غير متاحة لدى الشخص العادي ، ولكنها تعتبر كأصل مقدّس أو نموذجي ، وعلى أساس أن الفرد يعامل كقائد ، كهذه النوعية وفي التساؤل الذي يحكم عليه من الاخلاق ، الجمال ، أو منظور آخر طبيعيّ غير متحيّز لغرض التعريف).
ذات السياق الذي وصفه فيبر، جاء في تلخيص ورقة عمل قدمت بمناسبة الذكرى 28 لإستشهاد الأستاذ محمود محمد طه 18 يناير 2013م ، تضمنت عرض نقدي لكتاب البحث عن الألوهية : تحليل نقدي لفكر محمود محمد طه ، تأليف الدكتور محمد محمود ، حيث كتب الدكتور محمد محمود يصف الأستاذ بقوله (إن مبدأ التغيير محوري فى إدراك طه لدوره الشخصي كمثقف . فالمثقف المثالي في تقديره هو الشخص الذي يتحررعبر ثورة فكرية يجتازها للتخلص من أدران جهالته ومخاوفه وأهوائه الفكرية . إنه المثقف الذي يجتمع لديه شغف المعرفة مع الحركية التي تتطلبها مهمة تغيير العالم ، أي بكلماته بجمع العلم مع العمل ، وذلك لأن مهمة تغيير العالم الرهيبة تستلزم قبل كل شئ تغيير وتجديد الذات المستمر . وإذ ظل طه يردد ذلك كثيراً فإنما لأنه كان يستلهم الآية الكريمة التي كان يرى فيها النموذج مثل الإقتداء البشر ، "كل يوم هو في شأن". لقد آمن طه أن حياته الخاصة لم تكن إلا مسعى لتكريس هذا المثال ، وأن بوسعه توفير الإرشاد والقيادة للآخرين لتحقيقه ، وذلك بتوحيد الكفاح الروحي المستند إلى الصلاة مع الحراك الاجتماعي السياسي القائم على المعرفة لتغيير العالم).
رحل الأستاذ وظل فكره ومشروعه صامداً منفرداً متحدياً ، تحرسه أفئدة وعقول تلاميذه ومن تبعهم بإحسان ، وثلة أخرى من حملة النور والوعي في بقاع متناثرة من العالم . وبعد هذه الثلاثون ونيف مايزال الأستاذ يُقرأ في سياق الحاضر أو كما قال الأستاذ محمد مراد (إنّ الرؤية التي يقدمها محمود محمد طه في الرسالة الثانية من الإسلام هي رؤية جديدة تمامًا على الفكر الإسلامي ، لذلك سعى إلى توضيح المفاهيم حتى تستقيم مقالته). رغم عن ذلك ظل الأستاذ وفكره بقعة سوداء في عقول غالبية من المتعلمين السودانين بل قل حتى المثقفين وأهل الرأي . جلهم وقع في ضلاتين وضآلتين ، ضلاتين في التوسع في التعميم من ناحية وعدم القدرة على إدخال جميع العناصر الديناميكية في تحليل مشروع الأستاذ من ناحية أخرى. وضآلتين الأولى بالإستجابة الاجتماعية الذاتية للسلطة وتدخل فيها الثقافة والسياسة، والضآلة الثانية حصر زاوية التحليل في خطاب الإدانة والبحث عن المساوئ . أما جمهور المشاهدين - وللاسف فيهم قطاع من المتعلمين - فإكتفى بالمشافهة ورهن خوفه من تحديات النقد بعصا (الأستاذ قال رفعت عنه الصلاة) أو (الأستاذ قصد بالرسالة الثانية للإسلام أنه نبي جديد)، هولاء وأولئك لم يقرؤوا الأستاذ حتى الأن بل إعتصموا بجبل المشافهة علهُ يقيهم سيل الأفكار والتحديات الكامنة بداخلها.
يُلقي هذا الموقف ضوءً قوياً على حالة العزوف التي تعتري طائفة من نخبة هذه البلاد وأواسط متعلميها في الخوض والسبر عميقاً في ما تركه الأستاذ من تراث فكري متميز وطراز نقدي متقدم على حالة الإنكفاء التي تعاني منها هذه الأمة . فإذا تأملنا جهد المثقفين السودانين سواء كان قدحاً أو مدحاً لتجربة الجمهوريين وفكر الأستاذ لو وجدناه جهد المقل ، حتى ما كتب عن حادثة الإستشهاد ناهيك عن النقد المنهجي لايخرج من خانة التوصيف الاجتماعي للموت في مجتمعاتنا حيث نكتفي بالنويح ولطم الخدود . رغم كل ذلك لا أرى غرابة في ذلك فهذه الحالة لاتخرج من متلازمة السلطة والمعرفة ، كتب ميشيل فوكو في العام 1971م (أن المعرفة لم تخلق للفهم بل خلقت للتكسير والحسم) مبيناً بذلك وهمية الحياد المعرفي ، وكذلك قال (الحقيقة ليست خارج السلطة أو مجردة من السلطة ، الحقيقة دائرياً مرتبطة بإجهزة السلطة تنتجها وتحميها).
أن إعادة بناء الفكر الديني والنسق الاجتماعي المؤسسي بصوة تخلتف عن إطاره القديم ، قطعاً سيولد نظاماً جديداً من القيم والعلاقات والهياكل وتحولات عميقة تقلب النظام الاجتماعي والسياسي السائد رأساً على عقب . من الواضح أن ما طرحه الأستاذ يمثل معركة إيدلوجبة وسياسية تهدف إلى إعادة تموضع الخطاب الديني في سياق يخدم التطور الاجتماعي والحضاري ، ويصبح بذلك معاملاً تفضيلياً في إعادة بناء المجتمع ، وهذا بالتأكيد سيؤدي إلى تطور في كل النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وسينفي جزءاً مقدراً من الراهن والسائد ، وهنا تكمن المفارقة حيث أن السلطة ستقف في مواجهة معرفة تتناقض مع مصالح بقائها ، ولأنهما مرتبطتان ببعضهما ستتخلص السلطة من هذه المعرفة المتناقضة وتنتج معرفتها وتُخضِع كل من يدعي الحقيقة خارج سياقها ، وبالمقابل ستتحول معرفة السلطة لحقيقة تحميها ويتبناها من عجز عن فهم المعادلة . النتيجة ببساطة تحتفتي الأمم بمفكريها عندما تتحرر وتدرك قيمة الحرية ، وننزوي نحن تحت دعاوي مختلفة ونخاف حتى من قراءة متأنية لما كتبه مفكرينا ونكتفي بالمشافهة .
يقول الأستاذ محمود محمد طه في مصنفه الدستور الإسلامي نعم و لا (إن قومنا من دعاة الفكر الإسلامي ، في جميع مدارسه ، يخلطون خلطاً ذريعاً بين الشريعة والدين ، وهم من أجل ذلك يتناقضون ، وعندما يشعرون بالتناقض يحاولون التهرب ، أو التعمية والتمويه ، فلا يبلغون طائلاً). عندما يأتي يوماً نخرج فيه من حالة التناقض والهروب أو التعمية ، عندها فقط سنحتفي بالأستاذ وبفكره ، وإلى أن ياتي ذلك اليوم سنردد ما نثره محمود درويش شعراً حين قال :
هتافاتُ شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين ، وخوفُ الطغاة من الأغنيات.



#أَكرِمَ_عَبْدُ_الْقَيُّومِ_عبَاسَ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- استمعوا الى تسجيل سري بين ترامب ومايكل كوهين عرض في المحكمة ...
- ضجة تصريح اتحاد القبائل -فصيل بالقوات المسلحة-.. مصطفى بكري ...
- من اليوم.. دخول المقيمين في السعودية إلى -العاصمة المقدسة- ب ...
- مصر.. مصير هاتك عرض الرضيعة السودانية قبل أن يقتلها وما عقوب ...
- قصف إسرائيلي على دير البلح يودي بحياة 5 أشخاص
- مقتل 48 شخصاً على الأقل في انهيار أرضي بطريق سريع في الصين
- ذكرى التوسع شرقا ـ وزن الاتحاد الأوروبي في جيوسياسية العالم ...
- كييف تكشف تعداد القوات الأوكرانية المتبقية على الجبهة
- تقرير إسرائيلي: قطر تتوقع طلبا أمريكيا بطرد قادة -حماس- وهي ...
- مصدر عسكري: القوات الروسية قصفت مستودعا للطائرات الأوكرانية ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أَكرِمَ عَبْدُ الْقَيُّومِ عبَاسَ - حِينَ تَحْتَفِيَ الْأُمَمُ بِمُفَكِّرِيهَا فِي ذِكْرَى اِسْتِشْهَاد الْأُسْتَاذِ مَحْمُود مُحَمَّد طه