أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - أمير صادر - عام حاسم امام اليسار في أميركا اللاتينية















المزيد.....


عام حاسم امام اليسار في أميركا اللاتينية


أمير صادر

الحوار المتمدن-العدد: 408 - 2003 / 2 / 25 - 03:08
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


 

      
EMIR SADER

يبدو أن العام 2003، كما العام 1973 الذي أصبح ظاهرياً من الماضي السحيق، سيكون مهماً بالنسبة الى اليسار في أميركا اللاتينية مع فوز السيد لويس إيناسيو دا سيلفا "لولا" في البرازيل والسيد لوسيو غوتيارس في الاكوادور إضافة الى صمود السيد هوغو شافيز في مواجهة محاولات زعزعة الاستقرار من جانب المعارضة الفنزويلية. والانتخابات الرئاسية المرتقبة في الأرجنتين خلال شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو المقبلين وفي الأورغواي في العام 2004 ستكون ايضا ذات أهمية قصوى بالنسبة الى مشاريع التكامل الأميركية الجنوبية.

عندما انتهت مرحلة الديكتاتوريات الأميركية اللاتينية التي اعتبر أن الزمن قد تجاوزها، الى إفساح المجال تدريجياً أمام الأنظمة الديموقراطية، عمد الرئيس الأميركي جورج بوش في 2 أيار/مايو عام 1989 أمام مؤتمر لمجلس الدول الأميركية الى توضيح فكرته فقال :"ان التزام الديموقراطية ليس الا وسيلة في الشراكة الجديدة التي أتصورها للدول الأميركية. ويجب ان يكون هدفها توفير الضمان لاقتصاد السوق كي يستمر ويزدهر ويفرض نفسه."

واميركا اللاتينية تدفع الثمن غالياً لأنها استخدمت مختبراً متميزاً للتجارب النيوليبيرالية. وكان من شأن الجشع المالي الذي رافق هذه التجارب أنه جعل منها إحدى المناطق الأكثر اهتزازاً في العالم على الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وقد اصابها من التغيير في العقدين الأخيرين ما جعلها تتحول من السيطرة شبه التامة للحكومات النيوليبيرالية الى سلسلة من الأزمات الأكثر تنوعاً من حيث حجمها. والحقيقة أن عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت عتبة الفقر قد ارتفع من 120 مليوناً في العام 1980 الى 240 مليوناً في العام 2001 ما نسبته 43 في المئة من السكان، مع 92.8 مليون شخص يعانون الأمرين من العوز (18.6 في المئة من السكان) [2] . وخلال ولايته الأولى لم يعبر السيد بيل كلينتون كرئيس للولايات المتحدة حتى نهر ريو غراندي الذي يشكل الحد الفاصل مع جارته المكسيك. فلم يزر أي دولة في أميركا اللاتينية، فعملا بتوافق واشنطن [3] السائد آنذاك فإن شبه القارة كانت "تتصرف" بشكل جيد جداً. فقد فرضت الفكرة نفسها شيئاً فشيئاً حتى أنه لم يعد هناك سياسة بديلة من الاصلاحات المالية التي فرضها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تؤازرهما سياسة "التبادل الحر" المعتمدة في منظمة التجارة العالمية.

فقد بدا في القرن الجنوبي أن عودة الأنظمة الديموقراطية تشكل نقطة الوصول لسياسة تعميم الأنظمة الديموقراطية الليبيرالية المزدهرة، بحسب المفاهيم السائدة، في مجمل القارة، مع استثناء واحد تمثل في جزيرة صغيرة في الكاراييبي، وهي كوبا، التي اعتبرت نموذجاً واستمراراً للأنظمة غير الديموقراطية.

وقد عبّر السيد يورغي كاستانيدا، الذي اصبح في ما بعد أحد المنظرين لــ"الخيار الثالث" الأميركي اللاتيني، وعبر الوثيقة المعروفة بـ"إجماع بوينوس آيرس [4] "، عن لحظة هزيمة اليسار في كتاب أثار ضجة بعنوان "السراب المهزوم" [5] . وكان لزوال الاتحاد السوفياتي وانتصار الولايات المتحدة في "الحرب الباردة"، وهو ما اعتبر انحرافاً في اتجاه اليمين الراديكالي في الحياة العالمية، أنهما تزامنا في القارة مع انهزام الساندينيين (1990) والتخلي عن الثورة المسلحة في السلفادور(1992) ثم في غواتيمالا لاحقاً(1996( .

وعلى غرار ما كان يحدث في فرنسا مع السيد فرنسوا ميتران وفي اسبانيا مع السيد فيليبي غونزالس فإن الاشتراكية الديموقراطية التحقت بالسياسات النيوليبيرالية فيما كان الحزب الشيوعي الأقوى في الغرب، أي الحزب الايطالي يقرر الغاء نفسه. وبدورها فإن النيوليبيرالية حظيت بنفس جديد مع بروز خط "الخيار الثالث" على أيدي السيدين طوني بلير وبيل كلينتون.

وجاءت الأزمة المكسيكية في العام 1994 لتقطع الطريق على نجاح النيوليبيرالية، لكن مسارعة حكومة كلينتون الى التدخل ولدت انطباعاً بأنه ليس في الأمر سوى أزمة عابرة تعود الى التكيف مع النموذج التسلطي الجديد. كما التحقت البرازيل بالاجماع القاري مع فوز السيد فرناندو أنريكي كاردوزو في العام 1994 نفسه.

وقد بدا أن اليسار في حالة انهزام، إما عبر تحوله الى النموذج السائد وإما لحال العجز التي يعيشها. فحزب "الثورة الديموقراطية"(PRD)  في المكسيك والجبهة الموسعة في الأورغواي وحزب العمال(PT) في البرازيل وجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني  FMLN وهي المعارضة المسلحة سابقاً والتي تحولت حزباً سياسياً  في السلفادور، إن لم يكن الا هؤلاء فإنهم بدوا صامدين إنما عاجزين عن مقاومة هجوم كاسح. وقد وجدت النقابات نفسها في موقع دفاعي في مواجهة البطالة المتزايدة وسياسات "المرونة في الوظائف" وزيادة الطابع الموقت في علاقات العمل. أما "الحركات الاجتماعية الطارئة" كما كانت توصف فبرهنت عن محدوديتها في ما اقترحته من محاور نضال جديدة.

وفي الحقيقة، لا يمكن الفصل بين انتصار النيوليبيرالية ومشروعها التسلطي الجديد وبين قضاء الديكتاتوريات على اليسار. فتشيلي، مع ما لها من سياسة عريقة في النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومن تاريخ في الديموقراطية السياسية، ما كانت لتستخدم رأس حربة لهذا المشروع لولا عملية القمع العنيفة التي قادها الجنرال بينوشيه والذي دمر كامل الهيكلية التي جعلت من التشيلي مرجعية أميركية لاتينية وحتى عالمية. والأمر نفسه بالنسبة للأرجنتين، فما كان لحكومة كارلوس منعم ان تصل لو لم تنجح سياسة المساواة المدمرة بين الدولار والبيزوس التي قادت البلاد الى الافلاس.

فخلال سنوات المحنة وبعد إفشال المحاولات اليسارية الأخيرة من اجل وضع حد للمظالم الاجتماعية، ترسخت عملية التحول في اتجاه اليمين في المنطقة التابعة للقرن الافريقي. فتحوّل الأوروغواي الى النظام العسكري والانقلاب في تشيلي سمحا بانتصار الاقتراح "البرازيلي" لقيام الديكتاتوريات العسكرية الملائمة لسياسة الأمن القومي المبتدعة في الولايات المتحدة. لكن تحولاً آخر له أهميته أثر بقوة في القارة منذ تلك الفترة تمثل في انكفاء أهم دورة طويلة الأمد من توسع الرأسمال العالمي نحو دورة طويلة من الانكماش.

والارث الذي تركه السيد كلينتون لوارثه كان مختلفاً تماماً عما كان ورثه هو. فالسيد جورج دبليو بوش يواجه أميركا لاتينية في حالة قصوى من الغليان وهي تعيش أسوأ أزمة لها منذ الثلاثينات. فوزنها الاقتصادي والسياسي في العالم تراجع في شكل ملحوظ، وفي الدول ذات الاقتصادات المهزوزة تفككت البنى الاجتماعية أكثر فأكثر حيث تبقى قطاعات واسعة من الشعوب محرومة الحقوق البديهية. فمن الأرجنتين الى هايتي ومن الأوروغواي الى نيكاراغوا ومن البيرو الى الباراغواي ومن فنزويلا الى بوليفيا ومن كولومبيا الى الاكوادور تتضاعف الأزمات المتفجرة أو المشرفة على التفجر.

ان الأزمة التي شهدتها المكسيك في العام 1994 تزامنت مع أول ظاهرة احتجاج دولية كبرى على الليبيرالية التي أطلقها الثوار الزاباتيون من غابات شياباس. ومذاك استعادت المقاومة القارية زخمها مروراً بتحرك أنصار حركة "اللاأرض" في البرازيل وحركات السكان الأصليين والمزارعين في الاكوادور وفي بوليفيا وحركات النضال المقاومة لسياسات الخصخصة في العديد الدول. وهذه الحركة المتجددة قد شهدت في المؤتمرات الاجتماعية الدولية في بورتو أليغري أهم لحظات التلاقي والتنسيق.

وفي ظل هذه الظروف فإن العام 2003 يعد بأن يكون الأهم بالنسبة الى القارة الأميركية اللاتينية منذ العام 1973 إذ إنه:

- سيشهد في البرازيل تطبيق سياسة السيد لويس إيناسيو دا سيلفا "لولا" الذي يضع نصب عينيه الخروج من النيوليبيرالية.

- سيسمح بتوسيع هامش المناورة للسيد لوسيو غوتييريس في الاكوادور، حيث الحكومة الأخرى المناهضة للنيوليبيرالية، والذي يواجه معوقات صعبة بسبب نظام الدولرة.

- سيشهد إجراء الانتخابات الرئاسية في الأرجنتين والتي ستحدد ما إذا كانت البرازيل ستحظى بشريك في سياستها الهادفة الى إعادة بناء سوق الجنوب المشتركة مركوسور Mercosur  والى امكان إصدار عملة مشتركة في المنطقة أو ما إذا كان نظام الدولرة هو الذي سينتصر لصالح منطقة التبادل الحر لدول أميركا، مقللة بشكل ملموس من هامش المناورة أمام الحكومة البرازيلية الجديدة.

- لا بد ان يتم التوصل خلاله الى حل للأزمة في فنزويلا أياً تكن طبيعة هذا الحل.

   إذاً، سيكون وجه القارة مختلفا مع نهاية هذا العام. وفيه سوف تكتشف امكانات النجاح لدى الحكومات البرازيلية والاكوادورية والارجنتينية على أكبر احتمال في مسيرتها نحو عصر ما بعد النيوليبيرالية، او انه سيتم الاقرار بفشلها بعد تعرضها لهجومات الرساميل المضاربة ونظام الدولرة، أو حتى في خيارها المشترك في السير قدماً بالسياسات المتبعة أو بالقطيعة معها.

والفرق الجوهري في هذه المرحلة الجديدة بالنسبة الى المرحلة السابقة لا يعود فقط الى إضعاف الهيمنة النيوليبيرالية، حتى مع الأخذ في الاعتبار جميع الألغام المزروعة للحكومات التي تريد التخلص منها. ففي أقل من عشر سنين بدا خلالها ان تاريخ القارة مجمد في الاطار الاقتصادي المالي الضيق، انفتحت مرحلة جديدة فيها فسحات بديلة تشكل بالنسبة الى الحركة الشعبية وأشكالها التعبوية امكانات تدخل لا سابق لها.

ولقد تم تجاوز المرحلة التي كانت المقاومة فيها محدودة بالاطار الاجتماعي من دون أن تتمكن من التعبير عن نفسها على الصعيد السياسي الوطني، وما خرج منها من حكومات تمثلها يمكن أن تصبح هي المفاوضة على مطالبها. وقد برهن فوز السيد إيفو موراليس مدعوماً من الحركات الفلاحية ومن سائر القوى الشعبية في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية البوليفية، كيف أن هذه الطاقة وجدت لها مكاناً على الصعيد المؤسساتي. أما انتصار السيد غوتييريس في الاكوادور فيشكل الحل الانتخابي لكتلة من القوى الاجتماعية ساهمت في مقاومة الحكومات النيوليبيرالية والتي تحولت قوة سياسية انتخابية.

اما كوبا فلم تمر بهذه التجربة وإن تكن قد عمدت الى بعض التعديلات في سياستها الاقتصادية الا أنها ظلت في منأى عن "توافق واشنطن”.

ولم تتمكن فنزويلا من إنجاز تطبيق السياسات النيوليبيرالية. فبعد فشل حكومتي السيدين كارلوس أندريس بيريس ورافائيل كالديرا توصلت البلاد في النهاية الى انتخاب أول رئيس أميركي لاتيني يعلن معارضته للنيوليبيرالية، وهو السيد هوغو شافيز الذي وصل الى الحكم مدعوماً من حركة شعبية تجديدية حتى وإن لم تكن له الخبرة الكافية في مجالي السياسة والتنظيم.

وتكشف الأزمة الفنزويلية عن نسبة التباعد بين وتيرة استنفاد المشاريع النيوليبيرالية ذاتها ووتيرة تشكل البدائل الجديدة. وانتصار السيد شافيز، وما تميزت به حكومته من نبرة "بونابارتية"، يسد موقتاً هذا الفراغ في وقت بدأت تتشكل حركة شعبية مستندة الى مشروع اجتماعي وضعته الحكومة. وقد قام نوع من السباق بين المشروع الحكومي وتصاعد قوة الحركة الشعبية من جهة، وبين صياغة مقترحات المعارضة غير المتوافرة حتى الآن”. ونتائج سباق السرعة هذا ونجاح أو سقوط المحاولات الدؤوبة لتعكير الاستقرار التي بدأت مع الحركة الانقلابية في 11 نيسان/أبريل عام 2002 والتي لا تزال مستمرة هي التي ستحدد الوجهة التي ستسلكها البلاد.

والمثال الآخر هو الارجنتين حيث الفرق يبدو أعمق بين استنفاذ نموذج الهيمنة الذي ساد خلال العقدين الأخيرين، مع خط "الخيار الثالث" الواهي الذي سلكه السيد فرناندو دو لا روا، ووتيرة تشكل البدائل التي أصبحت متوافرة بسبب عمق الأزمة الاجتماعية وأزمة النخب التقليدية. ولو كانت الظروف مختلفة لشكلت كل من فنزويلا والأرجنتين نموذجاً للتغييرات وآلام المخاض التي تواكب نشوء يسار جديد غير واضح المعالم كما في حالة الأولى ولم ترتسم آفاقه بعد كما في حالة الثانية.

وإن تكن كل من البرازيل والاكوادور قد سلكتا طريقين مختلفين، فإنهما جمعتا عناصر إيجابية وأخرى ذاتية في الأزمة. وكانت البرازيل تحولت الحلقة الأضعف في شبكة الهيمنة التي فرضت على القارة، عندما كانت تعيد تكوين يسار اجتماعي وسياسي في وقت كان يبنى النموذج الليبيرالي. وقد صمد هذا اليسار وتمكن وسط التوترات الشديدة والمخاطر من الوصول الى السلطة حاملاً برنامجاً سياسياً للانتقال تدريجياً الى عصر ما بعد النيوليببرالية. وما سيحدد الوجه الحقيقي لهذا اليسار هو طريقة عمله الملموسة على الأرض.

فبعد انتخابه أعلن السيد دا سيلفا على الفور: “على السوق أن تفهم أن البرازيليين يحتاجون أن يأكلوا ثلاث مرات يومياً وأن الكثير من الناس هم في حالة جوع”. وهو في مشروعه يراهن على التحالف مع الرأسمال المنتج، والرأسمال الضخم ضمناً، في وجه الرأسمال المضارب لاعباً ورقة خفض معدلات الفائدة لاعادة إطلاق الاقتصاد. ومع توزيع أفضل للدخل الوطني ومع تنمية السوق الداخلية والاصلاح الزراعي تعطى الأولوية للسياسات الاجتماعية، كما لاعادة بناء الدولة وتوسيع سوق الجنوب المشتركة (مركوسور) وتطويرها.

وكيف يمكن تجنب الألغام التي تزرعها النيوليبيرالية؟ ذاك ان البرازيل أيام السيد كاردوزو كانت تتكتم على "سر" معدلات الفائدة الأكثر ارتفاعاً في العالم. وإن تكن هذه المعدلات قد اجتذبت الرساميل المالية، مما أعاد حتى الاستقرار النقدي، فقد تسببت في المقابل بتبعية لهذا القطاع المضارب الذي أوصل البلاد الى حال الافلاس ثلاث مرات منذ العام 1999، منها مرتان في العام 2002. وقد امكن التغلب على هذه الظروف الصعبة بفضل سلسلة من الاجراءات فرضها صندوق النقد الدولي.

ورأى الرأي العام في الاستقرار النقدي نوعاً من الانجاز أقر به السيد دا سيلفا نفسه عندما كان مرشحاً. غير أن الحفاظ على هذا الاستقرار استدعى الاحتفاظ بهذه الرساميل بواسطة ... معدلات الفائدة المرتفعة من أجل تغطية العجز في ميزان المدفوعات [6] ”. إن إعادة إطلاق العجلة الاقتصادية، العنصر الرئيس في مشروع "لولا" وتحالفه مع الرأسمال الانتاجي، يفترض إذاً، الخروج من المأزق المالي في ظروف ليست لصالحه كلياً. فخفض قيمة العملة، بما يقارب 25 في المئة في العام 2002، أدى الى تجدد التضخم ، بنسبة 25 في المئة في سنة واحدة، مع ما يعني ذلك من مطالبات تتعلق بالأجور وضرورات رقابة أكثر تشدداً على عمليات الانفاق العام.

فالحكومة البرازيلية إذاً هي على عتبة دخول حال من التجاذب بين القطاعات التي تعطي الأولوية للسوق المالية ومطالباتها بالاستقرار النقدي مطالبة بالحفاظ على معدلات الفوائد المرتفعة، وبين الأولويات الاجتماعية ومواصلة التنمية الاقتصادية واعادة توزيع الدخل الوطني وكلها تتطلب بدورها خفضاً ملحوظاً لمعدلات الفائدة هذه.

ولدى تشكيله حكومته "الجامعة" الأولى، سعى السيد دا سيلفا الى كسب ثقة الأسواق المالية مؤكداً  الفكرة القائلة بأنه في المرحلة الأولى من الضروري اتباع استراتيجيا انتقالية تؤمن الخروج بحذر من النموذج القائم، تكون ملائمة لتحويل الموارد في اتجاه الأولويات الاجتماعية. ويستشف من هذه الاستراتيجيا أن السنة الأولى ستكون صعبة جداً أقله لأن الحكومة تتعامل مع الموازنة الأكثر تقشفاً في السنين العشر الأخيرة والموروثة عن حكومة السيد كاردوزو. وسيكون في امكان السيد دا سيلفا أن يعتمد على تجربته الأولية الايجابية جداً التي لا سابق لها وعلى تكليف عبر الانتخابات سيمكنه من الحكم مدة من الزمن بدون اي توترات. يبقى معرفة ما إذا كانت هذه المهلة ستكون كافية لازالة هذه البلبلة المالية ولوضع أسس الحلقة الصالحة لمواصلة المسيرة الاقتصادية كما ورد في برنامجه مؤمّناً الانتقال الى نموذج ما بعد النبيوليبيرالية.

اما الجانب المجدد والجريء في حكومة السيد دا سيلفا فهو بالتأكيد سياسته الدولية، التي سيكون لها انعكاساتها على القارة كلها. فهي ستكون في مواجهة مع رغبة الولايات المتحدة في الهيمنة عالمياً والحساسة بنوع خاص في هذه القارة مع كل ما يمكن أن تستتبعه من نتائج [7] . فالرهان الكبير الأول لبرازيليا سيكون هذه المواجهة حول منطقة التبادل الحر الأميركية والمشروع السياسي الهادف الى إعادة بناء سوق الجنوب المشتركة. فتأجيل مهل بدء العمل بالحيز الأوسع لهيمنة السوق مع الأخذ في الاعتبار مصالح الولايات المتحدة قد تساعد في تطوير الاستراتيجيا البرازيلية لأميركا الجنوبية. لكن الولايات المتحدة وجهت أساساً تحذيرها على لسان وزير تجارتها السيد روبرت زوليك: “إن لم تنضم البرازيل الى منطقة التبادل الحر فسوف يكون عليها التبادل التجاري مع القطب الجنوبي!"

اما في الاكوادور فإن السيد لوسيو غوتييريس فاز بطريقة مفاجئة أكثر من السيد دا سيلفا سواء نتيجة الطابع غير المسبوق لترشيحه ام بسبب تضافر العوامل الاجتماعية والاتنية حركة السكان الأصليين القوية” التي ساندته. فتزايد الأصوات التي أيدته بسرعة هائلة في المرحلة النهائية من حملته الانتخابية قد وفرت له فوزاً بغالبية كبيرة من الأصوات.

وتواجه حكومته مشكلة رئيسية، فهي لا تملك القوى الكافية للخروج حتى من نظام الدولرة الذي كان اعتبر أساساً خلال الحملة الانتخابية بأنه في أساس الأضرار التي تعانيها البلاد. ويستحيل على السيد غوتييريس أن يفرض مجدداً الـ"سوكري” العملة الوطنية السابقة” أو سك عملة جديدة في ظل هذا الاقتصاد الضعيف. ومصيرها هو بطريقة ما رهن مصير المنطقة وفي نوع خاص رهن الصدمة بين المركوسور ومنطقة التبادل الحر.

كما أن تشكيلة حكومته تعكس خليطاً غير متجانس من القوى التي عليها أن تحاول كسب ثقة النخب التقليدية وفي الوقت نفسه إرضاء القاعدة الاجتماعية التي انتخبتها. وهو يواجه صعوبات أكثر من "لولا" لأن الطابع الجديد لانتصاره لم يمكنه من تشكيل أكثرية برلمانية كافية، وهو سيكون إذاً منذ البداية في مواجهة كونغرس معادٍ له انتخب على رأس البرلمان معارضين لحكومته. فيمكن إذاً أن نستشف أنه خلال فترة قصيرة ستنشب نزاعات مباشرة بين الحركة الاجتماعية والمعوقات التي لن يتورع البرلمان عن وضعها في وجه مشروع الحكومة.

ويمكن القول بطريقة ما أن مفتاح المستقبل القريب لأميركا الجنوبية هو رهن الانتخابات الرئاسية التي ستجري هذه السنة في الأرجنتين  ٨٢ نيسان/أبريل للدور الأول، و18 أيار/مايو للدور الثاني”. وقد تحمل هذه الانتخابات الى سدة الرئاسة شريكاً للسيد دا سيلفا في مجالات إعادة البناء والتنمية وتوسيع المركوسور لتشمل  برلماناً قارياً مشتركاً وإصدار عملة وطنية مشتركة. وفي الأوروغواي حيث ستجري الانتخابات العامة في العام 2004 تبدو الجبهة الموسعة صاحبة الحظ الأوفر، ليس لتفوز في الدور الأول فقط وإنما في الدور الثاني لتوصل رئيساً يلتحق بمشروع ترسيخ الهوية الوطنية.

وهناك امل في ان تحدث ايضاً انعكاسات إيجابية على الوضع في فنزويلا مع تعزيز حكومة السيد شافيز، وعلى الباراغواي مع الانتخابات الرئاسية الجديدة وعلى باقي الدول التي تعيش أزمة دائمة مثل البيرو وبوليفيا.

ورئيس من هذا النوع قد يصل الى السلطة في الأرجنتين إذا لم يفز السيد كارلوس منعم المتسبب الأكبر بالكارثة. فمرشحة وسط اليسار أليسيا كارريو، اكثر المؤيدين للمشروع البرازيلي، ستمثل اليسار كون المرشح الآخر، السيد روبن زامورا، الذي يتمتع بأفضلية بحسب الاستفتاءات، يرفض ترشيح نفسه معتبراً أنه يجب إجراء انتخابات عامة وليس انتخابات رئاسية فقط. وهذا الموقف قد يحسن فرص فوز السيد منعم أو يولد حالة استقطاب ضده. وقد يشهد الوضع عندها بروز مرشح آخر من مرشحي البيرونية، مرشح قد يتحالف مع السيد دا سيلفا أو يمثل واسطة للعبور الى الدولرة.

فوق الارجنتين الغارقة في حالة من الفوضى، المنكشفة البصيرة والرافضة طبقتها السياسية، يصدح صوت هاتف: “فليرحلوا جميعاً!" لكن الامتناع عن المشاركة او الأوراق البيضاء وباقي أشكال الاحتجاج التي قد تعطل انصباب الأصوات على مرشحي قوى اليسار، أي على القوى المناهضة للنيوليبيرالية، قد تفوّت الفرصة المتوافرة للمنطقة لتحقق تحولاً وتمسك بزمام امورها عبر مساهمتها في الوقت نفسه في إضفاء الطابع الديموقراطي على العلاقات الدولية عبر التعددية وعبر تعزيز موقع المركوسور.

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] أستاذ في جامعة ولاية ريو دي جينيرو

[2] راجع:

économique pour l?Amérique latine (Cepal), Santiago (Chili), 2002.

[3] إن "إجماع واشنطن" هو بمثابة كتاب تعاليم الاقتصاد النيوليبيرالي ويدعو الى نظام ضرائبي ومعدلات سعر صرف "تنافسية" والى تحرير التجارة والاستثمارات الاجنبية والخصخصة ورفع القيود.

[4] إن "اجماع بوينوس آيرس" يزعم أنه يسعى الى "إضفاء الطابع الانساني" على النيوليبيرالية، وقد وقعه، من بين آخرين، كل من السيد ريكاردو لاغوس الرئيس التشيلياني في ما بعد” والسيد كواهتيموك كارديناس من حزب الثورة الديموقراطي، وحاكم مكسيكو” ومنافسه زعيم اليمين المكسيكي فيسانتي فوكس  الرئيس في ما بعد والذي عين السيد كاستانادا وزيراً للخارجية وقد استقال هذا الأخير في كانون الثاني/يناير عام 2003”، والسيد سيرجيو راميريس النائب السابق للرئيس السانديني في نيكاراغوا، والسيد فرناندو فرنادندو دو لا روا الرئيس الأرجنتيني في ما بعد ولفترة وجيزة جداً” والرئيس البرازيلي السابق إيتامار فرانكو و... السيد لويس إيناسيو "لولا" دا سيلفا، زعيم حزب العمال الذي انفصل عنه في ما بعد

[5] راجع:

Jorge Castaneda, L?utopie désarmée, Grasset, Paris, 1994.

[6] لقد تضاعف العجز العام عشر مرات خلال تطبيق مشروع السيد كاردوزو للاستقرار النقدي.

[7] هذه السياسة، إضافة الى جوانبها الاقتصادية تتميز بالتدخلات العسكرية التي باتت مباشرة في كولومبيا ومحاولة توريط الدول الاقليمية في عمليات تدخل متعددة الجنسية ذات طابع "انساني" مزعوم

تشكل امتداداً لـ"خطة كولومبيا”.

 

جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
 



#أمير_صادر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثماني سنوات سحقت البرازيل


المزيد.....




- رأي.. فريد زكريا يكتب: كيف ظهرت الفوضى بالجامعات الأمريكية ف ...
- السعودية.. أمطار غزيرة سيول تقطع الشوارع وتجرف المركبات (فيد ...
- الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس يخضع لعملية جراحي ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل ضابطين وإصابة اثنين آخرين في كمين ...
- شماتة بحلفاء كييف؟ روسيا تقيم معرضًا لمعدات عسكرية غربية است ...
- مع اشتداد حملة مقاطعة إسرائيل.. كنتاكي تغلق 108 فروع في مالي ...
- الأعاصير في أوكلاهوما تخلف دمارًا واسعًا وقتيلين وتحذيرات من ...
- محتجون ضد حرب غزة يعطلون عمل جامعة في باريس والشرطة تتدخل
- طلاب تونس يساندون دعم طلاب العالم لغزة
- طلاب غزة يتضامنون مع نظرائهم الأمريكيين


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - أمير صادر - عام حاسم امام اليسار في أميركا اللاتينية