اسماعيل النجار
الحوار المتمدن-العدد: 1453 - 2006 / 2 / 6 - 05:00
المحور:
الادب والفن
"الفرق بين النور و الظلمة...كلمة", قالها جبران توينى و دفع حياته ثمناً لهذه الكلمة.وقبله قالها الاف المفكرين حول العالم و عبر التاريخ ودفعوا اثماناً غالية من حياتهم واعمارهم وارزاقهم و سمعتهم على ايدى محاكم التفتيش التى يقيمها الاظلاميين سواء من خلال التكفير او الاتهام بالاساءة للذات الالهية او الملكية او لسمعة البلاد و العباد اوبالاعتقال والتعذيب تارة او التصفية الجسدية او بالنفى خارج البلاد او الاتهام بالعمالة والخيانة او بالتفريق بينهم وبين ازواجهم وزوجاتهم و حرق كتبهم و مصادرة ابداعهم وجرجرتهم فى المحاكم او فرض حصار اعلامى و امنى خانق عليهم.
فيلم "دنيا" للمخرجة اللبنانية جوسلين صعب هو كلمة.و الفيلم يناقش قضية خطيرة سكتنا عنها كثيراً الا وهى قضية الختان بشقية البدنى و الفكرى.ولست بصدد الحديث عن هذة العادة البدائية اللاانسانية ولا عن المشاكل النفسية و الاجتماعية و الجنسيةالبالغة الخطورة التى تنشأ عنها فقد تكلم الكثيرين عنها بشكل لا املك معه ان اضيف كلمة واحدة اخرى.
ما اود الحديث عنه هو التقنية الفنية المستخدمة فى مشهد الختان الذى كان بمثابة صندوق باندورا الذى فتح ابواب الجحيم على طاقم العمل و خاصة المخرجة والممثلة الجميلة حنان ترك والفنان المبدع محمد منير.
توظف جوسلين صعب فى فيلمها الفرنسى التمويل ما يسمى بجماليت القبح وهو مسمى لاتينى امريكى لظاهرة قديمة حديثة عالمية الانتشار تهدف الى تقديم الواقع بصورته القبيحة-كمايظهر فى مشهد الختان والمشاهد التى تصور المناطق العشوائية- بدون تجميل او تزويق لهذا الواقع المتردى وعرض كل تفاصيله القبيحة بكل ما فيها من ازدراء دون تافف او امتعاض بأعتبار هذا القبح جزءاً من الواقع نملك رفضة ولكن لا نملك انكار وجودة.ففى المشهد المثير للجدل تصور لنا الكاميرا تفاصيل المشهد فنرى النساء القبيحات المتشحات بالسواد وهن يقمن بدور الجزار الدموى الذى ينفذ حكم الختان الذى حكم به تقاليد الواقع البدائى الوحشى.ويصل المشهد الى الذروة عندما تسقط اعيننا لترافق الشفرة فى سقوطها لتجز ما يرون ان قطعه ضرورى لحفظ الشرف حسب تصورهم وهو تصور يناقض الوعى العلمى و العقلانى ويعود بنا هذا الواقع الماساوى الى عصور ما قبل التحضر بكل ما فيها من قهر و تخلف. والمشهد يأخذنا لنعايش هذة التجربة بتفاصيلها المروعة دون ان تصورلحظة التقاء الشفرة بالعضو الذى يجرى بتره.عندها نحس بألم شديد ربما لأننا نتذكر ختان بدنى مماثل حدث لنا من قبل او ختان فكرى حدث لنا او يحدث و يستدعى ذلك شعوراً بالمرارة لتلك الذكرى التى يستدعيها تيار وعينا عن هذا الماضى البغيض.
هنا لا تكتفى المخرجة بالايضاح و الاقناع بل تسعى الى رفع وتيرة الاقناع و تحويلة تدريجياً ليصبح اقحاماً,فبدلاً من الاضاءة الطبيعية,تسلط جوسلين صعب ضوءاً شديداً يهدف الى تحقيق اشد ما يمكن تحقيقة من صدم عنيف لوعى المتلقى و احاسيسة بقصد ادهاشة و الاستحواذ على انتباهة و هذا الانتباة لصالح الرسالة التى يسعى الفيلم الى ايصالها الية ويتسم عرضها بالفجاجة واثارة النفور و الاستياء .
ربما يساهم القاء نظرة على حياة المخرجة جوسلين صعب لفهم بعض الاشياء.فهى قد نشات فى لبنان و عاشت فى ظل واقع بالغ القبح هو واقع الحرب الاهلية اللبنانية التى استمرت حوالى 15 عاماً اتت فيها على الاخضر و اليابس و دمرت الانسان والمكان ,فقدت خلالها جوسلين صعب احد اصدقائها واحترق بيتها ثم اضطرت الى مغادرة وطنها الى لبنان.رغم ذلك لم تنتهى علاقة المخرجة بالحرب فقد عملت كمراسلة حربية فى العديد من الحروب منها حرب اكتوبر 1973و حروب السودان و العراق و البلقان.عندها رات جوسلين صعب مرة اخرى القبح فى اجساد القتلى و الجرحى ورات ما تركتة من دمار خلفها فى لبنان حاضراً فى انحاء كثيرة من العالم.
قتلت كل هذة التجارب العنيفة شيئاً ما بداخل المخرجة يمكن وصفة بأنه قتل لمشاعر مثل الاحساس بالامان و ختان لقيم الانسانية و العدل و الاخاء.فبدأت فى ادانة الواقع و تعرية سلبياتة اللا معقولة ووجدت الفرصة لقول كلمتها و انقاذ العديد من الاناث من الاحساس بنفس الشعور وهو ان شيئاً
بداخلهن قد قتل عندماتتعرضن لامتهان جسدهن و انسانيتهن بدعوى صيانة الشرف او تتعرضن لامتهان عقولهن بدعوى التقاليد والدين والعرف.
ماذا كنا ننتظر من جوسلين صعب التى مرت بهذة الخبرات ,هل كنا ننتظر فيلما مكررا يحكى عن قصة حب تجمع بين شاب وفتاة من ساكنى المدينة تتوسطه ازمة و ينتهى بالزواج, ام كنا ننتظر فيلم كوميدى خفيف مهلهل السيناريو تتخلله بعض الافيهات.
فى النهاية اود ان اقول منع عرض الفيلم بحجة انه يسىء الى سمعة مصر هو فى حد ذاته اساءة بالغة لسمعة مصر.تحية الى جوسلين صعب و حنان ترك و محمد منير كل من ساهم فى اخراج الفيلم الى النور .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟