أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - محمد عطوان - خمسميل صورة مُصغرة من حكومة وطنية منتخبة















المزيد.....

خمسميل صورة مُصغرة من حكومة وطنية منتخبة


محمد عطوان

الحوار المتمدن-العدد: 1449 - 2006 / 2 / 2 - 10:03
المحور: كتابات ساخرة
    


ربما يمر أحدكم ذات مرة بـ(خمسميل)، وهي محلة في البصرة وفي باله انه لم يكن ليقصد زيارتها لذاتها, وربما يلتفت إليها غير عابئ، إلا أن المار بها سيتفاجأ حقاً وينذهل، بالذي سيراه. سيرى محلة متشكلة ومنحدرة من زمن تكويني طباشيري سحيق، راسبة على طبقات أنقاض وخرائب وتلال من الأزبال وأحوال لا انتظام بشري أبدية، وأكوام متكدسة من الناس الذابلين كأنهم عائدون من حرب لم تنته بعد، أو كأن لم يسكن هذا المكان بشر من قبل البتة. خمسميل لطالما عُدّتْ مِراراً وتكراراً معقلاً ومصدراً ومرتعاً سخياً للشهداء، والفقراء، والضحايا. كان أبناؤها متهمين على الدوام بخيانتهم للبعث وصدام. وقد نخرت سنوات الثمانينات والتسعينات من جراء ذلك في عظام الآباء والأمهات. وهي المحلة ذاتها المنسية في هذه الأيام أيضاً.
قد يجري الحديث عن مخاض خمسميل بشجن، شجن باهظ، مشوب بوحوشية وذاكرة محمومة بألوان من الألم، وهذا لأن أهالي خمسميل قُمعوا، ومَسّتهم الشفاعة بعد حين كغيرهم، أو حشروا للدخول إلى زمن التحولات الديمقراطية الجديد، وقيل لهم، أو كما شاهدوا بأم أعينهم أن صدام حسين قد سقط وأن لا عودة له ولاضطهاده بعد، وان زمناً جديدا وضاءاً سيشمل المدينة بنعمائه. لكن لم تجر الأمور بما ترغب خمسميل ، فبقيت على حالها كما كانت من زمن قبل تئن من جراحات ماض لا عد لها، مُبقعة بسخام الحروب، ومُسرطّنة أنفاسها بروائح المجاري الثقيلة، المجاري التي لا صلاح لها، طافحة كتلها ومجسماتها على أديم الأرصفة السبخة. لكن يقول بعضهم بالرغم من ذلك فأنها ما تزال محلة تحتفظ بعديد من الأسرار والقداسات، ما يجعلها على جانب من الوجاهة والحبور!.
إن الدخول إلى عالم خمسميل يدعوك من بوابة التبرك الآسرة: حيث تُسبِح بحمد ربك، متأسياً بتوجع عليها.. لاكتظاظها القسري بالناس، وحانقاً من ضيق مساحات بيوتها... لتتوكل أول الفأل صوب عمائر بائعات السمك، بائعات؛ عباءات معظمهن مضمخة بالطين، وملفعات وجوههن بالسواد، كأنهن رجال من الطوارق، ينتمين إلى زمن سالف، سليطات اللسان، منهن أرامل، وكافلات للعيال واليتامى، روائح (الزفر) تنبثق من هذا المدخل لتُرسخ عطنها في مسامات أردية المارّة، فتندفع بأي حال زائراً مُرغماً بفعل الزحام للدخول إلى المكان، اللغز، اكثر فأكثر، ويحيلك مثل هذا الدخول على معنى غائر وغريب، لاشك، يستنفر في داخلك ما ادخّرت من المعاني الإنسانية المُبيتة في خزانة صور حياتك، فيزحزحها.
وبينما أنت متوجه مستطلع لغور تلك الأسرار، ستجد نفسك مأسوراً، ذهِلاً، بين لفيف من باعة الحبوب المخدِرة والترياق الأصيل، لكن هؤلاء معظمهم بحمده ظرفاء مُسرنمون ودودون، وجوههم رمادية كـ(خمسميلهم)، منطفئة عند الغروب.
في خمسميل يتقاتل الأبناء الشبان اليافعون فيما بينهم على المذاهب والنحل والملل، وكلهم تراهم سياسيين أو فقهاء، فمنهم ماركسي يثاقف الثيوقراطيين بتروتسكيته، ومنهم صدري ينتصر إلى فكرته الراديكالية الباكرة. كما تنذبح العلمانية عندهم كل يوم على مصلب البقالين وباعة البراغي، ونجاري كناتير صفوان، وتتصاعد عند رأس كل شارع أنغام اللطميات وسونيتات الشعر المُحيية لسِفر الإمام الشاب مقتدى الصدر. في خمسميل يحكم إيقاع الحياة طابع نستولوجي، يعانق هواه ولاء حر لمواكب عشتار وكربلاء. محلة أدمنت منذ زمن بعيد ضرب الزنجيل والقامات، محلة مُحيرة كأنها من عالم الجنيات، نصفها مُترّيف ونصفها الآخر آخذ بالتحضر، نصفها متدين والنصف الآخر تستهويه هرمسيات التجديف، نصفها فحل أنكيدي ونصفها الآخر أنثى خلاسية.وجهها القبلي فاضح وسوقها النسوي بض.
يتحدث الجميع في خمسميل غير ضاجر في القضايا السياسية الكبرى، عن الفدرالية واللامركزية ومنح صلاحيات واسعة للمجالس المحلية وزيادة عدد الممثليات الدبلوماسية في الخارج، وكأن مدينتهم لم تكن تسبح في بحر من الفضلات والنجاسات، أو كأنها لم تكن مُحتلّة دون إذن من سدنة قطعان العهد الرعوي؛ بخرافهم وماعزهم وحميرهم وخيلهم وكلابهم. يتحدثون عن موضوع تنصيب رئيس الوزراء أو نصرة الحزب الديمقراطي، ولا يتحدثون عن حالهم ووضعهم المزري وموقعهم من المعادلة السياسية الصعبة. موقعهم في أنهم يكنزون في خزانة خلفية من فناءات بيوتهم ضروباً من السكراب والعتيق، وكل ما التقطت أيمانهم، ذخراً ليوم عبوس قمطرير يتوقعون حدوثه، ولا يعلمون مقدار أثره، اكتناز يترك المتأمل إلى عدد غير منته من القراءات. ولكن الخمسميليين من طبعهم كرماء لا يتورعون عن إطلاق عيار ناري في الأعراس أو المآتم، أو في النزاعات العشائرية المتأهبة دائماً، أو حتى في لعبة كرة القدم التي لا تحيل على معنى معين في هذه الأيام، وكأنهم يسلكون مشواراً مبرَراً لتأكيد معنى من معاني الفحولة الراسبة في اللاوعي الجمعي وحسب، ولا يدخر الواحد منهم ولو إطلاقة واحدة لدرء عدوان محتمل، ومع ذلك فأنهم يتبجحون في كل أزمة سياسية بمناهضة ومنافحة الاحتلال ولا يفعلون شيئاً البتة، أمر غريب حقاً. إنها محلة في الأغلب الأعم هائمة في بلاغات الاستمناء والمتع الواهمة.
لكن هذه المحلة تناسلت كغيرها من المحلات العراقية البائسة من حاضنة إهمال اجتماعية سياسية كلية واحدة، فمثلما تماري صوراً غرائبية مخزية، تخاتلنا في ذات الوقت بصور إنسانية أخرى إيجابية مبيتة، متعددة، وغير منتهية على الدوام. إن الشرفاء من خمسميل طالما يتنادون إلى ما هو حسَن لمدينتهم. ففي خمسميل من هم حملة للشهادات العالية، وفي خمسميل من هم كُتاب مبدعين لا يمكن نكرانهم أو نكران جهودهم ومواقفهم أبداً. لذلك من الصعب التعامل مع هذا المُرّكب البشري الخليط بنوع من الاستغفال أو التجاوز والهامشية، فلربما يُبدل هذا المُرّكب ألوانه في يوم من الأيام بغير حسبان.
زار رئيس مجلس محافظة البصرة المنتخب خمسميل ذات مرة في مناسبة جليلة، والتقى بالأهالي هناك، وبعد أن شرحوا وفصّلوا ووضحوا وفسروا من أحوالهم قال السيد: أني اعرف أعزائي بمشكلاتكم ومعضلاتكم التي لا حد لها، وحتى إن اشتكيتم جميعاً فأنكم لن تزيدوا على ما أنا عالم به عنكم. حتى راح (كريم المعوّق) يعاتب السيد رئيس مجلس المحافظة عتبا ديمقراطيا، ويملي عليه متعشما بجزالته ، حيث أخذ هذا الأمر شهوراً مع كريم يفاخر أنه تحدث عن مطالب محلته أمام السلطات. ولكن... لم يجنِ الخمسميليون من بلاغة السيد رئيس المجلس ثمراً ولا نبتاً، فخمسميل كما عَلِم السيد المنتخب بأمورها وكما هم يعلمون بحالهم، بقي هو في محافظته وبقوا هم في خمسميلهم، هو على حاله وهم على حالهم، فما يزال الخمسميليون يمارسون حتى الآن استقطار اللذة والمتع والأماني الواهمة، ويجترون متوالية البؤس الأسود.



#محمد_عطوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - محمد عطوان - خمسميل صورة مُصغرة من حكومة وطنية منتخبة