أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح الانباري - ملحمية الصور الدرامية في مسرحية كفر سلام او دستة ملوك يصبون القهوة















المزيد.....


ملحمية الصور الدرامية في مسرحية كفر سلام او دستة ملوك يصبون القهوة


صباح الانباري

الحوار المتمدن-العدد: 1449 - 2006 / 2 / 2 - 09:56
المحور: الادب والفن
    


ملحمية الصور الدرامية
في مسرحية عبد الفتاح رواس قلعه جي
"كفر سلام او دستة ملوك يصبون القهوة"
في عنونة الكاتب عبد الفتاح رواس القلعه جي لنصه المسرحي "كفر سلام او دستة ملوك يصبون القهوة" اعتمد على معنيين:
"كفر سلام " وقد اراد به ان يكون دالا على بلدة افترض وجودهها وطالها الدمار جراء قصفها الوحشي بطائرات حولت كل ما فيها الى خراب في خراب .
" دستة ملوك يصبون القهوة" العربية للغزاة كي يتقربو اليهم زلفى ، ويحققوا جاها تمنوه لانفسهم وسلطة زائفة يرومون التربع على دستها .
وعلى هذين المعنيين قسم الكاتب خشبة المسرح، في نصه المسرحي، على قسمين :
الاول خلفي اشتمل على منظر كفر سلام قبل الاحداث . وهو صورة مجسدة لها وخلفية تاريخية لما كانت عليه . الثاني امامي اشتمل على القسم المتقدم الاكبر من الخشبة الذي طاله الدمار وجرت عليه احداث المسرحية بعد عودة شخصيتها الرئيسة والوحيدة "ابو العز". وهي صورة جسدت كينونة البلدة ما بعد الاحداث او هي على حد زعم الكاتب الجرح النازف والدمار والاحزان .
تفصل القسم الاول عن الثاني شاشة من قماش شفاف (غربول) كجدار او حد فاصل بين زمنين مختلفين هما ماضي البلدة وحاضرها . وفي الوقت الذي لم يحفظ الملوك العرب عزة كفرهم ظل ابو العز متمسكا بها وشاهدا عليها وراويا ما جرى لها لاجيال ما بعد الخراب والدمار . انه الوحيد الذي نأى عن الموت او نأى الموت عنه . والوحيد الذي ابقته الصدفة ، حيا ، خارج حدود الفناء . وخلافا لما اعتادت عليه المونودراما يقدم لنا عبد الفتاح قلعه جي قلعة بلدة متأزمة بدل ان يقدم لنا بطلا مونودراميا متأزما ، مشتغلا في نقل تلك الازمة ، على ملحمية الصور الدرامية وما توفره من الاتصال والانفصال بينها وبين المادة التي تقدمها ضمن الاطار الدراماتيكي لاحداث المسرحية . وربما جعلتها هذه الميزة اقرب الى مسرح الصورة منها الى المسرح التقليدي ، ومنحتها سمة تجديدية مغايرة لمألوفية الخطاب المسرحي وجاهزية بنائه دراميا ، وحافظت ، في الوقت نفسه على نصية الحوار لا على تقطيعه او حذف الكثير منه كما يفعل المشتغلون في مسرح الصورة.
اذن نحن امام نص اعتمد الصورة كبنية اساسية في نقل الوقائع . وعليه سنتناوله على اساس هذه البنية مقسمين اياه على صور كبيرة وصغيرة ننقل من خلالها التفاصيل اللازمة وتحليلنا لتلك التفاصيل .

الصورة الاولى / ابو العز يعود ثانية:

من عنوان الصورة يتضح ان العزة غادرت الكفر بعد ان غادرها السلام وغيبته قوى ظلامية اشار الى وجودها الكاتب اعتمادا على ما حفظته ذاكرتنا الجمعية من هزائم وانكسارات . وهي بمعناها العام ترتبط بالتقسيم الجغرافي الخاص لنص المسرحية الذي اشتغل فيه عبد الفتاح قلعه جي على ماضي الكفر وحاضره ، والانتقال بينهما حسب فاعلية الفكرة وثنائية التناقض فيها بين حالتين مختلفتين او زمانين مختلفين . تبدأ حالتها الاولى وهي تحمل ملامح كفر سلام الماضي باغنية الصباح. وهي اغنية شعبية جماعية تنطوي على امل وتفاؤل كبيرين كدالين على جماليات الالفة والارتباط المصيري . وتنتهي بصوت المؤذن الذي يسبغ عليها طابعا شرقيا اسلاميا. واذ تستكمل مؤثرات الصورة دورها تختفي الكفر/ الماضي وتبدأ الكفر / الحاضر حالتها الثانية باعلان ابي العز ( رجل صندوق الدنيا) والشاهد الوحيد على عزة الكفر وذلها ، على زهوها وانكسارها ، على تألقها وانطفائها، عن عودته ثانية فيضع صندوقه بين انقاض الكفر وخرابه ليردد دعوته المألوفة بمشاهدة ما يعرضه صندوقه من ابطال وامراء وعاشقين .
الصورة بتفاصيلها العامة قائمة على التناقض بين ما هو كائن وبين مألوفية ما كان . بين عظمة الكفر وشموخها ومجدها الذي لا يضاهيه مجد وبين ذلها وخرابها ودمارها الذي مابعده دمار . ولعل الرموز التي انتقاها الكاتب بدقة وعناية كبقع الدم على الجدران ، والقفاز الابيض المدمى ، وثوب الفتاة الملطخ صدره بالدم والشظية والحجر المشربين بالدماء ...... الخ كشفت عن عمق المأساة وما لحق بالكفر من موت كاد ان يكون مطلقا لو لا بقاء البئر كدال فاعل على استمرارية الحياة .
"ستستمر الحياة في كفر سلام ما دام في البئر ماء"
ان عودة ابي العز ثانية حركت في كفر سلام ما كان ساكنا فيها عبر استرجاعه بعض الشخصيات الحيوية كشخصية ابي عمر ونعيمة وغيرهما . وحسن فعل الكاتب حين جعل ابي العز يسترجع ما كان من امره وامر نعيمة بتمثيله ما كان بينهما بوساطة كفيه فقط . لقد اختفى جسده وراء الصندوق وظهرت احدى يديه وقد ارتدى فيها قفاز نعيمة الممزق المدمى وظهرت الثانية عارية لتمثله شخصيا . ان هذا الاداء الايمائي وان لم يكن جديدا على الخشبة الا انه جعل اسهام الادوات الفنية الاخرى ممكنا وطيعا في نص يحتاج الى التنويع في الادوات والاداء والاسلوب تجاوزا لوحدانية الشخصية وما تسقط فيه من رتابة في اغلب الاحيان.
صورة من الماضي
تعطي انطباعا اوليا عن تأريخ الكفر وايغالها في القدم وامتداد جذورها الى ميثولوجيا الشرق ومسمارية بلاد ما بين النهرين وطقوس الانتظار الطويل للخصب والنماء والتجدد تعكسها لنا بقعة ضوء تسقط على القماش فتظهر رقيما طينيا كرمز لقدم الكفر واصالتها التأريخية ، وشجرة الحياة وعلى جانبها اسد وحمل كرمز لسلطة الكفر التي لا تقهر ووداعة الشعب التي لا تجارى . وحالما يسقط على الشاشة وجه عشتار الجميلة يبدا ابو العز استذكاراته معها عن ايام العز وزوالها وتفكك قوة الاهل والتهائهم بالتكاثر والتناحر حتى جاءت الطائرات وكسرت شجرة حياة الكفر مدمرة صروحها وتاركة اياها في انتظار طويل لخصب يأتي مع قادم الزمن فتتماهى عند هذه النقطة عشتار والكفر لتبكي كل منهما او كليهما معا غياب الاله الحبيب باعث الخصب ومجدد النماء ديموزي الجليل . من هنا يمكننا القول ان كفر سلام التي ابتكرها عبد الفتاح قلعه جي هي اي كفر عربي واجهت او تواجه محنة الخراب والدمار والاحتلال والذل والاستعباد والفساد والمهانة والموت .
صورة من الحاضر
يدعو فيها ابو العز الى التفرج على عرس سلام ونعيمة . يقدمه لنا بأسلوب مسرح الدمى وتكون اغاني الفرح الشعبية خلفية لهذه الصورة التي تحيلنا الى صورة اخرى هي صورة بلقيس والهدهد ويؤدي قصتها بالاسلوب نفسه فتتداخل الصورتان بعضهما ببعض ويدور الهدهد بين الدمى (دمية سلام ونعيمة وابو العز) متوسلا بهم وطالبا صدقاتهم وصداقتهم بعد ان ادعى انه قد رأى ما رأى من ذل سليمان وسجنه للانس والجن في القماقم ثم انقلابه عليهم وعودته اليهم بهيأة جديدة
" اليوم يعود الينا ومنقاره اطول من سد مأرب"
فيظهر على الشاشة رجل برأس هدهد . انفه طويل جدا ، وبيده رسالة تهديد ووعيد لاهل سبأ او اهل كفر سلام لا فرق كي يذهبوا اليه صاغرين او ينشر الموت في ديارهم ويفعل بهم ما فعله النمرود واصحاب الاخدود ثم يخرجنا عبد الفتاح قلعه جي من اطار هذه الصورة بقناعة مطلقة ان الهدهد ما زال حتى يومنا هذا ينقل الرسائل ويهدد المدن بالمفخخات والناسفات والقاصفات .
من هنا يمكننا القول ان كفر سلام التي بناها عبد الفتاح قلعه جي هي اي كفر عربي واجهت او تواجه محنة الخراب والدمار والاحتلال والذل والاستعباد والفساد والمهانة والموت . ترتبط هذه الصورة بماضي الشخصيات ايضا وهو ماض لا يخلو من الكوارث والمآسي فهذا هو ابو العز يروي لنا ما حدث لنعيمة بعد نزوحها من ديارها الى كفر سلام ، وهي ما تزال ابنة السنوات الست ، وقد فقدت والديها بعد ان علقا في رقبتها مفتاح البيت بأمل رجوعها اليه .
" سنرجع يوما الى حينا "
وبالاسلوب نفسه اشتغل عبد الفتاح قلعه جي على حكاية سلام ونعيمة وربطها بحكاية سليمان وبلقيس كما ربط بين حكاية نزوح نعيمة وحكاية اصحاب الاخدود وما فعلوه وخلفوه من حرق مقصود للرضع والشيوخ والشيب والشباب وانتهوا بقصف الطائرات الموجع على ماضي الكفر وحاضره حتى ساد الصمت
صورة من الماضي / ام سعيد قارئة الفنجان
يعود ابو العز الى استذكاراته واداة استذكاره هذه المرة فنجان القهوة الذي تنساب عبره ذكرى ام سعيد.. الشخصية التي تشكل طرفا مهما من طرفي المعادلة . فان كان ابو العز يحكي للناس عن ماضي الدنيا وهمومها كطرف اول فان ام سعيد تحكي لهم عن مستقبل الدنيا واحلامها كطرف ثان ، ويستخدم الكاتب ايضا صورة ام سعيد الفوتوغرافية ليزج بابي العز في مناجاة معها وتمثيل لحركاتها وهي تقرأ فنجانه بلهجة شعبية محببة اسبغت على الشخصية وجوها العام مسحة تراثية عمقت الجانب الاجتماعي / الشعبي ناهضة بمسؤولية تأصيله عربيا. ولا بد من الاشارة هنا الى ان الكاتب بذل جهدا استثنائيا في جعل النص برمته ينهض بهذا الجانب من خلال استخدامه لاساليب التمثيل المعروفة عربيا كاسلوب الاراجوز والمقامة العربية وحكايات الليالي الالف فضلا عن استخدام الدمى ورواية القصص باسلوب صندوق الدنيا . وباستخدام هذه الاساليب مجتمعة في نص مونودرامي واحد يكون عبد الفتاح قلعه جي افضل من قدم لنا هذا الجنس الفني باصالة ما كانت لتصل ذروتها لولا دربته ومكنته وقدرته على استيعاب الاساليب الفنية المختلفة، عربية وغربية ، وتسخيرها لخدمة نصه المسرحي .
استكمالا للصورة السابقة تظهر صورة ام سعيد على الشاشة مضرجة بالدم وقد كسر فنجانها وتناثرت شظاياه كنتيجة حتمية لتدهور الحال وانهيار سلطة الكفر وما لحق به جراء الغارات الوحشية والنوايا القائمة على اساس الغاء ماضيه وتغييب حاضره . وفي الصورة اللاحقة يعزز الكاتب فكرته هذه من خلال عرضه لاولاد المدرسة وقد مزقت اجسادهم الغضة الى اشلاء متناثرة هنا وهناك . ونظرا لقساوة الصورة ووحشيتها ودمويتها واثرها السلبي على جمهور النظارة او قراء النص يقوم ابو العز بتغطية الشاشة بجسمه وهو يصرخ بمنفذ الاضاءة :
" لا .. لا اوقف العرض ، من يحتمل هذا المنظر ؟"
ثم يندفع نحو الجمهور متمتما :
" انهار السد واندفعت ياجوج وماجوج وبحر البقر
صار بحرا من الدم وكفر سلام عاد اليها التتار من جديد "
ويعود ثانية الى مأساة الاولاد ليروي لنا انهم :
" كانوا صغارا، رائحتهم كرائحة الارض بعد المطر يندفعون
من الملجأ صائحين : عمي ابو العز بدنا نتفرج"
لقد قطع ابو العز في اللحظة الدموية الساخنة سيل الاندماج في المأساة والتوحد فيها بعاطفة تامة ليعيدنا ، قراءا وجمهورا ، من حالة الايهام التي تلبستنا الى حالة العقل التي غيبها الايهام عنا. وبذا يثبت عبد الفتاح قلعه جي قدرته على خلق اكبر قدر من الدرامية والايهامية في صوره ، وامكانيته على قطع تلك الايهامية والدرامية ومعاونة قراءه وجمهوره على اطلاق احكامهم العقلية السليمة على ما يحدث في تلك الصور من الكوارث والمآسي . وان نظرة عامة على مجمل الصور الصغيرة التي احتوتها الصورة الاولى (كفر سلام) نجد ان كل صورة صغيرة من تلك الصور احتفظت الى حد كبير باستقلاليتها عن الصورة التي سبقتها والصورة التي تلتها وبتجميع تلك الصور في صورة كبيرة واحدة ينتج المعنى العام المطلوب الذي اراد المؤلف وصولنا اليه . وهذا اعطى تلك الصور سمة ملحمية تنسجم مع استقلاليتها وادائيتها الذاتية .

الصورة الثانية / دستة ملوك يصبون القهوة

في مفتتح هذه الصورة يكتب ابو العز ، على لوح معلق ، بخط واضح:
"ويل للعرب من شر قد اقترب "
وهي جملة فيها من الوعيد بقدر ما فيها من التحذير ، وسنكتشف انها موروثة قولا ومتحققة فعلا على مدى الانهيارات والنكسات العربية ، وهي تذكر قارءها بـ( شيخ الكتاب ) الذي كان يتبسط فيها داخل النص ، كحديث شريف ينطلق منه الى ياجوج وماجوج وما حدث من امرهما وامر الصغار الذين كانوا يمتلؤن خوفا ورعبا لمجرد ذكر اسمهما واقتران فعلهما بافعال "اقوام عيونهم في الطول، يخرجون من وراء سد الصين العظيم الذي بناه ذو القرنين ، يقتلون العباد ويفسدون في البلاد" وهي بديل موضوعي او تماثلي لحكاية اغتصاب اليهود لاراضي العرب والنزول عليهم قتلا وفتكا وابادة ، او حكاية المغول والتتار الذين صنعوا من رؤوس الضحايا تلالا ومآذن .
تتميز هذه الصورة باعتمادها شبه الكلي على الحوار المسرود وتشكلها من مقاطع ذهنية تهدف الى ايصال الفكرة ( فكرة اغتصاب الارض والقتل والذبح والفتك بالشعوب وتهافت الملوك على الغزاة بدعوى هديهم الى السلام ظاهرا والحفاظ على عروشهم باطنا) وحتى دعوة ابو العز للتفرج ، هذه المرة، على نصير الدين الطوسي كعالم عربي صوفي ، والذي صار مستشارا اعلاميا وثقافيا لهولاكو الوثني لم تبتعد ، على الرغم من استخدام الكاتب لاداتي عرض الصور والتسجيل الصوتي ، عن سردية الحوار واخباريته . لقد تخلى الكاتب عن الصور التي اشتغل عليها في الصورة الاولى لصالح الفكرة التي اراد ايصالها بطريقة مختلفة قربته ، من حيث التاصيل ، من شهرزاد . وابعدته من حيث الفنية من الدراما بمعنى ان أداتيه ، المشار اليهما هنا ، لم تسطيعا كسر رتابة الحكي الذي خلقته قراءة ماضي الملوك وتحالفاتهم قراءة سردية لم تعن بدرامية الصور ولم تستنبط من التأريخ فاعليته وقدرته على التشيوء الصوري دراميا .
لقد خصص عبد الفتاح قلعه جي هذا الجزء المهم من الصورة الثانية لفضح مساومات ملوك الطوائف والتي من حصيلتها الدمار الشامل الذي لحق بكفر سلام وبقية المدن العربية وليحذر فيها ايضا من مغبة استمرار اولئك الملوك القدماء / الجدد في حمل دلة السلام وصب القهوة العربية للغزاة وللطغاة والقتلة او تقزيمهم المذل لانفسهم امام عملقة هولاكو او اي احد غيره من العلو ج . لقد كانت هذه الفكرة واضحة جدا وكانت الرسومات او الصور او حتى خيال الظل مجرد ادوات ساهمت ، بشكل او بآخر ، في زيادة الايضاحات غير المهمة .
صورة الشتاء يمطر الغضب
تتشكل مكونات هذه الصورة من :
اولا- زخات المطر على كفر سلام بقسميها الخلفي والامامي .
ثانيا- ابو العز يعتري مكانا مرتفعا وبيده مظلة مطرية.
ثالثا- شاشة العرض البيضاء وعليها نرى السماء وقد اخذت تمطر حجرا .
( يخف المطر ، تتلاشى العاصفة ، يغلق ابو العز المظلة وينحدر نحو اللوح يقرأ العبارة المكتوبة: الجمعة ، الخامس والعشرون من رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة يتابع الكتابة تحتها "المكان عين جالوت- فلسطين " يتابع السير نحو صندوق الدنيا ويبدأ العرض) .
والعرض هنا يتناول فيه الكاتب بعض حروب العرب ومعاركهم التي انتصروا فيها ، خلافا لما عرضه في الصورة الاولى من انكسارات وهزائم باسلوب حواري مدعوم بالصورة والصوت ، ومعتمد على درامية الصور المعروضة وملحميتها . وعلى الرغم من قصر هذا المشهد وكثافته استطاع ان يقدم لنا صورة جلية عن النصر العربي على فلول التتار التي رفع فيها رأس قائد جيوش هولاكو على رمح عربي . وفي نهاية هذه الصورة يتوجه ابو العز بالسؤال الى دمية نعيمة قائلا :
"هل قلت شيئا مفرحا يا نعيمة ؟ "
في اشارة الى الموازنة التي حققها بين الصورة الاولى والثانية ، بين الهزائم والانتصارات، بين التراجع والاقدام، بين الملوك الذين يصبون القهوة للغزاة وبين الذين يصبون الجحيم على رؤوس اعدائهم . ثم يستنهض ابو العز كفر سلام مذكرا اياها بمعارك حطين والزلاقة وقبضة حيدة امام حصون خيبر ونصرة العرب من قبل السلطان بركة وانتصاره على ابن عمه هولاكو متجاوزا بهذا الانتصار حالة القربى التي بينهما والقومية وتعصبها وناصرا الحق علىالباطل .
ان الكاتب هنا سلك سلوكا فنيا تسجيليا ( نسبة للمسرح التسجيلي) اذ عرض حقائق الطرفين فضلا عن عرضه لحقائق الطرف الواحد في حالتي الانتصار والهزيمة ليترك للقارئ ان يقرر بنفسه او ان يستنبط احكامه الخاصة التي تقترب ، دون شك، من احكام الكاتب المسكوت عنها داخل نصه المسرحي . وهذا يعني ان عبد الفتاح قلعه جي قد سخر الكثير من اساليب الفنية ، العربية والغربية ، لصالح نصه المسرحي الذي ظهر بمظهر الجد والتجديد والمغايرة للاساليب المونودرامية المألوفة .

صورة الختام / آخر الكلام عن هدهد السلام

وفيها يسحب ابو العز الدلو من البئر ويرش الماء على كفر سلام وحول الشجرة المكسورة بطريقة توحي باستمرار الحياة بعد الجدب والموات . ومع تجدد الكفر يجدد الهدهد تواجده في صندوق جديد مختلف عن صندوق ابي العز ( صندوق الدنيا ) فتظهر هيئته على شاشة التلفاز ( الشكل الجديد لصندوق الدنيا ) كقرصان انيق "منقاره طويل، يعتمر قبعة (طاقية) ، وينشر في يده محرمة ( منديلا ) مرسوما عليها جمجمة وعظمتان متقاطعتان " ويعلق ابو العز قائلا :
"الهدهد اليوم رسول السلام يحمل الى كفر سلام محرمة ، والقوم
في اطمئنان يغنون ويرقصون ويخمرون في اعياد السلطان "
ويدعم الكاتب هذا الحوار بصورة على الشاشة البيضاء تمثل تلفازا كبيرا يعرض راقصة شرقية تتهادى على ايقاع نغمة اغنية مبتذلة تتوقف فجأة فتنتهي الصورة ويكسر ابو العز حالة الايهام بتوجيه حواره الى الجمهور مباشرة .
ان عبد الفتاح قلعه جي بتجربته ككاتب ووعيه كمثقف واطلاعه على مجريات الاحداث كشاهد استطاع ان يرصد كل شاردة وواردة في الشأن العربي ، وان يعزز نصه باشارات خاطفة ، في اغلب الاحيان ، الا انها نقلت دلالات كبيرة وكثيرة وعميقة .
ويكمل ابو العز صورة الختام بصورة حمله لجثة ملفوفة بالقماش يسير بها نحو مقدمة المسرح
" اشعلي الاضواء يا كفر سلام ايتها الام الطيبة واستقبلي الحسين
بعطر الليمون والزعتر ، استقبلي قمر البهاء ، ها هو سيد الوقت
عائدا من كربلاء الجديدة ، مضرجا بالشفق الدامي ، مزنرا بانوار الصباح "
لتنتهي الحكاية او لتبدأ من جديد ( كان يا ما كان ) بصوت موحد عميق الصدى يناغم بين صوت ابي العز وصوت الكفر ويموسقها بسؤاله الاخير :
" من منكم يحدث كفر سلام عن السلام؟ "

استنتاجات عامة

1- اعتمد الكاتب في بناء مسرحيته على الشكل المونودرامي الذي تروي الحكايات فيه شخصية واحدة يفترض ان تكون شخصية مأزومة ولكن الكاتب نقل الازمة منها الى " كفر سلام " مغايرا بهذا ما درجت عليه المسرحيات المونودرامية فمنح المكان (كفر سلام) تشاخصا دراميا محسوبا لصالح فكرة النص
2- استخدم صندوق الدنيا كأداة لنقل مجريات الماضي والتلفاز كصندوق بديل ومتطور عن صندوق الدنيا لنقل مجريات الحاضر فأعطى انطباعا واضحا عن استمرارية وجود هدهد سليمان الماضي مثلا في الصندوق التلفازي المعاصر بهيئته الجديدة ولكن بنواياه التجسسية المذلة نفسها .
3- اشتغل على بنية ملحمية الصور الدرامية ومزاوجتها فنيا بين مسرح الصورة من جهة والمسرح الملحمي من جهة اخرى ، آخذا من الاول شكله ومن الثاني فلسفته ، الا انه لم يعمد الى تقطيع اوصال الحوار او الغائه او التقليل من اثره كما فعل المشتغلون على مسرح الصورة ، ولم يغال في استخدام طرق كسر الايهام المسرحي الا في المواضع التي اقتضت ذلك مستفيدا من حالة استقلالية صور النص او مشاهده او حكاياته كطريقة معتمدة في المسرح الملحمي .
4- سخر اساليب التمثيل المختلفة لخدمة نصه كمسرح الاراجوز ومسرح الدمى والمسرح الايمائي والمسرح التسجيلي ومسرح الحكواتي ومسرح الصورة والمسرح الملحمي فضلا عن استخدامه لاسلوب خيال الظل والمقامة العربية وشهرزادية حكايا التراث .
5- دعم افكار النص بالرسومات والصور الفوتوغرافية والصور المتحركة عن طريق عرضها على الشاشة البيضاء .
6- الصورتان الكبيرتان الاولى والثانية قائمتان على التناقض بين ما هو كائن وبين مألوفية ما كان فهما تعكسان حالة الكفر قبل الاحداث (الماضي) وبعدها (الحاضر) في الصورة الاولى . وحال الملوك المنتصرين من جهة والذين يصبون القهوة للغزاة من جهة اخرى في الصورة الثانية.
7- استخدم بنجاح كبير الاغاني الشعبية التي انتقاها بدقة وبراعة عاليين وفهم لموروث بلاده من الاغاني التي لها دلالات كبيرة على ما يريده او يسخره لخدمة فكرته الاساس . وبالدرجة نفسها من الدقة استخدم بعض الجمل الشعبية الدارجة التي اسبغت على بعض الشخوص والاجواء مسحة تراثية شعبية محببة غير مقحمة على الفصحى باي شكل من الاشكال.



#صباح_الانباري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المقروء والمنظور في مسرحية للروح نوافذ اخرى
- القمع والقتل الجماعي في رواية جهاد مجيد دومة الجندل
- دراما في تنغيل الموروث وتفعيل الوارث.. قراءة في مسرحية حازم ...
- الموناليزا السومرية .. سيدة الوركاء .. دراما في تنغيل المورو ...


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح الانباري - ملحمية الصور الدرامية في مسرحية كفر سلام او دستة ملوك يصبون القهوة