كريم السماوي
الحوار المتمدن-العدد: 5541 - 2017 / 6 / 4 - 16:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نصف قرن ما بين النكسة والنكبة ..
في مثل هذه الأيام قبل خمسين سنة حدثت نكسة حزيران، كنت أيامها فتى يافعا يدرس في ثانوية الشويخ بالكويت، 16 سنة ويعرّفونه بـ " قاصر ". النكسة هزتني من الأعماق، فعزلت نفسي بعيدا عن أعين الآخرين، وأخرجت الخرائط لأقيس كم هي النكسة عميقة بمقاييسي البسيطة وكم من الأراضي العربية فقدنا، خاصة وأنها متعددة الأوجه، ومن عدة دول محيطة بفلسطين، كما احتلت الضفة الغربية معها كذلك، وحين تمعنت بحجم النكسة انفجرت ببكاء مر وطويل مصحوب بنشيج. بعدها بقيت أبحث عن بارقة أمل يقول لي سنستعيد كل شيء، فنحن عدد وحجم وإمكانيات وزعماء وأمة وشعوب.
جاء ما اعتقدته بارقة أمل، فإسرائيل المنتصرة على كل العرب ما زالت في قمة عربدتها بالانتقام من دول الخليج عبر ذراعها الطويلة، وتعني بها طيرانها الحربي، الأمل جاء بدعوة الكويت لطلاب المرحلة الثانوية بالتطوع لحماية المنشآت الكويتية من الهجمات الإسرائيلية المحتملة، وسارعنا للتطوع، تطوعنا للوقوف بوجه الغطرسة الإسرائيلية!!...
تطوعنا وكنا نصل مبكرا إلى ثانوية الشويخ بباصات تجمعنا كما كنا في أيام الدراسة العادية، وهناك نتدرب في جو الصيف الحار واللاهب خلال العطلة المدرسية، أعطونا ملابس عسكرية، وقدموا لنا وجبة إفطار بين فترات التدريب، كان الحماس يدفعنا لكي ندق الأرض بقوة خلال التدريب، أنا شخصيا خلال الأشهر الثلاثة من التدريب خسرت ثلاث أزواج من الأحذية دفع ثمنها أهلي، وبعد أن تدربنا على سلام الرسالة، ورسالة الأموات، والجري والزحف وغير ذلك، كان لدينا طموح لكي نتدرب على السلاح، مدربنا البدوي كان قاسي الملامح، ووجهه متجهما، مسودا من كثرة ما لفحته الشمس، حللنا شخصيته، وحلل شخصياتنا، كان ينظر إلينا أننا فتيان مائعون، نحتاج إلى شمس وتدريب تصقلنا وتنقلنا من مرحلة الميوعة إلى مرحلة الرجولة، وكنا لا نـُخفي من أنه ليس أكثر من بدوي متخلف، وجهه وصوته فيهما قساوة، ولكننا آمنا أن علينا طاعته.
وجاء سلاح التدريب للتصدي للطائرات الإسرائيلية كما اعتقدنا وكان مدربنا يجهر بتعريفنا به مدويا بصوته:" بندقية كندية عيار رقم 4 فيها 6 طلقات. " كانت هذه البندقية هي رفيقتنا في التدريب برصاص خلـّب لما تبقى لنا من أيام التدريب، نفككها ثم نعيدها إلى سيرتها الأولى، ننبطح ونحتضنها كمعشوقة، نحملها ونجري متخيلين صور من المعركة. كان لدينا قناعة أننا سنترك كل هذا مع بدء الدراسة الذي قرب. قررنا أن نخاطب مدربنا في أن يعطوننا رصاصا حيّا لنطلقه على العدو المفترض، نسمع صوت الرصاص في مقابلة صوت الطائرات الحربية الإسرائيلية. وجاء الجواب صادما:" يه، إذا أعطيناكم رصاصا حقيقيا راح تخسرّون الدولة. " وكلمة يه، بلهجة الخليجيين بادئة تنم عن الاستياء. أما بعد كلمة يه حتما تعرفونه.
انتهى التدريب عند هذه النقطة، لم نقبض على شيء، ولم تظهر طائرات إسرائيلية فوقنا، ولكننا كنا نشعر أن ذلك واردا دون أن نتمكن إن حدث سوى أن نتطلع إلى السماء لنقيس حجمها أو نوعها وسرعتها ثم نقدر خطرها، وربما لتكون أعيننا أقرب إلى الله ندعوه أن يجنبنا شر هذه الطائرات. هذا هو كل ما تبقى لنا. وفوق هذا وذاك من خيبة أمل، جاء لنا مدير المدرسة ليطلب منا إرجاع الملابس العسكرية لأنها عهدة، وتابع مدرسونا المطالبة بها مرارا وتكرارا، أرجع بعض الطلبة ملابسهم العسكرية، أنا أصررت أن لا أرجعها، هددونا بالحرمان من الامتحانات إن لم نرجعها، وزيادة في الإصرار على الاحتفاظ بها هرّبت هذه الملابس إلى العراق، وأعطيتها للحنينة.. أمي. سألتني عنها فقلت لها:" هذه الملابس احفظيها لي فأنا أريد أن أستشهد بها. " بعدها وإلى اليوم لم أعثر للملابس على أثر!!..
بمراجعة سريعة على ما مر بنا خلال الخمسين سنة الماضية، أجد أن ما حدث قبل نصف قرن كان نكسة، نكسة مريرة وحسب، أما اليوم فنحن نعيش زمن النكبة، النكبة الحقيقية، فإسرائيل تنعم بالأمان، وعلمها يرفرف فوق عدة مبان في الدول العربية، ولها وشائج محبة ومودة في كثير من العواصم العربية، وما كان يجري في الخفاء سابقا، صار يجري في العلن، بشهادة كاميرات التصوير، والتصارح التي لا لبس فيها، وهي ليس بحاجة إلى تهديد دول الخليج عبر ذراعها الطويلة، فما عليها سوى أن تمد يدها لتغنم ما تريده من هناك، حكامنا لا يرون بإسرائيل عدوا، يتآمرون ويتقاتلون فيما بينهم وسط بهجة إسرائيلية عارمة، وشعوب عربية مغلوب على أمرها، ما بين حائرة ومزمجرة وعاجزة، وصامتة صمت القبور. ( ولكم بسوريا واليمن وأخيرا قطر إنموذجا ) أوليس ذلك نكبة، نكبة حقيقية تفطـّر القلوب من المرارة.
ولهذا أختصر لكم حالة النكبة اليوم فأحيلكم إلى ما قاله أستاذ العلوم السياسية الدكتور عبد الله النفيسي في واحدة من مخاطباته للجمهور العربي قائلا:"علينا ألا نعول على هذه الأنظمة شيئا إطلاقا. ويجب أن نتعامل مع هذه الأنظمة بسوء ظن، وليس بحسن ظن. وأنا أقول حتى لو وجدنا هؤلاء الرؤساء في مؤتمر القمم يتعلقون بأستار الكعبة ألا نصدقهم.. "
كـــــريـــــم السمـــــــــــــــــاوي
[email protected]
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟