عبير حسن العاني
الحوار المتمدن-العدد: 1439 - 2006 / 1 / 23 - 09:33
المحور:
الادب والفن
فجأة.. قررت أن تخرق قوانين العزلة.. لم تعد حسرات الوحدة تواسيها. فكرت بإيجابية لتعيد ماضيا كانت تراه ايجابيا رغم كل خيبا ته!
ذهبت إلى تلك الصحيفة التي كانت تواظب على قراءتها، أحسّت بمسؤولية جديدة تجاه الألم.. المبادىء.. وحتى نفسها.
دخلت.. رافقتها العيون المتسائلة من الباب وحتى آخر غرفة مغمورة. نظرات المارّة تقيدها.. تجعلها تتعثر على الرغم من كل ثقتها العالية بنفسها، تجعلها تشعر بأنها مجرد قطعة (شكولاته) يرغب الجميع بالتهامها.
وأخيرا.. وصلت إلى الشخص (المسؤول)! سلمت عليه.. سلم عليها بحذر وباصطناع اللا مبالاة التي جعلتها تتيقن من انه سيستعرض كل إمكانياته( الرجولية) و(الأدبية) ليحظى بإعجابها فيصبح التهام (الشكولاته) أمرا ليس بالمستحيل !
سألها:
- أي خدمة أستطيع تقديمها لك؟
أجابته:
- أنا أديبة.. أعني كنت كذلك. أكتب الشعر والقصة، ولدي موضوع مهم أود نشره في جريدتكم التي لا أقرأ سواها لأنني لا أرى فيها أية خطوط حمراء!
سألها بينما هو يعبث بأوراقه كي يؤكد أهميته:
- وما هو الموضوع؟
أعطته في الحال مجموعة أوراق متسلسلة ومكتوبة بخط واضح جميل.
ابتسم متعجبا:
- ما هذا؟ هذا ليس موضوعا، هذه مواضيع!
فقالت:
- لا انه موضوع واحد.. انه موضوعي، إذا لم يكن قضيتي!
بدأ بقراءة أول سطر، ثمَّ تغيرت ملامح وجهه.. سألها:
- منذ متى لم تقرئي جريدتنا؟
- منذ.. منذ أكثر من شهرين، لأنني كنت في الــــــ... أعني لم أكن أستطيع توفيرها.
كانت تنتظر رد فعل آخر، بينما فاجأها بالقول وهو يعطيها الأوراق:
- هذا الموضوع غير صالح للنشر.
قالت منزعجة:
- لماذا؟
- الموضوع ممتاز، والأسلوب رائع، واللغة بليغة. ولكن لا يمكن نشره، لأننا غيّرنا( سياسة) الجريدة.
- هل من الممكن أن توضح لي أكثر؟
- سأحاول أن أفهمكِ. ببساطة نحن الآن نكتب لنريح القاريء، نجعله يبتسم ويضحك.. وأنتِ تكتبين معاناة كبيرة وأحزانا وآلاما ومآسي لا دخل للقاريء بها! وفيما لو نشرتها فلن تباع عشرة أعداد من الجريدة، هذا علاوة على المساءلة التي سأواجهها أنا، باختصار يا عزيزتي لستُ مضطرا للمجازفة.
ابتسمت قائلة:
- هذه إذن( سياستكم) الجديدة! هل تريدني أن أكتب لك عن زقزقة العصافير ونحن نستيقظ كل صباح فزعين على أصوات انفجارات وصراخ أطفال وأمهات؟!
فقال:
- لِمَ لا؟ أنا شخصياً اسمع الزقزقة كل صباح على الرغم من كل شيء..
صمتت.. رحلت إلى هناك.. في لحظة واحدة تذكرت كل شيء..
كيف تمّ اعتقالها.. بأي أسلوب وأية وسائل( لا آدمية).. نظرات الناس.. استفزازات المحققين.. ذل السجانين.. تلك الغرفة المظلمة القذرة التي لا تزيد مساحتها عن عشرة أمتار مربعة، والغريب أنها أحست لأول مرّة بشوق لها، فهناك كانوا يحاولون قتل كل شيء داخلها لكنهم لم يستطيعوا قتل أحلامها.
تذكرت شوقها للشمس.. للضوء.. لعقارب الساعة.. تذكرت خوفها مع كل اقتحام لغرفتها (ماذا سيفعلون بي؟).
وتذكرت.. وتذكرت..
رأت في وجه ذلك (المسؤول) وجوه الأقارب والجيران والأصدقاء الذين تجاهلوها بعد خروجها من المعتقل بريئة من تهمة لم تعرفها للآن!
كل الناس ابتعدوا عنها وكأنها المذنب الوحيد في هذا الوطن(البريء)!
تذكرت حبيبها الذي كان أول من ذهبت إليه.. متلهفة ومعتقدة انه سينسيها احتضار شهرين كل لحظة فيهما أطول من دهر.. انتظرت كلمة مواساة.. بل نظرة حنونة تعيد لها حياة (ما قبل السجن)! لكنه بدل ذلك، نظر إليها نظرة متسائلة فهمت أبجديتها:
( ماذا فعلوا بك؟ هل اغتصبوا شرفك؟)..
لم يملك الجرأة على السؤال، لكنها أجابته بجرأة المظلوم الذي لا يملك سوى صوته:
- لقد مارسوا معي جرائم أكبر من اغتصاب الجسد، لم يمس أحد جسدي، لكنهم اغتصبوا كل ما عداه.. ابتسامتي.. حريتي.. قيم الجمال.. الأصدقاء.. الأهل.. وحتى أنت! وحاولوا الوصول إلى أحلامي، لكنهم عجزوا عن ذلك فقط.
كادت تصرخ بوجهه (لنوقف مهازل ( جرائم اغتصاب الجسد) في وطن ٍ يقتل أما تضع ابن زنا ويبتسم في وجه (مواطنين) يخونون الوطن وتاريخه ودم ثواره).
تذكرت لحظة خروجها من المعتقل بعد أن أعلنوا لها أنهم سيمنحونها (متفضّلين) هواء الحرية التي لن تتنفسها ولن تستطيع أن تتخيل بأن العصافير فَرِحة بالتحليق بفضاءاتها، بعد أن كسروا أقوى أجنحة (أسطورية) امتلكتها.
نظر( المسؤول) إليها منتظرا أجابتها. كانت تتمنى لو تتخلى عن أخلاقياتها للحظة لتقول له:
(أن صراصير السجن كانت أكثر إنسانية منك!).
حملت أوراقها.. ومضت وكل ما بها إلى شارع بخطوطٍ حُمر وبشرٍ بخطوطٍ حُمر.. ووطنٍ بخطوطٍ حُمرٍ حُمر.
ولم تُبقِِ سوى حلمٍ وُلِدَ في بيتٍ يبكي دماً أحمر، صاغته (الأنا) وغدا (نحن) ستمضي به ويمضي بها إلى عالمٍ لا تحدّهُ أي خطوط.
بغداد - 2004
#عبير_حسن_العاني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟