|
( أعود مع المطر ) قراءة وخواطر
حسن مروح جبر
الحوار المتمدن-العدد: 5484 - 2017 / 4 / 7 - 12:12
المحور:
الادب والفن
أعود مع المطر* ( قراءة وخواطر )
حسن مروح جبير
يحاول الروائي الياباني ( تاكوجي ايشيكاوا ) أن يجعل روايته مزدانة بأطياف الحس الياباني وشذاه ، وبهاء قمّة جبل ( فوجي ) الناصعة البياض ، وهي تبارك في كل فجر جديد وجه ( طوكيو ) . رواية خاضت في فلسفة الوجود البشري وماهيته ، وإشكالات الوجود والعدم ، والحضور والغياب ؛ من خلال الأواصر المنظورة ، والمتخيلة . ووفق نظرة ذاهلة ( الراوي ) إلى الحقيقة والخيال ، في محاولة المزج بينهما تمهيداً لخدمة وبناء الرواية وفق قوام آخر امتلك قوة السحر والإدهاش . انسابت تفاصيل أحداثها انسياباً هادئاً وحزيناً ، لا يشذ عن حزن الياباني الدفين ، الوقور ، كلما استعاد نكبة ( هورشيما ، ناغازاكي ) في مخيلته . وعلى الرغم من استغراقها في أكثر من ثلاثمائة صفحة ، فأن أحداثها لا تثقل على المتلقي ، أو تفقد جمالها في عينيه ، فيشعر بالسأم . شكّلت شخصية ( ميو ) محور الأحداث الذي دارت حوله ثيمات الرواية التي بعثت ذلك النزيف المتواصل بألوان الحزن ؛ وكلما لاحت أطياف ( ميو ) ، أو تم انتظارها ، أو رؤيتها في متنزه أو غابة ، أو حينما ترعى ولدها ( يوجي ) بنظرة أم حنون ، فإن كل ذلك يوحي بالفراق . إلّا أن حضور ( ميو ) ظلّ يحتل حيزاً فسيحاً فاض منه الكثير على ذهن المتلقي في طقس شذي ، تضمخ بالألوان القزحية ، فكان حضوراً باهياً ، متصلاً لا ينقطع . ولهذا راح الزوج ينعى نفسه وأبنه على رحيل زوجته ( ميو ) ، وحياتهما الغريبة بفقدانها ورحيلها إلى ( الأرشيف ) ، الذي أرست دعائم واقعه الصدمة العنيفة ، والإحساس الصادق بغيابها المخيف ، ولهذا قال : ( إننا سنجهز أنفسنا للحزن مرة أخرى في وقت لاحق ) . وكأنه يلقي في بالنا أن الحياة ليست سوى سلسلة من الأحزان ، وليس لنا إلّا مواجهتها ؛ فتولد ذلك الحزن من الفقد .. فقد الأشياء الرائعة ، بينما تبقى أطياف الأم (ميو ) .. الأم المحبّة ، الرائعة ، بينما الزوج يتحدى ثقل ذلك الانكسار ، وعتمته الموحشة . إنه لم ينفك يلمس منها : ( رائحة شعرها المثيرة للحنين ) ، ولا زال في القلب غصة وفراغ ، تركه : ( شخص غادر العالم ولم نزل نشتاق إليه ) . ومثلما انبرى قبله الأديب الياباني الكبير ( يوكيو ميشيما ) في رباعيته ( بحر الخصب ) ، في إشارة رائعة للفقدان : ( إن هذه الدنيا أصبحت فجأة بغير الأميرة تشان ! ) ، وكأن تشان هي الدنيا . و( ميو ) هي الأخرى حققت بفقدها ذلك الأثر الرائع منها . وفي قول الراوي ( الزوج ) ، وكأن الفقد أدرك ذلك النسيج الرائع فعمل فيه تشويهاً ، أو خراباً ، وذلك بقوله : ( أشعر باستمرار في وجودك قربي ) . كان شعور الزوج بحضور ( ميو ) ، رغم وجودها في ( الأرشيف ) ، يؤكد حضوراً جديداً لها ، حضوراً راسخاً يجعل الزوج يشعر بالتعويض ، والرضا ، والنسيان في ذهنيته ؛ ويترك نفسه قادرة على استرجاع ما فقده بكل جزئياته وتفصيلاته . وهكذا حقق الكاتب مراده في مزج الواقع بالخيال ، ويقفز بشكل رائع بين العالمين في صياغة وبناء عمل روائي رائع وثري ، ومجرّد من صيغ واسترسال السيرة الذاتية في نفس الوقت . وبدت كتابته أشبه بلعبة ممتعة ارتقت بمضمون الرواية ارتقاء موفقاً ، وفريداً . تشكّل بناء الرواية على الربط بين عالمي الدنيا والآخرة ، أو عالم الأحياء والأموات ، المتمثل بالحياة الدنيا و ( الأرشيف ) ، مثلما جاء في الرواية ، فجاء بناء محكم اشتغل عليه الكاتب بحرية وبراعة ؛ عبر هذا الحنين الشرقي ، حتى جسّد الحضور الدافئ لـ ( ميو ) ، أي الحضور المتكامل ، متحدياً رحيلها ، مستثمراً الحنين والأسف لانقطاعها ، وعدم مواصلة الحياة مع أسرتها ، وهذا ما أكّده كلامها العاتب : ( سأعود لأرى كيف تدبران أمركما أنتما الاثنان ؟ ) . هكذا تركت ( ميو ) أسرتها على أمل أن تتحقق عودتها ثانية .. ولكن متى ؟ فليكن مع موعد سقوط المطر ، هذا الموعد الآصرة ، التي ارتقى إليها خيال الكاتب إلى عالم الفنطازيا الرائع . أو إلى عالم الحلم والانبعاث . وبتلك اللعبة ارتقى الكاتب بالرواية إلى عالم حيوي ، مشرق بأنوار مسرّات اللقاء الموعود . الذي عاش الزوج ، ثم المتلقي عذوبته ، وبدا كأن ( ميو ) لم تغادر هذا العالم المثقل بالأوجاع ، وأن ( يوجي ) لم يصبح يتيماً ؛ فها هي ( ميو ) تحل بين ظهرانيهم ، وتأكدت من سلامة ولدها ( يوجي ) . ولكن بعد أن تحمل الزوج أوزار ذلك الحنين .. حنين العودة من ( الأرشيف ) ، وراح يناطر موعد سقوط المطر ، حيث سيحل الربيع وتبدأ الحياة دورتها الجديدة . لقد برع الكاتب الياباني ( تاكوجي إيشيكاوا ) في طريقة بناء روايته ، فبيع منها فور صدورها في اليابان ما يناهز المليون نسخة ، وارتقى إلى مصاف الكتاب اليابانيين الذين ذاعت شهرتم ، لتفرد أعمالهم الأدبية المفعمة بحسّ جمالي وشاعري . فالياباني ، وفي كل مجالات الفنون والآداب ، وحتى الصناعات ، امتلك ناصية الإبداع وقد صدق ما قيل عنه : ( أخذ الياباني الحضارة دون تحرّج من الغرب ، ونقلها بكل تفاصيلها إلى جزره ، ثم تجاوزها حين أخضعها لنظرته الوجودية الخاصة بالإنسان الياباني ) ** ، وهكذا الحال بالنسبة للفنون والآداب اليابانية الأخرى ، فخرج ذلك الإبداع بروح ، وحسّ ، ومضمون ، وشكل ، وطني مميز كل التمييز عن ضروب الإبداع في أصقاع العالم الأخرى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * : أعود مع المطر ، رواية من تأليف تاكوجي إيشيكاوا ، وترجمة راغدة خوري . ** : حكايات المعبد الياباني : الكاتب السوري محمـد عضيمة .
#حسن_مروح_جبر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تطريز بخيط أسود
-
دندنة
المزيد.....
-
إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز
...
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|