أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ف. بيخوروفيتش - نقاش حول الوضع في بيلوروسيا















المزيد.....

نقاش حول الوضع في بيلوروسيا


ف. بيخوروفيتش

الحوار المتمدن-العدد: 1425 - 2006 / 1 / 9 - 10:16
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


فيما يمتدح الوطنيون الرئيس البيلوروسي ألكسندر لوكاشنكو, وفيما يسبّه الليبراليون، نرى الشيوعيين إما ينضمون إلى أحد هذين الطرفين (مَع بعض التحفظات، بالتأكيد) أو يَلزمون الصمت ببساطة. ويجهد المتشككون منهم للعثور في سياسة الرئيس البيلوروسي إما على بقايا الاشتراكية، وإما على بداياتها.
وتراهم في نهاية المطاف لا يرون أيّ أثر للاشتراكية في سياسةِ لوكاشنكو. فالاشتراكية، في رأيهم، هي "اقتصادياً رأسمالية الدولة, وسياسيا دكتاتورية الطبقة العاملةِ"، بينما يَجِدُون في بيلوروسيا "دولة كينسيانية الطراز زاعمين أنه عندما ستكون في بيلوروسيا دكتاتورية الطبقة العاملةِ، حينئذ سَتَكُونُ فيها الاشتراكيةِ، أما الآن فهناك مرحلة وسطية لا تتفق سماتها و"مميزّاتِ الاشتراكيةِ".
غير أن الماركسييين يختلفُونُ فيما بينهم. يَختلفونَ، أولاً، في أن بعضهم تهمّه كثيراً الاتجاهات والمراحل الوسطية، بينما لا يهم البعض الآخر شيء. فهم حفظوا عن ظهر قلب "المميزّات" وتراهم يجلسون جانباً ويقيسون الأمور بالقسطاس ليروا ما إذا كان الواقع الحيّ يتوافق وهذه "المميزّاتِ" أَو لا. لكن واقع الحياة يَنحرفُ بالتأكيد دائماً عن المقاييس الجامدة. وهو لذا حيّ ومتغير بسرعة، وتغيره هذا على تَفَاوُت وتناقض. وهم إزاء ذلك يغضبون. لَيسَ على حالهم، بل على واقع الحياةِ نفسه وعلى أولئك الذين يُحاولونَ فَهْمه بكُلّ تناقضاته، وأكثر أيضا على أولئك الذين يُحاولونَ أن يغيروا واقع الحياةِ هذا.
ومفهومٌ أن لوكاشنكو مِنْ أكثر من ينتقده هؤلاء. ذلك أنه لا يستجيب لتلك "المميزّات.
فما الذي يُثيرُ اهتمامهم بلوكاشنكو؟

ذات مرة، في بِداية التسعينات سمى صحافي مقالة له حول الصين "بلاد المنقلبين على غورباتشوف المنتصرين" (بخلاف هزيمتهم في الاتحاد السوفياتي وانتقال السلطة إلى يلتسين وانهيار الدولة السوفياتية). التسمية مِنْ وجهةِ النظر الصحافية ناجحة جداً دون شك. لكنها نظرياً، بالتأكيد، خاطئُة. فإذا ما قورنت سياسة الحزب الشيوعي الصيني في العقود الأخيرة بشيء ما في الاتحاد السّوفياتي، أمكن القول إنها تلك السياسة نفسها التي انتهجها غورباتشوف، لا تلك التي أعلنَها المنقلبون على غورباتشوف. فالقادة الصينيون مَا كانوا ليفكروا أصلاً بالحد من مفاعيل العلاقات بين البضاعة والنقد، بل هم، بالعكس، ساروا في طريق نقل الاقتصاد الصينيِ إلى قواعدِ السوقِ.
إنَّ تسمية المقالة تلك إذن بـ"بلاد المنقلبين على غورباتشوف المنتصرين" تصلح أكثر لتوصيف بيلوروسيا لوكاشنكو. فالحقيقة أن لوكاشنكو نفّذَ ما دعا إليه أولئك المنقلبون على غورباتشوف، وهو فقط عَمِلَ هذا، بخلاف المنقلبين على غورباتشوف، بجرأة وحزم وموهبة. وإنه لأمر آخر تماماً أن كُلّ هذا لا يفضي إلى الاشتراكيةِ.
فتجربة لوكاشنكو تُثبتُ مرة جديدة أنّ من المستحيل أن يَستعمل المرء الماكنة الرسمية البرجوازية لبناءِ الاشتراكيةِ. لكن بم يمكن اسْتِبْدال الماكنة الرسمية البرجوازية؟ لينين تَكلّمَ عن هذا فقال بدكتاتوريةِ الطبقة العاملةِ. أما لوكاشنكو فحاولَ إعادة إنعاش السلطةِ السوفيتيةِ. جهد كثيراً لفعل هذا. والدليل على هذا أنه لم يُعِد فقط، طبقاً لنتائج الاستفتاء العام الذي كان هو وراءه، علم جمهورية بيلوروسيا الاتحادية السوفياتية وغير ذلك من رموز تلك الجمهورية السوفياتية، بل إن كُلّ سياسته كانت ترمي إلى هذا. وهو مَا أخفى يوماً أيضاً تعاطفَه مع الاشتراكيةِ والاتحاد السوفيتي. وإن الظروف التي أحاقت به كَانتْ ممتازة إذ دَعمَه شعبه كُلّ الوقت. وحقيقة أنّه لَمْ يتسن له فعل ذلك هو أن هذا عُموماً أمر مستحيلُ من حيث المبدأ.
ومما يزيد الطين بلة أن لوكاشنكو ما كَانَ عِنْدَهُ ولَيْسَ لهُ أيّ حزب خاص به، وهو لا يَستطيعُ الاتكال على أيّ "نُضُوج للحركةِ" التي يقودها. فهو لا حظّ له مَع الشيوعيين. الحزب الشيوعي البيلوروسي الذي دَعمَه لوكاشنكو ولا يزال يُواصلُ دَعْمه، لم يظهر نشاطاً ما وبدا غير قادر على العَمَل بشكل مستقل. أما حزب شيوعيي بيلوروسيا (النظير البيلوروسي للحزب الشيوعي الروسي – حزب زوغانوف والحزب الشيوعي الأوكراني – حزب سيموننكو) فتَصرّف دائماً ضدّ لوكاشنكو. وقد أعلن زعيمه كالياكين غير مرة أنه "مِنْ بين شرين اثنين: الديمقراطية البرجوازية والدكتاتوريةِ البرجوازية، يَختارُ الديمقراطية البرجوازية". في هذه العبارةِ طبعاً الكثير مِن المواربة، ذلك أن الحقيقة الناصعة هي أَنَّ هذا "الشيوعي" فضل أن ينتقل دون تستر إلى معسكر الجانبِ البرجوازي وهو مدى عشْر سَنَواتِ يَقفُ مَع "المعارضة" المُمَوَّلة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. وقد حاول لوكاشنكو مراراً خَلْق حركة شبابيةِ يُمْكِنُه أَنْ يَتّكئَ عليها في ما يقوم به من أعمالِ؛ وحاول مؤخراً إجْبار اتحاداتِ العمال على تَنفيذ تلك الوظائفِ التي كان ينفذها في الماضي الحزب الشيوعي السوفياتي. وهو يَتكلّمُ عن هذا الأمر صراحةً. لكن الأملَ ضئيل في أن يفلح في ذلك.
كيف يجب أن يكون موقف الماركسيين الحقيقيين من سياسةِ لوكاشنكو؟
لَيس طبعاً على أساس "مميزّاتِ" ما جاهزة ينبغي أن يتحلى بها استناداً إلى التعاليم الماركسية!!، ولا على أساس اتهامه بغيابِ الحرياتِ الديمقراطيةِ وانتِقاده على ذلك (هي هناك في أية حال لا أقل مِنْها في أوكرانيا أو في روسيا حيث من الضروري عبور كاشف الألغام للدخول إلى اجتماع حاشد أو مهرجان).
وعموماً، سَيَكُونُ من الضروري مُسَاعَدَة لوكاشنكو. وأفضل مساعدة تقدم لَهُ سَتَكُونُ في الحقيقة في فهم جيد، ماركسي فعلاً للوضع الذي هي فيه اليوم بيلوروسيا. بعبارة أخرى، في صياغة ماركسية لهذا الوضع. لكن ليس هناك في الأفق الآن ماركسيون سَيَكُونُون جاهزين لتَعَهُّد مثل هذا العملِ.
هَلْ من الضروري أن نَنتقد لوكاشنكو؟ بالتأكيد، هذا ضروري. لكن بين نقد ونقد بَون واختلاف. فانتقاد يوشنكو (يانوكوفيتش) أَو بوتين (كاسيانوف) شيء. فهؤلاء زعماءُ من الطبقة الرجعية. ونقد هؤلاء الأشخاصِ يُمكنُ أَنْ يَكُون فقط واحداً – فضحهم ما أمكن لإيقاْف أيّ محاولات من جانبهم لزرع الأوهامِ حول أن بينهم من هو أفضلُ، ومن هو أسوأُ، وأنه يجب اختيار أهون الشرّين. لكنه شيء آخر تماماً انتِقاد لوكاشنكو.
بماذا يَختلفُ لوكاشنكو عنْ بوتين؟ أليسا هما يَتلاقيان في "المميزّاتِ": فكلاهما لا يحبه الحاكمون في الغربِ، وكلاهما يَعارضه الليبراليون. كلاهما، كذلك، يلقى دعم الشعبِ. وحتى كون لوكاشنكو يَلْعبُ الهوكي، وبوتين الجودو، لَيس يعني أن ثمة اختلافاً بينهما، بل هو أيضا تشابه. وعلى الرغم من هذا، نرى أن الاختلاف بينهما قويُ جداً أيضاً. لكن لرُؤية هذا الاختلاف من الضروري مُخَاطَبَة النظريةِ.
ما هي الوظيفة الرئيسية لأيّ دولة من الدول؟ إنها، كما يَكْتبُ لينين في "الدولة والثورة "،" في أن "الدولة جهاز يؤمن هيمنة وظلم طبقة لأخرى، وهي تعني خَلْق "نظام أمور" يشرعن ويَدْعمُ هذا الظلم، ويُلطّفُ في الوقت نفسه من حدة تصادم الطبقاتِ". "يلطفها" في أن يجعل الدولة في كُلّ وقت يَصِلُ فيه الأمر إلى الصدام، تقف إلى جانب الظُلاّم. فالدولة البرجوازية تَضِعُ مصالحَ البرجوازية في الدرجة الأولى، أما مصالح الطبقاتِ الأخرى فتَأْخذُها في الحسبان فقط بمقدار ما يخدم هذا الطبقة البرجوازية ويعود بالمنفعة عليها، بمقدار ما يمنع ويدرأ "الانفجار الاجتماعي"، أي الثورة. فأية مصالح يَضعُها دائماً في الدرجة الأولى بوتين؟ إنها مصالح هؤلاء أو أولئك من مجموعاتِ الأوليغارشيا أَو مصالح الطبقةِ الرأسمالية ككل. ومن غير المحتمل أن تكون عند شخص ما شكوكُ في هذا الشأنِ.
هَلْ يمكن قول شيء من هذا في لوكاشنكو؟ من غير المحتمل.
لَكن هل يمكنُ أن نقول إن لوكاشنكو يَضِعُ في الدرجة الأولى مصالح الكادحين البيلوروسيينِ: العُمّال والمزارعين ؟ نعم يمكن على الأرجح أن نقول هذا. والدليل على ذلك ليس فقط في الدعم الجماعي له في الانتخاباتِ والاستفتاءات (وهو أكبر بكثير مِن الدعم الذي يقدَّم حاليا للرئيس الفنزويلي أوغو تشافس)، بل أيضاً في حقيقة أن أياً من أعدائه لا يسعه أن يتهمه بأنَّهُ يَحْمي مصالحَ هذه أَو تلك من مجموعات الرأسماليين – سواء في الداخل أَو في الخارج. في ظل ظروف كهذه يُصبحُ الاتّهام بـ"رأسمالية الدولة" على أفواه الماركسيين مضحكاً لشدة ما فيه من أنق وتطلّب باطلين. وأيّ "تبديل لتسمية" الموظفين الرسميين ومدراء المشاريعِ والمؤسسات الرسميةِ ليضحوا "رأسماليين وطنيين" هنا لَنْ يُساعدَ في شيء. فها هي جريدة "كمسومولسكايا برافدا" الليبرالية المتطرفة قد "نَشرَت بالأمس القريب موادَ حول رواتبِ الوزراءِ البيلوروسيينِ: أعلاهم راتباً يَستلمُ راتباً يساوي سبع مرات متوسط الأجر في بيلوروسيا. أما الآخرون فيتقاضون راتباً يساوي 4-6 مرات متوسط الأجر. وافقوني الرأي أنّ هذا الاختلاف في الرواتب كَانَ أكثرَ أحياناً في العهد السوفيتي. وفي المؤسسات الكبيرةِ الناجحةِ يَستلمُ العُمّالُ راتباً يتراوح ما بين 400-600 دولار، أي أقل بقليل مِنْ نِصْفِ أعلى راتبٍ لوزير هناك.
على الأرجح أن في بيلوروسيا مع ذلك رأسماليين، محليين وأجانب. تَشْهد على هذا على الأقل أسعار دور السكنُ في العاصمة مينسك إذ لا تَختلفُ عنها في العاصمة الأوكرانية كييف مثلاً. لَكنَّ هذا لا يَعْني أن لوكاشنكو يَحْمي مصالحَهم بالذات. ففي كركاس نفسها عاصمة فنزويلا ليس عدد الأغنياء أقل، بل هو أكثرُ، مِنْهم في مينسك، ومع ذلك لا أحدَ يخطر بباله أن يَتّهمُ تشافس بأنّه يَحْمي مصالحَهم إضراراً بمصالحِ الفقراءِ.
إن لوكاشنكو يَضِعُ في الدرجة الأولى في سياستهِ المصالحِ الجذريةِ للعُمّالِ، لا مصالحهم الآنية، وهو يَفْهمُ جيداً في الوقت نفسه أن مصالحُ العُمّالِ لا تكون دائماً تَتوافق ومصالح تطوير المجتمع ككل، ومصالح الاشتراكيةِ. فعلى سبيل المثال , مَا عجّلَ لوكاشنكو كثيراً في أَنْ يقف إلى جانبِ العُمّالِ في مصنع الدراجات، عندما أغلق هؤلاء مؤخراً شارعاً طالبِين دفع رواتبِهم. فهو طالبَ في بادئ الأمر بإرْجاع أسهم هذا المصنع إلى الدولة بعد أن كان تَحوّلَ إلى شركة مساهمة، ووَعدَ بأنه عند ذاك فقط سيباشر العمل على حل مشاكلِهم.
كُلّ هذا صحيح , - سيقول منتقدو لوكاشنكو الماركسيون ، لَكنَّك تَرى الخصخصةَ في بيلوروسيا تجري على قدم وساق!
المسألة هنا تكمن في أن الخصخصة البيلوروسية، إذا نَظرنا بدقّة إليها، لا يجمَعها جامع بالخصخصة الجارية في أوكرانيا أو في روسيا.
فالخصخصة في روسيا أَو في أوكرانيا تَعْني أنّ المشروعَ يَبْدأُ يعمل بالكامل لمصلحة الرأسمالي من أهل الطغمة، هذا الذي إذا كانت لَهُ "واسطة" مهمة في هيئات السلطة (وكُلّ المالكين الكبار عِنْدَهُم تقريباً مثل هذه "الواسطة")، لا يَدْفعُ الضرائبَ إلا فقط في الحالات الاستثنائية. والرواتب في المؤسسات المخصخصة تدَفعَ في معظمها داخل "ظروف مغلقة"، بحيث تبقى معفاة مِنْ الضرائبِ. والمؤسسات الأكثر ربحية هي بالذات التي اجتاحها بلدوزر الخصخصة قبل غيرها. أما معدات المؤسسات المخصخصة غير المربحة فغالباً ما كانت تقَطّعَ وتحال إلى خردة، فيما تؤجر ساحات هذه المصانع كمستودعات أو ما شابه.
كل ما يسمى في بيلوروسيا خصخصة أَو إصلاحاً (تُفضّلُ السلطات البيلوروسية هذا التعبير الأخير)، يمكن الَنْظرُ إليه بالكامل نظرة أخرى تماماً. ففي الأغلبية الساحقة من المؤسسات التي باتت شركات مساهمة تعود حزمة الأسهم الأساسية للدولة. وحتى في المؤسسات التي ليست حزمة الأسهم فيها عائدة للدولة تحتفظ هذه الأخيرة بالرقابة عليها. وهو ما يسمى "الحق في السهم الذهبي". أي ما يعني أن للدولة الصوت الحاسم في جمعيةِ حَمَلةِ الأسهم، وإمكانية التدخّلِ في عملية اتخاذ القراراتِ الميدانيةِ. فإذا لم تَرْدُّ شركة المساهمة، على سبيل المثال، على طلبِ السلطاتِ لمُسَاعَدَة المشاريعِ الزراعيةِ في عملية الحصادِ بوسائل النقلِ أَو البنزينِ، فإن الدولة تَمتلكُ الحقّ ببساطة في إجْبارها على التنفيذ. وإنّ الحقَّ في استخدام "السهمِ الذهبيِ يستعملُ استعمالاً نادراً ، لأن المالكين يُفضّلُون تَنفيذ "الطلباتِ" مع ذلك وإن لم يكن هذا، طبعاً، دائماً بسرورِ كبيرِ.
بالتأكيد، كُلّ هذا لَيسَ الاشتراكيةِ. فهو الرأسمالية عينها. لكن هذا لا يعني أن على الماركسي وضع اسم لوكاشنكو في قائمة أعداءِ الاشتراكية.
إن ما يَختلفُ به لوكاشنكو، على سبيل المثال، عن الرئيس المولدافي أن ذاك يَسمّي نفسه بالشيوعي فيما هو يتصرف كسياسي برجوازي، بينما لوكاشنكو ليس يَسمّي نفسه بالشيوعي، لكن الأعمالَ التي يقوم بها لم يقم بها أيّ من الشيوعيين المعاصرين.
وإن لم يكن في بيلوروسيا لا اشتراكية ولا دكتاتورية الطبقة العاملةِ، فمن غير المعقول أن يُعتبر لوكاشنكو هو المذنبَ في ذلك. وإنه لأمر سخيف أن تَطَلُّب مِنْ قائد كتيبة يمسك برأس جسر ما أنّ يقتحمَ فوراً برلين. وما دمنا قد اسْتعْملنا هذه المقارنةِ يجب القول إن لوكاشنكو ليس حتى قائد كتيبة. فهذا الأخير يكون هناك شخص ما أرسلَه، ووَعدَه بالمساعدةً، ولا يفتأ يَفكر في كيفية تقديم هذه المُسَاعَدَة له. فلعل الأحرى أن نسمي لوكاشنكو برجل المقاومة الفدائي البيلوروسي في فترةِ بِداية الحربِ الوطنية العظمى للشعب السوفياتي، الذي يَعْملُ في ظل المخاطرةِ الدائمة. ومخاطرته هي، بالتأكيد، أبعد ما تكون عن القواعدِ. إذ لو كانت مبنية على القواعدِ المعروفة لكان هزِم منذ وقت طويل لأن نسبة القوى لَيستْ أبداً لصالحه حالياً.
وفقاً لذلك لا يجوز للماركسيين انتِقاده انطلاقاً مِنْ قواعدِ الكتبِ، كي لا يجدوا أنفسهم في معسكرٍ واحد مَع أعداء الماركسية والشيوعية الألدّاء.
لوكاشنكو نفسه يُلخّصُ الفترةَ السابقةَ من تطورِ بيلوروسيا فيقول إن الأمر الأكثر أهميةً يتلخّصُ في إزاحة البلاد عنْ شفا الهاوية. ويَبْدو أن مُلاحظته هناُ صحيحة جداً. وإن فضل لوكاشنكو شخصياً في هذا كبير جداً.
الآن هناك السؤال يُطرح: إلى أين يَنبغي التحرّكُ لاحقاً. ذلك أن العودة إلى الهاوية نفسها ممكن حتى بعد الابتعاد عنها قليلاً. فبيلوروسيا اليوم في نقطة يُمْكِنُ أَنْ تَذْهبَ منها سواء إلى الاشتراكيةِ أو إلى الرأسماليةِ. وإنّ أغلبيةَ القراراتِ التي يتخذها مؤخراً الرئيسِ لوكاشنكو، لتَشْهدُ على أنّه متردد. ومن المحتمل أنه يَشْعرُ بأنّ طرائق ضبط الدولة للسوقِ التي كانت عُموماً مقبولة وأعطت نتائج لا بأس بها في مرحلة إخراج البلاد مِنْ الأزمةِ، يُمْكِنُ أَنْ تَبْدوَ في المرحلة اللاحقةِ خطرة. ومن المحتمل أن الخبراء إذ يقدمون مشروع برنامجِ التنمية الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ لأعوام 2006-2010 قلّ ما يتَكلّمون عن التحول إلى اقتصاد السوقِ، إذا ما قورن هذا بالوثيقةِ المتعلقةِ بالخطة الخمسية السابقةِ. لكن لا أحد أيضاً يُمْكِنُه أَنْ يَعْرضَ بدائلَ عن هذه الطرائقِ.
ما هو واضح جداً هو أن لوكاشنكو لا يَستطيعُ بقواه الخاصةِ السير ببيلوروسيا إلى الاشتراكيةِ. فالاشتراكية، كما كتبَ لينين، إبداع من قبل الجماهير. وبدون حزب يَجْلبُ الوعي الاشتراكي إلى عقول الجماهير لا يُمْكن لهذا أنْ يحصلَ. ومن المؤسف أن ليس في بيلوروسيا مثل هذا الحزبِ حاليا. فالشيوعيون البيلوروس من أنصار زوغانوف في الحزب الشيوعي الروسي يُكافحُون سوية مَع الليبراليين والقوميين من أجل الديمقراطيةِ ضدّ لوكاشنكو. والحزب الشيوعي البيلوروسي ما أكثر ما دعمه لوكاشنكو، إلا أنه لم يتحول رغم كل شيء إلى قوة جدّيةِ لأنه لم يكن على المستوى المطلوب من العمل. حتى المجموعات الشيوعية الشبابيَة مركزة جل اهتمامها على البحث عن "نقائص" في لوكاشنكو بدلا مِن النضال من أجل الاشتراكيةِ في بيلوروسيا.
فكثر هم، على سبيل المثال، من يَتكلّمُون عن دكتاتوريةِ الطبقة العاملةِ، لكنهم لا يفكرون حتى بمعنى ما يقولون.
ومعنى دكتاتوريةِ الطبقة العاملةِ يكمن فقط في تقييدِ مجالِ فعلِ العلاقات بين البضاعة والنقد. ولكن لَيسَ في تقييد يؤمن في كُلّ وقت الرُجُوع إلى ما تم اجتيازه من خطوات ومراحل، بل بِجعل هذا التقييدِ (والأفضلُ القول: التَضييق) يؤدي إلى دمارِ هذه العلاقات وإيجاد بديل لها لا يكون علاقات بضاعة ونقد، ولا علاقات سوق، يبَنى على قاعدة العقلانية ويوجّه وجهة تأمينِ الشروطِ اللازمة لتطويرِ كُلّ امرئ وتطوير المجتمع ككل.
لذا تبدو فكرة تطبيق نظامِ الإدارةِ الآليةِ للاقتصاد في بيلوروسيا التي طرحها أحد المفكرين الشيوعيين مثابة خطوة معقولة جداً تخطى نحو الاشتراكيةِ، وهي أكثرُ معقولية مِنْ محاولةِ تَخَيُّل دكتاتوريةِ الطبقة العاملةِ اليوم على شاكلة ما كان في الاتحاد السّوفياتي زمن ستالين أو الصين زمن ماو تسي تونغ. وأعتقد أن ستالين وماو ما كانا اليوم ليَعْملا كَما عَملا آنذاك. ولو حاولا ذلك، لكانا ظهرا بسرعة في عداد الحمقى.
إن التحرك في اتجاهِ خَلْقِ أنظمةِ إدارة آلية للاقتصاد في كل أنحاءِ الأمة هو اليوم ما يمكن اعتباره السياسة الاشتراكية الفعّالة الوحيدة الممكنة وذات المستقبل. وإن دراسة الأفكارِ التي تم التوصل إليها تحت إشراف الأكاديمي ف. غلوشكوف حول تطبيق نظامِ الإدارةِ الآليةِ للاقتصاد على صعيد الأمة والتجربة العملية المتراكمة كنتيجة لتطبيقِ منهج "سيبرسين" في تشيلي في عهد حكومة أليندي، هي ذات راهنية الآن لَيسَ فقط لبيلوروسيا، لكن أيضاً لكوبا، لفينزويلا، لكُلّ البلدان التي تتَطلّع إلى الهُرُوب مِنْ البراثن القاتلة والمعانقةِ الخانقة لأخطبوط السوق العالمية.
ولمن الضروري أن نقول اليوم، على خلفية الإحباطِ وفقدان الأوهام حول جدوى السياسة الليبرالية، إن الاهتمام بالأفكارِ لتي أتى بها غلوشكوف وتلك التي أتى بها صاحب المشروعِ السيبرنيتي التشيلي ستافورد بير يَبْدأُ بالنَمُو بشكل تدريجي. لكن، للأسف، لَيسَ بين الشيوعيين. فالأغلبية الساحقة منهم (سواء الانتهازيون أو "الثوريون" ) لا ينكبون على دراسةِ القوى المُنْتِجةِ الحديثةِ وطرقِ نقلها إلى السكّة الشيوعية، بل يُفضّلُون على هذا ترداد "الكلام" "الماركسي القديم، فيؤمنون بهذا لأنفسهم الحقّ في عدم فعل شيء وإطلاق الأحكام التي لا تقبل الاستئناف في مسائل لم يفكروا حتى بدِراسَتها.



#ف._بيخوروفيتش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النزعة الوطنية- بوصفها مرض الشيخوخة اليميني في الشيوعية.


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ف. بيخوروفيتش - نقاش حول الوضع في بيلوروسيا