أنهت لجنة من رجال القانون الفلسطينيين والمصريين، منذ فترة، صوغ مشروع أولي للدستور الفلسطيني. وباتت مسودة هذا المشروع جاهزة لعرضها، حينما تصبح الاحوال ملائمة، على المجلس التشريعي الفلسطيني. وهذا المشروع سيخضع، على الأرجح، للنقاش الفائض والمساجلات الكثيرة قبل اجراء التعديلات التي تسبق الاستفتاء عليه في عموم الاراضي الفلسطينية، وهو الخطوة الأخيرة قبل اصداره نهائيا بالصورة التي استقر عليها.
في ما يلي خصومة سياسية وفكرية مع إحدى مواد هذا الدستور.
وردت في مشروع الدستور الفلسطيني مادة تنص على ان <<الاسلام هو الدين الرسمي للدولة ومبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع>>. إن هذه المادة التي ستصدر في نص دستوري للقرن الحادي والعشرين تثير الاستغراب حقا، لأنها ستشكل، ببساطة متناهية، انقلابا مدويا على التاريخ المتألق للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. وهذه المادة الدستورية، المنسوخة من الدستور المصري، إذا تسربت الى الدستور الفلسطيني، ستلغي، الى حد كبير، اي نص آخر من طراز: <<جميع المواطنين متساوون امام القانون>>. اي انها ستلغي الاساس الجوهري للديموقراطية والعدالة والمساواة، وستعيدنا، بلا ريب، الى عصر متقادم تجاوزه، منذ اكثر من مئة وخمسين سنة، مفكرون كبار من عيار عبد الرحمن الكواكبي وبطرس البستاني وحتى محمد عبده، وستكون لهذه المادة آثار غير حميدة على مستقبل الشعب الفلسطيني لأنها، في الجوهر، نكوص عن الدولة المدنية الى الدولة شبه الدينية.
إن النص على ان دين الدولة هو الاسلام موروث من زمن السلطنة العثمانية، اي دولة الخلافة. وقد أخذ به الدستور المصري الذي وُضع في عهد الملك فؤاد الاول، وظل يتكرر في الدساتير المصرية كلها منذ سنة 1923 حتى سنة 1971 حينما أُضيفت عبارة <<مبادئ الشريعة الاسلامية مصدر رئيسي للتشريع>> ترضيةً للجماعات الاسلامية التي اطلق الرئيس أنور السادات عقالها لتقف الى جانبه ضد الناصريين والشيوعيين واليسار عموما. وتحت ضغوط متمادية من الجماعات الاسلامية، عُدلت هذه العبارة، في استفتاء خاص جرى في سنة 1980، لتصبح على النحو التالي: <<مبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع>> وليس <<مصدرا رئيسيا للتشريع>>. ولكن، في سنة 1981، قامت هذه الجماعات نفسها بقتل الرئيس أنور السادات على المنصة المشهورة في القاهرة. والأمر نفسه تقريبا تكرر في سوريا في سنة 1950 حينما أثار الاخوان المسلمون موضوع دين الدولة، وطلبوا النص عليه في الدستور. لكن لباقة رشدي الكيخيا، رئيس الجمعية التأسيسية حينذاك، حالت دون ذلك، واقتُصر النص على عبارة <<ان دين رئيس الدولة هو الاسلام>> كما كانت في دستور 1928. وعلى الرغم من ذلك، فقد حاول أسعد الكوراني، وزير العدل السوري، تعديل الدستور بحذف المادة التي تنص على أن دين رئيس الدولة هو الاسلام. وكان الهدف حينذاك انتخاب فارس الخوري رئيسا للجمهورية. وكادت هذه المحاولة تنجح، لولا ان شكري القوتلي الذي كان يسعى الى اعادة انتخابه رئيسا للجمهورية، رفض هذا الاقتراح، ولم يتجاوب مع طلب التعديل بتاتا. وقيل، يومذاك، لولا النقطة في اسم <<الخوري>> لصار فارس الخوري رئيساً للدولة.
لو ان فارس الخوري انتخب رئيسا للدولة السورية، أما كان ذلك مدعاة للافتخار الشديد؟ وأحسب ان هذه الحادثة المضيئة لو وقعت لكانت كفيلة بأن تغير الكثير من مجريات الأحداث التي عصفت بسوريا في أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات في القرن العشرين.
الحركة الوطنية والإسلام
لا ريب في أن النص على ان دين الدولة الفلسطينية المقبلة هو الاسلام يمثل انسحابا من فكرة <<الدولة الديموقراطية>>، والعلمانية ايضا، التي عرضتها حركة فتح في بيانها المشهور الى الأمم المتحدة في تشرين الثاني 1968، وتراجعا انعطافيا حتى عن خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في 13/11/1974، وهو، في الوقت نفسه، تلبيس على تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة منذ قيام الجمعيات الاسلامية المسيحية ثم المؤتمرات القومية فصاعدا.
لنتذكر ان الحاج أمين الحسيني، وهو أبرز زعيم فلسطيني في تاريخ فلسطين الحديث، لم يكن زعيما لتيار سياسي ديني قط، مع انه كان مفتيا للقدس، وعمامته البيضاء هي العنصر الأبرز من بين عناصر شخصيته الكاريزمية. فزعامة الحاج أمين لم تستند الى الدين وحده في اي مرحلة من المراحل، بل الى الإرث الوطني للعائلة الحسينية، وهي زعامة خارقة للطوائف وليست مقصورة على المسلمين وحدهم. والدليل ان أحد أبرز مساعدي الحاج أمين، بل يده اليمنى، هو إميل الغوري، المسيحي. ولعل الكثيرين يعلمون ان من أبرز الذين عملوا مع الحاج امين الحسيني مباشرة عزت طنوس وعيسى نخلة، وهما مسيحيان. وأبعد من ذلك، فإن الحزب العربي الفلسطيني الذي أسسه المفتي وعهد بقيادته الى جمال الحسيني، كان موقع نائب الرئيس فيه مرصودا للوطني الفلسطيني المسيحي ألفرد روك. وهذا ليس من متممات الأحوال او من الفولكلور الفلسطيني، فمنصب سكرتير الحزب احتله دائماً المسيحي خالد فرح. وكان من اعضاء اللجنة التنفيذية ثلاثة مسيحيين ايضا هم: يوسف صهيون وإميل الغوري وحنا خليف فضلا عن عدد من كبار الفاعلين فيه والناشطين في أجهزته امثال: اسكندر حبش وبترو طرزي ونقولا شاهين واسكندر الخوري ويعقوب برتقش وحنا البطارسة وميشال عازر.
الدولة لا دين لها
لم تكن فلسطين، منذ أن رُسمت حدودها في سنة 1916 بموجب اتفاقية سايكس بيكو، بلدا اسلاميا خالصا، بل وطن لجميع أبنائه بصرف النظر عن الأكثرية والأقلية. ففي هذا البلد عاش المسلمون والمسيحيون وطيف من الجماعات الاخرى، كالسامريين واليهود والأحمديين والبهائيين والدروز، بوئام تام، الى ان بدأ المشروع الصهيوني يتسرب بالتدريج الى ارض فلسطين، فراحت امور كثيرة تتبدل ولا سيما في الوسط اليهودي. وكان المسيحيون يشكلون، في بعض الفترات، 40% من مجموع الشعب الفلسطيني. لكن هذه النسبة راحت تتضاءل بسبب الهجرة الى القارة الاميركية، ثم بسبب الاحتلال في ما بعد. ومهما يكن الامر فإن الناس لم تكن تعير أي انتباه لمسألة العدد ومفاهيم الاكثرية والأقلية. وفي جميع الاحوال فإن بلدانا مثل فلسطين ولبنان وسوريا ومصر، على سبيل المثال، لا تُحكم بالأغلبية العددية البتة، بل بالتوافق اولا، ثم بالديموقراطية اولا وأخيرا. ولا يجوز ان يضع الواحد يده على مسدسه كلما سمع ان شريكه في الوطن يريد تطبيق شريعته الدينية على المجتمع.
الدولة لا دين لها بتاتا. أما الافراد والجماعات فلهم دياناتهم بالطبع. والدولة المعاصرة، كشخصية اعتبارية او كهيئة معنوية، فوق عقائد الافراد والمجموعات والطوائف والجماعات المكونة للوطن، وتقف على مسافة واحدة من الجميع. ودولة فلسطين العتيدة ليست وقفا على المسلمين، مع انهم الأكثرية فيها، وانما هي للمسيحيين ايضا، بالتساوي التام مع المسلمين، مع انهم اقلية. أليست فلسطين بلد المسيح والمسيحية معا؟ أما النص على ان دين الدولة هو الاسلام وان مبادئ الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، فضلا عن انه مخالف لروح العصر وللتاريخ المعاصر للنضال الفلسطيني، فسيكون مدخلا للسلفيات المنغلقة كي تطالب، في ما بعد، بتطبيق الشريعة الاسلامية، كما تفهمها هي، على المجتمع الذي يتألف من مسلمين ومسيحيين وسامريين وربما يهود. وستثور السجالات والمخاصمات عندئذ على ماهية الشريعة: هل هي القرآن فقط؟ ام ان الشريعة هي ما أضيف اليها من فقه وشروح وتفاسير؟ هل هي مقتصرة على الآيات الدينية والعبادية فقط أم على النصوص التشريعية ايضا؟ هل هي الآيات كلها ام الناسخ من دون المنسوخ؟ هل هي ما خوطب به المسلمون أم ما اختص به النبي وحده... الخ؟ وبئس ذلك الزمان اذا ثارت فيه مثل هذه السجالات والمخاصمات!
الحكم اليوم في الدول الدستورية يتم بموجب القوانين المتغيرة، لا بموجب النصوص المستقرة. وقانون العقوبات، حتى في الدول الاسلامية، على سبيل المثال، بات قانونا مدنيا، فلا عقوبة الا بنص. وبهذا انتزع من قضاة الشرع عقوبة التعزير. حتى النظم الاستبدادية العربية أخذت ببعض مظاهر العلمانية في مجال العقوبات، فما عادت قوانينها تنص على رجم الزانية وجَلد شارب الخمر وقطع يد السارق واعتبار الردة جريمة، وألغت الجزية وحرّمت الرق وملك اليمين وساوت جميع مواطنيها امام القوانين.
المقبرة أرحب
إن دولة فلسطين المقبلة يجب ان تستمد شِعرها من المستقبل لا من الماضي القديم، اي انها يجب ان تكون دولة ديموقراطية من الباب الى المحراب، فالديموقراطية ليست نظاما سياسيا للحكم فقط، بل نظام للمجتمع التعددي ايضا. والديموقراطية تحرير لارادة المواطن الفلسطيني من قيود العائلة والعشيرة والحمولة والمنطقة، وتأهيل له كي يصبح، في الوقت نفسه، مواطنا حرا مستقلا إزاء الدولة وحيال الطوائف معا. إننا نتطلع الى فلسطين المستقبل كانبثاق بهي في صحراء مترامية، على صورة دولة علمانية تحترم عقائد جميع مواطنيها بلا استثناء، الذين لهم الحق في اتخاذ قوانين خاصة بأحوالهم الشخصية. وللدولة الحق في ان تحمي مواطنيها ممن لا يرغبون في التزام القوانين الدينية، فتصدر لهم قوانين مدنية لأحوالهم الشخصية.
في المقابر الطائفية لا يُدفن ميت من هذه الجماعة الى جانب ميت من الجماعة الاخرى، فلكل طائفة مقابرها. لكن، في مقبرة شهداء فلسطين، عند مستديرة شاتيلا في بيروت، يرقد كمال خير بك وكمال ناصر وغسان كنفاني، ومعهم الحاج أمين الحسيني ايضا. هؤلاء استشهدوا في سبيل فلسطين الديموقراطية العلمانية التي يجد فيها الشعب الفلسطيني حريته فعلا. وللأسف، فإن البعض اليوم يصر على رسم صورة لفلسطين المستقبل أدنى بكثير من صورة مقبرة شهدائها. وليس غريبا هذا الأمر، فللهزائم والانكسارات شأن في هذا التردي.
إن دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية هي النقيض المعاكس للدولة الدينية اليهودية المجاورة. أما الدولة القائمة على الدين، ولو جزئيا، فلا تستطيع ان تكون، في نهاية المطاف، نقيضا، بل مقبرة.
©2003 جريدة السفير