أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بروس لورنس - حل ألغاز بن لادن















المزيد.....


حل ألغاز بن لادن


بروس لورنس

الحوار المتمدن-العدد: 1401 - 2005 / 12 / 16 - 10:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ملاحظة من المحرر: المقالة التالية هي مقتطفات من كتاب رسالة الى العالم: تصريحات أسامة بن لادن، فحص لتعبيرات بن لادن المتداولة يحررها بروس لورنس ويترجمها جيمس هوارث. منشورة بمجلة الأمة [ذي نيشن] بتصريح من فيرسو.

رغم تحول بن لادن الى شخصية اسطورية في الغرب، أكدت الضغوط الرسمية، في معظم الاحيان، أن كلامه يخضع بشكل خفي للرقابة، كما لو كان سماعه بوضوح ودون اختصارات أو مقاطعة سوف ينتج عنه خطورة كبيرة. لا يعني ذلك أن رسائل بن لادن لم تصل الى الجمهور. ولكنها وصلت طائرة على ارتفاعات منخفضة تحت شاشات رادار الحوار الرسمي – للحكومات ووسائل الإعلام – حول الحرب على الإرهاب، ووصلت عبر المجالات البديلة، وحتى الآن محصورة بين الناطقين بالعربية.

ولد أسامة بن محمد بن لادن عام 1957 في السعودية. والده كان عاملا يمنيا أميا من حضرموت مكنته فطنته في عالم الأعمال من الحصول على عقود بناء للأماكن المقدسة، ومن أن يكون موضعا لثقة آل سعود. عندما مات الأب فجأة عام 1968، ترك محمد بن لادن ثروة تساوي 11 بليون دولار لأطفاله الأربعة وخمسين، من عشرين إمرأة أو أكثر. أم بن لادن، التي كانت سورية، طلقت سريعا من أبوه وتزوجت مرة أخرى من يمني آخر. مات أبوه وعمره عشر أعوام. درس بن لادن الصغير علوم الإدارة والعلوم الاقتصادية بجامعة الملك عبد العزيز في جدة. رغم أنه كان طالبا مهملا في دراسته للعلوم التجارية، قام بن لادن بعدة دورات دراسية في الدراسات الإسلامية على يد عبد الله عزام ومحمد قطب واللذان أثرا عليه بعمق. عزام (1941-1989) كان من الاخوان المسلمين في فلسطين. درس عزام في جامعة الأزهر بالقاهرة في أوائل السبعينات، قبل أن ينتقل الى جدة عام 1978. محمد قطب هو الأخ الأصغر لسيد قطب، المفكر المصري الذي أصبح صوتا قويا للاحتجاج الراديكالي الاسلامي ضد كلا من القومية الربية والهيمنة الغربية في زمن عبد الناصر، والذي أعدم في 1966. ينسب بن لادن بداية انتباهه السياسي الى عام 1973، عندما ضمن جسرا جويا أمريكيا نصرا اسرائيليا على مصر وسوريا في حرب يوم كيبور، وفرض الملك فيصل حظرا مؤقتا على تصدير البترول الى الغرب.

بعد تركه للجامعة دون ان يكمل درجته العلمية، دخل بن لادن امبراطورية والده لمقاولات البناء. وفيما يبدو أنه إما قد تطوع أو التقطته الرياض، وما زال رجلا صغيرا، ليساعد في تنظيم تدفع الأموال والتجهيزات السعودية للمجاهدين الذين رفعوا السلاح ضد نظام الحكم الذي يدعمه الروس في أفغانستان. وصل بن لادن أول مرة الى بيشاور عام 1980، على الحدود بين افغانستان وباكستان، وقد كان عمره 23 عاما فقط. هناك عمل مع عزام، مساهما في دوريته المجانية الجهاد، في الوقت الذي كان يؤسس لأعماله في بيشاور، منزل ضيافة للمجندين العرب للجهاد ضد الاتحاد السوفيتي. ما سمي سجل القاعدة الذي عرف فيما بعد باسم "القاعدة". في هذا الوقت، تعاون بن لادن بشكل لصيق مع الأجهزة السرية الباكستانية، أو الـ (ISI) (وكالة الاستخبارات للخدمات المتبادلة)، والاستخبارات المركزية الأمريكية، الجهتين الخارجيتين الرعاة للمجاهدين. ربما كان بن لادن غير مستريح لعلاقته بالاستخبارات المركزية الامريكية – وقد أنكرها تماما فيما بعد – ولكن لا يوجد دليلا معاصرا على اشكاليته الأخلاقية.

بالتمويل الأمريكي السعودي، وبخبرته الخاصة في المقاولات، ساهم بن لادن في بناء القواعد الجبلية، بما فيها شبكة الكهوف المعقدة فيما بات يسمى تورا بورا.

عندما انسحبت القوات السوفيتية من أفغانستان عام 1989، سحب التمويل الأمريكي فجأة. العرب الأفغان الذين صلبت قلوبهم الحرب، والمنقسمين بشكل كبير بين جماعات قومية، تركوا يتامى ومتنازعين بين بعضهم البعض في بيشاور. بقيت فقط معسكرات التدريب، استخدمت خلال العقد التالي بواسطة الاستخبارات الباكستانية من اجل الجهاديين الأفغان والكشميريين. في 1990، عاد بن لادن الى السعودية. هناك، عرض بن لادن تنظيم قوة مقاتلة من المحاربين العرب الأفغان للدفاع عن المملكة ضد الخطر الناتج عن غزو صدام حسين للكويت. لم ترفض وفقط العائلة المالكة السعودية عرضه ولكنها دعت نصف مليون أمريكي وقوات اجنبية أخرى الى البلاد من اجل حماية العرش. لقد كانت تلك القوات الكافرة هي التي شنت عمليات عاصفة الصحراء ضد العراق. لقد كان وجودهم في الأراضي المقدسة ينال رضا وبركة كبار علماء السعودية، بما فيهم الشيخ عبد العزيز بن باز، المفتي الأكبر للمملكة، بالإضافة الى شيخ الأزهر في القاهرة. طلبة المدارس الدينية والآخرون الذين احتجوا على ذلك واجهوا مضايقات أو اعتقلوا بواسطة السلطات السعودية. بين لادن كان من بين هؤلاء. بن لادن، الذي كان رهن الإقامة الجبرية في منزله، استطاع مغادرة السعودية ورحل الى السودان عام 1991. كان لا يزال عمره 34 عاما فقط.

طوال السنوات الخمس التالية، استقر بن لادن في منطقة سكنية واسعة في ظل حراسة مشددة خارج الخرطوم، تحت حماية النظام السوداني العسكري، الذي كان في ذلك الوقت على صلة بالزعيم الإسلامي المتشدد حسن الترابي. العرب الأفغان الآخرون، بما فيهم المصري الذين أصبح منذ ذلك الوقت أكثر مساعدي بن لادن أهمية، أيمن الظواهري، انضموا اليه هناك. بن لادن، رغم استمراره في نشاطه التجاري كرجل اعمال في السودان، يبدو أنه نظم أيضا وصول محاربي العرب الأفغان الى الصومال. وهذا ما جعله فيما بعد يدعي أنهم هم، المجاهدون "الحقيقيون"، الذين وجهوا ضربة حاسمة ضد القوات الأمريكية التي وصلت الى هناك تحت مظلة الأمم المتحدة في 1993 ولكنهم سرعان ما انسحبوا بعد تعرضهم لنكسات مهينة.

من المفترض أن بن لادن كان يحاول أيضا تنظيم معارضة تحت الأرض للنظام في الرياض. حاولت السلطات السعودية اغتياله عديد من المرات، دون نجاح. في 1994، نزع السعوديون عنه الجنسية السعودية. بنهاية العام رد بن لادن على ذلك بأول بيان عام كبير: هجوم على مباركة المفتي الأكبر بن باز لاتفاقات أوسلو، وصدر البيان من لندن بواسطة لجنة النصيحة والإصلاح التي تأسست حديثا. كان البيان تعبيرا عن السخط الذي يشعر به المسلمين الراديكاليين على "ردة" الحكام العرب الذين يتعاونون مع الغرب.

في مايو 1996، عاد بن لادن وحاشيته الى أفغانستان، للالتجاء في جبال تورا بورا، شمال جلال آباد. في سبتمبر، استولت طالبان على كابل وعلى مدى العامين التاليين فرضت، بدعم باكستاني، حكما موحدا بأقصى قدر عرفته تلك البلاد منذ سقوط الشيوعية الأفغانية. بعد ذلك بستة أشهر، ترك التفجير المتزامن للسفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا أكثر من 200 قتلى ومزيد من الجرحى، بخسارة فادحة في الأرواح. حصل بن لادن الآن على شهرة عالمية. بعد ذلك بثلاث سنوات، اختطف مقاتلي القاعدة أربع طائرات في الولايات المتحدة وفي مهمة انتحارية نسفوا مركز التجارة العالمي ودمروا بشدة مبنى البنتاجون، ليقتلوا 3000 شخص، معظمهم من الأمريكيين.

نمتلك لمحات عن شخصية بن لادن، ويظل الباقي غامضا حول الرجل. من الواضح أن قليل من مساعديه الأوائل قد شاهدوه كقائد محتمل. السفير السعودي المعين حديثا في واشنطن يتذكره "كشخص خجول جدا، متواضع جدا، وقليل الكلام بشكل زائد، عموما هو رجل يفعل الخير". ولكن هل من الممكن أن شيئا ما من روح والده تحركت داخله من البداية؟ محمد بن لادن نشأ من الصفر الى ثروة لم يشهدها أحد في ظل الثروة البترولية للسعوديين، في مهنة ينخرط فيها العديدون كلعبة قمار. يبرهن بن لادن على نفسه كمغامر يتحمل المخاطر الشديدة مثل والده، ولكن بطريقة أخرى.

خرج بن لادن من وسط مسلمين مسالمين، من داخل نظام عالمي يهيمن عليه الغرب، وجمع حوله مؤمنين تابعين في سعي ليس نحو الثروة ولكن الجهاد، دون اي إغواء بالرفاهية، ولا الاحتراف ولا الراحة العائلية. في تلك القضية، لا بد وأنه قد ورث بعض من مواهب والده العملية. فهو توا وقد بلغ العشرين من العمر يبدو مديرا على كفاءة ومتمكن، يرأس مشروعات بناء واسعة ومعقدة، مطبقا مهارات تنظيمة فطرية سوف يستخدمها لاحقا لشق قنوات للأموال والتجهيزات السعودية للأفغان. خلق شبكة دولية من النشطاء الذين يقدمون التضحيات والتخطيط اللوجستي المعقد لـ 9؟11، مشتركا بهذه المجموعة الصغيرة من المساعدين، يمكن النظر إليه كذروة انجازات هذا الجانب من بن لادن.

ولكن مع تلك المواهب التنظيمية وحدها، والتي تعاظمت كما هو قائم بواسطة الموارد المالية الوفيرة المتاحة بين يديه، لن يكن لها أن تعطيه هذا الوضع الذي يتمتع به في العالم الإسلامي. هذا الوضع يعود الى قيم انسانية اخرى. بن لادن ليس مفكرا أصليا. معظم أفكاره تنبع من كتابات معلميه الأوائل، خصوصا كتابات عبد الله عزام التي تحض على أن الدفاع عن أرض المسلمين هو أعظم فريضة على كل مسلم فرد، والذي نشره في كتاب في بيشاور 1985، وقد طرح فيه دراسة حالة متكاملة لجهاد الفرد ضد الغرب. ولا كان بن لادن عالما قرآنيا بارزا: حيث ينقصه امتلاكه ناصية التدقيق النصي التي تميز المفسرين الوهابيين ونظراءهم الأزهريين في القاهرة. إلا أنه متبحر في كتب السلف الكلاسيكية والتقاليد والأعراف الإسلامية، ويستخدم ذلك لمصلحة منطقه بمهارة. إنه ينتقل بطلاقة بين آيات القرآن كما لو كان هو مرشده في حياته اليومية، كما لو كان معينا يستطيع حتى الأمي أن ينهل منه القوة كرجل مسلم تقي وكمدافع عن التغيير الراديكالي داخل العالم الذي يكابدون فيه العيش مع الآخرين الذين ينقص إسلامهم. هذا المستوى من التعلم، الحقيقي إن لم يكن فوق العادة، يمنح بياناته أساس السلطة الدينية. ما يعطي بياناته تلك القوة الفريدة، هي مواهبه الأدبية مع ذلك. اكتسب بن لادن عدد من الأوصاف حتى الآن – المتطرف، العدمي، الأصولي، الإرهابي – ولكن ما يميزه فعلا، من بين جمهرة توصف بنفس الأوصاف، هو أنه الأول والبارز في مقارعة الحجة بالحجة.

بالنسبة لملايين المسلمين في انحاء العالم، بما فيهم العديد ممن لا يتعاطفون مع الإرهاب، بن لادن شخصية بطولية. جاذبيته العالمية تقوم على ليس فقط نجاحه في مراوغة الأمريكيين وحلفائهم والإفلات منهم، رغم ما يقابله ذلك من انتعاش بين صفوف العديد من المسلمين العاديين. تعود تلك الجاذبية الى شهرته الشخصية بالنزاهة والصرامة والكرامة والشجاعة على النقيض من سوء إدارة وما يشبه عدم كفاءة معظم الأنظمة العربية. وعلى عكس الحكام، أظهر بن لادن استطاعته أن يتفوق على إغراء الثروة، وأنه يجرؤ على توجيه ضربات ضد الكافرين الأقوياء وعلى أنه يرفض الانحناء أمام السطوة الجبارة.

هل الغرب على خطأ في تسميته إرهابي؟ رسائل بن لادن تشرح أن، باعترافه الخاص، سوف تكون الاجابة هي لا. يعترف بن لادن دون إكراه أنه مارس الإرهاب. ومع ذلك، ما تقوله رسائل بن لادن بشكل ثابت هو أن هذا الإرهاب هو رد فعل – رد على ما يحسه انه الارهاب الاعظم الذي يمارسه الغرب من وقت طويل لا يقارن. تتباين تعريفات الإرهاب بشدة: من المعروف جدا أن العديد من هؤلاء الذين يكرمون داخل مجتمعاتهم كمحاربين من أجل الحرية، ويقبلون كرجال دولة محترمون من قبل القوى المختلفة، هم من الذين كانوا يوسمون سابقا بأنهم إرهابيون، مسئولين عن قتل المدنيين الأبرياء – ويبرز وسط هؤلاء قادة اسرائيليون مثل مناحم بيجن وشارون. بهذا المعنى، ابتكار بن لادن الرئيسي كان هو تنظيم العمليات الإرهابية التي تتم على بعد آلاف الأميال من المناطق التي يسعى لتحريرها. ولكن ذلك كما يصر هو يصبح في حد ذاته ثأرا فقط من تصرفات عدوانية سابقة لا حصر لها قام بها الغرب في العالم الإسلامي، الذي يقع على بعد آلاف الأميال من البلاد المسيحية. طوال 200 عام حتى الآن، خضعت الأمة لهجوم جاء أولا من الغزو الفرنسي لمصر في أواخر سنوات القرن الثامن عشر والاستيلاء على المغرب في القرن التاسع عشر، واستيلاء بريطانيا على مصر وإيطاليا على ليبيا، والتهام كامل الشرق الأوسط بين بريطانيا وفرنسا بنهاية الحرب العالمية الأولى، ورعايتهم لاستعمار اليهود لفلسطين، وتنصيبهم زورا لحكام مستقلين اسميا في الجزيرة العربية، حتى السيطرة الأمريكية المعاصرة على المنطقة بأكملها.

ولو تكلمنا موضوعيا، فبن لادن الآن يشن حربا ضد ما يسميه العديد – من المعجبين به إضافة الى منتقديه – الإمبراطورية الأمريكية. ولكن من الحاسم أن نلاحظ أنه لم يستخدم بنفسه أبدا هذا المصطلح. كلمة "الإمبريالية" لم ترد مرة في اي من رسائله التي أرسلها للخارج. إنه يحدد العدو على نحو مختلف. بالنسبة له، الجهاد لا يستهدف سلطة ما ولكنه يستهدف "الكفر العالمي". مرات ومرات، تعود نصوصه الى هذا التقسيم الثنائي الجوهري. الحرب هي حرب دينية. الحرب السياسية تندرج تحت منها، والتي يستطيع شنها بمصطلحات تناسبها، كما يشرحها في رسائله لشعوب أوروبا وأمريكا. إلا أن المعركة في النهاية هي حول عقيدة واحدة.

إذا ما هو مستقبل القضية التي يستعد بن لادن لتقديم حياته في سبيلها؟ من الواضح أن ما دفعه من الأصل لهذا العمل الطموح بشكل ضخم الذي يحمله على عاتقه كانت الثقة التي ولدها انتصار المجاهدين على الجيش الأحمر في افغانستان، ثم تلاها انسحاب الجيش الأمريكي من الصومال في 1993. لو أمكن هزيمة أحد القوتين العظميين، بل وحتى تدميرها، بالمقاتلين من أجل العقيدة، لماذا لا يمكن هزيمة الأخرى، والتي أثبتت حتى أنها أقل عنادا من مثيلتها في مقديشيو؟ هذا الحلم تأسس على خطأين عظيمين في الحسابات. مثل عديد من الثوار – الروس بعد 1917، والكوبيين بعد 1959 – تجاهل بن لادن ومساعدوه الظروف الخاصة التي منحتهم النصر في مجتمع واحد، وتخيلوا أنه يمكن تكرار توليدها مع نفس التكتيكات في مجتمعات أخرى. ولكن أفغانستان لم تكن مثل اي بلد آخر في الشرق الأوسط: تطورها الاقتصادي والحضاري كان أقل كثيرا، وعرقيا أكثر انقساما، وجغرافيا أكثر وعورة، مع تقاليد خاصة في حرب الجبال ومقاومة الغازي. حتى ومع ذلك، احتاج الأمر الى كميات كبيرة من التمويل والتسليح الأمريكي، ودعم كامل من دولة باكستان، من أجل انتصار المجاهدين.

امتناع بن لادن عن الاعتراف بقيمة هذه المساعدة كان يعني أنه فيما بعد بالغ في تقدير وزن الطالبان وقدراتهم، وانعزاله عن اي دعم خارجي، للوقوف في وجه الهجمة الأمريكية اللاحقة. التجربة الأفغانية لا يمكن تكرارها في أي مكان آخر؛ لقد كانت أفغانستان أقل مناعة مما كان يتخيله. بالنسبة للصومال، الإنزال الأمريكي بلا داعي هناك، لكونه قضية علاقات عامة أكثر من كونه عمليات استراتيجية، لم تكن مقياسا لقوة البنتاجون. يبدو أن تأثير كلا من أفغانستان والصومال هو أنه ببساطة ضلل بن لادن في أوهام انقلاب الولايات المتحدة وضعفها.

واحد من أهم السمات البارزة التي تظهر من خلال كل النصوص في الرسائل الى العالم هو غياب أي بعد اجتماعي. على المستوى الأخلاقي، بن لادن يقف ضد حزمة من الشرور. بعضها – البطالة، والتضخم والفساد – اجتماعي. ولكن بلا تقديم لتصور عن المجتمع الفاضل البديل على الاطلاق. هناك تقريبا نقصان تام لأي برنامج اجتماعي. وهذا وحده يوضح وضوحا جليا كم تتميز القاعدة كظاهرة. نقص اي مجموعة من المقترحات الاجتماعية يفصل القاعدة ليس فقط عن جماعة الجيش الأحمر والألوية الحمراء، التي كانوا يقارنونهم بالقاعدة خطأ في بعض الأحيان، ولكن – وهو الأكثر مغزى – يفصلها عن الموجة الأولى من الحركة الإسلامية الراديكالية، التي كان مفكرها الرائد هو محطم الأوثان العظيم سيد قطب. في مكان الاجتماعي، هناك التضحية بالنفس بضخامة الورم. رسائل بن لادن نادرا ما تمسك برؤية مضيئة لنصر نهائي. المكافأة تنتمي عنصريا الى الآخرة. تلك هي عقيدة النقاء الأعظم ونذر النفس، القادرة على إلهام أتباعها بدرجة من الحماس والاعتقاد القائم على المبدأ لم تستطع حركة علمانية واحدة في العالم العربي أن تضاهيها.

في نفس الوقت، إنها بشكل واضح عقيدة ضيقة ومحدودة بنفسها: قد تكون لها جاذبية قليلة على الكتلة الأكبر من المؤمنين، الذين يحتاجون لأكثر من فرائض نصوصية، ومحطات شعرية، ووصفات ثنائية لتخطيط حياتهم اليومية، سواء كانوا أفراد أم أعضاء في مجتمعات، أم مجتمعات أقليمية أو قومية. فوق كل شيء، ليس هناك اندفاع لإقامة الخلافة مرة أخرى اليوم. يبدو أن بن لادن في مستوى معين يدرك عقم الكفاح من أجل استعادتها. فهو لا يضع اي افق سياسي لكفاحه. بدلا من ذلك، يصرح بن لادن أن الجهاد سوف يستمر حتى "نلقى الله ونحصل على بركته".

رغم هذا الضعف المعيق، قوة جاذبية بن لادن أكثر من أن تكون قد نفدت. السبب في ذلك شديد الوضوح. ليس فقط هو إساءة تعامل الغرب الطويل مع منطقة الشرق الأوسط، والذي يعطي حركته قوتها المعنوية، والتي لم تصحيحها بأي حال منذ بدأ كفاحه. ولقد استفحل خطأ هذه السياسة بشكل مؤذ بواسطة الاحتلال الانجلو امريكي للعراق، التي حطت بهوان توراتي ودمار وفوضى على ثالث الأرض المقدسة للأمة (بعد مكة والمدينة والقدس). لو ان المسلم العادي كان يشك في الاتهامات التي كان ينسبها بن لادن للغرب قبل غزو مارس 2003، وكل ما تلاه، فاليوم القلة القليلة جدا هي التي سوف تنكر ذلك. في مشاهد الجحيم تلك على الأراضي التي نتجت عن تدمير العراق، المقاتلين المخلصين الذين ألهمتهم دعوة بن لادن تسربوا زرافات للقيام بعمليات انتحارية، بالتوازي مع المقاومة الوطنية التي تعلمت كيف تتعاون معهم. صفوف الجهاديين يستعيدون تجميعها مع كل اسبوع تظل فيه القوات الامريكية وحلفاءها هناك. هل يمكن وقف المذبحة تلك حتى تنسحب القوات من هناك أم أن هناك طريقا آخر للخروج لحفظ ماء الوجه؟

مصير بن لادن نفسه يظل مجهولا. إذا لم يمت في سريره بمخبأه، يبدو أنه إن آجلا أو عاجلا لا محالة سوف يمسك به مطاردوه. إذا ما وقع في الأسر حيا، سوف يقتل في مكانه دون شك، كما قتلوا جيفارا منذ أربعين عام. آسروه سوف يعرفون أن لا جدوى من تعذيبه حتى يدلي بمعلومات، حيث أن قواده بين أيديهم؛ بينما تقديمه للمحاكمة سوف يخاطر بوضعهم في التباس كبير بالنسبة لهؤلاء الذين يحاولون محاكمته، مع الوضع في الاعتبار فصاحته وتاريخه الشخصي. بن لادن غير مشغول بالطريقة التي سوف ينتهي بها:

لذا دعني أكون شهيدا،
اسكن أعالي ممرات الجبال
بين عصبة فرسان نبلاء،
توحدوا في محبة الله،
يهبطون ليقابلوا الجيوش.
هذه القصيدة، التي تلخص موعظة العشاء الأخير، يمكن أن تكون النقش الذي يكتب على ضريح بن لادن.


30 نوفمبر 2005.



#بروس_لورنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...
- بلينكن يأمل بإحراز تقدم مع الصين وبكين تتحدث عن خلافات بين ا ...
- هاريس وكيم كارداشيان -تناقشان- إصلاح العدالة الجنائية
- ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟
- عراقيل إسرائيلية تؤخر انطلاق -أسطول الحرية- إلى غزة
- فرنسا تلوح بمعاقبة المستوطنين المتورطين في أعمال عنف بالضفة ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بروس لورنس - حل ألغاز بن لادن