أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة عرابي - ثلاثية جلبيري..سؤال التاريخ والذات الكاتبة















المزيد.....


ثلاثية جلبيري..سؤال التاريخ والذات الكاتبة


أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)


الحوار المتمدن-العدد: 5180 - 2016 / 6 / 1 - 21:44
المحور: الادب والفن
    



"ثلاثية جلبيري أفلاطون-عبد الله:حدائق الزمن الماضي-رحلة السجون-من موت لآخر"،الصادرة عن"المركز القومي للترجمة"،في سلسلة"الإبداع القصصي"،عام 2015،بترجمة ضافية رصينة للأساتذة"سهير فهمي،ونجاة بلحاتم،وماجدة الريدي"،وتقديمٍ للدكتورة أمينة رشيد،هي ثلاثية:الحب،والشعر،والحرية.الحب بوصفه شرطًا إنسانيًّا للحياة،وللتحقق،وللوعي بالذات وبالعالم،من خلال رؤية متماسكة لجوهر الواقع،ولعلاقاته المتعددة،أي من خلال ارتباط وثيق بين الخاص والعام.والشعر بحسبانه لحظة مسكونة بالمغايرة والاختلاف،باتجاه التمرد على القوالب الجامدة،والتحرُّر من الأنساق المغلقة،وكُوَّة مُشْرَعة على العالم بحيواته وتعدديته،والقدرة على ضبط النغمة،واختبار اللغة،والاقتصاد في التعبير.والحرية باعتبارها تمردًا على الأساطير السياسية والاجتماعية والاقتصادية،وكل أشكال الاستلاب الرديئة للإنسان،واكتشاف لحظات التحوُّلِ بمتغيراتها المتعددة على صعيد القيم والأفكار والثقافة والمفاهيم.وبذلك قدَّمت"ثلاثية جلبيري"عملًا روائيًّا يمتح من سيرة الكاتبة الذاتية،عبر صياغة فنية تتوسل اليوميات تقنية لها،ولا تلتزم فيها بتعاقب زماني أو مكاني للأحداث،بل بتطوُّرٍ للمواقف والمواضعات يأتي وفق ورودها في وعي الساردة،وحضورها في عالمها؛مما يُضفي عليها دلالات أشمل من وجودها الواقعي،مُحقِّقة التوازن بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي،بين ما هو تاريخي وما هو ثقافي، في إهاب الصيرورة الاجتماعية والسياسية؛بما يجعل الذات العارفة منفتحة على حُزمة معرفية تُحدِّد توجُّهَ قراءتها النقدية للأحداث،وتأويلها لها،وموقعها فيه.لهذا استطاعت الشاعرة والقاصة والروائية والمسرحية"جلبيري أفلاطون-عبد الله"أن تُقدِّم لنا تأريخًا فنيًّا للواقع المصري في القرنيْن التاسع عشر والعشرين،في تحولاتهما الإنسانية والقيمية،وتحليلهما في توترهما الدينامي،مع الكليَّة الاجتماعية- التاريخية،من خلال ممارسة جمالية نقدية تتوخى استعراض القيم التقليدية للأرستقراطية المصرية،ومنظومة مراتبها وطقوسها وعاداتها،ثم ضمورها وتحللها،وبزوغ ثورة يولية،وما أحدثته من تغييرات في قاعدة المجتمع الاقتصادية،وبنيته الفوقية الإيديولوجية،عامدة إلى إعادة بناء الذاكرة باتجاه استدعاء واقع مُغيَّب أو مُهمَّش،وتسليط الأضواء عليه،عبر المراقبة اليقظة،واستنطاق الوقائع.غير أن ما يُحسب لصاحبة هذه التجربة الثريَّة،هو تحليها بفضائل التواضع وإنكار الذات،وعدم ادعاء أدوار لم تكنْ لها يومًا؛لهذا لا نعثر على امتداد صفحات الكتاب التي ربت على ثمانمائة صفحة،ما يشي بأنها"المناضلة النِّحريرة"،أو"الشاعرة الكبيرة"،أو"الأرستقراطية الفاضلة"،أو ما شاكَلَ ذلك من نعوت وألقاب،بل نجدها حريصة طَوال الوقت على أن تُؤكِّدَ لنا أن مُشاركتها لرفيق دربها المفكِّر والعالِم الاقتصادي والقائد اليساري،ووزير التخطيط الأسبق د.إسماعيل صبري عبد الله رحلته السياسية المَجيدة،إنما هي"مُشاركة متواضعة على الهامش،ولكن عن اقتناع"،مُضيفة:"عليَّ أن أعرف أن اقتناعاتي هي التي تدفعني إلى مُساندته،وأنا مزودة بكل حبي.هي التي تكبت مخاوفي،وتُذيب الإهانات التي أتعرض لها،وتبعث في أوصالي الشجاعة،وتقود كلَّ أفعالي،وتدفعني للإصرار على طَرْقِ الأعتاب المغلقة"،ثمَّ تابعت بقولها:"هي(اقتناعاتي)التي تُعطيني القوة لضبط عفويتي قدر الإمكان،وتحجيم صراحتي والانتباه إلى ما أتفوه به من كلام.قررتُ بالغريزة الدفاع عن رفيق حياتي"،بعد أن تعرَّض في"السجن الحربي"عام 1955(وهذا غير ما تعرَّض له من أهوال أخرى في حملة يناير 1959) للتعذيب الوحشي وكيِّ فخذيْه ورجليْه،وجلد ظهره بالكرابيج واقتلاع أظافره، على مدى ثلاثة أيام.لم ينبس إسماعيل بكلمة،ونقل وهو على حافة الموت؛حيث أُودع في سِريَّة تامة"؛على خلفية اتهامه ب"الانتماء إلى الحزب الشيوعي المصري،ومحاولة الإطاحة بالحكم"،وإجباره على الإفصاح عن هُوية الرفيق"خالد"(د.فؤاد مرسي) سكرتير الحزب،والتخلي عن أفكاره ومبادئه،ولمَّا أحبطهم صموده على الوصول إلى شيء،"حرقوا جسده بالسجائر؛لإجباره على الاعتراف بكونه سكرتير الحزب".وظلت وفيَّة لحبهما الكبير الذي صالحَ بين الوجود والقيمة،بين الحقيقة والموقف،بين المسؤولية والحرية.لذا وحَّدت بينهما(جلبيري ود.إسماعيل صبري عبد الله) مسيرة تشكَّلت باختيارات حُرَّة،وامتلاء وجودي بالحياة،من خلال موقف جِذري من مجمل المواضعات والتناقضات الاجتماعية والسياسية،فجمع بين الشاعرة والسياسي حوار خلَّاق قائم على النقد والتواصل من غير أن يفتئتَ أحدهما على الآخر؛فكلاهما يمتلك لغته التي تُعينه على تفكيك الواقع،وإعادة تركيبه في ضوء جديد؛فإذا كان د.إسماعيل صبري عبد الله مرتبطًا بحركة سياسية وبمشروع وطني يرميان إلى صياغة راديكالية لأسئلة المجتمع الحقيقية،وبلورتها بما يتناغم ومستقبل الوطن الاشتراكي؛توطئة لانتقال الإنسانية من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحريَّة،فالشاعرة جلبيري أفلاطون(التي لقبوها ببولي أو بامبولي للتخفيف) تؤمن بأن كل إبداع فني هو إبداع لشكل جمالي مُغاير للواقع،وله القدرة على تجاوزه وإكسابه دلالة إنسانية كُليَّة الحضور،ترفع الجزئي إلى مستوى العام.وعلى هذا النحو،مضيا معًا في طريق واحد؛من أجل دفع حركة التاريخ إلى حدِّها الأقصى،إلى المجتمع اللاطبقي.تقول جلبيري أفلاطون:"رجاني إسماعيل منذ فترة ألَّا أسأله أسئلة عن نشاطاته السريَّة.كلما عرفتِ أقلَّ؛كان هذا أفضلَ.فتعلمتُ إذن أن أقبل غيابه،ومن حين إلى حين يشرح لي موقف حزبه من أشياء معينة،ويترجم لي أحيانًا فقرة مطبوعة في جريدتهم السريَّة،ولسنوات طويلة لم أعرف الاسم الحقيقي لسكرتير الحزب الذي يُوقّع"خالد"،ولا الاسم الحركي لزوجي"؛ومن ثَمَّ ترك لها حريَّة الاختيار بين الانضمام إلى حزبه الوليد،أو البقاء على هامشه؛مُقدِّرًا روح الفنان داخلها،وما تنزع إليه من فردية،وتوثب جمالي يتخطى الفهم الميكانيكي لعلاقة الأدب والفن بالواقع المادي،ولم يفرض عليها الانخراط في حزبه الجديد الناشئ لتمصير الحركة الشيوعية،وتخليصها من سيطرة الأجانب على قيادتها،بعكس شقيقتها إنجي الفنانة التشكيلية الكبيرة،التي انتظمت في عضوية الكادر السياسي للحزب الشيوعي المصري الذي أُسِّس في أواخر عام 1949،وبواكير عام 1950،ونهضتْ بمهامّ وأدوار،"أترك أختي إنجي وإسماعيل يحتسيان القهوة في المكتبة،وأطلب منهما أن ينادياني عندما ينتهيان من مناقشتهما،ولكن لا تتأخر أختي،وعندما تنتهي جلستها السياسية مع زوجي تنصرف"،وذلك على الرغم من ارتباط جلبيري في باريس بعدد من الطلبة اليساريين أو الشيوعيين الذين كانوا يلتقون من وقت إلى آخر في "مكان آمن للنقاش حول الموقف السياسي في مصر"،وانضمامهم بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي الفرنسي بقرار جماعي لفترةٍ من الزمن؛حيث كُلّفتْ "مع أربع نساء بدراسة أوضاع المرأة الحياتية في أمريكا الجنوبية وإسبانيا والهند وفي العالم أجمع،وبالطبع في مصر"،وإلحاحها كثيرًا على منظمتها"أن تعترض على حكومة بلدي بسبب القبض العشوائي على المناضلين"وفق تعبيرها.إذن..كان انتماؤها إلى الحركة اليسارية انتماء إلى فكرة لا إلى حزب،أي إلى معنى يحتفي بالتحرُّرِ الإنساني؛من أجل بناء عالم أفضل ينسجم وإرادة البشر."ليس لإسماعيل الوقت الكافي لقراءة ما أكتبه.ساعات وحدتي طويلة،لكنني قرَّرت استغلالها.شرعتُ في كتابة مسرحية لم تكتمل"وردة رايرمون"(رايرمون هي القرية التي وُلِدَ فيها زوجها د.إسماعيل صبري عبد الله،وتتبع مركز ملوي بمحافظة المنيا) ."النص جيد"،قال لي مصطفى صفوان بعد قراءة أوراقي،ثم أضاف:عليكِ أن تستمري."،تقول جلبيري.فحياته موزعة بين"محاضراته في الجامعة،واجتماعاته السريَّة،وعمله مستشارًا اقتصاديًّا لرئيس الحكومة حينذاك جمال عبد الناصر"على حدِّ قولها،ولا يتبقى له من الوقت ما يُنفقه،على الرغم من غنى ثقافته العامة،وحرصه في باريس على اصطحابها إلى السينما والحفلات الموسيقية والمعارض الفنية،وعشقه للرقص مثلها،"ونهمه الذي لا يرتوي إلى المعرفة حسب تعبيرها،ما يُنفقه في مواكبة ما تُبدعه زوجه من أدب؛سواء كان شعرًا(على نحو ما يشهد به ديوانها المكتوب بالفرنسية"أحجار على الطريق"،وتحمستْ لنشره دار بيير سيجرس الني تُعْنَى بالأدب الحديث)،أو رواية (النيل)،أو مسرحية (وردة رايرمون)،أو قصة قصيرة (21فبراير التي أعجبت الكاتبة إلزا تريولييه رفيقة درب الشاعر والروائي والناقد الفني الفرنسي الكبير لويس أراغون،وملهمته،والتي حازت جائزة غونكور الأدبية الرفيعة عام 1945؛فنشرتها لها في الصفحة الأولى من مجلة الليتر فرنسيز"الآداب الفرنسية").كما كان د.إسماعيل مدرسها الذي بدأ معها دروس تعلُّمها اللغة العربية في باريس،بترشيح من د.مصطفى صفوان العالم النفساني المصري المعروف،وأحد أبرز ممثلي الاتجاه اللاكاني(نسبة إلى جان لاكان)في مدرسة التحليل النفسي الفرويدي؛حتى تأتي لغتها بريئة من لحن المتهاونين،وعُجمة المترجمين.بَيْدَ أن انشغالاته هذه لم تُلغِ تثمينه لمواهبها وإمكاناتها الأدبية المتفردة التي كانت محلَّ تقدير خاص من شعراء كبار،من طراز:الشاعر الفرنسي لويس أراغون وعقيلته الكاتبة إلزا تريولييه التي تنحدر من أصل روسي،يصلها بشاعر الثورة الروسية الكبير مايكوفسكي، والشاعر الفرنسي بول إيلوار،والشاعر الروماني مؤسس الحركة الدادائية،وأحد أعمدة المذهب السريالي تريستان تزارا بشكل خاص،الذي استقبلها في بيته،وفتح لها الباب بنفسه،وناقشها فيما كتبته من شعر،مُبديًا إعجابه به،قائلًا بملء فِيه:"أنتِ شاعرة يا بولي؛شاعرة جيدة"،ونصحها بنشره في دار بيير سيجرس،من خلال السلسلة الصغيرة التي كرَّستها للشعر.
فمنْ هي إذن جلبيري أفلاطون؟
ولدت في سراي العائلة بشبرا عام 1923لعالِم الحشرات المصري المرموق د.حسن أفلاطون عميد كلية العلوم- جامعة القاهرة،الذي استقال من منصبه احتجاجًا على تدخل العسكريتاريا اليوليوية في شؤون الجامعات المصرية،وفرض وصايتها الأمنية عليها،وفصل عدد كبير من أساتذتها بدعوى"التطهير"،حتى إن أحد هؤلاء الضباط طلب منه"ببجاحة ووقاحة إيصالات المصاريف المدفوعة على البحث العلمي،وسأل الأساتذة والطلبة الذين يُسافرون في رحلات علمية إلى الصحراء،عن عدم عودتهم بجراكن البنزين وهي فارغة،فأجاب عليه والدي وهو مستاء:لأننا نتبول فيها!"طبقًا لما ذهبت إليه المؤلفة.وللسيدة "صالحة"بنت عم زوجها د.حسن أفلاطون،وصاحبة"بيت أزياء صالحة للخياطة الراقية"،الذي وقَّع معها طلعت باشا حرب مؤسس الاقتصاد المصري،عقدًا يقضي بمدها بالأقمشة المُصنَّعة في مصنعه الجديد؛لتستثمرها في تصميماتها وموديلاتها المُبتكرة،إثر علمه بعزمها على افتتاح بيت للأزياء الراقية في باريس.وقد لعب هذان الوالدان دورًا رئيسًا في تربية ابنتيْهما"جلبيري وإنجي" على قيم التمرد والتساؤل والتسامح وقبول الآخر المختلف،وحب الحياة؛بعد أن نشآ في وسط أرستقراطي يتحدث الفرنسية والتركية بطلاقة،ولا تستخدم عائلتهما"اللغة العربية بركاكة إلَّا للتحدُّث إلى العاملين في البيت"،أما إجادتهما اللغتيْن الفرنسية والإنجليزية،فأتت عبر المدرسين الخصوصيين والآباء اليسوعيين،وكان أبوهما رجلًا "جادًّا بنى حياته بطريقة مُنظَّمة؛ليشغل فيها البحث العلمي المكانة الأولى"،وكان"يقصُّ على جولبيري ما حدث له في رحلاته الصحراوية التي يذهب إليها للبحث عن الحشرات،أوعن نوع من الذباب لم يُكتشفْ بعدُ؛فقد كان يحلم بأن تصير باحثة في الحشرات،أو على الأقل عالِمة في النبات"،أما الأم فكانت ذات شخصية قوية،مسيطرة،مُلتذة،اصطدمت ببعلها عندما اكتشفت أنه"يتحاشى الحفلات الاجتماعية التي تنجذب إليها؛مما أحبط هذه الشابة التي تصورت أنها تحرَّرت من الفرمانات الكثيرة التي كان يفرضها عليها والدها"؛لذا لم تُسهم ترقيته ذات يوم إلى رئيس لقسم الحشرات بكلية العلوم في جَسْرِ الهُوَّة بينهما،على الرغم من شعور بالزهو قد خامرها لُحيظاتٍ،ولم تألُ جهدًا في طلب الطلاق منه،وهي حامل في ابنتها إنجي،عندما اكتشفت أنه"يُغازل إحدى الخادمات التي خدمت عائلة أفلاطون".ودأبت على المشاركة في الأعمال الخيرية من خلال"جمعية المرأة الجديدة"،"ولكنها لم ترضَ عن تدخل بعض السيدات في طريقتها في إدارة الأتيليه الذي أقامته في هذه الجمعية؛فاستقالت من جديد"،وافتتحت"بيت أزياء صالحة للخياطة الراقية"في ميدان سليمان باشا،قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بسنتيْن،"ولم تَكِلّ عن العمل في تمريض الجرحى في مقر الهلال الأحمر،أو في مساعدة اللاجئين من الإسكندرية الذين انهارت منازلهم القديمة،وسافرت إلى الوجه القبلي لتمريض فلاحي إسنا الذين هاجمتهم الملاريا".كما اتسمت بانفتاحها على الناس دون عُقد ولا تدنٍ،وظلت حريصة على وسمِ علاقاتها الاجتماعية بميسم التواصل والتبادل والترابط؛فكوَّنت"صلاتٍ مع المسيحيين واليهود على حدٍّ سواء،ولكن بشرط واحد أن ينتمي هؤلاء إلى عائلاتٍ كبيرة وأصيلةٍ في البلد"؛لهذا اصطفت السيدة صالحة من بين أفراد عائلتها ومعارفها أختها إنجي،وصديقتها اليهودية سيمون أكتون كي يختارا لها جهاز عُرسها.أما اسم جلبيري فجاء من اسم جدتها لأمها التي انحدرت من أصل شركسي،في الوقت الذي أتى فيه اسم أفلاطون من نبوغ جَدِّها لوالدها(حسين إسماعيل عبد الله الكاشف) الذي أرسله محمد علي باشا في بَعثة تعليمية إلى فرنسا؛فعُرفَ عنه التفوق والامتياز في حقول العلم كلها،وبخاصةٍ الفلسفة؛فأطلق عليه أصدقاؤه وأساتذته اسم"أفلاطون"لهذا السبب،وتمكَّن من الحصول على شهادة في الهندسة الحربية بعد التحاقه بالمدرسة العليا للمدفعية في ميدز.الأمر الذي دفع محمد علي باشا إلى أن يقول:فليحتفظ إذن بهذا الاسم.غير أن الفتاة الصغيرة"جلبيري"كانت"الأولى في الإنشاء الفرنسي في مدرسة "القلب المقدس"،وامتلكت القدرة على قرض الشعر،حتى إن أحد رواد قصيدة النثر والشعر الحر في مصر والعالم العربي الشاعر والرسام والناقد"أحمد راسم"(1895-1958) وزملاءه كانوا يستحسنون قصائدها قائلين:"آه..هذه شاعرتنا،لم تتجاوز الرابعة عشرة،ولكنها تكتب شعرًا".ونشر لها صديق صحفي قصيدتها"أيها البحرُ أحبُّكَ"في مجلة"إيماج"،وفي أوقات فراغها في المدرسة،"كتبت قصيدتيْن نُشرتا في الجريدة اليومية (البروجري إيجيبسيان)".لكن الانعطافة الكبرى في مسيرة جلبيري الشعرية، وإنجي الفنية،بدأت مع تعرفهما إلى الرسام والمخرج والسيناريست الكبير"كامل التلمساني"؛حيث تتلمذت إنجي على يديْه في الفترة الممتدة من 1942-1945،لتدرُس أصول الفن وقواعده،وفلسفة الجمال،وتاريخ الفنون،واتجاهات الفن الحديث،وكان أن رسمت لوحة أعجبته،"فأراها لجورج حنين مؤسس الحركة السريالية في مصر،فضمها إلى معرض أعدته مجموعة فناني"الفن والحرية":كامل التلمساني،ورمسيس يونان،وفؤاد كامل،وكانت سن إنجي وقتها ستة عشرعامًا.وقال كامل التلمساني يومها لجورج حنين:هذه تلميذتي يا جورج،وهي اكتشاف هذا المعرض.فابتسم جورج حنين وقال:إنجي أنتِ اكتشاف هذا المعرض.اكتشاف".ومن خلال شقيقتها إنجي،التقت جلبيري بكامل التلمساني الذي كان طريقها إلى مكتبة"رون بوان"في وسط البلد،وإلى أنصار الفن المستقل،واكتشاف السريالية،والتعرُّف إلى رائد السرياليين العرب جورج حنين والكاتب الكبيرألبير قصيري وسواهما.وقد أسهم جورج حنين بالذات في تكوينها،وفي مُطالعة قصائدها ونشرها في جريدة"المارسييز"كما فعل مع قصيدتها"الرجل الذي فاته القطار"،ودفعها إلى دراسة الفن الحديث،والحركات الأدبية الطليعية المعاصرة،والفكر الحر،والذهاب معه ومع أصدقائه إلى السينما،وإلى المسرح،وإلى معارض الفن،ومواكبة ما تضمُّه مكتبات"سان جيرمان دي بري"من كتب حديثة،وإهدائها كتبًا مهمَّة نصحها بقراءتها والإفادة منها،وقدَّمها إلى صديقه الذي شاركه مجلته التي أصدرها في مصر باسم"حصة الرمل"؛الشاعر والرسام الكبير هنري ميشو(أو بترجمة الأستاذة نجاة بلحاتم"إنري ميشو") البلجيكي الأصل،الفرنسي الجنسية،في أحد معارضه،فأهداها كتابًا له،مصحوبًا بكلمة رقيقة تنمُّ عن اعتزازه بها.وبذلك كان جورج حنين بحق-كما وصفه رفيق دربه الكاتب والشاعر والروائي الفرنسي أندريه بيرتون أحد رموز الدادائية والسريالية-"الوسيط الكبير بين الشرق والغرب"؛فقد كان منتهى أمله أن ينخرط فنانو مصر الشباب وشعراؤها في"الدائرة الكبرى للفن الحديث..المتمرد على كل قمع للحرية؛بوليسيًّا كان أو دينيًّا أو تجاريًّا.الفن الذي تُحسُّ بنبضه في نيويورك..لندن..المكسيك..في كل مكان يُناضل فيه أمثال دييجو ريفيرا..بالِن..نانجي..هنري مور". لهذا ارتبطت في باريس ب"بيت الفكر الفرنسي"الذي كان يستضيف شعراء عالميين من قبيل:أراغون وإيلوار وتزارا وكونوه وريمون كلونو وكلود روا وجون مارسونك،وواظبت على حضور"اجتماعات يوم الخميس"؛حيث كان جُلُّهم"من المؤيدين لليسار أو الشيوعيين أو الذين يشدُّهم هذا الجو المُرحِّب الذي تملؤه الزمالة والتقدير.ننقد بموضوعية شِعرنا الأخير،ونتناقش حول كتابات الذين يكبروننا،وزملاء الخميس ينادونني ب"صفية" لأنه اسم سهل في النطق،وسأستخدمه في شعري وقصصي القصيرة التي سأنشرها في الليتر فرنسيز".ثم بدأت اهتماماتها السياسية تتبلور شيئًا فشيئًا مع ارتباطها بالدكتور إسماعيل صبري عبد الله،الذي اقترح عليها"خليَّة موجودة في شارع لان راجا"عند التحاقها بالحزب الشيوعي الفرنسي؛مما أسعد شقيقتها إنجي،مُقترحة عليها أن"تساعد القسم الذي يُناضل من أجل حقوق المرأة،ومقره في الحي السادس عشر،فتذهب إليه مرتيْن في الأسبوع".نحن،إذن،أمام شخصية غنية..فريدة،لم تفقدْ مصريتها لحظة واحدة،ولم تقف لغتها الفرنسية حائلًا أمام انتمائها إلى وطنها،وإحساسها بمعضلاته وتحدياته،وهو ما لاحظه الشاعرالكبير"تريستان تزارا"عندما استقبلها في منزله مُرحِّبًا،وأخذ"يقرأ بعض الأشعار من أفضل قصائدي،ثم يتوقف وينظر إليَّ"،وأضاف تزارا بحسم وجلاء:"وقد شعرتُ بفرحة كبيرة وأنا أقرأ القصائد القصيرة؛فشكهم ووحيهم شرقيان.عندما تقرأ هذه الأشعار القصيرة من دون معرفة مُسْبَقة بأنكِ مصرية،يُخمِّن المرء أن كاتبها شرقي،ليس فقط عندما تتحدثين عن النيل أو النخيل،ولكن أتحدث عن ريتم الأشعار وعن صوركِ".وعاشت هموم القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها،متسائلة بحدَّةٍ:"من الذي يُعطي اليوم لنفسه الحقَّ في حرمان شعب من بلده؟ هل العداء للسامية الموجود في أعماق عدد كبير من الأوربيين،يُعطي لهم الحقَّ في الاصطفاف مع هذه الدولة (إسرائيل)بسبب إحساسهم بالذنب؟"،شارحةً لصديقيْها تاتي وجون الفرق بين اليهود والصهاينة،مؤكدةً أن"كثيرًا من اليهود المستنيرين معترضون على إنشاء دولة إسرائيل".وسارت في قلب العاصمة مع د.إسماعيل وشقيقتها إنجي وزوجها حمدي أبو العلا بمجرد أن أبلغتها والدتها السيدة صالحة تلفونيًّا ما تناهى إلى سمعها عن حريق القاهرة في 26 من يناير عام 1951،وراحوا يتناقشون وهم يسألون أنفسهم السؤال ذاته:من المسؤول عن هذه الأفعال الإجرامية؟ وظلَّت منزعجة من التوتاليتارية العسكرية الناصرية التي صادرت الحريات،واعتقلت الآلاف،وفصلتهم من وظائفهم التي يتعيشون منها،كما حدث مع د.إسماعيل صبري عبد الله ورفاقه،وذلك بمذكرة من مباحث أمن الدولة ورئاسة الجمهورية،كما ذكرت السيدة جلبيري،وقتلت المفكرين والمناضلين في سجونها ومعتقلاتها،ساخرة من شقيق زوجها د.عزالدين إسماعيل عندما حدَّثها عن الحياة المثالية للأزواج حتى يتجنبوا المشكلات؛تعقيبًا على اعتقال أخيه،قائلة له:"من الواضح أنك لا تعرف أخاك جيدًا.لا يمكن أن نعيش في عُلبة بعيدًا عن كل شيء".مُحاوِلة التماس العذر لبعض"الجبناء من أصدقائنا الذين يَعِدون بالاتصال ثانيةً ثم يختفون"؛خشية بطش قوى القمع بهم لو زاروها بعد اعتقال زوجها"متجنبةً النظر إليهم حتى لا أجرحهم"،مُصرَّة على أن"أتعلم الكفاح بمفردي،وأن أكتشف هذا العالم الخارجي فيما وراء جدران السجون"،وأن تلتحق بمتطوعي حي الزمالك لتوعية النساء بمغزى حصولهن على حق التصويت،والمشاركة في الانتخابات العامة،على نحو ما شاركت أختها الرفيقة إنجي أفلاطون في تكوين فرق الدفاع المدني في أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956في"حي الجمالية"الشعبي،عاملة على أن تكون"جديرة بهما (أختها المناضلة إنجي،وزوجها القائد اليساري د.إسماعيل صبري عبد الله)"،لافتة إلى أنه يتعين على"كل المصريين أن يعلموا بهذا الظلم"،مُضيفة:"يجب أن يعرفوا أن المئات من المواطنين مثلهم يقبعون دون وجه حق في السجون".لكنها عاشت حياتها للكتابة ولأحلامها كاتبةً،إلى درجة أنها ذكرت لزوجها في إحدى رسائلها إليه"لا تستطيع أن تتصور سعادتي بهذا الشعور،وبهذا النهم إلى الكتابة.الأفكار والصور وليدة ثورتي تتزاحم وتصرخ حاجتها للتبلور في كلمات وأنغام"؛ومن ثَمَّ لم تُنسِها انشغالاتها بزوجها وأختها المعتقليْن"زيارة المعارض الفنية،وكتابة مُلخَّصات عنها لإنجي بناء على طلبها".
غير أن"ثلاثية جلبيري"تكشف عن حكَّاءة قديرة،يقظة الحواس،ذكية الفؤاد،تملك رؤية واضحة لا نتوء فيها ولا التواء،وسخرية هادئة رائقة،تُلخِّص لنا الموقف كله ببلاغة فنية راقية،ولغة قادرة على التجسيد والتصوير في ومضات سريعة ظلت طَوالَ الوقت بمنأى عن الثرثرة والترهل اللفظي.
بقيت ملاحظات عدة على الكتاب يمكن إجمالها فيما يلي:
- تقول د.أمينة رشيد في تقديمها الكتاب ص 7:إن السيدة جلبيري نُشِرَ لها ديوان شعر باسم"أحجار على الطريق"في 1955،وفي ص 9 تقول:إن لها ديوانًا باسم"حجر على الطريق"..فهل هو حجر،أم أحجار؟ وفي ص 9 ذاتها تقول:محاكمة الخميس والبكري،العامليْن في مصنع نسيج كفر الدوار،والصحيح:مصطفى خميس ومحمد حسن البقري.
-على امتداد صفحات الكتاب،يُكتب اسم مدينة"ملوي التابعة لمحافظة المنيا في صعيد مصر"بطريقة عجيبة هي"ملاوي"،وهذا خطأ.كما يُكتب اسم"حي الرمل"في الإسكندرية،هكذا:"حي الرملة"،وهذا أيضًا خطأ.وفي ص246،تُحوِّل المترجمة اسم"اللجنة الوطنية للطلبة والعمال"الذائعة في التاريخ المصري،إلى"الاتحاد الوطني للطلبة والعمال"،فهل يجوز التصرف في الاسم من دون العودة إلى التاريخ في مظانه المشتتة؟ كذلك يُترجم اسم الأديب المعروف"ألبير قصيري"،مرة هكذا،ومرات عديدة"ألبير كوسيري".وفي ص 325،تُترجم"نقابة المعلمين"ب"جمعية المعلمين"،و"برقية تأييد"ب"رسالة مشاطرة"،وفي ص330،يُترجم"حل جماعة الإخوان المسلمين"ب"فض جماعة الإخوان المسلمين"،والفضُّ لغةً،التفريق،لكن المقصود هنا هو إيقاف النشاط نهائيًّا،وطي صفحة الجماعة.و"أخذا موقفًا ديمقراطيًّا،أو في صف الديمقراطية،أو داعمًا للديمقراطية،"ب"أخذا موقفًا واضحًا بمحاذاة الديمقراطية".وفي ص 464:رسمت إنجي للبطلة الجزائرية جميلة بو حريد بورتريه ناجحًا.وفي الحقيقة،الاسم الصحيح لها هو"جميلة بو حيرد"وليس"جميلة بو حريد"،ولو قلنا:بورتريه رائعًا،لاستقامت العبارة،وجاءت مُتناغمة وروح اللغة العربية ومَلَكَتَها السليمة.كما كُتِبَ اسم منظمة"حدتو"ص 442،مرة"الحدتيو،وأخرى"الحديتو"؛وهذا لا شكَّ خطأ بيِّن. عمومًا هذا غيض من فيض.ناهيكم عن الخطايا اللغوية والنحوية من قبيل:إن عينيْ عزيزة مليئة بالدموع ص 79،وصوابها:مليئتان،وفي ص 80:بناتي لديهما متسع من الوقت،والصواب:بنتايَ لديهما متسع من الوقت،وفي ص 111:إن الولادة تبدو عثرة،وصحتها:عسرة،وفي ص 141:بدون أن تنبث بكلمة،وصحتها:أن تنبس بكلمة،وفي ص192:وعينيْن سوداويْن كبيريْن،وصحتها:كبيرتيْن...إلخ،مما يصعب حصره في مقال واحد.
لكن ذلك حقيقةً لا يُقلّل من قيمة الجهد الكبير الذي بذلته المُترجِمات الثلاث القديرات في نقل هذا النصِّ الأدبي والمحافظة على مستوياته المُركَّبة،ولا من أهمية هذه الثلاثية البديعة،وما حفلت به من رؤى تقدمية تُغني-لا ريب- حياتنا الإنسانية؛فهي سؤال التاريخ والمعرفة والواقع والذات الكاتبة،في علاقتها بالزمن وبالحداثة؛سعيًا إلى التجاوز والتغيير.وسلامًا على روحكِ النقية الطاهرة.



#أسامة_عرابي (هاشتاغ)       Osama_Shehata_Orabi_Mahmoud#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البطالة وسياسات الصندوق والبنك الدوليين


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة عرابي - ثلاثية جلبيري..سؤال التاريخ والذات الكاتبة