أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبد الغاني عارف - البحث عن النصف الآخر للحقيقة - قراءة في رواية- إعدام ميت - - للروائي حميد المصباحي















المزيد.....


البحث عن النصف الآخر للحقيقة - قراءة في رواية- إعدام ميت - - للروائي حميد المصباحي


عبد الغاني عارف

الحوار المتمدن-العدد: 1392 - 2005 / 12 / 7 - 08:07
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


على سبيل التقديم
تشكل رواية " إعدام ميت " المغامرة الثانية في المسار الإبداعي للكاتب حميد المصباحي ، بعد إنتاجه الروائي الأول " غرف الموت " . وتدور أحداث هذه الرواية حول تجربة أحمد الذي كان يعيش في قرية الهلالية . وأمام واقع الجفاف وانسداد الآفاق بالقرية ورغبته في توفير الشروط المادية الكفيلة بتنفيذ زواجه من ابنة عمه فاطمة ، يتخذ قرار الهجرة إلى المدينة عله يحقق بعض أحلامه. تقتلعه طموحاته الجامحة من البادية لتقذف به في قلب مدينة كبيرة لا ترحم.
رحلة أحمد هذه لم تكن فقط مجرد انتقال من البادية إلى المدينة ، بل هي انتقال من عالم تتحكم فيه قيم معينة ، قيم ما تزال ، إلى حد ما ، تحتفظ بطراوتها الإنسانية ، إلى عالم آخر كل ما فيه – حسب الرواية – ينحو منحى النهش والاستغلال و الفساد . وهو التقابل بين عالمين متناقضين الذي تستحضره الرواية في كثير من مقاطعها ....
في رحلة القطار المتجه إلى المدينة يتعرف أحمد على الحاج عبد الله الذي سيكون - وبحسن نية - صلة وصل بينه وبين نعيمة صاحبة متجر للعطور والملابس النسائية ، ليشتغل لديها دون أن يعرف أنه وقع الخطوة الأولى على درب ستكون نهايته مأساوية . وهكذا ، وفي زحمة البحث عن لقمة العيش يجد نفسه ضحية شبكة منظمة للفساد . و من المفارقات الرمزية في الرواية أن هذه الشبكة تشرف عليها مؤسسة من المفترض أن تكون هي التي تحارب الفساد . و على الرغم من حذره البدوي التلقائي ، فإن ضغوطات الحياة بالمدينة و إغراءاتها الصامتة منها والعلنية ، تستدرجه مستغلة النقط الهشة في شخصيته ، ليصبح ، تحت ضغوط الوضع الجديد، فاعلا و شريكا في صناعة ذلك الفساد .
المدينة التي علق عليها أحمد أمالا كبيرة لتكون أداة تحقيق طموحاته تتحول إلى جحيم . وحتى خيار العودة إلى القرية أصبح غير ممكن . « الآن لم تعد له الرغبة في العودة إلى القرية ، كيف يعود خاسرا وقد وعد الجميع بتحقيق ما يرضي ابنة عمه وزوجته التي رافقته إلى المدينة بهاجس ما يحكى عن المدن وثراء أهلها . » ص 62 .
أول ما يثير انتباهنا هو كون الرواية تبتدئ بفعل الاستيقاظ و بعبارة بزوغ الفجر . « استيقظ أحمد مع بزوغ الفجر على صيحات عمه الحسين و هو يحاصر الأغنام لتنتظم في مسيرها نحو المراعي .. » ص : 5 . وكأن هذه البداية تحيل على بعد من الأبعاد الرمزية لما أراد الكاتب تبليغه من خلال هذا النص السردي : أي العمل على توثيق مرحلة من تاريخ المجتمع المغربي ، كمساهمة لتعميم الوعي ببعض من مظاهر الفساد المؤطرة لتلك المرحلة ، و تأملها من زاوية نقدية في أفق بناء وعي يسمح بتجاوز سلبياتها . لذلك كانت السطور الخمسة الأولى من الرواية مكثفة بالكلمات والعبارات الدالة على ولادة ذلك الوعي الجديد، منها مثلا : استيقظ – بزوغ الفجر – شق الأرض – بعث الحياة من جديد – أعشاب الربيع ... .
= بناء الرواية :
الرواية مقسمة من حيث بناؤها الخارجي إلى عشرة فصول ، يتم عبرها رصد رحلة أحمد من القرية إلى المدينة ، بعبارة أخرى من فضاء فجرت قساوته أحلاما كبيرة في أعماق أحمد إلى فضاء شكل صخرة تكسرت عليها الأحلام ليرجع أحمد جثة هامدة إلى القرية . وبنظرة عامة إلى مسار بناء هذه الرحلة ، من الناحية الفنية ، يتضح بجلاء أن الكاتب اختار بناء كلاسيكيا يكشف عنه التطور الخطي العادي والمباشر للأحداث ، من عقدة وبحث عن حل ونهاية ، بدون أي ميل إلى تقديم المادة الحكائية ضمن بنية متداخلة ومعقدة العناصر .
ورغم أن الإطار الذي اختاره الكاتب لأحداث هذه الرواية يقترب في بعض جوانبه من رواية المغامرة أو من الرواية البوليسية ، فإن الكاتب لم يبالغ في تصنع عنصر التشويق والإثارة المجانية في بناء الأحداث ، ولم يبالغ في تمطيط عقد الحكي عبر استطرادات زائدة ، بل نراه يوظف الحد الأدنى من الأحداث بشكل مكثف وكفيل بضمان الواقع واستحضاره كبعد مرجعي لتلك الأحداث ، من خلال الإحالة على الدوافع النفسية والاجتماعية المحركة لسلوكات ومواقف مختلف الشخصيات بصيغة يتم فيها التداخل بين واقعية الحدث و الحالة النفسية المؤطرة للحدث ذاته . كما يلاحظ أن النص تتخلله تدخلات مباشرة من طرف الراوي ليعبر عن انطباعاته الخاصة إزاء هذا الحدث أو ذاك . وكأن ما يهم الكاتب هنا هو ، بالدرجة الأولى ، مساءلة تلك الأحداث وتعرية خلفياتها .
يثير الانتباه في الرواية نوع من التساهل في نسج وبناء بعض الأحداث . مثلا في الصفحة 17 نجد الحاج عبد الله يقرر أنه سيجد عملا لأحمد وأكثر من هذا سيستدعيه إلى البيت ليقيم معه رغم أنه التقاه فقط في القطار وعلاقتهما لا تتجاوز التقاء عابرا . فإذا كان هذا الموقف مقبولا وعاديا من الناحية الأخلاقية فإنه من الناحية الواقعية فيه نوع من التصنع .
نفس الملاحظة يمكن قولها عن سلوك سمية زوجة الحاج عبدالله مع أحمد الذي لم يمض على تعارفها سوى بضع ساعات ، لكن الرواية تقول لنا : « تركته سمية وفتحت الباب وحين هم بالانسحاب ضمته إلى صدرها وعضته في عنقه » ص : 22 . بل وستمارس معه الجنس في نفس اليوم الذي وطئت فيه قدماه المدينة .. إنه سلوك يبدو غريبا في السياق الذي تم فيه ، وبالتالي فإن هذا التطور المفاجئ في نسج بعض الأحداث وبدون مقدمات منطقية يجعل الحدث مقصودا لذاته ... وإن كان بلا شك لدى الكاتب مبرر اختياره.
يمكن تصنيف رواية " إعدام ميت " ضمن ذلك النوع من الإبداع الذي يعكس التفاعل المباشر للمبدع مع الأحداث التي يعج بها محيطه . فلقد استوحى الكاتب حدثا واقعيا حدث بالفعل وعاشه المغاربة منذ بضع سنوات ، ليعيد تشكيله إبداعيا ويجعل منه مرجعا للتأمل ومادة للاشتغال ، ضمن رؤية حملها قراءته الخاصة وأصدر فيه حكمه الخاص . وهو ما يجعلنا نتساءل : هل نحن إذن بصدد رواية واقعية فعلا ؟
ولابد من الإشارة إلى أن ما قام به الكاتب هنا ليس حالة شادة ، إذ نجد أن الإبداع الروائي العربي والعالمي يحفل بمثل هذا الاستناد إلى أحداث واقعية و إعادة بنائها إبداعيا . و في هذا الإطار يمكن أن نذكر مثلا رواية " اللص والكلاب " لنجيب محفوظ « فقد استقى موضوعها مما كانت تنشره الصحف عن أخبار سفاح الاسكندرية » ( عبد الرحمن فهمي : الرواية البوليسية – مجلة فصول – عدد يناير 1982 – ص 43 . ) ونفس الشيء يمكن قوله عن وراية ديستويفسكي " الإخوة كارامازوف " فلأحداثها علاقة بالمرحلة التي كان فيها الكاتب سجينا في سيبريا حيث قابل رجلا يقضي عشرين سنة من الأشغال الشاقة بتهمة قتله أباه ، فأمده هذا بالفكرة الرئيسية لروايته » ( عبد الرحمن فهمي – مرجع سابق ) ، بل إن دستويفسكي سيعمل على تأليف رواية " الجريمة و العقاب " بعد أو وصله خبر بأن المحكمة اكتشفت ، بعد فوات الأوان ، براءة الشخص المحكوم والذي قضى 10 سنوات سجنا مركزا في ذلك العمل على مناقشة ونقد مفهوم العدالة .
غير أن رواية " إعدام ميت " لحميد المصباحي لا تكتفي بإعادة تقديم ذلك الحدث كما وقع بالضبط ، بل تستدعي بعض تفاصيله لمساءلتها ، أي القيام بما يمكن تسميته تعرية متجددة لذلك الحدث . وهو الأمر الذي جعل هذا النص الروائي ينجح في التقاط ذكي لبعض تمظهرات حركية المجتمع من زاوية التناقضات التي تسود فيه ، وبالتالي فهي محاولة للانتقام لضحايا الاستغلال و الفساد، خصوصا النساء « اللواتي اغتصبن وقررن الصمت خوفا من لوم المجتمع ».
وهي بهذا المعنى رواية فاضحة .. رواية تضع مؤسسة بأكملها تحت مجهر التشخيص لتفضح ما يمور داخلها من علاقات و عنف وفساد . وتزداد حدة ورمزية هذا الفضح عندما يتعلق الأمر بمؤسسة كان من المفروض أن تكون هي التي تحافظ على أمن الناس وطمأنينتهم و تحميهم من كل مظاهر الفساد والإفساد .
= في علاقة الكتابة بالذات :
يضعنا هذا النوع من الكتابات أمام أسئلة متعددة فيما يتعلق بموقع الكتابة ضمن علاقة الكاتب بالواقع ، من جهة ، وبذاته ، من جهة ثانية . ويبدو من الأحكام التي يضمنها الكاتب في هذه الرواية أنه لا يريد أن يكون محايدا إزاء ما يكتب . إن له موقفا خاصا إزاء ما يكتب ... إنها رواية محنة ، تؤكد التزام الكاتب بالتعبير عن قضايا الفئات والطبقات التي وضعتها موازين الاستغلال ضمن كفة الحرمان والقهر والفقر.
= حركية الشخصيات في الرواية :
بالنظر إلى حركية الشخصيات في هذه الرواية ، يتضح أنها ليست مجرد كائنات روائية أو ورقية، بل هي علامات تحيل على مصائر مرجعية في الواقع . من هذه الزاوية يمكن أن ننظر إلى الشخصيات الأساسية في " إعدام ميت " ، بحيث يمكن تصنيفها ضمن شبكتين أساسيتين هما :
1 – شبكة العلاقات العائلية ، وضمنها نجد : أحمد الذي ماتت أمه وهي تلده فكبر يتيم الأم ، عاش محروما + كانت أول صدمة في حياته وفاة أمه ثم رغبة ابن خال فاطمة الزواج منها . ) - فاطمة ابنة عم أحمد وزوجته لاحقا - عمه الحسين - عائشة زوجة عمه ( تكره أحمد ) .
2 – شبكة الفساد : وضمنها نجد : جلال عميد الشرطة . نعيمة صاحبة المتجر الذي يخفي غرفة العشق السري – خديجة من ضحايا الفساد – خالد من ضحايا الفساد ويمثل في الرواية نوعا من يقظة الضمير ورفض الاستمرار في أدار دور المشارك في صنع الفساد. -
= محمود ، ابن الحاج عبد الله ( جمركي ) يساهم في التستر على تهريب المخدرات .
= شعيب : ابن عم أحمد .
= سمية صديقة نعيمة القناة الأساسية في شبكة الفساد ..
بالإضافة إلى شخصيات أخرى تساهم في سياقات مختلفة في بلورة أحداث الرواية .
ملاحظات كثيرة تثير الانتباه بالنسبة لموضوع الشخصيات في هذه الرواية :
- الملاحظة الأولى : أنها شخصيات يسكنها الخوف من الداخل ، فهي مرتعبة في كل لحظة. =شخصيات منهارة و ضائعة . : « تبعتها خديجة تجر قدميها مخذولة شاردة الذهن » - ص 58 . « في الطريق إلى بيته انتابه إحساس عميق بالضياع » ص59- = « إنه محاصر بخوف عليه أن يخفيه حتى عن زوجته » ص 69 .
- الملاحظة الثانية : إذا كان تطور الأحداث يكشف عن التحولات الداخلية لما تشعر به الشخصيات وتعانيه ، فإن الكاتب التجأ لتقريبها أكثر ، إلى وصفها من حيث مظاهرها الخارجية بشكل لافت للنظر في الرواية :
– فخالد مثلا« شخص هزيل البنية حاد النظرات ، ذي لحية كثيفة الشعر والسواد » ص : 53
- « كان الواقف أمامه خالد بوجهه الشاحب وملابسه الرثة » - ص 60
- « اضطربت أنفاسه ( محمود ) وشحب وجهه ذو العينين الضيقتين والشفتين المسودتين من أثر التدخين ، وقد انتصبت فوقهما أنف أفطس . » ص 72
- كان ( جلال ) رجلا مهيبا ، متورم العينين ، حليق الوجه ، أبيض أغلب شعر رأسه ، قوي الجسد ، طويل القامة .. » ص : 35
- الملاحظة الثالثة : اعتبار القهر الاجتماعي والرغبة في تجاوز ذلك القهر المحرك الأساسي لمجموعة من الشخصيات .
= الفضاء :
يلاحظ أن الروائي بم يهتم بالفضاء من زاوية الزمن لم يتم الاهتمام به كثيرا ، إلا في إشارات عادية ( منتصف الليل – الصباح – الربيع ) ، وليس هناك ما يحيل على زمنية الرواية وكـأن الكاتب أراد بذلك أن يبقي تلك الزمنية مفتوحة مما يوحي باستمراريتها . وهذا ما يجعل التقابل بين الزمن التاريخي والزمن التخييلي في هذا العمل قابلا لأكثر من تأويل .
بالنسبة للمكان يمكن أن نميز في فضاء المكان بين الفضاءات الأساسية التي تستقطب مجموع الأحداث ، فنذكر على سبيل التمثيل : 1 – فضاء القرية - 2 – فضاء بيت الحاج عبد الله – 3 – المتجر - 4 - غرفة العشق السري - 5- المحكمة - وهي كلها فضاءات تكتسي دلالات خاصة و فاعلة في توليد أحداث الرواية ( القرية وقت الجفاف ◄ قرار الهجرة – بيت الحاج عبدالله ◄ حافز للبحث عن بيت آخر للاستقرار - غرفة تصوير أشرطة الدعارة ◄ صناعة الفساد . ◄ المحكمة : تقوم بلعبة مزدوجة ، فمن جهة تصدر حكم الإعدام على عميد الشرطة بتهمة تنظيم شبكة الفساد ، ومن جهة ثانية ، تقوم بإتلاف أشرطة تثبت تورط مسؤولين آخرين كبار ضمن نفس الشبكة . وبذلك تحاكم الرواية هذه الواقعة من زاوية التغييب المتعمد للنصف الثاني من الحقيقة . إلخ ...
و يقدم لنا الرواية المكان ضمن ثنائية القرية / المدينة :
◄ القرية التي يحاصرها الجفاف وقساوة الحياة تقتل كل شيء ، حتى اكتمال الحب بين طرفين يكون ممنوعا . جاء في ص 9 من الرواية : « إن الحب في هذه القرية لا تشعر به إلا النساء . أما الرجال فهم منزهون عنه إلا عما عشقت أجسادهم » . أما سوق القرية فهو ليس فقط مجالا للبيع و الشراء ، بل هو أيضا ( مكان للقمار ) .
القرية مرادف للانتماء « عندما لا يرى قريته يفقد الانتماء لهوية غير مكتملة ناقصة إلى حد العبث . » ص : 14 .
= القرية مرادفة للأرض رغم ما تشكله هذه الأرض من مظهر التفاوتات الطبقية - « الأرض في بلدنا يزداد بها الأغنياء ثراء ، أما الفقراء فلا تزيدهم إلا فقرا . » ص : 20
= « في هذه القرية يخفي الأغنياء ثراءهم بقسوة الفصول ، ويخفي الفقراء فقرهم بالقناعة والبركة ، فلا أحد منهم يبدو كما هو ، لأنهم جميعا يخافون الوضوح وينشدون الغموض . » ص : 12
وفي المقابل تقدم المدينة على أنها ملجأ الخلاص :
◄ المدينة « لازالت المدن تتسع للهاربين من تعب الأرض وقرف البوادي التي تنقصها كل شيء . فهي مستقر من لم تعلمه الحياة شيئا ، ومخبأ الخائفين من قهر الضرائب والجبايات بمختلف أشكالها » ص : 11 – 12
= « كم هي موحشة هذه المدينة في قسوتها ، تدعو إلى الانحطاط والسقوط بكل اللغات والطرق » - ص 60
= المدينة التي « كل ما فيها قابل للتداول كالسلع والأشياء . » ص : 27
= وهكذا فالرواية تقدم صورة قاتمة عن المدينة فهي : « وحش جميل الملامح ما أن تخلو بضحاياه حتى يتحول إلى كابوس بشع لا يرحم إلا من فر منه أو استعان بمن هو أقوى منه . » . ص : 81 .
ويبلغ هذا التقابل ذروته المأساوية ، حين يكتشف أحمد أن هجرته من القرية إلى المدينة كانت خطأ : « تأكد حينها أن القرية أرحم من وحشة المدينة التي لا ترحم الضعفاء ، بل تسحقهم ساخرة من طموحاتهم وأحلامهم الصغيرة ، حتى القانون لا يحمي من لا قوة له » ص : 80 .

= مستويات أسلوب الحكي في الرواية :
يثير انتباهنا أيضا في هذا العمل كون الكاتب راهن على تنويع " مستويات " الأسلوب ، فهو يعمد حينا إلى تدقيق عناصر الوصف . ص 66 « أمطرت السماء هذا الصباح . أقفلت النوافذ و احتمى العابرون بمظلاتهم وهم يعبرون الشارع من جهة إلى أخرى ، يتفادون المياه وهي تسيل على الأرض المبلطة لتصل إلى ثغرات على حافة الرصيف . تبدو كأبواب السجون موصدة ، ولا أحد يعرف ما بداخلها . تتسع شقوقها للماء وتنحسر النفايات فتتلاعب بها الرياح مستهزئة بجمال المباني المتسخة ممراتها » ؛ وأحيانا أخرى يميل إلى تصوير يجتزئ المشاعر الداخلية للشخصيات بأسلوب نستحضر معه ملامح من الكتابة الكافكاوية -Métamorphose - ص : 23 « هل كان وحده ، بل كان أكثر من وحده . كان يرتزق بصمته ، فجأة اعتراه الحزن واختلى به . التفت إلى كل الجهات ، لم يجد أكثر منه ، بكى حتى انتحب . نظر إلى كفه وتذكر أنها ليست له إلا عندما تلامس خده ، تمنى لو يستطيع التحول فيصير هي و لو هنيهة ، دقق في أصابعه وهي ترتسم أمامه ، لم تكن اليد يده ولا الكلام كلامه . وقبل أن يدركه الظلام انبثقت صورة شدته فانزعج الروح والجسد وكاد الانفصام يحدث بينهما. مد كفه لكنه لم يلمس شيئا .. » .
وفي منحى ثالث نجده « يدعم » مستويات الحكي ببعض التأملات الفلسفية : « وكأن الحياة تحولت إلى لعنة يشقى بها الإنسان ولا يستطيع الانفلات منها إلا إذا تمسك بها ، إنها رحلة تنتهي إلى الهزيمة التي يخافها البشر يقادون إليها مهما اختلفت الوجهات والسبل . قد تطول المسافة ، وهي لا محالة منهية بالانتماء الحتمي للنسيان أو العدم . »
و على الرغم من قتامة الوقائع التي يستند إليها المتن الحكائي في هذه الرواية ، فإننا نكتشف بين ثنايا هذا المتن بين الحين والآخر بعض اللقطات الساخرة . « وزعت كؤوس الشاي الذي أعده الحاج عبد الله بعناية فنية و دقة متناهية ... بهذا الشاي ينجو آلاف البشرمن حرقة المجاعة المحاصرة لأغلب القرى وبعض المدن المهمشة ، لذلك يقبل الجميع على شربه شكراله على ما يسديه للإنسانية المحتقرة مكن خدمات ، فصار رمزا لتقاليدنا العريقة نفتخر به في الملتقيات الدولية و كأننا مكتشفوه ... يحق لنا ذلك فقد مزجناه بالخبز و أنقدنا به البلد من آفة الموت جوعا . » ص : 46

خلاصات :
1 - إن رواية " إعدام ميت " وهي ترسم محاولة للبحث عن حقيقة مفتقدة ، حقيقة يراد لها دائما أن لا تكتمل و تظهر بنصف واحد فقط ، لا تروج لنموذج معين من الوعي أو لنموذج محدد من المواقف ، بقدر ما تقرأ مرحلة / مؤسسة من داخلها ، وفي المقابل تترك للقارئ حرية اتخاذ الموقف الذي يراه مناسبا ، و نحث الوعي المناسب لبلورة ذلك الموقف .
2 - هل يمكن القول بأنها رواية الندم ... كل الشخصيات تستسلم في النهاية لموجة ندم صاعقة ، لكنه الندم الذي لا ينفع في شيء .. ص 60 : « بدا حزينا ونادما على ما صدر منه ( أحمد ) . » . كل شخصية تحمل فضيحتها ، تجوب بها الشوارع في صمت وندم وتتحول الفضيحة إلى جرح لا يندمل .. جرح ينخر الذات ، يحولها إلى بئر سحيقة من المعاناة الصامتة . وتزداد مأساوية الوضع الذي اختاره الكاتب لشخصياته في كونها لا بديل أمامها سوى أن توغل أكثر في عالم الرذيلة و الفساد . أحيانا يحاول أحمد أن يحول انهياره إلى ثورة ضد الشبكة التي تحمي الفساد ، ولكنه يصطدم بمحدودية إمكانات المواجهة ، فينكفئ على ذاته مرددا : « لو لم يكن الأوغاد من رجال المخزن لخنقتهم وتبولت على وجوههم ، الجبناء ليست لهم القدرة على مبارزتي ، إنهم ضعفاء معتلون رغم ثرواتهم . » ص 62 .
و هكذا فحتى عندما تحاول الشخصيات أن تستعيد كرامتها وتنتفض ضد آلة الفساد يكون مصيرها تراجيديا : فخالد يجد نفسه في مستشفى الأمراض العقلية بتهمة الجنون ، وأحمد يقتل ليقول عنه الطبيب الشرعي أن « الوفاة كانت نتيجة مرض أصاب الضحية و أتلف خلاياه الدماغية » ص : 89 ، ونعيمة تجد نفسها فجأة أمام سيارة تصدمها بقوة وبشكل متعمد لترديها هامدة الجسد . ويقول عنها أصحاب القرار أنها ماتت نتيجة ضحية سير عادية .
الفساد ،الخوف ، الجنون ، الندم ، الضياع ، الخيانة ، الانتقام ،الاغتصاب ، التعذيب ، الموت ... تلك هي المظاهر التي اختارها الكاتب ليحاكم من خلالها مؤسسة بعينها وعبرها يحاكم مرحلة بأكملها في أبعادها التاريخية و الاجتماعية والسياسية . وفي هذا بالضبط تلتقي رواية " غرف الموت " مع إعدام ميت " باعتبارهما كشفا لحساب مرحلة و محاكمة لأبطال ساهموا في صنعها .
وإذا كان من حقنا أن نقول بأن رواية " إعدام ميت " هي رواية الرغبة المغتالة ، إذ تكاد كل الرغبات / الأحلام التي حملتها شخصيات هذه الرواية تصطدم بالفشل والسقوط ، فإن السؤال الكبير الذي يبقى مفتوحا من خلال هذا النص : من المسؤول الحقيقي عما وقع ؟ هاهو جلال – رأس الحربة في شبكة الفساد - قد تم إعدامه و قيل أنه مات قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام ، ولكن : هل توقفت آلة الفساد عن الإنتاج ؟ إنه السؤال الكبير .



#عبد_الغاني_عارف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بنية القلق والموث في رواية - غرف الموت - للروائي حميد المصبا ...
- التربية على حقوق الإنسان وإشكالية المرجعية
- قصائد تبحث عن هوية - شعر
- عبير الذكرى - شعر
- الكتابة السجنية – قراءة في رواية - ملح وإبزار- للكاتب عزيز ا ...
- الشهيد عمر بنجلون : سيرة الذات والوطن


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبد الغاني عارف - البحث عن النصف الآخر للحقيقة - قراءة في رواية- إعدام ميت - - للروائي حميد المصباحي