أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صادق أبو حامد - قصة قصيرة















المزيد.....

قصة قصيرة


صادق أبو حامد

الحوار المتمدن-العدد: 1377 - 2005 / 11 / 13 - 10:33
المحور: الادب والفن
    


عسى خيراً..

إلى صديقي ,,
يقرأ في عيني ما أقرأ في عينيه
ـ كبرت.. والله كبرت يا صديقي..
لم أعر ملاحظته اهتماماً، تجاوزت جملته بمرح كمن لا يكترث لخبر اقترابه من الموت. كنت مشغولاً بفكرة أني أراه بعد هذه السنين، وعبر كاميرا انترنيت. ها أنا أرى وجهه أخيراً.. تبدو حركاته إيماءات بطيئة.. متداخلة.. لكنها غنية بالإيحاء. هو أيضاً كبر، ليس هناك من مكان في وجهه لم يعكره الزمن.. لكن بريق عينيه لم يزل صادقاً كيوم ودعني..أو.. ودعته.. في آخر مرة..

حين تهاجمك السياط لتأكلك، لا تكتفي بلحمك.. بصراخك.. تغرز أنيابها أعمق بكثير.. تعض الروح.. تقتحم كل غرف قلبك السرية، تقلب أثاثها.. تشوه جدرانها.. تحطمها لتندفع الريح في بيت قلبك.. تصبح عارياً وسط عالم من العيون الباردة.. بينما تكمل السياط طريقها إلى ذاكرتك.. لتختم صوفها الدافئ بلعنة حارقة.. سيكون لها أن تهز عمرك كلما مرت نسمات الأيام على صوف قديمك..

ـ لماذا سحبوك إلى مسلخ التحقيق مرة أخرى بعد كل هذا الوقت.. هل من جديد؟
ـ لا أعرف..!!
بدا محبطاً.. بينما كانت عيناه تحملان شيئاً من الشوق للآتي.
لم أقبل جوابه، لكن زمن العواء بين سياطهم علمني أن هناك أنفاساً لا بد أن تُؤخذ بعد العودة من هناك. عليك أن تسأل صوتك الحقيقي برفق أن يعود.. أن تطمئنه بأنهم ليسوا هنا.. وأن جسدك بات آمناً.. ولو لحين.. من سياطهم. ستضطر ربما أن تسقيه بعض الماء.. وقد لا يهدأ خوفه دون ماء عينيك المالح.
تركته يستدعي صوته.. والدماء الهاربة من وجه. لم أسأله من جديد.. لكنه لم يطل. سافر من خوفه إلى صداقتنا بخطوتين فوق بطانيات بلا لون..
ـ ربما أخرج قريباً..!
لم يستعد صوته الطبيعي. وكان الإحباط قد امتد ليحتل عينيه.
ـ ستخرج!!
كان فرحي أكثر حزناً من أن أستطيع الابتسام.

تذكرت فرحتي به حين أتانا من المنفردة.. كان لايشبه في شيء صديقي الذي نظر إلي بوجه ناعس.. وعينين غارقتين في الجهل.. حين اندفع رجال الأمن زرافات إلى بيتنا الذي كان قبل أن يضعوا أقدامهم فيه.. نقياً.
أن تكون وصديقك في سجن واحد.. معاً.. وجهاً لوجه.. قلباً لقلب.. هماً لهم. تلك فرحة جعلتنا نتساءل بعد ذلك عن الذين لا ينتظرون أن يجربوا كل صنوف التعذيب كي يدلوا بأسماء رفاقهم. هل هو الخوف والألم ما يدفعهم إلى ذلك أم أن رغبة يختلط فيها حب الآخر بالأنانية تجعلك تريده الآن.. في قلب هذا الموت.. معك.. لأنه.. لأنه.. صديقك.
كانوا قد انتزعوا شعره من جذوره. لم يتركوا سوى نقطاً خضراء كعفن الخبز فوق رأسه. وكان الشحوب قد اغتال حمرة وجهه حتى أطراف أصابعه. رأيت في وجهه وجهي عندما انتزعوني من منفردتي الحنونة ليرموني في هذه "الجماعية". فرحت به.. أمسكت بيده.. أجلسته منتظراً أن يغادره التوحد على مهل.. كي يعود إلينا.. جميلاً كما كان.. وعاد.

ـ هكذا فهمت من كلامهم.. ربما أخرج بعد عدة أيام.. لم يكونوا واضحين.. لكن يبدو أن هناك احتمال ما.. كبير، يعني، ربما!
كانت الفرحة بالخروج إلى النور.. والحزن على أصدقاء سيبقون في الظلام.. يتنازعان كلماته. كنت أحتاج زمناً قبل أن أفهم اختلاط مشاعره.. قبل أن ألعن المفارقات التي حرمته حتى فرحة صافية كهذه.. الخروج من المعتقل.
ـ عسى خيراً.. إذا كنت محقاً.. فربما نخرج قريباً!
ابتسمت للأمل الذي أقحمته في جملتي.. ولم يبتسم!
قال: ـ عسى خيراً..
وصمت.
ـ المهم ربما ستخرج.. دعنا نفكر بالأمر.. ربما علينا أن نوصيك بأشياء إذا خرجت قبلنا!
ـ ربما لدينا بعض الوقت.. لكن دعنا من هذا الأمر الآن... تلعب الشطرنج؟
أخرج من تحت بطانيته قطعة الورق التي رسمنا عليها رقعة الشطرنج.. تلك التي ستكلفنا بعد أيام جولة رعب عنوانها "التفتيش عن الممنوعات".
لم نحرك أياً من جنود الورق.. بحركة سريعة أعدناهم تحت البطانية من جديد. كان مزلاج الحديد يزمجر عن قرقعة صدئة.
تقدم السجان الخارج من حلق الموت.. وجعر باسم صديقي..
ـ يالله ولا.. ضب غراضك وتعال..
اخترقت قلبي سكين فنظرت إليه.. وكان نصل ذات السكين يلمع في عينيه.. قال.. لاشيء.. كل شيء.. بريق عينيه كان يصرخ بحب.. بحزن.. بفرح.. "لو أن الأمر بيدي.. ما تركتك وحدك.. صديقي!".
حمل الهواء في يده وخرج مصحوباً بمارد الأقبية الخالد.. وبلهفة عيني.
رافقته بخيال عيني.. خرجت معه من الجماعية.. مررنا على غرفة الديوان.. أخذنا ما تركناه يوم رُمينا في هذا القبو.. رباط حذاء.. حزام.. قداحة.. وسيجارة وحيدة في علبة السجائر التي كانت مليئة. رأيت شرير الديوان وهو يأخذ السيجارة الأخيرة.. يشعلها بقداحة صديقي.. يبتسم وهو يضع القداحة في جيبه.. وهمهمم مستغرباً الألم الذي يراوح في عيني هذا المعتقل البائس:
ـ العمى بقلبك.. افرد وجك .. ولك حدا بيطلع من هون وما بكون مبسوط..!
عاود المارد مرافقة صديقي إلى باب النظارة.. صعد معه الدرج.. التفت يميناً إلى غرفة الضابط.. لم يشأ الضابط أن يقول كلمة.. مر على وجه رفيقي الأصفر بقدر من الازدراء يناسب رتبته.. وأشار بإصبعه إلى المارد الذي تحول إلى قزم مسكين في مكتب الضابط. خرج القزم بصديقي باتجاه الباب.. و.. و.. لم يكن بإمكان خيال عيني رؤية الشمس.. بكتا عند عتبات بناء الفرع.. تمنت الأمان لصديقي.. وعادتا إلي.. بلا صوت.
كنت أوزع الضحك على المعتقلين.. كي أغفو إلى حزن خالص حين أضع طرف قميص فوق عيني.. لأحميهما من ضوء الغرفة الأسود.. وأنام.

منذ سنوات وأنا أنتظر لقاءه.. أنتظر أن أغلق ثقب قلبي الذي صحوت عليه بعد خروجه. لطالما حلمت لو أن خروجه لم يكن مباغتاً هكذا.. ليس كي يبقى معي في السجن.. لكنه قال لي "لدينا بعض الوقت".. كنت أحتاج هذا البعض من الوقت فقط.. يوماً واحداً أرتب فيه ألمي بجانب سعادتي بخروجه.. وأن أضع حلمي بالخروج على رف آخر.. وربما يتسع رف آخر لرغبتي بأن يشاركني المصير.. أردت أن أضع كل شعور في مكانه.. لكنهم أخذوه على عجل.. وعلى عجل اختلطت مشاعري بجنون المفاجأة.. تحولت زوبعة من ألم. ظلت تحفر قهرها في قلبي حتى خرجت من الجهة الأخرى..

لم تدم ضحكات اللقاء الهستيرية طويلاً.. كنت أريد أن أعانقه.. أن أربت فوق كتفه.. أن أتأكد أنه حي.. لكن الشاشة الصغيرة لم تحمل لي سوى ألوانه..
ـ ما أصعب أن يكون لقاؤنا هكذا بعد عمر..
ـ والله صعب..
لم يجد الكلام مكانه بيننا.. وحدها العيون كانت تبحر قدر ما تتيحه الشاشة كي تقرأ الأيام الماضية. وكنا نرى الشوق يخفق بجناحي عنقاء..
ـ لا أحتمل أن أراك هكذا.. لماذا لا تأت..؟
لم يكن يسأل.. وما كان ينتظر جواباً..
ـ والله زمان يا صديقي..
ـ زمان..
بدأت ألوان صورته في الشاشة تميع.. صوت ما همس لكلينا.. "كفى قهراً"..
ـ عسى خيراً..
ـ عسى خيراً..
وكان هناك خطان يلمعان في وجهه، وكرتان دافئتان تنزلقان فوق وجهي.. قبل أن يعم الشاشة السواد..



#صادق_أبو_حامد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صادق أبو حامد - قصة قصيرة