أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محرز راشدي - يوتوبيا الشّعر العربي الرّومنطيقيّ أو النّبيّ الطّائر















المزيد.....


يوتوبيا الشّعر العربي الرّومنطيقيّ أو النّبيّ الطّائر


محرز راشدي

الحوار المتمدن-العدد: 5064 - 2016 / 2 / 3 - 21:52
المحور: الادب والفن
    


كتابة الطّيران في المنجز الرّومنطيقي
إنّ الشّاعر النّبي الّذي يبعث فينا الجسارة على فتح أيدينا أجنحةً تعرج بنا نحو السّماء، هو المناهض لكلّ الحتميّات القهريّة، والقادرة على استعادة النّماذج البدئيّة في صلب الإفضاء الشّعري على شاكلة استعارات أنطولوجيّة أورموزٍ أوّليّة. وهذه العمليّة- في تقديرنا- بعيدة المنال عن مقولة المحاكاة، بل بأن ندرج ضمن الخيال « قانون العناصر الأربعة الّتي تصنّف مختلف ضروب الخيال المادّية بحسب ارتباطها بالنّار، والهواء، والماء أو التّراب» . وهي إلى ذلك نتاج معركة دائمة ضدّ التّسطيح والجاهزيّة، وترويض للنّفس على الرّؤيا لا المستقبليّة فحسب، وإنّما الماضويّة المعنيّة بزمن البدايات، وبالذّاكرة الجماعيّة (الذّاكرة اللاّإرادية)، قصد تحقيق الوحدة الكونيّة المنفرطة، ورتق الكلوم الإنسانيّة الغائرة « فالماضي جزء لا يتجزّأ من الكوسموس، واستكشافه هو كشف ما يختفي داخل أعماق الكينونة. وبهذا الامتياز المعرفي يختلف الشّاعر أساسا عن الإنسان العادي الّذي تقوم المعرفة عنده على الأقوال المنقولة والسّماع المدعوم بشهادة الغير، بينما تنهض المعرفة الشّعرية على الإلهام والرّؤيا الشّعرية المباشرة» ؛ سنؤسّس على هذه الإلماعات مقاربتنا الصّورة الشّعرية عند إيليا أبي ماضي الّتي قامت في لحظة سابقة على قاموس النّور والألق والضّياء، ويؤثّثها في هذه المرحلة قاموس الطّيران والتّحليق والتّجنيح، إذ يلتقي كلاهما في برزخ الفردوسي المفقود أو اليوتوبي المأمول بإيعاز من الحلم محرقةً فيها تنصهر الأضداد، واستنادا إلى الخيال الخلاّق نافذةً تفتح على معرفة ما بعديّة، وحتّى نفي هذا المبحث حقّه من الدّرس اخترنا قصائد ثلاث تحمل عناوين دالّة هي "الفيلسوف المجنّح" و"أخو الورقاء" و"الكنار الصّامت"، ولا نعدم أمثلة شعريّة أخرى نستحضرها متى اقتضت الحاجة. هذه النّماذج المذكورة تصوّر الشّاعر إمّا طائرًا أو تائقًا إلى الطّيران وتستعير لذلك معاني التّجنيح والتّحليق الّتي تدعونا إلى التّعريج على معنى الأجنحة ذي الأصول الأفلاطونيّة، وقد شغّل هذا المعنى إباء الكنيسة والمتصوّفة. فنجد في المزامير ما يؤكّد مداليل القدرة والمناعة والخلود:
«واُسترني بظلّ جَنَاحيْكَ» (المزمور17، الآية 8)
« فإنّ بني البشر يحتمون في ظلّ جناحيْك» (المزمور36، الآية 8)
وحسب غريغواردي نيس (Nysse Grégoire) ، إذا كان الربّ، النّمط الأعلى، مجنّحًا، فإنّ النّفس المخلوقة على صورته تمتلك هي كذلك أجنحتها الخاصّة بها. ولقد فقدتها لمّا سقطت في الخطيئة وضيّعت منزلتها السّنية. ومن ثمّ فإنّ انشطار الوحدة الأولى رافقه عقاب مسّ هيئة الكائن الإنساني، ولذلك لا يمكنه صياغة أحلام العودة إلى وطنه الأصلي دون أن يغيّر من هيكله ويقارع المحمل الطّيني. وحينئذ يصبح الجناح رمزًا للتحوّل والانتقال، للتحرّر من ضوابط المكان، وولوج حالةٍ روحانيّة أساسها الإشباع والامتلاء .
ويبدو أنّ الحضرات البشريّة على تمايزاتها الظّاهرة تجتمع كلّها حول ما هو كينوني مغمور في اللاّوعي الجمعي، وليس بدعةً أن نعتبر التّحليق في الأجواء محاكاة للطّير قد كان مركزًا جذّابًا للأحلام البشريّة منذ عهودٍ سحيقةٍ « يقول البابليّون إن الرّجل الّذي يطير في أحلامه سيصيب غنًى إذا كان فقيرًا وحرّية إذا كان سجينًا وصحّةً إذا كان مريضًا» وهو إلى ذلك قد جذب التّحليل النّفسي إلى أرضه حتّى يفكّك مغاليقه ويبين عن الدّوافع العميقة الواقفة وراء إنتاجه باستمرارٍ.
إذ عقد فرويد قرانًا بين حلم الطّيران والأحلام الجنسيّة، وذهب تلميذه ويلهلم ستيكل إلى اعتبار أحلام الطّيران على صلةٍ بالتّفكير في الموت. وأرجعها آخر (ألفر أدلر) إلى رغبة جامحة في السّيادة على الآخرين. والأرجح أنّ غالبيّة الأبحاث الحديثة في هذا الخصوص تنزع إلى تدعيم تصوّر كارل يونغ « النّاس الّذي يكونون تحت سلطة مكرهة والنّاس الّذين يُجبرون على العيش في ظروفٍ غير مريحةٍ (...) يعبّرون عن رغبتهم بالحرّية من خلال أحلام الطّيران» .
وما يوجّه النّبوة الرّومنطيقيّة نحو العرش السّماوي هو محدوديّة الأفق الأرضي الآخذ بالأعراض الزّائلة دون الجواهر الخالدة، فـ« النّاس في الشّرق ليسوا كلّهم أنبياء انفتحت بصائرهم على حقيقة الوجود. لذلك تمسّكوا في ديانتهم بالقشور فخسروا الأرض ولم يظفروا بالسّماء. ولا النّاس في الغرب كلّهم علماء. ولكنّهم أقبلوا بنهمٍ على ما حقّقه لهم العلم من منجزات. فربحوا الأرض وأفلتت منهم السّماء» . وفي هذا المنحى أخذت الكتابة الأدبيّة على عاتقها ضرورة التخلّص من الأثقال: الأثقال المكبّلة للحركة التّلقائية والجاذبة نحو الأرض علامة الشّقاء، وأثقال الثّقافة والاجتماع الّتي تشلّ الإرادة الفرديّة، والأثقال الجماليّة الّتي كرّستها المؤسّسات القائمة لتضيّق بها على مسالك الخلق والإبداع. وقد تفطّن البعض إلى أنّ الأدب بعامّة والشّعر بخاصّة كان ولا يزال تعبيرةً صادقة عن التّشوف إلى الخلاص، ولذلك مثّل احتفاءً بتعابير تؤدّي رؤيته تلك ميلًا إلى الخفّة والدقّة والرقّة، ونحن إنّما نقصد "إيطالو كالفينو" النّاقد الإيطالي الّذي محّض محاضرته الأولى للتّعارض بين الخفّة والثّقل (Leggerreza-Peso) ، إذ نعتقد أنّ الخفّة من مقتضيات الطّيران ولوازمه، بل إنّ من خفّ وزنه وميزانه فهو حتمًا من صنفٍ أثيري مرفرفٍ. ولعلّ المشي والرّكض هما الاختباران الحاسمان للإنسان الّذي يريد لذاته أن تكون. وهذا ينطبق على "نيتشه الماشي" إذ « صقل نيتشه بأناةٍ إرادة القوّة من خلال مشيه الطّويل في الجبل، ومن خلال حياته في الهواء الطّلق على القمم...» .
فإذا صحّ مع نيتشه أن نعتبر- بلغة باشلار- « المشي هو معركته » كذلك بإمكاننا- دون عسفٍ أو غلوّ- التّسليم بكون الشّاعر- النّبي ما انفكّ يشعرنا بأنّ الطّيران هو معركته- ولقد أقرّ كالفينو بأنّ « اتّجاهين متعارضيْن يتقاسمان عبر القرون الصّراع في الميدان الأدبي: الأوّل يحاول أن يجعل من اللّغة عنصرًا من دون ثقلٍ، يطفو فوق الأشياء دون سحابة، أو من الأفضل مثل غبار دقيقٍ، أو من الأفضل مرّة أخرى مثل حقلٍ من النّبضات المغناطيسيّة. أمّا الاتّجاه الآخر، فيحاول منح اللّغة ثقل وسمك وصلابة الأشياء، والأجسام والأحاسيس» .
ونقدّر أنّ أبا ماضي من السّائرين في موكب الاتّجاه الأوّل خاصّةً من خلال مجموعتيه الخمائل والجداول، حيث يلهج بالفضاء المطلق والأمداء المفتوحة فيصوّر غير المحدود وغيرالمتناهي، فتقلع الكتابة الشّعرية عن الأفقيّة لتستحيل عموديّة مرتبطة بأساليب بلاغيّة من تشابيه واِستعارات دالّة على الحلم، وهي بدورها استجلبت بنيتها من قاموس التّعالي والسموّ والطّيران للإفلات من قبضة الهاوية والانحدار:
يَا أَيُّهَا الشَّادِي المُغَرِّدُ فِي الضُّحَى ҉-;- أَهْوَاكَ إِنْ تُنْشِدْ وَإِنْ لَـــــمْ تُنْشِدِ
الفَنُّ فِيـــكَ سَجِيَّـــــةٌ لاَ صَنْعَـــــةٌ ҉-;- وَالحُبُّ عِنْدَكَ كَالطَّبِيعَةِ سَرْمَدِي
فَإِذا سَكَــــــتَّ فَأَنْــــتَ لَحْـنٌ طَائِرٌ ҉-;- وَإِذَا نَطَقْتَ فَأَنْتَ غَــيْرُ مُقَــــــلِّدِ
لِلَّهِ دَرُّكَ شَاعِـــــرًا لاَ يَنْــــــتَهِــي ҉-;- مِنْ جَيّــِدٍ إلاَّ صَبَــــا لِلْأَجْـــــوَدِ
مَرَحُ الأَزَاهِرِ فِي غِنَائِكَ، وَالشّذَا، ҉-;- وَطَلاَقَةُ الغـــُدْرَانِ والفَجْرِ النَّدِي
فقد شغّل الشّاعر الاستعارة التّرشيحيّة بأن أضمر لفظة "الطّائر" بينما استدعى لوازمه من شدوٍ وتغريدٍ ونشيد. وعمد إلى صيغة اسم الفاعل "الشّادي"، "المغرّد" دلالةً على الدّوام والاستمرار والتّجدّد. ناهيك أنّ البيت الأوّل ورد جملة إنشائية تفيد النّداء "يَا أَيُّهَا..." بما يطفح به النّداء من معاني الدّعوة إلى القدوم والحضور، وهي دعوة تصدح بها كلّ قراءة جديدة ويستقبلها كلّ متلقٍّ جعل الإصغاء نافذةً تنير مكنوناته الغفلة.
ويفيد عنوان القصيدة "الفيلسوف المجنّح" القدرة على الابتكار والإبداع، فلكأنّ العنوان رديف للأفكار المجنّحة أو الأفكار الرّاقصة خارج كلّ سياج. ففي الشّاعر العبقري ما في الطّائر الشّادي من فطريّة وخلقٍ على غير مثال وطموح جارفٍ إلى الأعلى، أي إلى الأسمى في مستوى النّشيد. خاصّة أنّ النّشيد اختار مادّته الشّعرية من شعريّة الأشياء الطّبيعيّة:
مَرَحُ الأَزَاهِرِ فِي غِنَائِكِ، والشَّذَى ҉-;- وَطَلاَقَةُ الغُدْرَانِ وَالفَجْرِ النَّدِي
فقد جمع "الفيلسوف المجنّح" في سحره الشّعري أو في شعره السّحري رهافة الأزهار وأثيريّة الأريج وسيولة المياه العذبة واندفاعها ونورانيّة الفجر ونداوته. وتسعف هذه العناصر الطّبيعية الموسومة بالهشاشة والبشاشة والسّيولة واللّيونة والنّداوة، تسعف الشّاعر على انتصاره في معركته ضدّ خشونة الواقع المادّي، وتتسامى بضربٍ من المرح واللّعب واللّهو على الفظيع والشّنيع.
وإذا كان الينبوع على حدّ عبارة بول فور (Paul fort) هو « اللّغة الجاعلة نفسها ماءً » فإنّنا نشهد من خلال هذا البيت الشّعري أنّ الشّاعر النّبي قد أرسى من كيميائيّة الموجودات الطّبيعية، ومن تحوّلها من واقعة مادّية إلى واقعة بخاريّة متلاشية في الفضاء، كيميائيّة لغته الشّعرية، إذ أنّ الشّذا أو العبير هو ما تقذف به الأزهار في الأرجاء وما يتلاشى في الهوى. وليست نداوة الفجر إلّا نتاج تبخّر طلاقة الغدران، وتحوّل الماء عن الحركة الأفقيّة وإنعاش الأرض بالحركة العموديّة وإنشاء الغيمة.
هذه الصّورة ستعضدها صورة شعريّة أخرى من القصيدة نفسها عمل الشّاعر على حبكها بإيعاز من شكلٍ بياني معروف هو التّشبيه البليغ:
أَنْتَ المَلِيكُ لَهُ الضِّيَاءُ مقاصِرُ ҉-;- وَ تَعِيشُ عَيْشَ النَّاسِكِ المُتَــــزَهِّدِ
مُسْتَوْفِزًا فَوْقَ الثَّرَى، مُتَنَقِّـلًا ҉-;- فِي الدَّوْحِ، مِنْ غُصْنٍ لِغُصْنٍ أَمْلَدِ
مُتَزَوِّدًا مِنْ كُلِّ حُسْنٍ لَمْحَـةً ҉-;- شَأْنَ المُحِــــبِّ الثَّائِـــرِ المُتَمَــــرِّدِ
وَإِذَا ظَفِرْتَ بِنَفْحَةٍ وَبِقَطْــرَةٍ ҉-;- فَلَقَدْ ظَفِرْتَ بِرَوْضَـــةٍ وَبِمَــــــوْرِدِ
فالواضح أنّ التّخوم بين المشبّه والمشبّه به قد تحطّمت وتلاشت نهائيًّا ليتجرّد الشّاعر من الطّمي ويستوي كائنًا نورانيًّا خفيفًا، شفّافًا متسربلًا بزرقة الأفق، ويضحي من نزلاء البروج العاجيّة، والقصور المضيئة. هذه الإقامة المتلفّعة بلبوس القداسة، هي من النّماذج البدئيّة الّتي أنتجتها الأساطير النّشكونيّة؛ أي أساطير الخلق الأولى الّتي تبنّتها النّصوص المقدّسة وهي تقصّ ذكرى فردوسيّة أفلتت من الإنسان فأفلتت منه ماهيته الأصيلة.
ونلحظ في البيت الثّاني إجراء اشتقاقات دالّة على السّرعة والحركة والرّشاقة، ذلك أنّ التّراب ليس وطنًا لركون الشّاعر الطّائر، وهو ما يجعل وطأه على الأرض خفيفًا، ولمسه حفيفًا، سرعان ما يعرج به نحو شجرة المستقبل (الدّوح)، الّتي تذكّر بشجرة الحياة وبمشهد الجنان والنّعومة والطّراوة (غصن أملد) عكس تحجّر المادّة وتصلّب الواقع. وليست صورة الطّائر متنقّلًا بين الأغصان إلّا صورة الشّاعر متنقّلًا بين الخواطر والرّؤى المختلفة وبين المنازل المتنافرة، فـ« سرعة الأسلوب والفكر يعني بالخصوص الرّشاقة، والحركة والطّلاقة. تتوافق كلّ هذه الخصائص مع كتابة مستعدّة للاستطراد، للقفز من موضوع لآخر، ولفقدان الخيط الرّابط مائة مرّة، والعثور عليه بعد مائة دورة » .
فقد مثّلت قصيدة "الفيلسوف المجنّح" هذا الانتقال بين الأعلى والأسفل، بين اللاّوعي الحالم والوعي الشّقيّ. بين اِبتهاج الأسارير واهتزاز الكيان في كنف الخيال المجنّح المهووس بالإطلاق والانطلاق وبين الضّيق والحصار والتشرّد في أوحال الواقعي الموجود:
وَتَمُدُّ صَوْتَـكَ فِي الفَضَـــاءِ مُتَلَهِّـــــفًـا ҉-;- فِي ذُلَّةِ المُسْتَرْحِمِ المُسْتَنْجِـــــــدِ
فَكَأَنَّـــــمَا لَكَ مَـوْطِـــنٌ ضَيَّعْـــتَــــهُ ҉-;- خَلْفَ الكَوَاكِبِ فِي الزَّمَانِ الأَبْعَـدِ
وَطَــــنٌ جَمِيـــــلٌ كُنْتَ فِيـــهِ سَيِّــــدًا ҉-;- فَمَضَى، وَدَامَ عَلَيْكَ هَمُّ السَّيِـــــدِ
طُورِدْتَ عَنْهُ إلى الحَضِيضِ فَلَمْ تَزَلْ ҉-;- مُتَلَفِّتًا كَالخَـــائِفِ المُتَــــشَـــــــرِّدِ
نلحظ أنّ التّحوّل في الرّؤية مصاحب لتحوّل في الكتابة من كتابة يؤثّثها القفز والمرح والتّزوّد والظّفر، إلى كتابة مسكونة بنقل الأحوال، من لهفة و إذلالٍ، وخوفٍ وتشرّد. هذه الكتابة الثّانية واقعة تحت سندان الضّياع والهمّ والدّيمومة وحطام الذّات الشّاعرة الموزّع بين الأبعاد والأقاليم وتناقضات المعيش.
وبما أنّ الرّومنطيقيّة قد بلورت رؤيتها للعالم والإنسان والأشياء على أساس مبدإ وحدة الوجود، وارتداد كلّ الأجزاء إلى نواة واحدةٍ، فستبنى أسطورة العود الأبدي والشّوق إلى الزّمن الأوّل، زمن الحضور الكلّي على دعائم صورة شفّافة مقدودة من معاجم واستعارات القاسم المشترك بينها هو الرّفيف والخفّة والذّوبان والتّلاشي:
فَسَتَرْجَعِينَ خَمِيلَـةً مِعْطَـــارَةً ҉-;- أَنَا فِي ذُرَاهَا بُلِبُلٌ مَسْحُـــــــورُ
يَشْدُو لَهَا وَ يَطيرُ فِي جَنَبَاتِهَا ҉-;- فَتَهِشُّ إِذْ يَشْدُو، وَحِينَ يَطِيـــرُ
أَوْ جَدْوَلًا مُتَرَقْـرِقًا مُتَرَنِّمًــــا ҉-;- أَنَا فِيهِ مَوْجٌ ضَاحِكٌ وَخَرِيــــرُ
أَوْ تَرْجِعِينَ فَرَاشَةً خَطَّـــارَةً ҉-;- أَنَا فِي جَنَاحَيْهَا الضُّحَى المَوْشُورُ
أَوْ نِسْمَةً أَنَا هَمْسُهَا وَحَفِيفُهَا ҉-;- أَبَــــــدًا تُـــطَوِّفُ فِي الرُّبَا وَ َدُورُ
حيث تتبدّى العودة إلى طهارة الحبّ ونقائه استجماعًا للذّاكرة النّبوية حتّى تستعيد لحظة التّناسق بين الرّوائح والحركات والأصوات والألوان في ضربٍ من التّضايف والتّماكن بين العاشق وحبيبته، بين الشّاعر وطبيعته، وبين عناصر الطّبيعة فيما بينها. هذا التّماكن والتّضام في سرّة كونٍ أشبه ما يكون بجنّة سحريّة يجعل الأشياء تتخلّص من عقدة العقم والجفاف والموت لتصبح علامات حياة، وهي حياة الخلود، وحياة المثال، وحياة الشّاعر الّذي يذهب في الرقّة والعروج والارتفاع حتّى يغدو همسًا وحفِيفًا. وكأنّ هناك رغبة دفينة في الشّاعر تبتغي أن تمتلئ هواءً نقيًّا بعيدًا عن سموم الواقع البشري، ما تنفكّ تلتهب حتّى تذوّبه في الأثيري تذويبًا. فالوجود الفردوسي حيث المثال والكمال لا يمكن أن يصاغ بعبارات ميّتة أنهكها الاستعمال وسقطت في الإسفاف والابتذال، وإنّما يصاغ بقواميس حيّة تحوّل الأشياء من وقائع مادّية إلى وقائع شعريّة تلخّص مقول بول ريكور: « العبارة الحيّة هي هذه الّتي تقول الوجود الحيّ » .
وقد مثّل التشبّه بالطّيور اضطرابًا ورفرفةً وتجنيحًا- بالنّسبة إلى الشّعراء الرّومنطيقيّين- ليس فقط أهليّة الخلق والإبداع، وليس تعبيرًا عن نزعة هروبيّة فحسب وإنشاء عالم المثال، بل وقع استغلال هذه الصّورة كذلك من أجل تجسيد حركة الصّعود وحركة النّزول، حركة أولى عرفانيّة وحركة ثانية مأساويّة، ومثال ذلك ما تضمّنته قصيدة "أخو الورقاء":
وَكَأَنَّــنَا نُحَلِّــــقُ فِــــي الفَـــــــضَا ҉-;- صُعُدًا لِنَلْمَسَ مَوْكِبَ الجَوْزَاءِ
حَتَّى إِذَا حَانَ الوُصُولُ.. رَمَتْ بِنَا ҉-;- نَكْبَـــــاءُ عَاتِيَــــةٌ إِلَى الغَبْرَاءِ
ويضيف الشّاعر في ذات المَنْحَى:

هُوَ بُلْبُلٌ عَبَــقَ النُّبُــــوَّةِ فِي أَغَـا ҉-;- نِيهِ، وَفِيهَا، نَكْهَةُ الصَّهْبَاءِ
(...) هُوَ نَفْحَةٌ قُدْسِيَّةٌ هَبَطَتْ إِلَى ҉-;- هَذَا الثَّرَى مِنْ عَالَمِ الآلاَءِ
فوقع توظيف التّشبيه التّمثيلي في المثال الأوّل ليكشف عن المفارقة بين ما يروم الشّاعر تحقيقه في الحلم وبين ما يتحقّق فعلًا. ثمّ ليستدعي إيحاءً قصّة بروميثيوس الّذي جنى عليه اجتراؤه على المحظور أن شُدّ وثاقه إلى صخرة وسلّط عليه العقاب؛ إذن ثمّة تناسب بين سقف الأحلام ووقع الارتطام. كما تمّ توظيف التّشبيه البليغ في المثال الثّاني (هو بلبل/ هو نفحة قدسيّة) ليظهر في الحالة الأولى التّماهي مع المدى، وفي الثّانية الالتصاق بالثّرى. وهذا يؤول بنا إلى تنزيل الشّاعر النّبي منزلة فوق العمى البشري ودون الصّفاء الإلهي، يصارع الدّونيّة فيما تعتاص عليه الألوهيّة.
ولعلّ هذه المصارعة تتجلّى أكثر ما تتجلّى في قصيدة "الكنار الصّامت" الّتي يكشف عنوانها عن تناقض بين منعوت (الكنار) سمته الأصيلة التّغريد والشّدو وبين نعت (الصّامت) دليلًا على ارتكاس الصّوت. فيستعير الشّاعر صورة الكنار الصّامت ليعبّر من خلالها عن ضيقه بعالم الحدود والمقاسات الّتي تجهز على المبدع وتئد الفعل الإبداعي. فإذا كان التّجنيح ترقّيًا معرفيا وكشفًا غير محدود، وحركة عموديّة صاعدة صوب الأقاصي والآفاق الشّاسعة بغية المطلق والمثال، فإنّ السّجن الّذي يراد منه التّرويض والتّهذيب سيجعل الطّائر إمّا نشازًا يمجّ الأسماع وإمّا أخرس رفضًا للواقع المفروض عليه. يرمز وقتئذ الكنار الصّامت إلى الشّاعر العبقري الّذي أرهقته المواثيق والاشتراطات فسلبت منه حرّيته وأهدرت صوته الأصيل، وهو المتشوّف إلى الحرّية حتّى يستعيد القول الشّعري، وكما يقول أبو ماضي:
وَالنِّسْرُ لاَ يَرْضَى السُّجُونَ وَإِنْ تَكُنْ ҉-;- ذَهَبًا، مَحَابِسُ مِنْ طِينِ
الأَرْضُ للحَشَرَاتِ تَزْحَــفُ فَوْقَــــهَا ҉-;- وَالجَوُّ للبَازِي وَالشَّاهِينِ
وما نخلص إليه هو أنّ المنجز الإبداعي لإيليا أبي ماضي في مواطن ليست قليلة قد أكّد مقولة «الشّعر هو الطّيران» ، والطّيران هو مقاومة عنيدة للإعاقة المتأبّدة في الإنسان والرّاشحة عن السّقوط وخسارة الهويّة الأولى والماهية الأثيلة، ومقاومة للأغلال الوضعيّة اجتماعيّة كانت أم ثقافيّة أم أدبيّة. وهو حلم الانطلاق، وتسريح القوى الملجومة، واقتحام الخطر، وتصيّد السّرّ المكنون، والتّأسيس لعالمٍ أفضل من العالم، فيه ينجلي الضّياء ويغمرنا الصّفاء ونتعمّد بالأنوار، فلا خطيئة ولا دنس أو نقصان، بل الكلّ ينتعل بساط الرّيح، خافقة أرياشه على إيقاع نبضات قلبه، بل على إيقاعات الأجرام والأفلاك، والسّواقي والغدران، وفق تسبيحة كونيّة تترنّم بتناغم الإنجيل الكوني متهجّية كنه الجمال وقداسته.



#محرز_راشدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشّعر والسّحر: كيمياء الشّعر


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محرز راشدي - يوتوبيا الشّعر العربي الرّومنطيقيّ أو النّبيّ الطّائر