أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نبيل فياض - إعلان دمشق: التوتاليتاريّة البعثيّة القديمة بلغة ناصريّة غير حداثوية















المزيد.....


إعلان دمشق: التوتاليتاريّة البعثيّة القديمة بلغة ناصريّة غير حداثوية


نبيل فياض

الحوار المتمدن-العدد: 1372 - 2005 / 11 / 8 - 11:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في السادس عشر من تشرين الأوّل-أكتوبر الماضي، صدر عن بعض القوى المعارضة السوريّة بياناً سياسيّاً، أسموه إعلان دمشق، خلق نوعاً من الحراك السياسي ضمن الانتلجنسيا السوريّة، ثم تلقفّته وسائل الإعلام الإقليميّة والعالميّة، ليشكّل بعدها ظاهرة في الحياة السياسيّة السوريّة. أهميّة إعلان دمشق هي في الإعلان ذاته لا في ما ورد فيه من أفكار. فبسبب غياب أيّ شكل للحراك السياسي " الفعلي " عن الساحة السوريّة منذ زمن طويل، ولأن المحيط كلّه يغلي، بفضل عمليّة تحرير العراق، على موقد من ديمقراطيّة وبالتالي تغيير، فقد حظي الإعلان بما حظي به من " هوجة "! هذا الإعلان لو صدر في أي بلد ديمقراطي بظروف عاديّة، لما اهتم أحد به: إلاّ باعتباره وثيقة ضد-ديمقراطيّة، من الطراز الأوّل، بالمعنى العلمي للديمقراطيّة.
إنّ إعلان دمشق، كأي وثيقة سياسيّة أخرى، لا يخلو من فقرات إيجابيّة كثيرة، مستمدّة عموماً من نصوص سابقة عليه، محليّة وغير محليّة، لكن كما يقول المثل الشهير، الغابة تخفي الشجرة، فغابة إعلان دمشق، بفقراتها الكثيرة، نجحت في إخفاء شجرة الطائفيّة الباسقة عن الأعين غير الخبيرة.
يقول الإعلان في أولى فقراته: " تتعرض سورية اليوم لأخطار لم تشهدها من قبل ، نتيجة السياسات التي سلكها النظام ". هنا، لا بدّ أن نتساءل، بموضوعيّة شديدة: إذا تغاضينا عن اللغة الإنشائيّة التي تغمر البيان من ألفه إلى يائه، هل المعارضة بريئة بالمطلق من الهاوية التي سقطت فيها سوريّا اليوم؟ ألم تعط المعارضة، التي اعتمدت الإرهاب والطائفيّة وسيلة للوصول إلى الحكم [ الأخوان المسلمون أوّلاً وليس آخراً ]، النظام الحجج المنطقيّة كي يبرّر حكمه البلد بطريقة استبدادية، بقبضة حديدية، وأن تخلق حالة استقطاب طائفية ما تزال سوريّا تدفع ثمنها حتى الآن؟ إن النظام والمعارضة عموماً، كونهما نتاجاً لمجتمع أصولي ضد-مدني، طائفي، قبلي، لاعقلاني، يتحمّلان الوزر ذاته في الحالة التي وصلنا إليها.
يقول الإعلان في فقرة أخرى: " [ سوريا ] اليوم على مفترق طرق بحاجة إلى مراجعة ذاتها والإفادة من تجربتها التاريخية أكثر من أي وقت مضى ". والواضح هنا، في ظل الحماسة الإنشائية العبد-ناصريّة، أنّ كتبة هذا الإعلان هم إمّا جاهلون بالمطلق بتاريخنا – لا حاجة بنا لتذكير القرّاء بنوعيّة أمراء مؤمنينا الأفاضل، كمعاوية ويزيد والوليد وبني العبّاس والعثمانيين؛ أو بعبد الحميد السرّاج، من تجاربنا الحديثة – أو أنهم يستجدون عواطف العامة التي وصلت إلى حدها الأقصى من الهياج. تجربتنا التاريخيّة، من منظور نقدي، لن تفيد إلا إذا قمنا بقطيعة معرفيّة كاملة مع هذا التاريخ، فكلّ من أراد سنداً شرعيّاً تاريخيّاً معرفيّاً لكلّ نقيصة في حياتنا المعاصرة، ليس أفضل من التاريخ يقدّم له ذلك.
في فقرة تالية، يقول هذا الإعلان: " فاحتكار السلطة لكل شيء، خلال أكثر من ثلاثين عاماً ، أسس نظاماً تسلطياً شمولياً فئوياً ". هذا يعني، أننا قبل حافظ الأسد – وهو ما فهمناه من جملة: خلال أكثر من ثلاثين عاماً – لم تكن سوريّا تعيش التسلّط أو الاستبداد أو الفئويّة: فهل كانت منظومة الحكم التي جاء بها عبد الناصر ونظامه التوتاليتاري شمولية أم لا؟ هل أن ما فعله أمين الحافظ، وذاكرتنا ليست مثقوبة، لا يدخل تحت عنوان التسلّط؟ هل أن مواقف عبد الناصر من الطوائف السوريّة غير السنيّة لا تدخل تحت عنوان الفئويّة؟ هل المقصود بالفئوية – لنحك بصراحة – سيطرة العلويين على مقدّرات البلاد؟ إذا كان الأمر كذلك، وهذا ما أرجحه من معرفتي ببعض القائمين على هذا الإعلان، فهذه الفقرة، بكلّ أسف، تدلّ على أن أصحابها لم يخرجوا من جلودهم الطائفيّة، مهما بدت شعاراتهم برّاقة. الفئوية لم تكن السمة الغالبة على النظام، بدليل أن بعض ألمع القادة في هذا النظام، من أمثال عبد الحليم خدّام ومصطفى ميرو ومحمود الزعبي ومصطفى طلاس... ليسوا من الطائفة العلويّة؛ وإن وجدت فئوية في مرحلة من مراحله، فهي باعتقادنا كانت نوعاً من الارتكاس الذاتي العلوي، بحثاً عن حماية، وقت كان الأخوان المسلمون لا يفرّقون في اغتيالاتهم للعلويين بين الزبّال والأستاذ الجامعي. إنّ إقصاء الإعلان لأمين الحافظ السنّي عن سلسلة الانتكاسات التي أصابت سوريّا زمن البعث، وإلقاء اللوم كلّه على حافظ الأسد العلوي، لا يعني غير أن أصحاب هذا الإعلان فشلوا، كما قلنا، في الخروج من فخ الطائفيّة.
في فقرة أخرى، يقول هذا الإعلان الإنشائي، إن سياسات النظام أدّت إلى " انعدام السياسة في المجتمع ، وخروج الناس من دائرة الاهتمام بالشأن العام ، مما أورث البلاد هذا الحجم من الدمار المتمثل بتهتك النسيج الاجتماعي الوطني للشعب السوري ، والانهيار الاقتصادي الذي يهدد البلاد ، والأزمات المتفاقمة من كل نوع ". – وهذا النص، بكامله، ليس أكثر من حشو شعاراتي هدفه تجييش أكثر للشارع المجيش اصلاً، ودفعه نحو مزيد من الاستقطاب. فلو فرضنا أن السياسة انعدمت، ولم يعد ثمة اهتمام بالشأن العام: كيف خرج هؤلاء من العدم واتخذوا من الشأن العام بؤرة اهتماماتهم؟ وإذا كان انعدام السياسة مترابطاً منطقيّاً مع الانهيار الاقتصادي: كيف يمكن أن نفسّر وجود كيانات استبداديّة مزدهرة اقتصاديّاً، أو العكس؟ إن هذه النظرة أحاديّة الجانب لا تدلّ إلاّ على قصور معرفي، وروح طائفيّة عدائيّة، لا مثيل لهما. إنّ هؤلاء الذين يحكون اليوم، بإلحاح مزعج، في الديمقراطيّة، هم في نهاية الأمر مجرّد نتاج لفكر استبدادي شمولي إقصائي، اسمه الناصريّة، لا يختلف عن البعث إلاً في العنوان. الحقيقة التي لا ريب فيها، والتي يأبى الجميع الاعتراف بها، هي أن العالم تغيّر: لولا منظومة القيم الغربيّة التي فرضتها أميركا بالقوة بعد انهيار منظومة الاستبداد الستالينيّة، ما وصلت إلى هؤلاء أفكار من هذه النوعيّة.
يقول الإعلان في موضع آخر: " كل ذلك ، وغيره كثير ، يتطلب تعبئة جميع طاقات سورية الوطن والشعب ، في مهمة تغيير إنقاذية ، تخرج البلاد من صيغة الدولة الأمنية إلى صيغة الدولة السياسية ، لتتمكن من تعزيز استقلالها ووحدتها ، ويتمكن شعبها من الإمساك بمقاليد الأمور في بلاده والمشاركة في إدارة شؤونها بحرية ". وفي موضع ثالث، يُقال: " إقامة النظام الوطني الديمقراطي هو المدخل الأساس في مشروع التغيير و الإصلاح السياسي. ويجب أن يكون سلمياً ومتدرجاً ومبنياً على التوافق ، وقائماً على الحوار والاعتراف بالآخر ". يبدو لي أن كتبة هذا الإعلان كان يهمهم فقط إصدار وثيقة يسجّلون بها سابقة، وإن كان ذلك على حساب ترابط النص منطقيّاً: كيف يمكن مثلاً الحديث في نص واحد عن تغيير – في فقرة أخرى يحكون عن تغيير جذري [ النص حرفيّاً هو: ضرورة التغيير الجذري في البلاد ] – وإصلاح؟ بل إصلاح بطريقة سلميّة، تدريجيّة، مبنيّة على التوافق! التغيير يعني استبدال شيء بشيء آخر؛ الإصلاح يعني إبقاء الشيء على حاله مع إضافة بعض التعديلات عليه – فماذا يريد جماعة هذا الإعلان؟ ثم ما الذي تعنيه عبارة " تخرج البلاد من صيغة الدولة الأمنية إلى صيغة الدولة السياسية ": نعرف تماماً مسألة خروج دولة من الصيغة الأمنيّة إلى الصيغة المدنيّة: أمّا خروجها إلى الصيغة السياسيّة، على حدّ علمنا، فهو سبق انفرد به الإعلان. بالمقابل، فالحديث عن تعزيز الاستقلال والوحدة في الدولة السياسيّة، بعكس الأمنيّة، تدحضه غالبيّة التجارب في القرن الماضي، التي أثبتت أن كثيراً من الكيانات السياسيّة تفكّكت مع تراخي القبضة الأمنيّة فيها: انحلال الصمغ الأمني يدفع بالنزعات الانفصاليّة الاستقلاليّة الإثنيّة الدينيّة إلى إظهار رأسها من القبعة الديمقراطيّة: هل يمكن التذكير بالاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وجورجيا و... العراق؟؟؟
بالمناسبة، أرجو أن يصل علماؤنا وباحثونا إلى اتفاق عمومي حول مسألة " الوطنيّة "، التي أضحت شعاراً مقزّزاً يقحم باستئذان ودون استئذان في أي بيان تعبوي مستمدّ من روح خطابات جمال عبد الناصر، التي لم تورثنا غير هزيمة حزيران... والبقيّة تأتي! في الدول التي تتمتع بأدنى " روح " ديمقراطيّة، الأحزاب الوطنيّة هي تلك التي يمكن نعتها بالفاشيّة أو النازيّة، مثل موليديت أو هاتحيا أو النيونازي! أرجو أن يتفضّل القائمون على الإعلان بترجمة هذا المصطلح إلى لغة حيّة حتى نستطيع تحديد ملامحه.
في النصّ التالي، المأخوذ عن هذا الإعلان، نجد روح الأحاديّة اللاديمقراطيّة وقد تجلّت في أوضح صورها: " وإيماناً منهم بأن خطاً واضحاً ومتماسكاً تجمع عليه قوى المجتمع المختلفة ، ويبرز أهداف التغيير الديمقراطي في هذه المرحلة ، يكتسب أهمية خاصة في إنجاز هذا التغيير على يد الشعب السوري ووفق إرادته ومصالحه ، ويساعد على تجنب الانتهازية والتطرف في العمل العام فقد اجتمعت إرادتهم بالتوافق على...". من قال لجماعة الإعلان أن هنالك خطّاً واحداً تجمع عليه قوى المجتمع المختلفة، وهو الذي سينجز هذا التغيير وفق إرادة الشعب ومصالحه، وأن هذا الخط، بالصدفة ربما، هو الذي جمع إرادات القائمين على الإعلان على...!!!؟؟؟ أبسط الأمور في المجتمع الديمقراطي هي استحالة وجود خط أو تيار واحد يمثّل كل الشعب، حتى لو لم يتجاوز تعداد هذا الشعب الألوف. وحين يصادر أصحاب الإعلان إرادة الشعب السوري كلّه عبر الزعم أن الإعلان يمثّل مصالحه وإرادته، فذاك شكل للديكتاتوريّة، مهما حاول التلطّي خلف الشعارات البرّاقة. وفي النهاية، كلّ فكر أحادي لابد أن يكون توتاليتاري الروح والنَفَس.
في ثلاث مقاطع، نقرأ في هذا الإعلان طلبه " نبذ الفكر الشمولي والقطع مع جميع المشاريع الإقصائية والوصائية والاستئصالية ، تحت أي ذريعة كانت تاريخية أو واقعية ، ونبذ العنف في ممارسة العمل السياسي ". ثم قوله: " الإسلام الذي هو دين الأكثرية وعقيدتها بمقاصده السامية وقيمه العليا وشريعته السمحاء يعتبر المكون الثقافي الأبرز في حياة الأمة والشعب . تشكلت حضارتنا العربية في إطار أفكاره وقيمه وأخلاقه ، وبالتفاعل مع الثقافات التاريخية الوطنية الأخرى في مجتمعنا، ومن خلال الاعتدال والتسامح والتفاعل المشترك ، بعيداً عن التعصب والعنف والإقصاء . مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم وخصوصيتهم أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفكرية، والانفتاح على الثقافات الجديدة والمعاصرة ". ليقال أخيراً: " إجراء انتخابات تشريعية حرة ونزيهة ، تنتج نظاماً وطنياً كامل الشرعية ، يحكم البلاد وفق الدستور والقوانين النافذة، وبدلالة رأي الأكثرية السياسية و برامجها " .
النصّ السابق، المأخوذ في بعض فقراته حرفيّاً عن المقدّمة الإعلانيّة لبرنامج " الشريعة والحياة " في قناة الجزيرة، هو الأسوأ في إعلان دمشق. فهو، برأينا، يعود بسوريّا إلى زمن الشروط العمريّة وأحكام أهل الذمّة وفتاوى ابن تيميّة، لكن بلغة ناصريّة لا تخلو من بعض البهار من مفردات من قاموس الديمقراطيّة الأمريكيّة. وعلى طريقة الأخوان المسلمين في اللغة الملغّزة، نجد في الإعلان، بداية، حديثاً عن الأمة، التي لا نعرف، كعادتنا مع القرضاوي، أهي الإسلاميّة أم العربيّة أم السوريّة؟ نرجو التوضيح! هنالك طلب بنبذ الفكر الشمولي تحت أية ذريعة، تاريخيّة كانت أم واقعيّة، فما هو المقصود بذلك؟ إذا كان التاريخ، خاصّة العربي، قابلاً للاستعمال كمرجعيّة للفكر الشمولي؛ فما هو المقصود بالذريعة الواقعيّة؟ وإذا كان المطلوب أيضاً نبذ العنف في ممارسة العمل السياسي: ماذا بشأن ممارسة العنف في العمل الديني أو الاجتماعي؟ ماذا بشأن النصوص التكفيريّة التي هي ليست أقل من دعاوى إرهابية-إجراميّة كامنة، والتي تزخر بها كتب التراث الإسلامي؟ ماذا بشأن المروّجين لأحكام أهل الذمّة أو فتاوى ابن تيميّة؟ الإسلام هو دين الأكثرية، والحديث هنا في النص الأول ليس عن أكثرية سياسيّة، بطريقة الدول المتحضّرة، بل عن أكثريّة مذهبيّة طائفيّة، تعود بالبلاد إلى ما قبل زمن الانتداب والحداثة. ماذا لو تعارضت خصوصيّات الآخرين من الأقليّات مع عقيدة الأكثريّة؟ والتجارب في إيران وأفغانستان طالبان تظهر أن التعايش بين الإسلام التقليدي كغالبيّة وبقيّة الطوائف من الأقليّات مسألة أقرب إلى الاستحالة: إلاّ في حال خضوع الأقليّات لمنطق الغالبيّة، بدءاً باللباس وانتهاء بالرأي الديني الخاص. أمّا الحديث التخديري، المدغدغ لعواطف العوام، عن تسامح الإسلام وما إلى ذلك، فإن جولة سريعة في كتب التاريخ الإسلامي تظهر العكس: هل نذكّركم بحرب الجمل والنهروان وصفين وكربلاء والحرّة ...إلخ؟! فإذا كان هذا شكل الحوار التقليدي الإسلامي الداخلي، كيف يمكن أن نتوقّع منه أن يكون حواره مع الطرف الخارجي؟ أمّا الحديث عن حضارتنا العربيّة، فليس أقل من تعبير إقصائي آخر هدفه استبعاد من هو غير عربي من السوريين عن الحوار إياه. بالمقابل، فالحديث الإنشائي عن احترام عقائد الآخرين، تدحضه بالمطلق عقيدة – أو دستور – الغالبيّة التي يراد التمسّك بها، والتي ليس في قاموسها غير أهل الكتاب، الذين هم إمّا مغضوب عليهم أو ضالّين. وحتى تكتمل القصّة، يطالب الإعلان بانتخابات تشريعية حرة ونزيهة ، تنتج نظاماً وطنياً كامل الشرعية ، يحكم البلاد وفق الدستور والقوانين النافذة، وبدلالة رأي الأكثرية السياسية و برامجها. أي أن الحكم الديني العقائدي يجد هنا أفضل تعابيره السياسيّة. فالانتخابات التشريعيّة الحرّة – وهذه، كما يعلم الجميع، غير موجودة في بلد تحكمه الأميّة والطائفيّة والفقر – ستنتج برأيهم نظاماً " وطنيّاً " كامل الشرعيّة – عدنا لأسطورة الكمال الوحدانيّة – يحكم البلاد بدلالة رأي الأكثريّة، أو عقيدتها!!! من ناحية أخرى، ما المقصود بالانفتاح على الثقافات الحديثة والمعاصرة: هل سيسمح مثلاً لمن يعتنق فكراً حداثويّاً مغرقاً في تغرّبه أو عصريته بأن يبشّر بأفكاره بل ويشكّل تياراً يمكن أن يتناقض معرفيّاً مع ما تؤمن به الأكثريّة التي شدّد عليها الإعلان كثيراً؟ هل يمكن لجماعة الإعلان الموافقة على تيار حداثوي يمكن أن يتناقض حتى أخلاقيّاً مع فهم الأكثريّة التقليدي للأخلاق؟
في فقرة تتناقض مع السابق تماماً، يقال: " اعتماد الديمقراطية كنظام حديث عالمي القيم والأسس ، يقوم على مبادئ الحرية وسيادة الشعب ودولة المؤسسات وتداول السلطة، من خلال انتخابات حرة ودورية، تمكن الشعب من محاسبة السلطة وتغييرها ". في البداية لا بد من الإشارة إلى خطأ فلسفي في النص السابق مفاده أن الديمقراطيّة قديمة قدم أفلاطون! لكن العلاقة بين الحريّة والديمقراطيّة ليست عضويّة: الديمقراطيّة شيء والحريّة شيء آخر. وإذا كانت الحريّة محوريّة في الإعلان، فهل هي الحريّة كما تفهم في المجتمعات الديمقراطيّة في الغرب، أم هي حريّة إسلاميّة على النسق الإيراني الطالباني؟
في الفقرة التالية نجد العبارة التالية: " يجعل المواطنة معياراً للانتماء ". فهل يمكن لجماعة الإعلان أن يفسّروا لنا هذه الجملة الملتبسة؟ ما معنى المواطنة، وما مدلول الانتماء؟ وإذا كان فرد يرفض كافة أشكال الانتماء، ما موقف الإعلان منه؟
يتحدّث الإعلان مطوّلاً عن سيادة القانون، دستور ديمقراطي عصري، فما هو هذا القانون الديمقراطي العصري الذي يبحثون عن سيادته؟ إذا كان القانون سيكون نتاج الأكثرية الطائفيّة التي تفرش ظلالها على الإعلان برمته، فسوف يكون متناقضاً حتماً مع الفهم الدولي العصري للدساتير، بما في ذلك حقوق الإنسان، المرأة تحديداً، الجنسيّة SEXUAL والدينيّة وغيرها.
بعودة إلى الإعلان، تقرأ ما يلي: " التوجه إلى جميع مكونات الشعب السوري ، إلى جميع تياراته الفكرية وطبقاته الاجتماعية وأحزابه السياسية وفعالياته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية...ضمان حرية الأفراد والجماعات والأقليات القومية ...في إطار الدستور وتحت سقف القانون ". في هذا النص لا توجد أدنى إشارة إلى الأقليّات الدينيّة، بما في ذلك العلمانيون أو اللادينيّون أو الملحدون، الذين سيتناقضون بالمطلق مع دستور أكثريّة الإعلان أو قانونها.
في مقاربة الإعلان للمسألة الكرديّة، نقرأ ما يلي: " إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سورية. بما يضمن المساواة التامة للمواطنين الأكراد السوريين مع بقية المواطنين من حيث حقوق الجنسية والثقافة وتعلم اللغة القومية وبقية الحقوق الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية، على قاعدة وحدة سورية أرضاً وشعباً . ولابد من إعادة الجنسية وحقوق المواطنة للذين حرموا منها ، وتسوية هذا الملف كلياً ". هنا نطلب من الأخوة الأكراد التعقيب على هذا النص، سلباً أو إيجاباً. من زاوية نظرنا المتواضعة نقول، إن الإعلان لا يرقى إلى ما اتخذته الدولة من إجراءات أخيراً. – ومع ذلك لم ترض الأكراد. فهل أزمة الأكراد تتعلق بالمواطنة أم بالشأن القومي؟
في جمل متفرّقة، رأينا التوقف عندها، قيل: " إطلاق الحريات العامة ": فماذا بشأن الخاصّة، التي لا تقل أهميّة عن العامة؟ يبدو أن جملة " وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال "، وضعت أساساً لتبرير الإرهاب الديني المنظم في العراق. في جملة " ندعو أبناء وطننا البعثيين وإخوتنا من أبناء مختلف الفئات السياسية والثقافية والدينية والمذهبية إلى المشاركة معنا "، خاصة تعبير أخوتنا، نلمح بوضوح لغة أخوانيّة طائفيّة هي الأبعد عن نَفَس المواطنة الذي ينادون به. في جملة " التغيير المنشود لصالح الجميع ولا يخشاه إلا المتورطون بالجرائم والفساد "، مصادرة مسبقة لحق الآخر في رفض التغيير المبني على هذا الإعلان باعتباره " متورّطاً بالجرائم والفساد ".
في نص آخر، يقال: " العمل على وقف حالة التدهور واحتمالات الانهيار والفوضى ، التي قد تجرها على البلاد عقلية التعصب والثأر والتطرف وممانعة التغيير الديمقراطي ". – فما الذي يضمن أنّ حالة تغيير جذريّة لن تقود البلاد إلى وضعيّة انهيار وفوضى؛ ومن سيضبط الوضع في هذا التغيير الجذري؟
في الإعلان حديث غير استفزازي عن قضيّة الاستعانة بالخارج من أجل التغيير المنتظر: " رفض التغيير الذي يأتي محمولاً من الخارج، مع إدراكنا التام لحقيقة وموضوعية الارتباط بين الداخلي والخارجي ". فالقائمون على الإعلان يدركون تماماً أنه لولا الوجود الأمريكي في العراق لما استطاعوا حتى نشر إعلانهم على الملأ: هذا ما تعنيه الجملة الملغّزة: مع إدراكنا التام لحقيقة وموضوعية الارتباط بين الداخلي والخارجي! مع ذلك، فالروح الشعاراتيّة الناصريّة التي تغمر النص، لا يمكنها أن تناقض الشارع الذي يشحن يوميّاً بالعدائية لأمريكا، التي يعرف مثقفونا جميعاً أن دونها لا تغيير.
أخيراً: فإن العبارات التالية، المنتقاة بدقّة من النص المذكور، تظهر دون أدنى تعليق العقليّة التوتاليتاريّة التي تتحكّم بأصحابه: " وتوحيد الشعب وراء أهداف التغيير؛ التوافق الوطني الشامل على برنامج مشترك ومستقل لقوى المعارضة؛ إقامة النظام الوطني الديمقراطي بالاستناد إلى التوافقات الواردة في هذا الإعلان".



#نبيل_فياض (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ورقة النعوة السنيّة: هل ستنهار سوريّا؟
- بسّام درويش: من منكم بلا خطيئة!!؟؟


المزيد.....




- جملة قالها أبو عبيدة متحدث القسام تشعل تفاعلا والجيش الإسرائ ...
- الإمارات.. صور فضائية من فيضانات دبي وأبوظبي قبل وبعد
- وحدة SLIM القمرية تخرج من وضعية السكون
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/ ...
- غالانت: إسرائيل تنفذ -عملية هجومية- على جنوب لبنان
- رئيس وزراء إسبانيا يدرس -الاستقالة- بعد التحقيق مع زوجته
- أكسيوس: قطر سلمت تسجيل الأسير غولدبيرغ لواشنطن قبل بثه
- شهيد برصاص الاحتلال في رام الله واقتحامات بنابلس وقلقيلية
- ما هو -الدوكسنغ-؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بلومبرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث وجهة النظر الأوكرانية لإنها ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نبيل فياض - إعلان دمشق: التوتاليتاريّة البعثيّة القديمة بلغة ناصريّة غير حداثوية