أخبار الشرق - 19 كانون الثاني 2003
اعتقال إبراهيم حميدي مدير مكتب (الحياة) في دمشق في 23/12/2002م حدث ضخم، لا يقل في دلالته وأهميته عن قصة انتحار محمود الزعبي (رئيس الوزراء السوري السابق)، فكل منهما فضيحة متكاملة من الوزن الثقيل. ونبادر للإقرار باستحقاق المواطن حميدي (صحفيا ووطنياً وإنسانياً) هذا الحجم من الاحتجاجات وردود الفعل التي لقيها، وما يزال يلقاه، اعتقاله لدى منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، وانتصار (الأسرة الصحفية) في الخارج للدفاع عنه، وتضامن أقلام المعارضة السورية معه، بصرف النظر عن دوره في التعبير عن سياسات السلطة بالإجمال.
ونبادر أيضاً إلى التنبيه على أن توصيفنا لحجم الحدث ودلالته، ليس انعكاساً لأهمية الصحيفة التي يراسلها أو يدير مكتبها (وهي بمثابة الصحيفة الأولى تقريباً في النفوذ والتأثير في سورية) (التي يملكها نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلطان)، ولا كون حميدي (أحد أهم المراسلين وأكثرهم مثابرة وقدرة على الوصول إلى الأخبار المهمة في بلد يشكو من شح المعلومات وجمود الخطاب الرسمي وغياب الخطابات الأخرى أو تغييبها)، ولا تحويل مقاضاته من القضاء المدني بتهمة خرق المادة (51) من قانون المطبوعات - سيئ الذكر - إلى محكمة أمن الدولة (وهي محكمة استثنائية ذات التاريخ المعروف)، ولا وصول الوساطات والشفاعات والضغوطات إلى أبواب مسدودة للإفراج عنه، ولا فرادة اعتقاله في مسلسل الاعتقالات السورية على الرأي أو العمل الصحفي، وهذه كلها على صحتها أسباب تالية أو ثانوية في تقديرنا.
في بلاد العالم الأخرى ينتحر وزير أو رئيس وزراء، ويمر الخبر كأخبار الطقس، ويُكذّب صحفي أو يُحال على القضاء، وقلما يحدث ذلك في العالم المتحضر، لكن ما يحدث من تداعيات للحدث السوري فأمر آخر. الحدث السوري ذو طعم خاص ونكهة خاصة، لأن الوضع بمجمله خاص، وما أكثر الخصوصيات السورية! بمعنى آخر إذا كان الإعلام كله رسمياً أو مؤمماً، وإذا كان مراسلو الصحف من دمشق - لا سيما حميدي - (مدوزنين) سواء بتقنين نقل المعلومة، أو بشدة (قانون المطبوعات)، أو بالمتابعة الأمنية الدائمة قبل النشر وبعده، فلماذا هذا الارتباك، والانزلاق إلى وهدة الفضيحة على الملأ؟ والجواب: إن هذه (الدوزنات) في النتيجة هي السبب، أو هي التي تعكس (الخصوصية السورية).
إن مناخ الضبط والربط الأمنيين الذي يسبغه الوضع السوري على الإعلام .. أكسب الصحفي حميدي مصداقية في التعبير عن وجهة نظر السلطة من جهة، وعن الوضع السوري المسموح به من جهة أخرى. فلو كان صحفياً مستقلاً، أو كانت الصحافة السورية حرة مستقلة، لما كان لتقارير حميدي مصداقية (إضافية)، تُلوّنه بلون الجهة التي يتحدث باسمها أو بموافقة سياساتها في الأقل. وكان بوسع السلطة الاكتفاء بتكذيب الخبر، كما صرح ناطق رسمي. هذه واحدة، أما الثانية، فهي مضمون الخبر الذي اعتقل بسببه، وهو (سورية: إجراءات لوجستية لاستقبال مليون لاجئ عراقي)، الذي فُهم من تسريبه أنه يكشف ازدواجية الخطاب الرسمي تجاه الحرب العدوانية على العراق الشقيق. على حين يرى آخرون أن الإجراء - إن وقع - طبيعي في مناخ الحروب، ولا يحتاج الصحفي إلى التكذيب، ولا إلى مثل هذه المتابعة والمحكمة الاستثنائية.
هناك من يذهب إلى أن حميدي وقع بين (فكي) صراع القوى، وأن هناك من يريد إحراج الرئيس السوري، للحد من توجهاته الإصلاحية أو موقفه المعلن من الحرب العدوانية، لأن لهذه الجهات حساباتها الخاصة الموالية للعدوان، يوضحه ما يشبه الإمساك بالعصا من وسطها: بدءاً بالتعاون الأمني السوري الأمريكي، فيما يسمى بالحملة على الإرهاب، ومروراً بالموافقة على قرار مجلس الأمن 1441 حول تسهيل عمل المفتشين الدوليين أو الحرب، وانتهاء بجولات المباحثات السورية الأمريكية (المرة الأولى في أمريكا في أيار 2002م والثانية في دمشق 9/1/2003م واتفاق الوفدين الاستراتيجيين على نجاحها وتكرارها أو استمرارها كل ستة أشهر)، وهي قضية من الخطورة والوضوح والمبدئية لدرجة لا تحتاج معها إلى موقف الإمساك بالعصا (نقصد الموقف من العدوان على العراق).
أصحاب هذا التحليل أو التعليل لنكبة حميدي من خلال تشريح السلطة (مراكز قوى) يقتربون إلى ما نذهب إليه في تفسير الحدث وكشف دلالته؛ نعني الخوف الكابوسي من حرية الرأي أو الصحافة، الذي هو الخوف من الحقيقة!
في بلاد العالم المتحضرة تعدّ الصحافة سلطة رابعة، ومع ذلك لا يخاف منها الساسة خوفهم منها في الوضع السوري، على الرغم من أن الصحافة السورية جزء من السلطة الأولى بل الوحيدة في القطر! هل في الأمر مفارقة؟
لقد مات كتاب وصحفيون تحت التعذيب أو في سجون الرأي مثل إبراهيم عاصي ورضا حداد ومضر الجندي وعبد الله الأقرع ومحمد عبود وسليمان غيبور ومنير الأحمد، ومات بعضهم بعد الإفراج أو حمل عاهة تسعى به إلى القبر مثل فرج بيرقدار ونزار نيوف وسلامة كيلة، وما زال بعضهم يعاني السكرات في السجون مثل: الأختين عزيزة وشيرين السبيني وكمال اللبواني وحبيب عيسى والدكتور عارف دليلة، وهذا غيض من فيض السجل الأسود.
إنه قانون مضطرد: كلما اشتدت وطأة الاضطهاد والقمع، دلّ ذلك على شدة الهلع أو الخوف لدى السلطة القامعة، وشدة الهلع أو الخوف تدلان بما لا شكّ فيه على أن الوضع غير طبيعي، وهذا معنى قولنا (خاص)، أو هو وضع غير شرعي في العرف القانوني أو السياسي. وحين يكون الوضع غير طبيعي أو غير شرعي، يعني أنه ضعيف أو حساس من أدنى تعكير لصفائه الشديد الشفافية عن عوراته! فالنسيم اللطيف يجرح خديه، والخبر الحصيف يزلزل ركبتيه! وهذا هو الفرق الجوهري بين الحكم القائم على القمع والحكم القائم على الشرع، الذي هو الرضى الشعبي أو الطوع. وشتان ما بين حكم يُفرَض على المواطنين الذين يتمنون زواله ليل نهار، وبين حكم يفرضه المواطنون أنفسهم، ويسهرون على حمايته ونمائه واستمراره ليل نهار.هل يجهل الطغاة أو المستبدون هذه المعادلة البسيطة؟ نقدر أن معظمهم لا يجهلها، والدليل على ذلك خوفهم الشديد من الحقيقة أو انكشاف الحقيقة للشعب صاحب المصلحة في معرفة الحقائق، والتصرف على هداها ومقتضاها.
إذا كان الأمر كذلك، فهل من حل للإشكال، أي انتقال المستبدين من ضفة إلى أخرى، من حال الخوف من الحقيقة أو الشعب إلى رضى الشعب والتعامل الصحيح الصريح مع الحقائق؟ هناك أكثر من طريق أو طريقة للتحويل والانتقال: من أعنف العنف إلى ألطف اللطف. والمستبدون أنفسهم مسئولون أولاً وآخراً عن اختيار النوع والدرجة والكيفيات، من خلال استخدام عقولهم أو سياطهم أو أيديهم أو ..!
قيل لخليفة أموي: اعتدل أو اعتزل، ولما وجد الاعتدال صعباً أو مستحيلاً اعتزل. أما الخليفة عمر بن عبد العزيز، فقد خرق القاعدة الوراثية والملك العضوض، واعتدل العدل المشهور، وكان طريقه أقرب الطرق وأقصرها للانتقال من ضفة إلى أخرى، من اللاشرعية إلى الشرعية، فهادنه وسالمه الحزبان السياسيان الوحيدان المعارضان (العلوي والخوارج)، ولُقب بالخليفة الراشدي الخامس (وللعلم وقعت هذه الواقعة في دمشق ما غيرها!).
إن الصحفي إبراهيم حمدي ليس طامعاً ولا ساعياً إلى رئاسة، وإن كان ذلك من حقه، بل ليس رئيس حزب معارض، ولا منتمياً إلى جهة معارضة، بل هو من أهل البيت (وشهد شاهد من أهله)، ثم إنه لمس موضع الوجع أو المقتل: كشفه ازواجية الخطاب الرسمي، أو عورة النظام التي يتستر عليها، وهو ما هو عليه من تركيبة غير شرعية، تخاف الهواء ولو كان نسيماً، والضياء ولو كان يتيماً.
مرة أخرى: لِمَ هذا الخوف الكابوسي من الرأي الآخر أو الصحافة الحرة أو الحقيقة؟
بمناسبة انعقاد المؤتمر الأول للحوار الوطني السوري (لندن 23/8/2002م) عمدت السلطة إلى حشد من التحركات والإجراءات الخفية لإحباط انعقاده، أو في الأقل التعتيم على فعالياته وتداعياته، فكانت الضغوط والاتصالات مع الدول والمؤسسات والشخصيات داخل القطر وخارجه، لتحقيق هذه الحملة الواسعة ضد مؤتمر (حوار) للرأي السوري لا غير! من ذلك .. المقاطعة وفرض المقاطعة على مدعوين أو راغبين بالحضور، والتوجيه للإعلام الرسمي والموالي أو المستتبع (مثل الصحيفتين البارزتين في لبنان) بعدم التعرض للمؤتمر سلباً ولا إيجاباً، وإلى معاقبة أو تهديد الذين حضروا المؤتمر أو تهديد ذوي رحمهم في داخل القطر، أو الطلب إلى الدول المضيفة التضييق عليهم، مثل الكاتب محمد الحسناوي الذي كفّ عن الظهور في أي مقابلة إعلامية أو الكتابة باسمه الصريح الذي حلّ محله (محمد المحمود)، ومثل ذلك الكاتب زهير سالم الذي اضطر إلى شطب اسمه مشرفاً على موقع إلكتروني. ألا تعكس هذه السياسات ضعفاً بنيوياً إذا قيست ببلاد العالم التي لا تتحيز السلطة فيها لحزب دون حزب، ويقف الإعلام الرسمي على مسافة واحدة من أطراف الطيف السياسي، وتمنح الأطراف كلها حرية التعبير ومساحات متساوية في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة، برهاناً على نزاهتها وحياديتها وقوتها في الوقت نفسه!
وأخيراً، إذا كان العفو عن حميدي غير وارد، وإذا كان القضاء المدني الذي حُرم منه - وهو حقه - لم يعد وارداً، فهل نطمع أن تكون محاكمته علنية، وهي حقه وحق الشعب والوطن والحقيقة والتاريخ أيضاً. إذا كان مثل هذا المطلب المتواضع أيضاً غير وارد، فكيف نطمع بتحول راشدي مثل تحول الخليفة عمر بن عبد العزيز؟ (المكتوب يُقرأ من عنوانه).
__________
* كاتب سوري