أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل فاضل - البغل والعربجي والعربة الكارو















المزيد.....


البغل والعربجي والعربة الكارو


خليل فاضل

الحوار المتمدن-العدد: 1355 - 2005 / 10 / 22 - 10:19
المحور: الادب والفن
    


دخلت العربة الكارو مسرعة، في أناقة بالغة و محسوبة، أتقنها البغل و العربجي ـ تماماً ـ لدرجة أنها كانت شبيهة بعربة رمسيس الذهبية. كان البغل مزداناً بجرس ووردتين. الجرس على غرته و الوردتان على جانبى الأذنين . معروفاً كان ـ البغل ـ هجيناً تزوجت أمه المهرة ذات الحسب والنسب في إسطبلات الأعيان، مع ذكر حمار فقير في غفلة من الجميع، وبترتيب من فلاح لئيم أصبح هو المالك للبغل الأنيق فيما بعد. كان البغل يشبه أبواه إلى حد ما في أذنيه الطويلتين وعرفه القصير، ذيله الذي توجد به خصلة شعر طويلة في نهايته كما عند الحمار أبيه، وأخذ من أمه بعض سمات مالكيها من عنجهية و صلف و كبرياء، ومن أبيه بعض صفات مالكه من تخطيط ولؤم وإعداد محسوب للمستقبل في سرية تامة ، كما ورث عن أمه الفرس لونها وشكلها، قوتها وضخامة جسمها، وعن أبيه الحمار صغر رأسه، دقة قوائمه، وصغر حوافره، فصار هجيناً متميزاً بصحته و بصره و قوته. ورغم كل ذلك ـ ربما ـ أحس البغل بعقدة نقص بالغــة من الحـمار و الحـصـان ، ربما لأن الحـمـار كان حماراً خــالصاً، ســـلالة نظيفـة لا تشوبها شائبة ، وربما أيضاً لأن الحصان حكمته عقدة التفوق لأنه خيل، يتبع الفرسان والأمراء، وعربجية الحناطير المنتشرين في مناطق البرج و النيل و الجزيرة ، يفسّحوا السيّاح و العشاق و أسر الريف الميسورة في زيارتها الشهرية إلى القاهرة.
دخلت العربة الكارو، و كأنها عربة الملكة اليزابيث، تزهو بتميزها، ألوانها و حرفة صناعتها، دخلت في سرعة محسوبة قدّرها العربجي والبغل بإتقان.
فتح العسكري بهيئته الريفية و بزته البيضاء، أزراره النحاسية و شارته الصفراء البوابة الحديد المطلية حديثاً بلون أبيض روتيني غطىّ على الصدأ وعوامل الزمن. جرّ نصفها الثاني أمامه موظف أمن في ملابس مدنية (بدلة صيني شعبية) ، عادة ما يلبسها السُعاة و رجال الدولة أيام عبد الناصر تعبيراً عن التزامهم بالاشتراكية.
وقفت العربة الكارو في المنتصف تماماً ، أمام الفتحة الممتدة بين الأعمدة و الساحة المؤدية إلى المسرح العريق (هكذا قالت المذيعة الضابطة حروف الكلمات) ، على الرغم من أن المسرح كان حديثاً بنته بلاد الوطواط في إطار ما بنته بعد أن التهمت النيران دار الأوبرا العتيقة، أوبرا الخديوي إسماعيل التي احترقت منذ ثلاثين سنة، احترقت في بضع ساعات وعلى بعد خمسة أمتار منها كان مركز الإطفاء في القاهرة و في مصر كلها ، بنت المسرح العريق بلاد الوطواط و كأنها تعوض دولتنا العظيمة عن إهمالها....
دخل الرجال و النساء الأرستقراط . (همس أحدهم مستنكراً التعبير : هوّ لسّه فيه أرستقراط) ، دخل الحشد (النوفو ريتش)، ومعهم مذيعات و ممثلات و نجوم مجتمع، رجال أعمال وشخصيات هامة، ضحك أحدهم و كان قصير القامة يرتدى باروكة تخفى صلعته تماماً، ضحك و هو ينفض ذبابة حلّت على وجه البغل، تمشى منتشياً مع امرأته المستقيمة العود، الصلبة القوام، قال:
ــ بكره هنبني لأمريكا مسرح في لويزيانا ذكرى لإعصار كاترينا.... هه هه هه .
نظرت اليه امرأته شزراً ، لوت بوزها في تعجب وقالت:
ــ لأ و انت الصادق بكره طماطماطيا العظمى هتبنى مسرح تعرض عليه كل الفرق مسرحية:"من منا حديقة حيوان".
كتم السائر إلى جوار الزوجين ضحكته وسأل من جاوره الطريق:
ــ من منا الحيوان...؟!
هزّ البغل رأسه ؛ فاهتزت الوردتان ودق الجرس على جبهته دقة أشبه بالإنذار. انتظم القوم السائرين في بذلاتهم و فساتينهم في اتجاه المسرح العريق، يثرثرون ويتفكهون، يميلون على أكتاف بعضهم البعض، و يكونون في مجموعهم كتلاً من الدهن، أصواتاً متنافرة كحشرجات المرضى فى القصر العينى القديم، ممتزجة بوشوشات الأجهزة اللاسلكية لرجال الأمن.
♣♣♣♣♣♣♣♣
ظن رجال الأمن المنتشرون في الثنايا و الكواليس، المرتدون أزياء مدنية، ملكية، رسمية وعسكرية. ظنوّا أن العربة الكارو و البغل و العربجى جزءاً من العرض المسرحي، (حاجة كده أوريجينال). تثري المكان و الزمان، تزيد روعة ملكات الجمال و وصيفاتهن، عارضات الأزياء و كدابين الزفة، و هكذا .. كان ـ رجال الأمن ـ يظنون دائماً أمراً آخر، لكن حرم ذلك المسرح العريق كان مثل حرم البحر، و حرم النيل و .. حرم الجامعة أيام زمان، لا يجوز و لا يمكن أن يقف فيه بغل أو حمار أو حصان أو عربجي أو عربة كارو أو حتى عسكري، توهموا رغم إدعائهم الدائم أنهم لم يتوهموا، توهموا أن المسألة مجرد ديكور، أو أن الموضوع وقتي وسيزول ... نعم.. مثلما ظن الشعب بعد احتلال اسرائيل لسيناء سنة 67 أن اليهود سيرحلون في الصباح الباكر، لكنهم قعدوا على قلبنا 15 سنة ... المهم ... انتبه رجال الأمن. أمن المسرح العريق إلى أن العربة الكارو قاعدة، والبغل قاعد ... نزل العربجي في هدوء شديد، أخرج بعض العلف من كيس أبيض مطرز بورد متفتح ومزهزه و بدأ يؤكل البغل.
تقدم بعض رجال الأمن من ذوى البذلات الافرنجية و الكرافتات البمبي اللامعة المخططة منها فيها، بوجوههم المضوية في هدوء حُسدوا عليه، توجهوا إلى البغل أولاً، ربتوا على عنقه، ثم إلى العربجي الذي كان أنيقاً على غير العادة، يرتدى جاكت كاكي نظيف مكوي على جلابية زاهية ناصعة بدت وكأنها بلا لون ، كان نادر الكلام ... إذا تكلم كان حديثه المقتضب منمقاً مختصراً و دالاً، أحياناً ما كان لا مبالياً، وأحياناً أخرى متعمد الاستعباط، كانت علاقته بالبغل والعربة الكارو خاصة جداً، فيها حميمية شديدة، بدا وكأنه أتى من داخل كل رجل فى البلد كلها، و كأنه كان يجاهد لإخفاء رقته و رُقيه، خشية أن يظنوا فيه ضعفاً، لكنه في كل الأحوال كان منسجماً مع نفسه، مع البغل ومع العربة الكارو، كان إبنا باراً لثقافته، ولكن بشكل جديد (نيولوك New look)، أخرج البايب و أشعله، ثم نفث الدخان فى الهواء و نظر إلى محدثيه وكأنه ممثل عبقري في لحظة تأمل إبداعي، قالوا له في صوت خفيض، و كأنهم خائفون، يستحون النطق في حضرته، و كأنها تلك الكاريزما الخاصة به قد أخذت لُبّهم و سحرتهم؛ فاستمروا واستمرأوا لعبة الحلم و الحالة الذهنية بين النعاس و النوم، أدركوا أن كل شيئ لا بد و أن يتم في هدوء ... (مادام دخل لغاية هنا يبقى فعلاً بغل مهم وعربجي أهم)، ربما كانت العربة الكارو أثرية، أو علّها فعلاً كانت عربة رمسيس الذهبية متنكرة في صورة شعبية، و قد تكون حاصلة على شهادة الإيزو أو جائزة الدولة التقديرية أو ..أو .. قد.. وقد، وقد يكون لدى العربجي تصريح من وزارة الداخلية أو الآثار أو الثقافة ... وربما ـ أيضاً ـ كان كل هذا غير صحيح. وأن البغل والعربجي والعربة الكارو قد دخلوا خلسة أو صدفة أو خدعة !! ... تقدم المسئول الأول عن الأمن و طلب من العربجي تفسير دخوله إلى هذا المكان ، فلم يرد، أمسك العربجي بالبايب في عوجة طبيعية، ثم نفث الدخان مرتين، فمرّت سُحبه أمام وجهه، أكسبته هيئة غير عادية، وعلى الرغم من أنه كان يلبس لبدة الفلاحين المعروفة، إلاّ أنه كان أقرب إلى (جيمس دين) أو (بيل كلينتون) ... تقدم أحد رجال الأمن المساعدين إلى البغل، هَزّه فلم يتحرك و لم يتبرّم و لم يهتز. توجهت ثلة من موظفي الأمن المحترفين إلى العربة الكارو، فحصوها من كل الجهات، بالكلب الشمام و مجسّات المتفجرات، و ضعوا المرآة الخاصة ذات الذراع الطويلة و الانحناءة الخاصة تحت مؤخرة البغل، فبانت لهم تداوير خصيتيه و جزء من عضوه الذكري، لم يستمر الأمر كثيراً حتى تبرز البغل تبرزاً محسوباً متكوناً غطّى يد الحارس الكشاف و ذراعه والمرآة؛ فابتعد إلى الخلف و مضى يبرطم و يشتم و يلعن.
أحدث تبرز البغل المفاجئ هرجاً و مرجاً، علت همهمة الجوقة الأمنية ووشوشاتها اللاسلكية وصارت زعيقاً و صياحاً و مناداة، استدعوا الشرطة الرسمية ذات المركبات الداكنة اللون والبوكسات المقبضة للروح بلوحاتها المعدنية الزرقاء الخاصة بمركبات الحكومة، صاح أحد رجال الأمن نافراً عروق رقبته ، ضاّماً شفتيه كالمنافقين عندما يهتفون، و كشهود الزور وهم يحلفون كذباً و بهتاناً:
ــ يا جماعة .. يا جماعة.. هاتوا الونش .!!!
أحمر وجهه، نفث العربجى الدخان المعطر مرتين و لم يحرك ساكناً، انتفض قائد الجوقة الأمنية قائلاً:
ــ هو يعنى الونش هيشيل إيه ؟! هنكلبش إيه ؟؟ رجلين البغل و اللا عجل الكارو ؟!
تساؤلات شتى دارت في رءوس الحشد، اشتعلت المناقشات الحامية، انشغل بعض الجمع الراقي الداخل إلى المسرح العريق بالحدث، تكونت مجموعات بدأت باثنين و انتهت بحوالي عشرة، انتهت كلها بأن تقدم كبير رجال الأمن إلى العربجي وهو منشغل بنفث دخان البايب و الطبطبة على رأس البغل و كتفه، اللعب بالوردتين على جانبى أذنيه، وشخللة الجرس بالهيصة، والاهتمام ... وأيضاً بالمكان (حرم المسرح العريق)، كان يمضغ العلف فى متعة، وكأنه يمضغ الكافيار، يلوكه في سعادة و كأنه يلوك اللبان (التشيكليتس) المستورد .. همس كبير رجال الأمن فى أذن العربجي (ممكن تتفضل تخرج إنت و البغل ده.. والعربية الكارو دي .... زي ما دخلتم وإلاّ.....). أطرق العربجى ناظراً بعيداً عن عينى محدثه، متجاهلاً إياه بحق، تظاهر بالصمت، لكنه كان يدندن بأغنية قديمة تقترب من الموّال وتدور حول معنى (والندل له عوزه)..... استفز المشهد أحد مساعدي الكبير (وهم دائما ً أكثر حماسة وأكثر حماقة، أصغر فى السن و في الخبرة)، زغد العربجى في كتفه ثم شتمه... لم يحرك العربجى ساكناً، أخرج من جيبه موبايل حديث جداً مزوداً بكاميرا .. سرعان ما التقط لمهاجمه صورة، ثم أجرى مكالمة قصيرة لم تتعد الثلاث كلمات !! تراجعوا خطوات إلى الخلف لم يعدّوها و لم يحسبوها، نعم، تراجعوا جميعهم إلى الخلف و لم يتقدموا.
♣♣♣♣♣♣♣♣
تقدمت المطربة العربية تشدو بأعذب الألحان، خرجت من داخل قلب على شكل ديكور فظ الملامح خشن الحواف، أخذ بيديها رجلان مسرحيان شبيهان برجال الأمن، لكن بذلتاهما كانتا داكنتي اللون تزينهما على الياقة العريضة شارة تشير إلى عضوية حزب أو جماعة أو نادي أو فرقة. غنّت المطربة أغان قديمة عن الوحدة بين مصر و سوريا، منها على ما نظن (أنا واقف فوق الأهرام ... وقدّامى بساتين الشام)، وكذلك تلك الأغنية الشهيرة (من الموسكي لسوق الحميدية)، طلبوا منها أغنية حزينة أو حتى رثاءاً بغير غناء تنعى فيه الوزير السوري المنتحر، لكنها تجاهلتهم و آثرت أن تجامل الملك و تغني له، تستسمحه في أن تعيد نداءها له راجية منه أن يعطى لشعبه المزيد، كانت القاعة مكتظة بخليط من العرب الخليجين و المغاربة و الشوام حتى اليمن السعيد كان ممثلاً و موريتانا و جزر القمر و الصومال ... تصاعدت روائح البارفانات الحريمي و الرجالي ممتزجة برائحة العرق و الضجر ؟!
♣♣♣♣♣♣♣♣
كان الضجر في خارج القاعة قد تزايد إثر مكالمة العربجي المجهولة، وإثر غموضها أيضاً، وإثر الهزّة التي أحدثتها طريقته في الاتصال، وكذلك إثر تراجع الجوقة الأمنية ... فجأة و دون سابق إنذار امتلأت الساحة الكبيرة بين المسرح العريق بجموع محتشدة، انتشروا في المكان في فوضي منظمة، بدوا أناساً غير الناس. مجموعات من الثكالى و الكسالى و الثمالى و المجاذيب والمبرشمين، ماسحي الأحذية وبائعي الفلّ والياسمين والمناديل، المقعدين والمعوّقين، العميان والخصيان، المجانين و أشباه الرجال و النساء، رجال بدت ملامحهم تشربت قسوة وظلماً وبؤساً. نساء اخشوشنت قسماتهم حرماناً من المتعة و الفسحة والبهجة، أطفال شوارع بوجوه معفرة عجوزة هاربة من أهل أكثر تعاسة، يبيعون البيبسي في القطارات و يشربون الخمر تحت الكباري، مجموعات لا تقل عن خمسة و لا تزيد عن خمسة وعشرين من الحزانى و المرضى والمهرجين ورواد عربات الفول المزمنين، تكوينات بشرية من البلياتشو و الأقزام ومرضى الجزام و المشوهين، الزبالين و الناجين من الكوارث والمصائب، رجال بعمائم و خناجر وسيوف و مسدسات، جوعى و عطشى و مومسات، موظفين متسولين بورق مضروب وأختام نسر، مرتشون صغار وقطاع طرق و نساء مُعيلات، خدم وسفرجية وقرداتية، غوغاء متصارعين دائمين مع فكر الغوغأة، بعضهم جاء على ظهر حمار أبتر، والآخر جاء مترجلاً حافياً بعد أن طاف المدن ... لكنهم كلهم فى مجموعهم كانوا على وعي تام وخفي بالمسألة. دخلوا من نفق المترو الفاتح على باب المسرح العريق، ومن كل الجهات والبوابات السطحية، كانوا ساخطين ورافضين لكل شيئ، واضحين لا يخلطوا الأوراق. كونوا دائرة كبيرة ملأت الأرض وسدت فضاء السماء، تحلقوا حول العربجي و البغل و العربة الكارو .... بسرعة فائقة وفي لحظة خاطفة، اختفت الجوقة الأمنية و دخلت إلى باحة المسرح العريق .. كانت المطربة العربية تغني منسجمة مع روح الأغنية و كلماتها، وكان الجمهور اللامع الساطع المدندش المبتهج يغنى معها :
نعم يا حبيبى نعم ....... أنا بين شفايفك نغم
أيامي قبلك عدم ....... و أيامى بعدك ندم
نعم يا حبيبى نعم
(تذكروا حسين رياض بكل وجاهته و غلبه و صوته المشروخ المتأثر وهو يشجع الولد المصوص الرومانسي المريض بالبلهارسيا وهو يغني )... كانوا كلهم حلوين ومغندرين يتمايلون يمنةًً و يساراً. فجأة انتشر بينهم رجال الأمن؛ فخرجوا جميعهم في لحظة من الأبواب كلها ... في نفس الوقت دخل الدهماء و الغوغاء و الرعاع يتقدمهم العربجي في هدوء شديد، يرشد البغل المزدان بكل الألوان، لكنه كان يعرف طريقه و لا يحتاج إلى دليل أو إشارة، صعد بخطوات مدروسة إلى خشبة المسرح، يجر العربة الكارو، وقف العربجي مبتسماً نصف ابتسامة، أمال رأسه ناحية الضوء الفضي، وفجأة أمتلأت قاعة المسرح العريق كلها بالناس أصحاب العربجي، انطلقت الزغاريد و علت .. نهضت النسوة من بين الكواليس ليضعن على العربة فرش و عفش العرس ... إلحفة ساتان أزرق و بمبي و شفتشي، مواعين نحاس وألومنيوم .. دقت الطبول و علت أصوات المزامير، ارتفعت الأيادى بالدفوف لتطاول ارتفاعات الأعمدة المنتشرة في المكان والسقف العالي جداً الآخذ شكل القبة، جلس العروسان على العفش و الفرش، كانت بنت زي القمر بمنديل أوية بترتر، ورجلين متحنية، خدود حمرا ووشم ثلاثي طولي على الذقن، حركات لا إرادية كطفل بدأ المشي بعد الحبو، بجوارها جلس العريس يتنطط مشيراً إلى أماكن محدودة في القاعة ليتوزع الشربات بقسطاس. بدوا سذجا و بسطاء و طيبين، شالوا همّهم ورموه برّه، لم ينتبهوا إلى أن المذيعة ذات الصدر الأكبر لم تزل في الخلف، أمامها المغنية تبدو على وجهها علامات الخوف و الدهشة و الصدمة، ابتسمت المذيعة ابتسامتها المنافقة المعهودة و بدأت ترص الكلمات دون تفكير:
ـ نرحب بالشعب العظيم في المسرح العريق، نهدي ألف تحية للعروسين.
انطلقت الزغاريد مرة أخرى مزمجرة، كانت ضربات الدفوف من هولها تهزّ المكان و ترجه، صمتت المذيعة و بدأت المطربة تغني:
نعم يا حبيبى نعم ....... أنا بين شفايفك نغم
أيامي قبلك عدم ....... و أيامى بعدك ندم
نعم يا حبيبى نعم
لم يدرك أحد إن كان الغناء للملك أم للعربجي، من منهما الحبيب الذى يقال له نعم نعم، من هو ذلك الأسطورة التى تكون بين شفايف الشعب نغم، من هو ذاك الذى كانت الأيام، كل الأيام والسنين قبله عدم .. من هو المخلص و الحارس و المعشوق الذى تكون أيام الناس كلها على اختلافها بعده ندم .. ترى من يكون .... ؟؟؟
توجه الرجلان اللذان أتيا بالمطربة من داخل القلب و سحباها من يديها ، كل من يد ووراهما المذيعة، ثم اختفوا بين الكواليس.
♣♣♣♣♣♣♣♣
من بين الكواليس خرج البلياتشو يتدحرج، رأسه على الأرض و ساقيه النحيلتان المزدانتان للسماء، يتشقلب بسرعة، ثم وقف مكان المطربة و قال في صوت رخيم:
لا تحسبوا ابتسامتى بينكم فرحاً
فالمرء عند طلوع الروح يبتسمُ
لا تحسبوا رقصاتى بينكم طرباً
فالمرء يرقص مذبوحاً من الألم
نظر الدهماء إلى بعضهم البعض ثم طالبوه بالتنحي عن مكانه لمذيعتهم التى كانت أكثر جسارة ، طالبتهم (ولعة الوالعة) بالهدوء و التروي، قرأت عليهم نشرة الأخبار، ثم خلعت رداءها فبان لحمها الأبيض يرفل في زى أحمر، رقصت عند أقدام العروسين والبغل و العربجي، مضت البنت الوالعة الطالعة من النار الوالعة الناجية من قطار الصعيد تكمل وصلتها .. سرت همهمة بين الحاضرين، كان الوقت بين الغسق و الفجر، أدركوا و استبصروا ذواتهم، اكتشفوا فيها آفاق جديدة مكنتهم من نسيان الماضي، والبدء من جديد، صار الفجر والغسق في نعش واحد، كانت اللحظة الغامضة سرية للغاية، رهيبة، انسحبوا فيها كلهم من القاعة واختفوا كما جاءوا ، ترجلّ العربجى ناظراً في ساعته الرولكس، لَمّع حذاءه الفخم ثم امتطى صهوة البغل جاراً العربة الكارو بالعفش و الفرش والعروسين، مضى بها مسرعاً سرعة محسوبة، مارقاً كعربة رمسيس الذهبية من نفس البوابة التى فتح نصفها نفس العسكرى الأبيض و موظف الأمن ذى البذلة الشعبية ... عند أول ضوء كانت حشود جنود الأمن المركزي بخوذاتهم و بزاتهم السوداء جداً وأحذيتهم الغليظة جداً، بدروعهم و عصيهم يدخلون إلى قاعة المسرح، وعلى الرغم من تعودهم على الوقوف إلاّ أنهم لم يتمكنوا من الانتشار إلاّ بالجلوس على نفس مقاعد الباشوات والدهماء، جلسوا منتصبين بنصفهم الأعلى و عصيهم إلى جوارهم، متعبين، منهكين، مشدودين، و أيضاً خائفين، هم دائماً عبيد، مأمورين، لا يدرون ما يريدون أو ما يراد بهم، قليلوا التعليم أو أميون، لا يبتهجون و لا يزعلون، لكنهم أدركوا أنها مهمة خاصة فى مكان خاص، خاص جداً ... ولما أنار المسرح بشمعة نظر كل منهم إلى الآخر وابتسم ابتسامة عرجاء، ظنوا أنهم يحرسون الحفل أو سيقبضون على المجهول .. أو ربما سينهالون بعصيهم الغليظة على الأشباح التى تسكن ذلك المسرح العريق . لكن شيئاً من كل ذلك لم يحدث.
دخلت المطربة العربية النحيفة إلى قلب المسرح، من داخل القلب الديكور الردئ المنظر والمظهر شاحبة الوجه للغاية، تجرأ أحدهم و صاح من وسط القاعة (أنا كل ما أقول التوبة.....ترمينى المقادير) .......... يا عيـــ ــــ ن .. يا ليـ ـ ـ ل ......
لم تنتظر ! صرخت من جوفها و صدرها و حلقها لتشق عنان السماء:
ـ لأأأأأأأأأأأأأه ... هيّ أغنية و احدة بس و هترددوها ورايا..
نعم يا حبيبى نعم ....... انا بين شفايفك نغم
ايامى قبلك عدم ....... و أيامى بعدك ندم
نعم ... يا حبيبى نعم ....
غنى الجُند وراءها، كانت شفاههم غليظة للغاية، أصواتهم مبحوحة، جوعى و مرهقين، لكنهم وبكل غلاظتهم، كانوا نغم، و لما دوّى صوت كالرعد، قاموا من قعدتهم و أشهروا عصيهم، دبوّا بأحذيتهم الغليظة على الأرض الخشبية فدوى صوت فظيع، كان الصوت الذي كالرعد صارخاً في عنف آتياً من بين الكواليس، كانت العربة الكارو والبغل و العربجي، تمرّ كالطيف والزلزال، كالبرق والرعد، كالسحاب وكالطير الأبابيل. ولما تحركوا ليهجموا عليها .. اختفت و تبخرت ... جروا وراءها خارج المسرح ... اندفعوا في جماعاتهم شبه المسلحة على الساحات الخضراء والرخامية بين المسارح العريقة، و اختفوا من نفس الفتحات التى جاء منها الغوغاء ....
♣♣♣♣♣♣♣♣
على شاطىء النيل، ساعة الفجر التالي في اليوم التالي، خلت الدنيا من المارة تماماً، تبختر البغل و شخلل الجرس على رأسه، اهتز الورد على جانبى أذنيه، تمهل إلى جواره العربجي، نفث دخان البايب مرتين مدندناً : نعم ...يا حبيبي نعم ...
أخرج من جيبه نوتة صغيرة شبيهة بتلك التي يسجل فيها المخبرون ملاحظاتهم، كتب بخط أنيق (أيها الوطن الجميل .. أنا لست نغماً بين شفايفك، ولا أنت نغماً بين شفايفي، ها هي أحمالنا وأوزارنا وضعناها سوياً على ظهر العربة الكارو).
جرّ البغل العربة، جرّ العربجي البغل، كانت الأحمال ثقيلة ثقيلة للغاية، لكنهم جرّوها، تهادوا على الخط الضيق المرسوم بين كورنيش النيل، وساحات الفنادق الشاهقة ... تلك التي كانت قد اعتدت على حرم النيل ... فعلاً .



#خليل_فاضل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رقبة عبد الفتاح المائلة
- كائنــات خاليـــة من الضــــــوء
- سيكولوجية المنافق، الضلالي.. والبلطجي
- نظيف، نحن، وسيكولوجية الديموقراطية
- مفهوم الشخصية العربية


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل فاضل - البغل والعربجي والعربة الكارو