أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - الفاهم محمد - القضية الفلسطينية والمسألة اليهودية















المزيد.....


القضية الفلسطينية والمسألة اليهودية


الفاهم محمد

الحوار المتمدن-العدد: 1354 - 2005 / 10 / 21 - 02:37
المحور: القضية الفلسطينية
    


إن هذا الشعب لا يبحت إلا عن المستحيل ليحوله إلى حقيقة فوق الأرض
ياسر عرفات

حقا تتخذ القضية الفلسطينية اليوم وجها سياسيا حادا ،إنها إفراز طبيعي لازمة الديمقراطية في الوطن العربي .بالنسبة للمحلل السياسي هذا هو العنوان الذي يمكن أن يأخذه صراع دام لاكثر من نصف قرن .فما دامت الهوة كبيرة بين الإرادة العامة للشعوب العربية والحكومات الرسمية لا يمكن أن تتخذ أبدا هذه القضية مسارها الصحيح نحو الحل العادل ،فإسرائيل قوية لأننا ضعفاء ،أي إنها تستمد قوتها من ضعفنا ،أو بالضبط من ضعف الحكومات وهشاشة إرادتها .إن غياب القرار العربي الموحد والحازم دليل واضح على غياب الإرادة العربية ،وذلك ما دام أن الإرادة لا يمكن الحديث عنها في غياب قرارات رسمية واضحة يعقبها التزام مبدئي بالعمل والتطبيق .
لقد كشفت القضية الفلسطينية تاريخيا عن الخواء والعبث الذي يقف عليه العالم المعاصر ،بدءا من ضعف الحكومات الرسمية سياسيا وعسكريا ،ومرورا بالتردد الخجول للاتحاد الأوروبي ،وانتهاء بهشاشة هيئة الأمم المتحدة وعدم قدرتها على أجرأة قراراتها ،هذا دون الحديث عن التحيز المطلق للولايات المتحدة الأمريكية للجانب الإسرائيلي
إن المرء يجد نفسه عاجزا عن فهم ما يحدث في العالم ،فجميع الحلول السياسية تم طرقها بدءا من اوسلو واتفاقات مدريد واقتراحات القمم العربية ،لقد تم تقديم أسخى الحلول لاسرائيل ،ولكن كل هذا لم يفض الا إلى المزيد من التعنت ،فما الذي يرضي إسرائيل حتى تتحول الى دولة سلام ؟ اننا نعتقد هاهنا ان الرؤية السياسية لم تعد كافية لبلورة فهم صحيح للقضية الفلسطينية ـ وان كان لها جانبها من الصحة ـ فالعقل السياسي يفشل في تقديم رؤية دقيقة عما تعنيه إسرائيل . إن المحلل السياسي يجد نفسه عاجزا عن فهم المفارقات التي يقوم عليها الكيان الاسرائيلي :التاريخ والاسطورة /الهوية والسياسة /السلام والحرب …
ما الذي تعنيه اسرائيل في التاريخ المعاصر ؟
يبدو أن العرب لم يعرفوا عدوهم ولم يحددوا ماهيته بعد .هذا العدو الذي لا يمكن وصف صراعنا معه فقط من خلال المصطلحات السياسية .إن القضية الفلسطينية تكشف اليوم عما هو أكثر من مجرد نزاع حول مسألة سياسية ،إنها علامة على توتر داخلي عنيف ، تعاني منه الحداثة الغربية على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والتاريخية والفكرية . لذلك حينما يتحدث الفلسطيني اليوم بجد نفسه عاجزا عن التعبير عن وضعه ومشاكله الحقيقية ،لأنه لا يمكن أن يقول ما يريد قوله من خلال اللغة التي صيغت بها العلاقات الدولية اليوم.انه بحاجة إلى لسان آخر حتى يمكنه نقل رسالته . هكذا إذا ما أمكننا استعادة أطروحات جان فرانسوا ليوطار 1 ضمن سياق مغاير ،يمكننا القول انه بيننا وبين إسرائيل لا يوجد نزاع un litige بل خلاف un différend . علينا إذن الحديث عن خلاف عربي إسرائيلي وليس عن نزاع أو صراع. ما الفرق بين المفهومين :النزاع يكون حين نتحدث بنفس اللغة وحول نفس المشكل وتكون بيننا محكمة أو هيئة دولية قادرة على حله .النزاع إذن هو صراع يحل داخل نفس قواعد اللعبة . في حين أن الخلاف هو على النقيض من ذلك تماما ،فحينما لا نتحدث نفس اللغة ،بحيث تكون هذه الأخيرة عائمة وبدون حدود واضحة ،وليس للمفهوم فيها أية قيمة أو مضمون معقول ،وحينما لا يكون أيضا إجماع حول نفس المشكل ،بحيث يتخذ تسميات مختلفة كلما تحدثنا عنه ،وأخيرا حين تضيع هذه المحكمة القادرة على إيجاد حل سليم لهذه القضية .في هذه الحالة لا يمكننا أبدا الحديث عن نزاع عربي إسرائيلي ولكن عن خلاف لا يمكن أن يعتر من داخل السياسة المعاصرة , والنظام العالمي الجديد عن الكلمات القادرة على فضه .
إذا كان الأمر على هذا النحو فما هو إذن هذا الخلاف، وهل يمكن تحطيم جدار اللغة السياسية الرأسمالية المعاصرة من أجل البحت عن لغة أخرى قادرة على الاقتراب منه ؟.إن أول شيء يمكن القيام به من أجل هذا الغرض هو العودة قليلا إلى الوراء ،فحقيقة هذا الخلاف تطل علينا من أصقاع بعيدة يلعب فيها الزمان والموروث الديني دورا أساسيا .لقد عادت إسرائيل لاستعادة تاريخ انقطع منذ آلاف السنين :تاريخ العبرانيين وموسى، والخروج، والوصايا العشر …فإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي انتصبت في الحقبة الحديثة وطالبت من التاريخ أن يكرر نفسه من أجلها ،لذلك فهي تسير ضد منطق الحداثة كمنطق يؤكد على ضرورة بلورة وعي خاص بالزمان وبالتاريخ .لهذا السبب لا يمكن لإسرائيل أن تكون دولة حديثة رغم المظاهر الخارجية والأقنعة الغربية التي ترتديها والتي تبدو من خلال الحياة السياسية {انتخابات /برلمان /حياة سياسية… } أو من خلال أجهزتها العسكرة ذات الطابع الحديث جدا ،أو حتى من خلال مظاهر الحياة المدنية العامة ؛غبر أن كل هذا يضرب بجذوره في أعماق سحيقة يشكلها اللاهوت التلموذي أساسا .فإسرائيل ما هي إلا أسطورة وقد اتخذت شكل دولة , والغريب هو أن تجد هذه الأسطورة دعمها الكامل من طرف رائدة الحداثة والتقنية والعلمانية ، ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية .لاشك أن الغرب الذي اختبر تمز قات الحداثة وتناقضاتها الداخلية ،يجذبه الحنين إلى الأصول التي لا يستطيع استعادتها , وهو يجرب هذا الحنين المستحيل والتكفير عن الذنب من خلال إسرائيل ،إذ كيف يمكننا أن نفسر لقاء دولة لا تاريخ لها مع دولة متخمة بالأساطير والتاريخ ؟كيف يمكننا أن نفهم علاقة كينونتين لا عالقة بينهما, الأولى تأسست على اللاهوت التلموذي وعلى الأساطير التوراتية والتاريخ المتعالي l histoire eschatologique ،والثانية تأسست على العلم والتقدم والحداثة المزدوجة السرعة .لقد حاول الغرب معالجة أخطائه التاريخية والسياسية والاقتصادية بإسقاطها بعيدا عنه ،انه يكفر عن إحساسه بالذنب من خلال دعمه لكيان يجرب فيه أخطائه لكنه مع ذلك يستعيدها ضمن منحى آخر وبشكل أكثر مأساوية .
غير أن اسرائيل بما هي مشبعة بالتاريخ غير قادرة على أن تعيش داخل الزمان المعاصر، لأنها من ناحية منطلقاتها وغاياتها تأسست أصلا من أجل إعطاء علامة للأعراض التي تعيشها الحداثة الغربية .إنها ليست دولة ولا يمكنها أن تكون دولة ،ونحن لا نقول هذا فقط من جهة الموقف السياسي ،بل من جهة التحليل الداخلي لكينونتها .أن تتحول إسرائيل إلى دولة هذا معناه ثلاثة أشياء:
أولا: أن تقبل بالسلام كخيار استراتيجي , غير أن هذا غير ممكن بالنسبة إلى دولة لا تستطيع أن تعبئ شعبها وتخلق لهم نوع من الوحدة والهوية إلا بالتعبئة على العدو الخارجي العربي .بهذا المعنى فالسلام مهدد للدولة الإسرائيلية ,لأن تحققه معناه الانتباه إلى مشاكل أخرى من قبيل مشكل الديمقراطية الداخلية ,والعدالة الاجتماعية ,وتحديث المؤسسات العامة التي يهيمن عليها الفكر الحاخامي بشكل صريح أو خفي .
ثانيا:أن يصير لها حدود سياسية واضحة ومعترف بها دوليا .وهذا أيضا يستحيل حصوله ,لأن أرض التو راث كمفهوم ديني عائم فوق النصوص الدينية ,تتجاذبه التأويلات والمذاهب الحاخامية ,لا يمكنه أن ينزل إلى أرض الواقع , فهو يحمل في داخله تناقضاته واسحالاته .إن الحدود التو راثية يصعب تحويلها إلى حدود سياسية . 2
ثالثا:أن تندمج في الفضاء الشرق أوسطي محددة هويتها باعتبارها دولة شرقية بالأساس .غير أن إسرائيل التي ارتبط وجودها وما زال كذلك منذ البداية بالغرب ، لا يمكنها أن تتخلى عن ارتباطها هذا لكي تكون علاقات جديدة مع دول الجوار , مبنية على أسس التعاون والاحترام .
إن كل هذا مهدد بل ومخيف لها، لأن كل هذه الخيارات لا يمكن أن تتم إلا إذا تخلت إسرائيل عن تاريخها الاسكاطولوجي المحرك لها .لقد انفصلت كل المجتمعات بدءا من القرن الثامن عشر عن الاسطورة كي تدخل التاريخ , أما إسرائيل فهي الدولة الوحيدة التي أرادت أن تجعل من التاريخ أسطورة ؛ فان تتحول أرض الميعاد إلى دولة هذا يعني خيانة للتلمود وللوعد الإلهي .علينا أن لا ننسى أن إسرائيل دولة تيوقراطية في زمن ولت فيه جميع الثيوقراطيات وأصبحت جزءا من الماضي .ثمة عدة أدلة على ذلك فالسياسة الإسرائيلية محكومة بالتأثيرات الدينية الأرتودوكسية التي يتحكم فيها الحاخامات , وهكذا فالصهيونية في نهاية المطاف عبارة عن أيديولوجية قومية استعمارية مغلقة تتخذ طابعا علمانيا تحرريا من الناحية الشكلية , لكنها في الأخير ما هي إلا ديانة مقنعة .
لهذا السبب نقول بأن المشكل الفلسطيني، لا يمكن أن يكون مفهوما بتمامه فقط من خلال المصطلحات السياسية ،لأنه حينما ينظر الإسرائيلي إلى العربي لا ينظر إليه باعتباره مفاوضا على قضية تتطلب تسويات سياسية ،بل باعتباره شيطانا جاء لكي يقوض وعد الله على الأرض .
تجدر الإشارة كذلك إلى أن البشرية قد عرفت العديد من نوع هذا المشكل ؛فالعبودية والميز العنصري ما كان بالإمكان إيجاد حل معقول لهما إلا حينما تم تفكيك الخطاب الفكري الذي يحملهما ،واقتلاعهما كبنية ذهنية من الرؤوس .إن مساواة الملونين في الحقوق والواجبات أصبحت ممكنة ، حينما آمن الغرب بأن فكرة تفوق العرق الأبيض هي مجرد خرافة أسطورية عليها أن تخرج سريعا من التاريخ المعاصر .ونفس الشيء يقال أيضا عن مشكل الأنظمة الكليانية في أوروبا ،التي بدورها لم تستطع أن تنسحب إلى الوراء إلا عندما قام الفكر الغربي بتفكيك الثقافة والمفاهيم التي حملتها إلى الوجود ـ وهو ما زال يقوم بذلك إلى الآن ـ وذلك بالدعوة إلى نهاية الحقيقة المطلقة وبداية عصر الاختلاف .
إننا نعود هاهنا لنكرر من جديد ، أنه بصدد القضية الفلسطينية نحن بحاجة ماسة اليوم أكثر مما مضى الى أن نقوم بمسح الطاولة ، من أجل التفكير في هذه القضية بمنظور آخر يتراجع فيه التحليل السياسي قليلا الى الوراء، كي يحتل النقد التاريخي وتأويل النصوص المقدسة المكان المخول له . فالقضية الفلسطينية قبل أن تكون ضحية للسياسات المتشددة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ، هي أولا ضحية للإشكاليات الثقافية الخاصة بالمسألة اليهودية . وما لم تقم هناك ثورة داخل الأساطير المشكلة للتراث اليهودي فإن معانات الشعبين معا ستستمر طويلا دون أن نعرف لماذا لا تعثر لها على حل سياسي فوق طاولة المفاوضات .
ما هي إذن هذه الرؤية المغايرة التي نطالب بها هاهنا ؟
إن سياقات هذه القضية متشابكة إلى درجة بعيدة جدا ، بحيث يتداخل فيها التاريخ والأسطورة ، والصوفية القابالية مع الذهان السياسي المتبلد للصهيونية .لذلك فأية إجابة لن تكون إلا رسما لمعالم وتخطيطا لمنهجية معينة في التفكير .
إننا لا نختزل الصراع العربي الاسرائيلي في بعد واحد هو البعد الديني ،إذ تلعب الجوانب الاخرى الاقتصادية والسياسية دورها الواضح ؛ ولكننا نؤكد على أن هذا الصراع هو في جوهره يستند على أسس لاهوتية أسطورية ، تلفعه وتجعله غير قابل للحل السياسي ، ما لم تتم مراجعة الأسس الفكرية والعقائدية التي يقوم عليها, وهي أسس تجد مرجعها الأول والأخير في التراث التلمودي والأرثوذكسية اليهودية ، التي شوهت وحرفت العقيدة التوحيدية اليهودية .فما يتجلى في الاقتصاد والسياسة والعلاقة مع الآخر ما هو إلا انعكاس لهذه الرؤية اللاهوتية . إن الصهيونية ما هي إلا استثمار سياسي لهذه العقائد والمواقف الدينية ,لذلك ففهمها ينبغي أن يتم داخل التاريخ السري لليهودية ،وذلك مادام أن الصهيونية ما هي في نهاية المطاف الا شكل من أشكال تجسد للعقائد الايمانية العميقة للتراث الديني اليهودي .إن كل ديانة مهددة بأن تنزلق إلى مستنقع الشر ، إذا ما قامت بتأويل سياسي متصلب لأساطيرها المؤسسة ,لقد حدث هذا بالنسبة للمسيحية حينما دخلت في الحروب الصليبية ,ويحدث هذا اليوم مع الصهيونية التي هي عبارة عن قراءة متدنية لليهودية ,كما قد يحدث هذا أيضا حتى بالنسبة للإسلام إذا ما صادف عقولا متحجرة تحول الاستعارات القرآنية إلى أوامر الإلهية مباشرة . إن ما يلتقي فيه ايغال عمير قاتل رابين ، والاسلامبولي قاتل أنور السادات هو المرجعية الدينية التي انطلق منها كلاهما معا , ولكن كيفما كان الحال يبدو أن الحركات الإسلامية قد بدأت تقبل بالحلول السياسية للقضية الفلسطينية , فالتوجه العام أخذ يبتعد عن الأفكار القديمة الداعية إلى رمي اليهود في البحر . غير أن هذا لم يحدث بعد بالنسبة إلى إسرائيل مادام أن التيار العلماني داخلها ليس سوى أصوات شاردة هنا وهناك .
بين الاستعارة الدينية والحقيقة التاريخية تقع الحدود الدقيقة الفاصلة بين الحداثة كمجال للفعل الإنساني الموجه بسلطة القانون والعقل ,والإرهاب بجميع أشكاله وألوانه سواء كان فكريا أو استعماريا أو سياسيا.هناك إذن خيارين إما أن يسير التاريخ باتجاه نمو العقل والقيم الإنسانية العليا وعلى رأسها السلام , أو أن يتدنى باتجاه القوة والجبروت والإبادة نتيجة فهم معين للدين أو للعرق أو للحضارة . لقد أشار روجي غارودي بحق إلى هذا التعارض الموجود بين العقيدة الروحية للديانة اليهودية والنزعة القومية الصهيونية 3 فالديانة اليهودية هي كباقي الديانات السماوية المنزلة هدفها تطهير النفس البشرية وتهييئها لملاقاة الله , أما الصهيونية فما هي إلا استغلال سياسي وقراءة ضيقة لهذه الديانة .علينا أن نميز بين الحاخامية اليهودية , واليهودية ذاتها .
يهمنا هنا أن نعود إلى هذه النقطة ـ البالغة الأهمية في نظرنا ـ و التي من شأنها أن تكشف لنا عن هذه المغامرة التي قامت بها الصهيونية حينما أقحمت الأسطورة داخل التاريخ , وقفزت بأرجل مغلقة من الاستعارات الدينية إلى خارج الوقائع السياسية . وهي قفزة تجد مبررها على أي حال في الشعور الديني عند اليهود , وفي الإحساس بأن الله لا يمكن أن يكون إلا الاها خاصا بهم .
يقوم الإيمان اليهودي على مبدأ عام وغامض ـ لكنه يستمد قوته من خلال هذا الغموض بالذات ـ وهو أن كلمة الله التي سمعها موسى على الجبل ، ليست سوى الحروف الأولى للسر الإلهي الذي على البشر أن يكملوه ويتابعوه ،لأنه بدون هذا الأمر ستظل التوراة كما لو أنها كلام غير إنساني موجه إلى الإنسان .لهذا السبب فالشروح والتفاسير والتعاليق ،أي ما يسميه اليهود بالمشنا والجمارا mischna gemaraلهما نفس القيمة المقدسة أو تفوق قيمة التوراة نفسها ، هذه هي كلمة الله اللامتناهية التي تظل حية في النفوس ، والتي يتم تناقلها بين المريدين والعارفين بطريفة شفوية حتى يتم الحفاظ على قدسية وسرية هذه التعاليم .لقد أقام اليهود تاريخيا مع هذا المبدأ العام علاقات محددة .
العلاقة الأولى تحول معها اليهود إلى شعب منطو على نفسه حافظ لهذا السر الالهي، الذي لا يمكن الاطلاع عليه من قبل الآخرين ،وهذا هو ما جعل اليهودية تفقد ثقتها في اللغة والتعبير وتتحول إلى ديانة للصمت والانتظار ،وهذا هو المعنى الحقيقي لشعب الله المختار ،أي الشعب الحافظ لقداسة اسم الله الاعظم ،وهؤلاء هم اليهود الاوائل الذين عاشوا في اوروبا وفي باقي العالم والذين كانوا يقبلون الشتات باعتباره تكليفا ورسالة دينية ،فالتجربة الإيمانية تعثر على معناها في الترحال والانفصال والتيه . ويعتبر ابرا هام بن صموئيل ابو لافيا الذي ولد في اسبانيا سنة 1240م رائد هذا الاتجاه .
العلاقة الثانية دفعت اليهود إلى محاولة فهم هذه التعاليم السرية وتحويلها إلى نوع من الكلام ـ الذي وإن كان لم يفقد غموضه إلا أنه تجرأ كي يحول الصمت إلى لغة ـ وهي العلاقة التي يمكن أن نسميها بالخيانة الإيجابية للسر ،ولدينا أمثلة على ذلك أبرزها نص الزوهار الذي كان أول وثيقة مكتوبة في النصف الأول من القرن الحادي عشر من طرف سيمايون بن يوكيه والذي يعده بعض الباحتين كنص مقدس لا يقل أهمية عن التوراة والتلمود .
العلاقة الثالثة جعلت اليهود يدخلون في نوع من التأويل الملتوي والمهرطق لتراثهم ،إذ في نظر هذا الاتجاه كيف يمكن أن تتحمل النفس المخطئة والضالة السر الإلهي. هنا تبرز عقيدة الخطيئة المقدسة كمخرج للخلاص ومعناها أنه :"من المزيد من الخطايا سيخرج عالم لا خطيئة فيه " 4 إذ كلما اتجه الإنسان إلى السقوط كلما اكتشف قيمة الخلاص . كان هذا الموقف هو الذي جعل اليهود يخلطون بين الخير والشر ،بل ويجعلون القتل والاحتيال والاغتصاب وخداع الأغيار طقسا دينيا لا يقل عن الصلوات والابتهالات في المعابد ،فالآخر مسيحيا كان أو عربيا يعتبر قربانا ينبغي التضحية به للرب .إننا نعتقد أن الصهيونية في العديد من ممارساتها العسكرية والسياسية ،تستمد مبرراتها العامة من هذا الموقف "الإيماني الغريب " بالذات .إنها خيانة سلبية مضاعفة أولا بما هي انتهاك للسر وتجسيد تاريخي ـ وليس سماوي ـ له .وثانيا لأنها تجعل من القانون والشريعة الموسوية إيديولوجيا سوداء ، لتبرير تقديم شعب بأكمله قربانا أمام مذبح الرب 5 .
لقد بينا سابقا كيف أن الصهيونية في نهاية المطاف ، ما هي إلا أسطورة دينية تتلفع بلغة سياسية مزيفة ، وأنها في زمن الحداثة يبدو أنها مرشحة كي تلعب في المستقبل دور الخطاب الذي لا يمكن أن تستوعبه لغة الحاضر . إذ كيف ستتعايش أمة تضفي القداسة على التاريخ وتعتبره مجالا لتحقيق برنامج إلهي مطلق ، مع الحداثة التي تريد أن تنزع كل صفة قدسية للتاريخ من أجل حياة مدنية قائمة على سلطة القانون والعقل ؟ .
يبدو أن الصهيونية هيجلية حزينة ومشوهة ، وذلك لأنها تود أن تطابق بين الوجود الإلهي والوجود البشري ، ليس طبعا بفعل صيرورة جدلية منطقية كما هو الأمر عند هيجل ، بل بفعل وعود إلهية غامضة تصبح فيها حركة التاريخ نفسها رمزا دينيا وشعيرة من شعائر العبادة .
إن الصهيونية ليست مجرد شعور وطني متحمس ،بل هي عقيدة لا تطالب فقط بالحصول على الوطن ،بل تطالب ببلورة مفهوم معين لهذا الوطن ،وبتصور خاص عن الإنسان والتاريخ والحياة .هذا يعني أن الصهيونية لن تحقق مطالبها فقط بالحصول على دولة ، بل إن برنامجها هو أكبر من ذلك بكثير .ولكن إذا كان هذا البرنامج أكبر مما يمكن أن يحمله الإنسان ،وأوسع مما يمكن أن يجسده التاريخ ،فإن الصهيونية ستظل تبعا لذلك عبارة عن توتر قلق بين الحقيقة التاريخية الواقعية ،والحقيقة التلموذية المتعالية .
هكذا يأخذ الصراع العربي الإسرائيلي علامات بعيدة وعميقة ، لا تستطيع التسويات السياسية أن تضع له حدا نهائيا .هذا الصراع هو نتاج لاصطدام الصهيونية مع الحداثة ،بل أكتر من ذلك هو نتاج لاصطدام الحداثة مع نفسها ،ما دام أن الحداثة كمشروع عن الحرية والتقدم والعقلانية ،تجد نفسها مطالبة حتما بأن تقدم موقفا واضحا في حرب تضيع فيها كل معاني وفضائل الإنسانية .إن إسرائيل لا تستطيع اليوم أن تضمن استمراريتها إلا بالتعبئة على هذا العدو الخارجي ، فالسلام يعني أن تنتبه إسرائيل إلى الشأن الاجتماعي والسياسي الداخلي ،وان توطد مؤسساتها .لكن إذا حدث هذا فستطرح أهم مشكلة تحاول إسرائيل لحد الآن أن تتجنبها ألا وهي مشكلة الهوية .إذ ما هي هوية الدولة الإسرائيلية ،وهل هي حقا دولة ـ بالمعنى الحديث للكلمة ـ أم هي مجرد استعارة دينية كبيرة ،تحاول الحداثة أن تستوعبها دون أن تتمكن من ذلك لحد الآن .لهذا السبب نعتقد أن كل شيء ممكن في الشرق الأوسط ما عدا السلام فهو مازال بعيدا ولعقود أخرى كثيرة .نقول بعيدا لكننا لا نقول مستحيلا ،إذ من الممكن أن يتحول الخلاف إلى نزاع ـ وهذا ما لم ينتبه إليه ليوطار نفسه ـ فتاريخ البشرية ما هو إلا مجال واسع يفض فيه الخلاف نفسه ويصبح عبارة عن نزاع قابل لتسويات واقعية .



الهامش
1 ـ Lyotard JF Ledifferend ED Minuit 1983
2 ?ـ إسرائيل شاحاك : اليهود واليهودية وطأة 3000 عام . ترجمة الملتقى ,الطبعة الأولى يشير المؤلف في هذا الكتاب إلى تضارب الرؤى الدينية حول هذه النقطة قائلا :" ثمة صيغ عديدة متضاربة يجري تداولها اليوم للحدود التوراتية لأرض الدولة اليهودية , وفق المراجع الدينية اليهودية , أبعد هذه الصيغ مدى يشمل المناطق التالية جنوبا ,كل سيناء وجزءا كبيرا من شمال مصر حتى ضواحي القاهرة ,وشرقا :كامل الأردن وجزءا كبيرا من العربية السعودية وجزءا من العراق جنوب الفرات وكامل الكويت ,وشمالا كل لبنان وسوريا مع جزء كبير جوا من تركيا { حتى بحيرة فان } , وفي الغرب : قبرص . " ص 9
3 ـ روجي غارودي ـ الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية .الطبعة الرابعة جريدة الزمن .ترجمة الزمن ص 29
4 ـ دافيد باكان : فرويد والتراث الصوفي اليهودي . ترجمة طلال عتريسي . الطبعة الأولى 1988ص 93
5 ـ .لكن هناك شكل آخر لهذه الخيانة وهو ما قام به سيغموند فرويد حينما علمن التصوف اليهودي كما قال دافيد باكان ص 34 فالتحليل النفسي من بدايته إلى نهايته ما هو إلا قراءة معاصرة للأسرار العميقة للديانة اليهودية



#الفاهم_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - الفاهم محمد - القضية الفلسطينية والمسألة اليهودية