دوبرافكا اوغرسيك
الحوار المتمدن-العدد: 1329 - 2005 / 9 / 26 - 11:10
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
في أحد الافلام السوفياتية القديمة، "الواحدة والاربعون"، والمُستوحى من بوريس لافرنييف التي تحمل العنوان عينه، هناك مشهد يثير لديّ التساؤل. يروي الفيلم حكاية جندية شابة وشجاعة من الجيش الأحمر أسرت ضابطاً وسيماً من الحرس الأبيض المُعادي. إنهما في كوخ وسط الصحراء ينتظران عودة الوحدة العسكرية التي تنتمي اليها الفتاة. تُغرم الجندية، ذات القلب الكبير المُمانع ازاء التحجّر الفكري، بعدوّها الايديولوجي الساحر. في لحظة، ينفد ورق السجائر منه، فتُقدّم له بكلّ سخاء الشيء الوحيد الثمين الذي تملكه: دفتراً صغيراً تكتب فيه قصائدها. يلفّ الضابط التبغ في شِعر الجندية ويحرقه دخاناً، بكلّ وقاحة، حتى البيت الأخير، تحت نظر المشاهدين الذين يصعب عليهم التصديق.
هل يمكننا تخيّل الوضع المعاكس؟ لا. ذلك أنّ المشهد المؤثر، وبالرغم من سذاجته، هو اكثر من مشهد سينمائيّ، إنه مختصر استعاريّ لتاريخ الآداب النسائية ولعلاقة النساء بانتاجهنّ الخاصّ وعلاقة الرجال بما تنتجه النساء.
على مدى التاريخ، بدّد الرجال الى رماد طموحات النساء الادبية، والنساء ضحّيْنَ بأنفسهنّ من أجل الآداب الرفيعة، ومنها من لم يستمرّ الاّ بفضلهنّ في الحقبات المظلمة من تاريخه. فلنتذكّرْ، مثلاً، ناديدجا ماندلستام التي كانت تحفظ بإصرار عن ظهر قلب أبيات شعر اوسيب. فأنقذت العديد من قصائده، في الوقت الذي كان ستالين يسعى جاهداً الى محوها من الوجود.
فلنتذكّرْ كلّ تلك الزوجات والعشيقات والصديقات والمُعجبات والمُترجمات والمُرافقات والواهبات والراعيات والناقلات والطابعات والمُصحِّحات والناشرات الوفيّات والمُفاوِضات الحكيمات والعميلات الأدبيات والمُلهِمات والمستشارات والمُساهِمات المُتحمِّسات واللّطيفات، المُهتمّات بتعبئة غليون الكاتب وتنظيف مكتبه، طبّاخات دقيقات وحارسات قيّمات للمحفوظات أو المكتبات، قارئات شغوفات وحافظات أمينات للمخطوطات، تماثيل حيّة تعيش في معابد الأدب الجنائزية، مُدبِّرات منزل في متاحف الادباء تُلمِّع التماثيل النصفيّة وتلتقط الغبار المتراكم فوق المؤلفات الكاملة، مؤسِّسات مُتحمِّسات لهيئات تُعنَى بنشر مؤلّفات الشعراء أحياء كانوا ام أمواتاً. نعم فلنتذكّرْ جميع هؤلاء النساء.
بلغة المعلوماتية، كانت النساء طوال التاريخ "تحفظْنَ" النصوص الادبية، بينما الرجال "يمحونها". كم رجل ـ ديكتاتور او ثريّ كبير او رقيب او مجنون او مُولَع بإشعال الحرائق او قائد جند او امبراطور او زعيم ـ حمل في نفسه كراهية لا تلين تجاه المكتوب!
لو حدث مرة أن وضّبت امرأة السمك الطازج في أوراق شاعر صغير، فأيّ ضرر هذا مقابل الكتب التي أُحرقت في عهد الامبراطور الصّيني هوان تي؟ واذا قامت إحداهنّ باستخدام صفحة قصيدة لتغليف قالب الحلوى، فأين منها أطنان المخطوطات التي دمّرتها الاستخبارات السوفياتية؟ لو أشعلت إحداهنّ المدخنة بأوراق كتاب، فإنّ ذلك لا يُقاس بالدخان المتصاعد من الكتب التي رُميت في المحارق النازيّة؟ ولو لجأت امرأة لصفحات رواية لتنظيف زجاج النوافذ، فإنّ ذلك لا يُقارن برماد مكتبة ساراييفو التي أحرقتها قذائف كاردجيك وملاديتش.
هل يمكن تصوّر مشهد معاكس؟ لا، لأنه خارج الاحتمال تماماً. فطوال التاريخ، كانت النساء قارئات، ذبابات صغيرة تعلقنَ في طعم الكتابة: كانت النساء دائماً من جهة الجمهور. هكذا، وفي إطار الأدب الكرواتي الصغير في القرن التاسع عشر، اضطرّ الكتّاب الرجال إقناعهنّ بالتوقّف عن القراءة بالألمانية، لأنّ هؤلاء الكتّاب المحلّيين كانوا يفتقرون الى القرّاء. "ينكمش قلب الوطنيّ عندما يسمع بنات العائلات المحترمة، وأيضاً بنات الناس العاديين، يسخرنَ من اللّغة الوطنية". ومن شفقتهنّ، راحت القارئات الكرواتيات يطالعنَ كتبهم وهنّ يتثاءبنَ ضجراً... هكذا يمكن القول أنّ النساء أطلقنَ أدب هذا البلد الصغير.
طالما كانت النساء الأرواح المنزلية للأدب وهنّ من الجنّ الطيبين. فمن باب الاستعارة أنّ كلّ بيت أدبيّ مسكون بظلّ بانيته الحقيقية وهي امرأة. مقابل تعبهنّ، يهبهم الكتّاب مديحاً جماعياً في الغالب. هكذا يرد اسمهنّ في أسفل قائمة الأشخاص الموجّه اليهم الشكر، من مدراء أدبيين او وكلاء او ناشرين او اصدقاء ومؤسّسات.عند قاعدة الهرم، يبقى حاضراً ظلّ ماري او جاين او فيرا [1].
ولنعد الى موضوعنا الاساس، ونقول أنّ تاريخ النساء والكتب والدخان واحد لا ينفصل، وكدت اقول أنه تاريخ مشترك. وحدهنّ النساء والكتب أُحرقنَ من على محارق محاكم التفتيش. لم يلعب الرجال دوراً يُذكر في رماد التاريخ، فالساحرات (وكنّ من المتعلمات) والكتب (مصدر المعرفة واللذة) اعتُبرنَ من اعمال الشيطان، في كلّ مرة كان هذا الاعلان ضرورياً في تاريخ البشرية [2]. وتُقفل الدائرة مع الانتحار الاستعاري لسيلفيا بلاث التي تُدخل رأسها في الفرن المنزليّ، كذكرى استعاديّة لفكرة الجحيم.
لكن لنسترجعْ، في خاتمة هذه القصة الحزينة، مثلاً روسياً أيضاً ولكن أكثر بهجة. كانت احدى الامهات الموسكوبيات قلقة على ابنها، والسبب أنه كان تلميذاً متفوّقاً ومُحباً للأدب يُؤلّه بوشكين الخ... لكنّ الأمّ كانت تخاف عليه من المخدّرات، فكانت تفتّش جيوبه بانتظام، وانتهى بها الأمر الى العثور على ما كانت تبحث عنه: قطعة صغيرة من مادة سمراء غامقة مُوضّبة بعناية في ورق من الالمنيوم. وبدل التخلص منها، فضّلت المرأة تجربة المادة على نفسها، ومع أنها لم تكن تملك أية خبرة في هذا المجال إلاّ أنها تمكّنت من لفّ سيجارة. لكنّ ظهور ابنها في الباب انتزعها من سباتها اللطيف.
أين التراب؟ سألها.
دخّنته، أجابت بفرح.
في الواقع هذا لم يكن حشيشاً، بل تراب من قبر بوشكين المقدّس في نظر الابن. فالمرأة دخّنت اذن بوشكين، لتثأر من الجندية الكريمة الاخلاق في الجيش الاحمر والتي تحوّلت اشعارها الى رماد على يد أحمق. هذه المرأة المجهولة ربما فتحت صفحة ثورية جديدة في تاريخ الادب. اقول ربما. في كلّ حال شكراً لها!
--------------------------------------------------------------------------------
* كاتبة صربيّة في المنفى. المقطع مقتطف من ديوان سيصدر في ايلول/سبتمبر 2005 لدى دار فايار، باريس، تحت عنوان Ceci n’est pas un livre
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ستاسي شيف، مؤلفة سيرة فيرا (زوجة فلاديمير نابوكوف) تكتب: "نظرا الى قائمة الاشياء الذي لم يحسن القيام بها ـ الطبع على الآلة الكاتبة، قيادة السيارة ، التحدث بالالمانية، العثور على الاغراض الضائعة، اغلاق الشمسية، الرد على الهاتف، تفتيح صفحات كتاب... يمكن التكهن بأي مهمات أمضت فيرا حياته".
[2] في فيلم "محامي الشيطان" الاميركي لتايلور هاكفورد، يبدو تصوير الشيطان مثيرا للاهتمم حيث ان ابليس (آل باتشينو) وتابعاته لهما ميزتان: يدخنون (ما عاد احد يدخن في اميركا الا من كان تحت تأثير قوى الشر) ويتكلمون بطلاقة لغات اجنبية (كذلك المتعلمون يقعون تحت تأثير قوى الخطيئة!).
#دوبرافكا_اوغرسيك (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟