أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - ج3 / ف 1: جذور الانحلال الخلقى فى عقيدة التصوف:2 وحدة الفاعل















المزيد.....

ج3 / ف 1: جذور الانحلال الخلقى فى عقيدة التصوف:2 وحدة الفاعل


أحمد صبحى منصور

الحوار المتمدن-العدد: 4756 - 2015 / 3 / 23 - 18:43
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية
الفصل الأول: جذور الإنحلال الخلقى الجسدى وتشريعه فى دين التصوف.
جذور الإنحلال الخلقى فى عقيدة التصوف : 2 : وحدة الفاعل
1 ــ ثم من مظاهر عقيدة الوجود أن الله ( بزعمهم ) هو الفاعل لكل حركة، باعتبار أنه موجود فى داخل كل إنسان ، أو مايعبر عنهم الصوفية بقولهم وحدة الفاعل . يقول الغزالى ( وحاصلة أن يتكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى ، وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وحياة وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما ينطق عليه اسم، فالمتفرد بإبداعه واختراعه هو الله لاشريك له فيه ، وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره ، فإنه الفاعل على إنفراد دون غيره، وماسواه مسخرون له لا استقلال لهم بتحريك ذرة فى ملكوت السماوات والأرض)
2 ــ والغزالى يخلط عامدا بين قدرة الله واختبار العبد ليؤكد صلة عقيدته الصوفية فى وحدة الفاعل بالإسلام ، والواقع القرآنى يؤكد على أن الله هو خالق كل شىء( ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) الانعام )، والله هو الذى سمح للبشر بالحرية للإنسان فى مشيئة الايمان أو الكفر: (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29) ) الكهف ) (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)) الزمر ) ( قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) ) الزمر ) والحرية فى العمل والفعل فقال جل وعلا :( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فصلت ) والآيات السابقة ختمت بتقرير مسئولية البشر أمام الله حيث سيحاسبهم يوم القيامة على هذه الحرية التى سمح لهم بها ، بل على أساس هذه الحرية تمتع الصوفية مثلا بحريته فى الكفر والعصيان وكتب الغزالى وأمثاله مايخالف آيات الله التى حاول التلاعب بها لتتفق مع عقيدته .
3 ـ وقد فصّل الغزالى القول فى تقرير وحدة الفاعل وربط أفعال البشر بقضاء الله وقدره ليثبت أن لامسئولية على العصاة فيقول مثلا ( ولاينبغى أن تقول هذا فعلى .. بل هو الذى صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه والفعل المحبوب بالشخص المحبوب) . فالغزالى هنا ينسب الفعل المكروه لله خلافا للقرآن الذى ينسب العمل الصالح لهداية الله والعمل السىء لابتعاد النفس عن هدى الله ، يقول الله تعالى للرسول : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) النساء)، والهداية تبدأ من النفس البشرية باختيارهم ثم يزيدها الله هدى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (17) : محمد )، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) العنكبوت )، وفى المقابل فإن الذى فى قلبه مرض الضلال يزيده رب العزة ضلالا : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(10) البقرة ).
4 ــ إلا أن الغزالى جعل البشر مجرمهم وصالحهم أوراقا يحركها الله بلا إرادة منهم ، يقول( والعلماء يعلمون أنهم مُحرّكون، إلا أنهم لايعرفون كيفية التحريك ، وهم الأكثرون إلا العارفون والعلماء الراسخون ، فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطا دقيقة عنكبوتية ، بل أدق منها بكثير معلقة بين السماء ، متشبثة الأطراف بأهل الأرض .. ثم شاهدوا رءوس تلك الخيوط فى مناطات لها هى معلقة بها،وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هى فى أيدى الملائكة المحركين للسموات وشاهدوا أيضا ملائكة السماوات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ماينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية، كى لايعصوا الله ماأمرهم ويفعلون مايؤمرون) . الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لم يُخلقوا بعدُ لأنهم ملائكة النار ، والنار لم تخلق بعدً لأن وقودها الناس والحجارة ، واصحاب النار لم يدخلوها بعد لأنه هذا سيحدث يوم الدين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6 ) التحريم ). ولكن الغزالى يفترى أن البشر عرائس خشبية مرتبطة بخيوط تحركها الملائكة بأوامر الاهية . وعليه فهو يصف رب العزة بالظلم إذ كيف يحاسب الناس ويدخلهم النار وهم عرائس تتحرك بلا إرادة ؟
5 ــ وصارت وحدة الفاعل من مصطلحات الصوفية تعرف بالعبودية ومحو عين العبد، أى( إسقاط إضافة الوجود إلى الأعيان ، فإن الأعيان شئون ذاتية ظهرت فى الحضرة الواحدة، أى الله، إلا أن وجود الحق ظهرفيها مع كونها ممكنات معدومة لها آثار فى الوجود الظاهر بها) ( والوجود ليس إلا عين الحق تعالى، والإضافة ليست لها وجود فى الخارج ، والأفعال والتاثيرات ليست إلا تابعة للوجود، إذ المعدوم لايؤثر، فلا فاعل ولا موجود إلا الله تعالى ، فهو العابد باعتبار تعينه وتقيده بصورة العبد.. وهو المعبود باعتبار إطلاقه) أى وصفوا الله بأنه العابد وأنه المعبود، ووصفوا الإنسان بأنه العابد والمعبود تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
6 ــ والخطورة الأخلاقية فى (وحدة الفاعل) أن الصوفية يبرئون المجرم من جريمته وينسبون الجريمة لله باعتبار أنه الفاعل وحده ،أما المجرم من البشر فلا إرادة له فيما يرتكب ، ولأن كل الأفعال عندهم من الله، وقد جعل الغزالى من هذه المقالة أساس (التوحيد الصوفى) فيقول: ( ولست أعنى بالتوحيد أن يقول بلسانه لا إله إلا الله .. فلا ينفع القول بلسانه ، وإنما ينفع الصدق فى التوحيد ، وكمال التوحيد أن لايرى الأمور كلها إلا من الله ، وعلامته أن لايغضب على أحد من الخلق بما يجرى عليه ، إذ لايرى الوسائط ، وإنما يرى مسبب الأسباب) . فمن كمال التوحيد عندهم ألا يغضب المظلوم من ظالمه ، بل ينسب الإثم لله لا للبشر ، وصار من اصطلاحاتهم(الموت الأسود) وهو (احتمال الأذى من الخلق .. لكون يراه من محبوبه) . أى من الله ، تعالى عن ذلك علو كبيرا ..
7 ــ ويساوى الصوفية على هذا بين الحسنة والسيئة، وبين الصالحين والعصاة ، والمؤمنين والكفرة، فكل هذه الأعمال من الله لا من البشر، فيقول أبو سليمان الدارانى( ليس أعمال الخلق بالذى يسخطه ولا بالذى يرضيه ، وإنما رضى عن قوم فاستعملهم بعمل أهل الرضا، وسخط على قوم فاستعملهم بعمل أهل السخط) . وأعطى الصوفية ذلك المعنى اصطلاحا هو ( جمع الجمع) ( وهو تصريف الحق جميع الخلق ، فجمع الكل فى التقليب والتصريف من حيث أنه منشىء ذواتهم ومجرى صفاتهم ، ثم فرقهم فى التنويع ، فريقا أسعدهم وفريقا أبعدهم وأشقاهم وفريقا أضلهم وعماهم ) . ولذلك دافع ابن عربى عن المشركين من الأمم السابقة من قوم نوح وقوم عاد ، وفرعونن بل واعتبر فرعون سيد موسى .
8 ــ والله جل وعلا يرد مقدما على هذه الافتراءات ، ففى الاسلام القائم على القسط والعدل لايمكن أن تستوى الحسنة مع السيئة( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ )(34) فصلت ) كما لايمكن أن يتساوى الفاجر بالصالح: ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) القلم ).( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) ) ص )( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)) الجاثية ). لذلك فان الحرية المُعطاة للانسان فى هذه الدنيا يترتب عليها يوم الحساب خلود فى الجنة أو خلود فى النار .ولا يمكن أن تتساوى الجنة والنار.
9 ــ ومادام التصوف يساوى العصيان بالصلاح وينسب الفعل السىء لله لا للبشر ومادامت النفوس تميل للرذائل فالعصيان أقرب للهوى. والصوفى عندما يعصى فإنه يختار ماقضى به الله فى زعمهم، وقد اقترب بعضهم من هذا المعنى حين قال ( مادام العبد يتعرف فيقال لا تختر شيئا ولاتختر ولاتكن مع اختيارك ، فإذا عرف وصار عارفا ــ أى تصوف ــ فيقال له إن شئت اختر وإن شئت لاتختر ، وأنك إن اخترت فباختيارنا اخترت ..) . فالصوفى أو العارف له أن يختار مايشاء واختياره هو اختيار الله ، ولأنه عارف صوفى فهو يعلم الغيب ويتمتع بالعلم اللدنى كما ادعى الجنيد نفسه .
10 ــ والصوفى الذى يدعى علم الغيب بزعمهم يستطيع أن يعلم المستقبل وماقدره الله له من معاصى ، وبذلك إذا وقع فى معصية مثلا فلأنه عرف من علمه اللدنى أن وقوعه فى المعصية قدر لافكاك منه . والجنيد سيد الطائفة وزعيم الصوفية المعتدلين القائل( العارف من نطق عن سرك وهو ساكت) هو نفسه الجنيد الذى سئل: ( أيزنى العارف ؟) فأطرق مليَا ثم قال( وكان أمر الله قدرا مقدورا) . فالجنيد الذى كان يستتر بالفقه ويقرر التصوف سرا ويدعى التزامه بالإسلام وقع فى حيرة حين سئل سؤالا مباشرا عن إمكانية وقوع الصوفى فى الزنا، فأطرق مليَا ثم استشهد بقوله تعالى(مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الاحزاب ) وواضح أن الآية الكريمة تتكلم عن شرع الله جل وعلا وأوامره وسنته الواجبة الاتباع . ولكن الجنيد يلمح بذلك إلى معرفة الصوفى بالغيب ، وأنه إذا عرف المقدر عليه فلا يستطيع منه فكاكا.
11 ــ أما الغزالى ــ الذى يتقصّى أثر الجنيد فى التمسح بالإسلام زورا وبهتانا ــ فقد حاول أن يقرر نفس العقيدة من خلال أسطورة سبكها يقول فيها ( كان آصف بن برخيا من المسرفين وكانت معصيته فى الجوارح فقد روى أن الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام : يارأس العابدين .. إلى كم يعصينى ابن خالتك آصف وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة ، فوعزتى وجلالى لإن أخذته عصفة من عصفاتى عليه لتركته مثلة لمن بعده ..فلما دخل آصف على سليمان أخبره بما أوحى الله تعالى به ، فخرج حتى علا كثيبا من رمل ثم رفع رأسه ، وقال إلهى وسيدى أنت أنت وأنا أنا ، فكيف أتوب إن لم تتب على ؟ وكيف استعصم ؟ إن لم تعصمنى لأعودن، فأوحى الله تعالى إليه صدقت ياآصف أنت أنت وأنا أنا، أنا اتقبل التوبة وقد تبت عليك وأنا التواب الرحيم) .. وفى النص الذى اخترعه الغزالى افتراء على الله بأنه يوحى إلى عاصى بزعمه ،وفيه تفضيل لذلك العاصى على الله ، لأن الله غضب على العاصى لعصيانه وهدده بأن يجعله عبرة لمن بعده ، ولكن بعد ماتكلم العاصى مع الله يفترى الغزالى أن الله قال له( صدقت ياآصف) أى كما لو أن الله ــ تعالى عن ذلك ــ أخطأ فى الحكم الأول ، ثم يفترى ان الله جل وعلا اعتذر للعاصى حين أدرك عقيدة الصوفية فى أنه الفاعل الوحيد للعصيان والتوبة معا . وهذه سقطة هائلة للغزالى ( الذى جعلوه حُجّة الاسلام بزعمهم ) حين جعل الله كأنه يعتذر لبشر ، كل هذا لأن غرض الغزالى حين ألف هذه الأسطورة هو تقرير عقيدة وحدة الفاعل الصوفية ونسبها لله افتراء كى تكتسب مشروعية، فلا مسئولية على البشر إن عصوا .
12 ــ والغزالى الذى يشجع على الإنحلال الخلقى إلى درجة الإفتراء السابق على الله هو نفسه الغزالى الذى إضطر للإنكار على صوفية عصره حين طبقوا تعاليم الغزالى فأثاروا عليهم الناس ، وخصوصا الفقهاء السنيين الخصوم التقليديين للصوفية ، وخشى الغزالى من أن يمتد الإنكار الفقهى على الصوفية العُصاة إلى إنكار على دين التصوف نفسه ، فهب الغزالى يقطع الطريق على الفقهاء الأعداء التقليديين للصوفية ،فأخذ يهاجم بنفسه عُصاة الصوفية وادعاءاتهم ، مع أن أقوالهم لاتختلف عما يقرره هو فى نفس كتابه الأحياء ، فيقول عن صوفية عصره: ( طائفة وقعت فى الإباحة ــ أى إباحة المحرمات وليس مجرد ارتكابها ــ وطووا بساط الشرع ، ورفضوا الأحكام ، وسووا بين الحلال والحرام)، وهو نفس مايحاول الغزالى إثباته بالأساطير المفتراه ،ثم يورد أقوالهم ( فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عملى فلم أتعب نفسى ، وبعضهم يقول قد كلف الله تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا وذلك محال ، فقد كُلّفوا مالم يكن ، وإنما يغتر به من لم يكن يجرب ، وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال ، وبعضهم يقول الأعمال بالجوارح لاوزن لها ، وإنما النظر إلى القلوب ، وقلوبنا والهة بحب الله وواصلة إلى معرفة الله ،وإنما نخوض فى الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة فى الحضرة الربوبية ، فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ، ويزعمون أنهم قد ترقوا عن رتبة العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية ، وأن الشهوات لاتصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها، ويرفعون أنفسهم على درجة الأنبياء .. إذ كانت تصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة ) ثم يقول الغزالى فى النهاية ( وأضاف غرورأهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية ــ لا تحصى) . وفى الجملة الأخيرة السبب الذى من أجله هاجمهم الغزالى ، فقد أنكر صلتهم بالصوفية وجعلهم متشبهين بالصوفية، وحرمهم من شرف الإنتماء لأمثاله حتى لايعطى فرصة لخصومه الفقهاء .
13 ــ وقبل الغزالى كان الصوفية يمارسون نفس الانحلال الذى كان فى عصر الغزالى، وفقا لعقيدة التصوف فى وحدة الوجود ووحدة الفاعل ، فأضطر القشيرى ليكتب رسالته فى الإنكار عليهم يقول فى مقدمتها : (رفضواالتمييز بين الحلال والحرام) وهو ما يماثل قول الغزالى أنهم وقعوا فى إباحة المحرمات ( واستخفوا بأداء العبادات ، واستهانوا بالصوم والصلاة) أى أسقطوا التكاليف الإسلامية ( وركضوا فى ميدان الغفلات ، وركنوا إلى إتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطى المحظورات ، والارتفاق بما يأخذونه من السوق والنسوان) أى وقعوا فى الإنحلال الخلقى ( ثم لم يرضوا بما تعاطوا من سوء هذه الأفعال ، حتى أشاروا إلى أعلا الحقائق والأحوال ، وأدعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال وتحققوا بحقائق الوصال) أى إدعوا الإتحاد بالله وتحرروا عن رق الجسد وتحققوا بالله وأصبحوا جزءا من الله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ( وتحققوا بحقائق الوصال ، وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه وهم محو ، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يزرونه عتب ولا لوم) أى وحدة الفاعل فالله ــ بزعمهم ــ هو الذى يتصرف فيهم ، وقد انمحت ذواتهم فلا عتب ولا لوم عليهم فيما يقعون فيه من آثام ( وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية ، واختطفوا عنهم بالكلية ، وزالت عنهم أحكام البشرية) أى كاشفهم الله بأسراره وبالعلم اللدنى الإلهى ، وتحققت أرواحهم بالله فلم يعودوا كالبشر لتجرى عليهم أحكام البشر ( وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية) أى بقت أجسادهم على الأرض بعد أن فنت أرواحهم وتحققت بالله ، وذلك يشابه قول الغزالى السابق عن معاصريه أنهم يخوضون فى الدنيا بأجسادهم وقلوبهم عاكفة فى الحضرة الربوبية ، فهم مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ، لذا فلا موجب للوم عليهم( وبقوا بعد فنائهم بأنوار الصمدية ، والقائل غيرهم إذا نطقوا والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا) أى أن الفاعل هو الله لا هم .. ثم يقول القشيرى ( ولما طال الإبتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت بعضه من هذه القصة ، وماكنت لأبسط هذه الغاية لسان الإنكار غيره على هذه الطريقةأن يذكر أهلها ..إذ البلوى فى هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة) فهو هنا يعلل السبب فى إنكاره على الصوفية وهو خوفه على الطريقة الصوفية من الفقهاء أعدائه ، ثم قال (ولما أبى الوقت إلا استصعابا ،وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوه واغترارا بما ارتادوه ، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده، وعلى هذا النحوسارسلفه ، فعلقت هذه الرسالة إليكم) أى تمادى الصوفية فى انحلالهم الذى اعتادوه فخشى القشيرى أن يحسب الناس أن التصوف هو ذلك الانحراف الخلقى والعقيدى الذى يمارسه صوفية عصره فكتب رسالته القشيرية . ومع ذلك فإنه لم يستطع فى هذه الرسالة إلا أن يقرر نفس العقائد الصوفية وستأتى نصوص فى ذلك كما سبق إيراد بعضها .
14 ــ وبعد القشيرى جاء الغزالى يكرر نفس الإتهام لصوفية عصره ، يقول مثلا ( رأى بعضهم أن الله مستغن عن عبادة العباد لاينقصه عصيان عاص ولاتزيده عبادة متعبد ، فعادوا للشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام ، وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد) .
15 ــ وأصبحت عادة الصوفية أن يتهم كبار الصوفية وفقهاؤهم أوباش الصوفية الآخرين المعاصرين لهم مثل مافعل القشيرى والغزالى .. فالشعرانى فى آواخر العصر المملوكى يتهم معاصريه من أوباش الصوفية الذين أعلنوا عقائدهم بصراحة ولم يتمتعوا باحترام الشعرانى ، بل نافسوه فى النذور والنفوذ ، لذا رماهم على لسان شيخه الخواص بأنهم( زنادقة ، وهم أنجس الطوائف ، لأنهم لايرون حسابا ولا عقابا ولا جنة ولا نارا ولا حلالا ولا حراما ولا آخرة، ولا لهم دين يرجعون إليه ، ولامعتقد يجتمعون عليه ، وهم أنجس الطوائف) . هذا مع أن الشعرانى يدافع باستماتة عن ابن عربى ، ويلخص كلامه ويتابع آراءه ويكتب فى سلوك أشياخه ما يخجل أعتى الفسقة ، وسيأتى تفصيل ذلك.



#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ج3 / ف 1 : جذور الانحلال الخلقى فى عقيدة التصوف:1 وحدة الوج ...
- ج2 / ف 5 : جهاد الصوفية الفعلى وخيانتهم وتعاونهم مع العدو
- ج2 / ف 5 : تشريع الجهاد الصوفي السلبى فى العصر المملوكى
- ج2 / ف 5 : مدخل عن أثر التصوف في الجهاد فى العصر المملوكى
- ج2 / ف 4 : جريمة التغنى بالقرآن الكريم فى مصر المملوكية
- ج2 / ف 4 : حفلات الرقص والسماع فى مصر المملوكية
- ج2 / ف 4 : وصف الرقص كعبادة دينية فى مصر المملوكية
- ج2 / ف 4 : تشريع الرقص دينا للتصوف
- ج2 / ف 4 : تشريع الوجد دينا للتصوف
- ج2 / ف 4 : تشريع فقه السماع ( فقه اللهو واللعب ) عند الصوفية ...
- ج2 / ف 4 : الذكر( السماع ) فى عقيدة التصوف
- ج2 / ف 4 : المحمديون إتخذوا دينهم لهوا ولعبا
- ج2 / ف 4 : فريضة ذكر الله جل وعلا فى الاسلام
- بين نقيضين : السيسى وعمر بن عبد العزيز
- بين الرئيس السيسى وفرعون موسى : النهاية والعظة والعبرة
- السيسى وفرعون موسى : من الكفر الى التوبة
- السيسى وفرعون موسى : العلو الذى يصل الى التأليه : ( أَنَا رَ ...
- الدولة العسكرية الأمنية ( الفرعونية ) ( السيسية )التى تستعلى ...
- الرئيس السيسى : هل يؤمن باليوم الآخر ؟!!
- الرئيس السيسى : هل يؤمن بالله جل وعلا ؟!!


المزيد.....




- “TV Toyour Eljanah”‏ اضبطها حالا وفرح عيالك.. تردد قناة طيور ...
- إنشاء -جيش- للشتات اليهودي بدعم من كيان الاحتلال في فرنسا
- بينهم 5 أمريكيين.. الشرطة الإسرائيلية تعتقل سبعة يهود حاولوا ...
- اضبط تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 لمشاهدة ممتعة لاحلي اغ ...
- لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا ...
- -باسم يوسف- يهاجم -إيلون ماسك- بشراسة ..ما السبب؟
- إسرائيل تغتال قياديا بارزا في -الجماعة الإسلامية- بلبنان
- -بعد استعمال الإسلام انكشف قناع جديد-.. مقتدى الصدر يعلق على ...
- ماما جابت بيبي.. تردد قناة طيور الجنة الجديد الحديث على القم ...
- معظم الفلسطينيين واليهود يريدون السلام، أما النرجسيون فيعرقل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - ج3 / ف 1: جذور الانحلال الخلقى فى عقيدة التصوف:2 وحدة الفاعل