أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد جابر الأنصاري - العلامة ابن خلدون...ذكرى 600 عام















المزيد.....

العلامة ابن خلدون...ذكرى 600 عام


محمد جابر الأنصاري

الحوار المتمدن-العدد: 1311 - 2005 / 9 / 8 - 11:06
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


علامة ورحالة وروح عصر وعبقرية عربية، لم يَجُد الزمان بمثلها. هو المؤسس الأول لعلم الإجتماع، ومجدد علم التاريخ، ورائد لفن الترجمة الذاتية وعالم راسخ في الحديث ومبدع في دراسات التربية، وله أسلوب متميز في الكتابة العربية. ولد في تونس، في غرة رمضان 732هجرية - الموافق 27 مارس 1322م- وتوفي في مصر بعد أن شغل منصب قاضي قضاتها في 26 رمضان 808ه - الموافق 16 مارس 1405م. ويمثل هذا العام الذكرى الستمائة على وفاته، وتحتفل مجلة (( العربي )) بهذه المناسبة المميزة من خلال هذا الملف الذي أعد تحت إشراف الكاتب والمفكر البحريني المعروف د. محمد جابر الأنصاري.

رحل منذ ستة قرون ومازال معاصراً

وإذ انتمى ابن خلدون الى الماضي فإن العرب لن يستطيعوا تجاوز فكره المجتمعي، إلا بعد معرفته عن كثب. واعتقد أن مقدمته تمثل الكتاب الأفضل لمحو (( أميتنا )) الحضارية والتاريخية بشأن حقيقة الذات، بين أميات أخرى.

ابن خلدون سمع به الكثيرون من العرب، وتفاخروا به على عادتهم، ولكن مضامين فكره، كما تجلّت في (( المقدمة )) بشأن طبيعة المجتمعات العربية خاصة، لم تصبح جزءاً من تكوينهم الثقافي. ومالم تصبح جزءاً من هذا التكوين، فإن اغتراب العرب عن حقيقة مجتمعاتهم، سيترك لأمد طويل ضياعاً فكرياً لديهم، لا يمكن التقليل من خطره.

فابن خلدون، من خلال المقدمة، يمكن الالتقاء به في هذه المرحلة في العراق، حيث ((عصائبه)) المتعددة تحاول الإتفاق على مشروع ((دولة)). ويمكن الالتقاء به في لبنان للاعتبار ذاته، وفي اليمن، بين قبائله المترددة بين إرثها العصبوي، ودولتها الحديثة، التي تحاول التحديث والتوحيد، بل إن ابن خلدون، يمكن الالتقاء به، من هذا المفهوم، في مصر، حيث الدولة على عكس المحيطين بها من ((أحلاف قبلية)) مشرقاً ومغرباً، حقيقة قائمة: ((سلطان ورعية))، حسب تعبير ابن خلدون!

إن ما رآه ابن خلدون، برؤية نافذة حقاً، الى السوسيولوجيا السياسية العربية للعرب، ما زال الكثير منه مترسباً بقوة الى يومنا، بالرغم من ((قشور)) الحداثة، بل العولمة، التي تحاصر المجتمعات العربية. وعندما تأملت في العولمة لأول مرة، قبل عقد من الزمن، ذهب فكري حالاً الى تلك ((العصائب)) والقبائل، وتساءلت: ماذا ستفعل العولمة بهم؟ وماذا سيفعلون بالعولمة؟ بكلمة أخرى، كيف سيكون التفاعل بين مفهوم كوني في منتهى العمومية وأوضاع في القاع المجتمعي في منتهى ((الخصوصية))، وبينهما عصور وعصور، ليس من الزمن فحسب، وإنما من التطور الحقيقي في الواقع البشري المعيش، الذي تجاوز التنظير والتجريد الفكري (يراجع كتاب العرب والعولمة، ندوة مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998).

عقلية عظيمة

إذا نظرت الى ذلك الحضرمي الأصل، اللأندلسي الأرومة، التونسي المولد، المصري المصير، خالجك الشعور بحكم الزمان (النهضوي)، والمكان (المتوسطي)، إنه ينتمي الى ذلك الشاطيء الشمالي (الأوربي)، من المتوسط بين رواد نهضة أوربا الأوائل بحكم جدة تفكيره، وتأسيسه لعلم العمران (الإجتماع). ولعل هذا ما يفسر الإعجاب المتناهي لفيلسوف التاريخ البريطاني أرنولد توينبي به، حيث اعتبره أعظم عقل في أي زمان ومكان، كما يفسر اهتمام الباحثين الأوربيين به، وترجماتهم لمقدمته الى يومنا هذا. إلا أن ((مقدمة ابن خلدون))، في حقيقة الأمر هي آخر كتاب، وآخر ومضة إبداع في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، بالمعنى الفكري الإبداعي في التجديد الحضاري، وتنتمي بشكل عضوي الى هذا الجانب (العربي) من المتوسط.

لا نريد أن نبالغ في أهمية ابن خلدون، وإلا وقعنا في ((علم الخطابة))! نريد القول: إن لدى الرجل رؤية تحليلية لتكوين المجتمعات العربية، لا بد من الإلمام بها، قبل الإنتقال لغيرها. ذلك أن بلغاء الخطاب العربي جاهزون للاعتراض: هل تريدنا أن نبقى في ((أسر)) ابن خلدون، وقد تجاوزه العالم بقرون. نعم لقد تجاوزه العالم، لكننا كمجتمعات عربية لم نتجاوزه في تكويننا، وإن داخلتنا مؤثرات أخرى، فإذن علينا التوقف عند محطته قبل الوصول الى محطة ماركس وفيبر وغيرهما من علماء الاجتماع الحديث. فعند محطة ابن خلدون، يتضح العمود الفقري للسوسيولوجيا السياسية العربية بالذات، وبعدها إضافات مهمة -دون شك- لكنها ليست بدايات أو منطلقات يؤسس عليها.

ابن خلدون....إرهاصات ماركسية

عندما أصدرت كتاب (تجديد النهضة) قبل أكثر من الزمن، ضمنته فصلاً كاملاً بعنوان ( خلدونية...لا ماركسية: نحو مدرسة ترى الأزمة في خصوصيتها المجتمعية)، كان قصدي فقط التنبيه للأهمية القصوى لفهم ((الخاص)) في القوانين الإجنماعية، الى جانب ((العام)). وهنا أهمية ابن خلدون، أهميته البالغة في تشخيص العرب. فلن تجد لديه في فلسفة التاريخ وصيرورة المجتمع انشغالاً بالقوانين، إنه دائم الحديث عمّا هو ((خاص)) في مجتمعات العرب وتاريخهم، العرب ضمن تفاعلهم في النطاق الإسلامي مع من جاورهم من ((ذوي السلطان الأكبر)).

لهذا الاعتبار قلت: ((خلدونية...لا ماركسية))، وكان عالم الإجتماع الفذ، د. علي الوردي، وهو من أبرز رواد مدرسة ابن خلدون في النصف الثاني من القرن العشرين، يحاول إقناع مجادليه ومواطنيه من الشيوعيين العراقيين أن النظام الزراعي في العراق نظام عشائري، وليس نظاماً إقطاعياً، حسب المواصفات الأوربية، وحسب توصيف الماركسية أيضاَ. وكان يقول بتواضع جمّ: أتمنى أن أكون مخطئاً...لكنه نظام عشائري!

ولكن يبقى، بطبيعة الحال، أن علم الاجتماع الماركسي ( وليس خطابه الأيديولوجي)، ما زال يحمل الكثير من التحليلات الصائبة أو القريبة من الصحة في تحليله لظواهر الاجتماع والاقتصاد والسياسة، بل إنني أعتقد أن هذا العلم في حدود المنهجية الخاضعة لمقاييس الخطأ والصواب، يحتفظ بمصداقية أقوى بعد سقوط الأنظمة الشيوعية الناطقة بإسمه، والتي لم تكن أمينة له، بقدر ما كانت حريصة على تسلطها ومصالحها، كما في كل تسلط.

ويبقى أن المسألة ليست في المفاضلة المطلقة بين ابن خلدون ومدارس علم الإجتماع الحديث -ومنها علم الاجتماع الماركسي- على طريقة (إما وإما)، السائدة في الخطاب العربي الى يومنا هذا. فمن أجل تشخيص وفهم أفضل، ثم تغيير أصح، للمجتمعات العربية، لا بد من الوقوف عند ابن خلدون، ثم إستكمال تجاوزه بالطريقة المنهجية السليمة، لا بالتجاوز السطحي أو الشكلي، كما في بعض مدارس الحداثة! ومازال الهدف فهم الواقع من أجل تغييره.

ولعل أفضل مدخل للتعرّف إلى حقيقة فكر ابن خلدون، الوقوف عند بعض لمحاته الرائعة في الفكر السياسي القائم على التشخيص المجتمعي الدقيق، لأوضاع المجتمع العربي في سياقه التاريخي، الذي ما زال ماثلاً ومؤثراً الى درجة كبيرة ( ومن لا يستفد من أخطاء تاريخه، محكوم بإعادتها...).

أشار باحثون عدة في فكر ابن خلدون الى أنه كان رائداً في الإرهاص والإيماء الى مسألتين مهمتين تنبه اليهما الفكر الحديث وهما: أولاً- أن القيمة الاقتصادية للسلعة يحددها الجهد الانساني/العمالي المبذول فيها، وليس مجرد قيمتها المادية. وهي مسألة انبنى عليها الفكر الاجتماعي الحديث - الاشتراكي بخاصة - في دعوته الى إنصاف العمال الذين يضيف جهدهم الى قيمة السلعة، وهي قيمة يستفيد منها الرأسماليون عادة. لم يصل ابن خلدون الى هذه الدعوة الصريحة لكنه اقترب كثيراً من مضمونها الفكري. ثانياً- أنه أومأ الى شيء قريب من الفكرة القومية الجامعة، عندما تحدث عن ((دولة العرب))، ثم ((دولة الفرس))، ثم ((دولة الترك)) في سياق التاريخ الاسلامي. صحيح أنه بنى فكره في تفسير الاجنماع والتاريخ لدى العرب على ((العصبية القبلية)) - وهو واقع لا يستطيع أي مفكر حقيقي تجاهله - لكنه أشار أيضاً الى أن تلك العصائب القبلية إذا تحالفت، خاصة في ظل ((دعوة دينية))، تستطيع أن تؤسس تحالفاً أوسع بينها يستند الى حقيقة كونها منتمية الى ((قوم)) متميز من الأقوام.

ما زال معاصراً

إلا أن أهمية ابن خلدون وطرافة فكره، وإن تمثلت في إيماءات فكرية تتخطى عصرها كالفكرة الاقتصادية، والفكرة القومية، كما أوجزنا، فإنه كان محدداً وواضحاً في أفكار أخرى، ما زالت واقعاً لا يمكن إنكاره في حياتنا العربية الراهنة. نورد -على سبيل المثال لا الحصر- تدليلاً على أن ابن خلدون ما زال معاصراً لنا كعرب، وإننا سنحتاج الى وقت حتى نتجاوزه في واقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي:

1- من أهم المسائل التي حذر منها ابن خلدون اشتغال رجال السلطة بالتجارة، ومنافستهم لأهل البلد وتجاره، بما يؤدي الى عرقلة الاقتصاد وتدميره، وانعكاس ذلك وبالاً على الدولة نفسها في نهاية الامر، كما يتضح من تجارب عربية معاصرة. يقول ابن خلدون في نص، كأنه كتب اليوم عن هذه الظاهرة، وخلاصته: (( إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية ( أي لنظام الضرائب الذي تطبقه الدولة). وفي ((المقدمة)) إسهاب فكري مهم في إيضاح هذا الامر في مختلف جوانبه، والوبال الذي يجلبه على ((الرعية))، وكيف أن رؤوس الاموال تهرب وتهاجر من بلد التسلط الى بلدان أخرى، خاصة إذا استغل المتسلط نفوذه في السلطة لمنافسة أهل البلد في أرزاقهم. وعلى العكس من ذلك، كان ابن خلدون يشيد دائماً بالسلاطين، الذين يكتفون بسلطة الحكم، ولا يخلطون بين الإمارة والتجارة، وهو ما بقي مثلاً أعلى للحكام العرب، الذين تميّزوا عن غيرهم بالنزاهة ونظافة الذمة، على ندرتهم في تاريخنا
وواقعنا.

2- كما حذر ابن خلدون من أنواع الاستبداد والتسلط الأخرى، لأن ذلك يؤدي الى تنفير أهل البلد، وانقلابهم على السلطان، وتعاونهم مع أعدائه. وقد لخص ابن خلدون رؤيته لآثار مختلف
أنواع الاستبداد والتسلط بمقولته الرائعة (( الظلم مؤذن بخراب العمران ))، داعياَ السلاطين الى كسب قلوب رعاياهم بالمودة والعفو والاحسان، تعزيزاً لدولهم ذاتها.

3- ينبّه ابن خلدون الى أن الدعوة الدينية بلا عصبية، قبلية أو قومية، لا تتم لاحتياجها الى وازع طبيعي، وذلك ما يحاوله - معكوسا ً- في أيامنا هذه بعض المشتغلين في حركات الاسلام السياسي تحديداً بإثارة النعرات الطائفية أو العشائرية لدى أتباعهم ليقينهم أن المواعظ الدينية بحد ذاتها، لا تملك التأثير الكافي لاحتياجها الى قوى إجتماعية مؤثرة وراءها. لذلك نراهم لا ينادون بإسلام خالي من الطائفية والعشائرية، وإنما هم يتخندقون وراء هذه العصبيات، لأنهم دونها لا نفوذ لهم. ولم نسمع بحركة إسلامية واحدة فوق المذاهب، ومن مختلف المذاهب، لأن الناس لا يجتمعون خلف الدعوة الدينية بالمطلق، وإنما يتحركون بعصبياتهم القائمة المتوارثة، فذلك ما ورثوه عقيدياً، ويبدو من الصعب تجاوزه. وعليه، فإن إنتفت القوة الاجتماعية الدافعة، يتحول الدعاة الى مجرد أصوات في البرية بلا أثر، أو حسب تعبير ابن خلدون: (( ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة، وسلوك طرق الدين، يذهبون الى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين الى تغيير المنكر والنهي عنه، فيكثر أتباعهم والمتمثلون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل، مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بنائها إلا المطالبة القوية، التي من وراءها عصبية القبائل والعشائر...)). هذا النص الخطير لابن خلدون، كتب قبل أكثر من ستة قرون، لكنه كمن يشخص ((الظاهرة الارهابية)) في أيامنا، ومن يندفع ورائها من فقهاء وعامة وغوغاء، كما يفهم منه أيضاً أن الموعظة تبقى موعظة، سلفية كانت أم علمانية، وأن الفكرة مهما كانت، لا تهبط الى واقع الناس، إلا إذا حملتها قوى إجتماعية فاعلة من ذلك الواقع، وما عداه حرث في البحر...!

4- وكما تعانيه المجتمعات العربية الى اليوم، يكتب (( معاصرنا )) ابن خلدون: (( إن الأوطان الكثيرة العصائب، قلّ أن تستحكم فيها دولة ))، وهو ملحظ يحتمل مجلدات في إشكالات الدولة العربية الحديثة، ويكفي للفت الأنظار اليه ما تحمله الفضائيات في أيامنا من أنباء النزاعات الداخلية العربية.

5- وفي لقطة واضحة، تسجل عجز المجتمع المديني/المدني، وإفتقار القوى السياسية المدنية الى أسنان سياسية تدافع بها عن نفسها، كتب ابن خلدون في جذور هذه الإشكالية: (( وأهل الحاضرة عيال على غيرهم في المدافعة والممانعة ))، ملخصاً الحقيقة القائمة في التاريخ العربي، وهي إحتياج الحواضر الى قوى البادية المحاربة للدفاع عنها ( أو قوى الأرياف في عصرنا التي مثّلت القوى المجتمعية الضاربة وراء الانقلابات العسكرية وما زالت )، بما نجم عن ذلك من ثمن باهظ تدفعه المدن من حرياتها، ومستواها المدني التحضري، وغياب إرادتها
السياسية في تقرير نظامها السياسي. وحسب الرؤية الخلدونية المستمدة من تجارب التاريخ العربي: كلما مرت دورة وانغمس البدو المحاربون في (( ترف )) الحضارة المدنية، فقدوا فضائلهم الحربية، وتعرضوا لغزوة جديدة من بدو محاربين جدد، وهكذا. وحسب طبيعة التطور المجتمعي في المرحلة الراهنة، فليس من الضروري قدوم الغزوة الجديدة من البادية، إذ أن الهجرة السكانية الريفية والبدوية الى المدينة، تخلق بالتدريج واقعاً ديموغرافياً في المدينة يؤدي الى ظهور ((قوة)) سكانية معادية لأنماط العيش في المدينة ونظام حكمها، بما يؤدي الى إنقلاب عسكري، أو ديني تدعمه تلك القوة غير المدنية، وهو ما يلخص التاريخ السياسي العربي والإسلامي المعاصر، وبما لم نصل الى نهاية مشاهده، بعد، ما لم تتم المبادرة الى تمدين الريف والبادية، بدل ترييف وبدونة المدينة، وهو ما حصل بوتيرة متصاعدة العنف في تاريخنا المعاصر. ومساكين أهل الحاضرة إن بقوا (( عيالاً على غيرهم في الدفاع والممانعة )).

6- والى جانب هذه الرؤى الفكرية المتقدمة، قياساً بعصر مفكرنا، فإن قاريء ابن خلدون تلفته قوة المنطق العقلاني لديه في تفسير مختلف الظواهر. وبالرغم من أن عصر ابن خلدون كان
عصراً معادياً للفلسفة في المجتمع الإسلامي، وهو ما ينعكس في الفصل الذي عنوانه: (( في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها ))، فإنه، فيما يماثل فلاسفة النهضة الحديثة في أوربا، قد حوّل عمل العقل من الانشغال بالميتافيزيقيا، فيما وراء الطبيعة، الى إعماله في في شئون المجتمع والتاريخ والعلم، أي إنزاله من السماء، فيما يتجاوزه من غيب، الى واقع الأرض، وما فيها من شواهد ومشاهدة. ومن منطلق عقلانيته، انتقد ابن خلدون السحر والطلسمات وكتب في إبطال صناعة التنجيم وضعف مداركها، وفساد غايتها، وعرض لعلم المنطق بحياد موضوعي، ولم يهاجمه، كما إن نقده للفلسفة الميتافيزيقية لم يصل لديه الى حد نحريمها، وإنما إكتفى بتنبيه من يريد الإطلاع عليها الى الالمام بعلوم (( الملة )) من فقه وشرعيات. ومن الطبيعي ألا يصل ابن خلدون الى موقف ابن تيمية من المنطق والفلسفة، وإن تقارب الزمن التاريخي المتنكر للفلسفة بينهما.

نزعة عقلانية

هكذا خرج ابن خلدون بهذه النزعة العقلانية المتجهة الى تشخيص الواقع الاجتماعي التاريخي، على تقاليد فلاسفة الفكر المثالي الميتافيزيقي في الاسلام من الكندي الى إبن سينا، فاستطاع أن يؤسس علماً جديداً هو علم الاجتماع، باستقلال عن الفلسفة النظرية.

وهذا مجرد غيض من فيض في غزارة الفكر الخلدوني، ولا بد لأي مفكر عربي، ومثقف عربي، أن يتوقف طويلاً أمام مقدمة ابن خلدون، وأن يقرأها بتأنٍِ، ويعيد قرائتها، ويستخرج منها الدروس الفكرية اللازمة.

ذات ندوة ومحاضرة، قام أحد الدكاترة الجادين، الذين درسوا في جامعة غربية، أحدث النظريات الاقتصادية، التي لم تمر فيما يبدو بابن خلدون، وظلت منشغلة بتعرجات الخطوط البيانية للاقتصاد الحديث، وتسائل مندهشاً عن سر انشغالي بابن خلدون، واستخفافاً به، أشار اليه بعبارة: صاحبك ابن خلدون هذا...

نعم يا صديقي، عليك العودة الى صاحبي ابن خلدون هذا، فلديه الكثير من تشخيص (( العصائب ))، وتفكيرها، وبناها التحتية والفوقية، الواقفة بعناد في وجه التقدم الاقتصادي الليبرالي المدني، الذي طمحت اليه، ويطمح اليه معظم أفراد جيلك، بل لعلك رجعت اليه، وانت ترى في واقعنا تأثير هذه (( العصائب )) أكثر من تأثير نظريات الاقتصاد الحديث.

واسمح لي أن أكرر اليوم في الذكرى المئوية السادسة لرحيل (( صاحبي ابن خلدون هذا...))، أن مقدمته تمثل كتاباً لمحو أميتنا التاريخية والحضارية لدى أثقف مثقفينا، وربما استطاعوا بعد محوهم لهذه الأمية المساعدة في محو أمية الملايين من رجال أمتهم ونسائها.



#محمد_جابر_الأنصاري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قبل فوات الأوان: الاصلاح الشامل أو المجازفة بالمصير


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد جابر الأنصاري - العلامة ابن خلدون...ذكرى 600 عام