كمال اللبواني
الحوار المتمدن-العدد: 1305 - 2005 / 9 / 2 - 11:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الحرية والمسؤولية الفردية هي اساس الدين ، وما يجزى عليه المتدين هو ذلك السلوك الطوعي النابع من الارادة الحرة والطوعية والتي تعتمد المثل قبل المصالح . ولا يمكن تشكل سلوك ديني من دون توفر الحرية , فالعبودية لله تعني التحرر من كل سلطان آخر غير سلطان الحق الذي يصرخ به الضمير الذي يمثل صوت الله في دواخلنا . والله الذي يتحكم بكل شيء وحده ، ترك للانسان الحرية ، و ليس لأحد أن ينصب نفسه بديلا عن الله يفرض إرادته على الآخرين ، فكل إنسان في النهاية تحت ألطاف الله ، و هو برغم حريته في الاخيار ومسؤوليته , لكنه لا يملك حتى مصيره ، وليس له أن يشاء حتى يشاء الله ، فالسيد الوحيد المالك المسير للكون هو الله شئنا أم أبينا ، والذي لم يشارك أحد في ملكوته ، وما تبقى من مخلوقات تدين له وتخضع طوعاً وكرها، ومن محبة الله ولطفه بعباده ، ومن دواعي مسؤوليتهم ومحاسبتهم أن ترك لهم حق الاختيار ، وكون لهم إرادة حرة ، ووضع فيهم ضميرا محاسباً ، وتركهم يختارون ويشاءون ويفعلون ، ويؤمنون ويكفرون ، لكن ما ينتج عن أفعالهم هو فقط ما ييسره الله ،فالله هو من يسير الكون كما يريد ، والله ليس في حاجة لأن يتدخل لتغيير إرادة البشر وثنيهم عما يريدون عنوة ( وإلا لما استحقوا الحساب ) ، كما أن الله لا يناقض في كل لحظة ناموسه وقانونه المستمر الحاكم لكل المخلوقات ( القضاء ) ، لأنه يتدخل باستخدام وسيلة أخرى لا تتناقض مع الناموس الحاكم لكل وجود والذي يمكننا ادراكه بعقلنا والافادة منه ( القضاء )، ولكنه يتدخل بواسطة ( القدر : أي بواسطة التحكم بالزمن ) ، وهو ما نسميه الصدفة ، فتزامن حدوث الأشياء ضمن حركية شاملة لا تنتهي تحكم كل شيء في الوجود , هي طريقة التدخل الإلهي الفاعل في الكون ، ( لا تلعنوا الدهر فأنا الدهر ) و طريقة تحقق المعجزات ليست في مناقضة ناموس الكون وقانونه ( القضاء ) ، بل في انجاز غايات لا يمكن أن تتحقق بدون توجيه عامل الزمن والتحكم به بشكل حكيم ومنضبط ، من أجل غاية مرسومة بعناية تحسب كل شيء وتحيط بكل شيء . فكل حركة في الكون محكومة بقدر وزمن وسرعة والأصل في الوجود هو الحركة التي تمزج بين الزمان والمكان . حيث ينعدم انفصال المكان عن الزمان عندما نصل سرعة الضوء ، ولا يمكننا عندها لا قياس المكان ولا الزمان ، أي نصل للشكل الأولي المكون لهما والذي يصعب علينا تصوره لأننا نبدأ من السكون الافتراضي الي يجعلنا نعتقد بوجود العدم واللانهاية . حيث نعجز عن تصور الكون انطلاقا من الحركة الثابتة فيه أي من سرعة الضوء ( الله نور السماوات والأرض ) .
وعندما تتصادف الأشياء فهي لا تتصادف عشوائياً كما نتوهم (لأننا ندرك الجزء فقط ، ولو كانت لنا القدرة على عبور الزمن وتغطية المكان , لأدركنا الغايات التي تتحكم في الزمن وفي الوقائع والتي هي دوماً علمية وخاضع لقوانين ثابتة ) فهذه الصدفة التي نتوهم أنها عشوائية ، هي التي تضبط سير الكون وتضمن أن لا تذهب به إرادة البشر بعكس ما يريد الخالق ، لكنها أيضاً لا تلغي مسؤوليتهم وحريتهم ، المبنية على إدراكهم وعقلهم لقوانين الكون ( القضاء ) ومحاولتهم التحكم بها والافادة منها ، ليبقى بعد ذلك التوكل الذي يغطي الجانب الذي لا يتحكمون به ولا يعقلونه ، وهو شيء ما يتعلق بالزمن .
بهذه الطريقة نخط طريقاً جديداً ومختلفاً لفهم القضاء والقدر ، والحرية والقدرية ، والعقل والتوكل ، والرزق والسعي ، والعمر والصحة ، و بها نستطيع أن نفهم الآية وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ، على أنها ليست إلغاءً لإرادة الناس ومسؤوليتهم وحريتهم .. وهكذا نعلم أننا لسنا مسؤولين عن النتائج بل عن السعي ، وعلينا فقط أن نسعى ، وما سيحدث مرهون بمشيئة الله ، لكنه أيضاً لن يحدث من دون توفر الظروف العلمية لحدوثه والتي علينا السعي من أجلها ، وارادتنا وعملنا جزءا منها ، فلا ننتظر أن تمطر السماء الذهب والفضة ، أيضاً لا نعترض على سير التاريخ ، فنتطرف ونفرط ونغالي في استخدام الوسائل ، لأننا نتوهم أننا نحن نصنع التاريخ ، وأنه متوقف فقط علينا ، ولكن نحاول كسب ثواب السعي نحو ما نراه أنه الخير وأنه الحق ، وفق الأسس والوسائل التي تنسجم مع الغايات ، فالوسيلة بحد ذاتها هي غاية ، والمؤمن لا يستخدم الوسيلة الخطأ من أجل غاية صحيحة ، لأن التاريخ ليس مسؤوليته , والنصر ليس بعمله فقط , وهو من عند الله ( وهذا يجب توضيحه لكل المتشددين فكرياً و عبادياً وجهادياً ) الذين يستعجلون النصر باستخدام الوسائل الخاطئة ، وهكذا نتقبل التاريخ ونساهم به ، ولا نخاف ولا نتوانى طالما أن الله معنا في كل خطوة ، وأن ما سيحدث لنا سيحدث بمشيئته ، وليس لنا سوى أن نتقرب أكثر من الحق ونسعى نحوه متكلين على الله العليم الخبير البصير اللطيف بعباده ، وعلى هذا أيضاً فليس لنا أن نجبر الناس ونصادر إرادتهم وحقهم في خوض الامتحان الذي أراده الله لهم ، بما فيه حقهم في الاختلاف ، لأننا في النهاية لن نكون مسؤولين عن النتائج وعن هدى الناس بالقوة ، بل فقط عن أنفسنا وعما بذلناه من جهد وما اتبعناه من قيم ومثل ، وعن استجابتنا لصوت ضمائرنا التي تنطق دوماً بالحق ، فنحن نعيش دوماً الحضرة الإلهية ونتصل بها عدة مرات كل يوم ، ولسنا بحاجة ماسة لمن يقودنا على طريق الحق ويفرض علينا وصايته ، وإن كان من واجبه ومن حقنا عليه ، أن يرشدنا ويدلنا على طريق الخير بالحسنى والموعظة الحسنة فقط .
إن قوة الدين تظهر في ساحة اشتغاله أي في الضمير ، وفي تلك الرابطة بين الإنسان وربه ، أما قوة القرآن فهي في داخله ، في محتواه المتوفر لكل من يقرأ ، والقرآن ليس بحاجة إلى قوة سياسية قانونية تفرض سلطانه ، أو تحرسه ، لأن سلطانه الحقيقي على عقول وضمائر البشر ، وهذا أقوى وأهم ، ومن الخطأ أن نكلف شخصاً أو فقيهاً في تفسير وشرح واقتباس الشريعة منه ، فهذا واجب كل من يقرأ ويفهم ويتفكر ، لأن محتوى القرآن متجدد بتجدد الحدث والظرف والقراءة والحاجة والعقل ، وهذا هو الكنز الثمين فيه , وليس نظامه التشريعي القانوني الذي ضرب مثلاً لزمان ومكان معينين ، و قدم جواباً عمليا على أحداث زمنية محددة ، يتجاوزها الزمان ويصبح بالإمكان تطويرها باتجاه أشكال أكثر رقياً وحضارة وأقل وحشية .
عندما يتحدث أحدهم عن نظام سياسي قرآني ، لا يتنطح أحد ليرينا متى كان هذا النظام مطبقاً على السياسة وما هو شكل تطبيقه ، بل الكل ينكر أو يزور التاريخ الذي يقول باستحالة تطبيقه السياسي بشكل واحد جامد ، بشكل مطابق للصورة المثالية المرسومة عن المرحلة التأسيسية ، والتي لا يوجد ما يدل على أنها هي ذاتها صورة واقعية .. بل إن الجميع يتوقفون باندهاش أمام الصور الأسطورية المرسومة بعد قرون للشخصيات الإسلامية الأولى ، ويكررون الحكايا المدهشة عن العدالة والاستقامة والنزاهة ، والتي تعتمد على قوة الشخصية وإيمانها ، وليس على النظام الذي يجبر الشخصيات على سلوك معين ، فإذا لم تتوفر تلك الشخصيات ماذا نفعل ؟ طبعاً يطالب من يدعون ذلك ضمناً أن نعتبرهم هم وحدهم ( ربما لأن لهم ذقوناً شرعية ) ورثة تلك الشخصيات ونسخاً عنها ، وخير خلف لخير سلف ، وتشطب بعد ذلك كل الأحداث والشخصيات والقصص التي يذخر بها التاريخ ، والمليئة بما يعاكس ما يقال ويحكى من قصص وأساطير وخيالات ، والتي ليست غير صور قبيحة للتسلط والاستبداد والفجور والإجرام . ويتم التعمية على أهمية النظام قبل الشخص ، لضمان النزاهة .
تستفيد تلك الدعوات من تزايد الرغبة في العودة للدين وفي تأكيد دور الدين , بسبب انتكاس عملية التقدم ,وبسبب الفقر الروحي والمعنوي الذي تعاني منه الحضارة بالمقارنة مع التقدم التكنولوجي ، وبسبب التثبت سياسياً في الزمن الإقطاعي في الدول الاستبدادية , حيث يلعب فيه الدين دوراً هاماً مكملاً .
نحن لا نعترض أبدا على عودة الدين , كدين يعمل في مستوى القناعة والضمير والقيم والأخلاق والطقوس .. نحن نعترف بأنه ما يزال المنبع الأساس للقيم والمعاني والأخلاق ، ونحن بحاجة ماسة إليه . لكننا نعترض على جعل الدين مطية للراغبين في الاستبداد السياسي وباسمه ، فممارسة الدين شيء مختلف عن ممارسة السياسة ، والسلطة الدينية تقع في مستوى الضمير والقناعة ، بينما السلطة السياسية تقع في أيدي أشخاص قد يوسوس لهم الشيطان ، ولا يجب تركهم ينحرفون ويتعسفون ، بل لا بد من وضع النظم والقواعد التي تجعلهم يؤدون دورهم الذي فوضهم به الناس بأغلبيتهم وبقرارهم الحر .. الدين عندها لا ينتج السلطة مباشرة ، بل يؤثر في البشر الذين يختارون السلطة بحرية وتبعاً لإيمانياتهم .لأن الحرية هي شرط تكون الدين والوازع الداخلي .
فالعلمانية هنا تتطابق مع قيم الحرية والليبرالية ، وتنسجم مع الدين ، و لا تعني إنكار الدين ولا تجاهل دور الدين ، ولا تعني حذف الدين أو محاربة التدين ، بل تضع حداً أمام طموح رجال الدين لاستغلال مكانتهم الدينية في احتكار وممارسة السلطة السياسية الاستبدادية ، العلمانية تحاول أن تجسد قيم الحرية والدين معاً ، و تمنع انحراف الدين وقفزه من موقعه الحقيقي ، إلى موقع آخر يهدده هو ذاته ويسيء إليه . ويحوله من أداة لتعزيز القيم ، إلى وسيلة للتعسف والاضطهاد . ( فالأمر والإمارة أي الحكم هي شورى بين الناس ، تخضع لإرادتهم الحرة ، أي لصندوق الاقتراع ) وعلى هذا يكون مركز نزول الوحي الجديد ومكان صياغة الشريعة: هو اليوم في مجالس التشريع المنتخبة بحرية ، وليس مجالس الإفتاء .
انتهى
#كمال_اللبواني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟