أحمد رجب - زياد محي
الحوار المتمدن-العدد: 1304 - 2005 / 9 / 1 - 09:13
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
ها قد مات بطل آخر تاركاً لنا ميراثاً من النضال أرجو أن نكون على مستوي
أستحقاقه. قد أكون عاجزاً عن وصف الرفيق المناضل في كلمات و لكن تبقى الكلمات التي كتبها عنه أحمد رجب - الذى حالفه الحظ بان يكون بجوار عم حسن طوال نضاله الأخير مع المرض - عالقةً في ذهني لتذكرني بضرورة أستكمال مسيرة النضال.
زياد محي.
حسن بيومي بطل المعركة الأخيرة
لم يسعدني الحظ بأن أكون قريبا من حسن بيومي أو بأن أشاهد لحظات كفاحه و نضاله الذي استمر ما يزيد على النصف قرن. كما لم أتمكن من أن أقضي وقتا أطول أتعرف عليه و أقترب من شخصيته الجليلة كما كنت أتمنى؛ فكل الوقت الذي قضيته بقربه لم يتعد الساعات القليلة خلال الأربعة أعوام الأخيرة. و لهذا فأنا لا أجد نفسي مؤهلا للحديث عن تاريخه و عن نضاله و عن معاركه التي لا تنسى و التي لن يمحيها الزمن: أولا لأنني لم أكن شاهدا عليها و لأن معرفتي بها لا تتجاوز السماع و الرواية و مهما حاولت فلن أتمكن من نقل زخمها و حدتها و حرارتها لمن لا يعرفها و ثانيا لأن حسن بيومي لم يكن أبدا ممن يتاجرون بكفاحهم و نضالهم أو بفنهم و نتاجهم الفكري، و لم يكن ممن يسعون للشهرة و يجيدون فنون الدعاية لأعمالهم- التي عادة ما تكون تافهة و ضئيلة. لكنني- بالرغم من عجزي عن إيفاء المناضل الكبير حقه و قصور معرفتي به- أجد من واجبي نحوه- بل و نحو نفسي- أن أكتب عن "خبرة" الساعات القليلة التي عرفته فيها.
في المرات القليلة التي قابلته فيها؛ كانت ابتسامته الواثقة أكثر ما يعلق في ذهني. كنت أحس أن نظرته القوية الواضحة تخترق جسمي، تكشف كل التخاذل و اليأس و القصور في داخلي و تلقي عني كل الأقنعة و الأردية المزيفة التي أخفي بها عجزي البشري. كانت نظرته تعكس دوما الطريق الذي اختاره لنفسه طوال حياته؛ رجلا واضحا و مناضلا صلبا و ثوريا لا يناله شك أو يتسرب لنفسه يأس أو قنوط. حسن بيومي لم يتعلم كيف يختار ألفاظه بعناية- كي لا يغضب أحدا أو يحرج أحدا- و لم يتعلم كيف يزين الحقيقة و يغير معالمها أو كيف يداهن و يساوم و يتراجع خطوة تلو الخطوة. و لهذا فإن هؤلاء الذين عرفوه و أحبوه و أجلوه و زاملوه أو رافقوه طوال كفاحه أو تتلمذوا علي نضاله و فنه يعلمون أن نظراته و كلماته الساخرة- التي قد تبدو قاسية- هي التي تكشف الضعف في نفوسهم و تجبر الكسور في عزيمتهم. و كم قيل لحسن بيومي من رفاقه و تلاميذه الكثيرين أن الطاقة التي تحركهم و الشعلة التي تلتهب في قلوبهم إنما تنبع منه: من كلماته و فنه و نظراته و نضاله. لكن حسن بيومي لم يكن محبوبا من الجميع. فكم كان الكثيرون ينفرون من كلماته التي تكشفهم و تعري زيفهم و تنازلهم و تخاذلهم. و كم كان وضوحه و صراحته ثقيلة على نفوسهم الهشة و ضمائرهم المشوهة. و كم كان ثباته على مبادئه و رفضه لأي تنازل مهما كان صغيرا يحرج تنازلتهم و كم كان تاريخه النضالي الطويل يفضح زيف نضالهم و هشاشة تجربتهم و يوقد الحقد في قلوبهم.
لكن الرجل الكبير لم يهتم أبدا بعدد الذين يحبونه أو عدد الذين يكرهونه أو يحقدون عليه. و لم يكترث يوما لحجم "شعبيته" أو اتساع "شهرته". و لكن يا عم حسن- كما يدعوك تلاميذك الذين كنت أتمنى أن أكون واحدا منهم- لقد جاء إلى وداعك هؤلاء الذين أحببتهم و الذين أفنيت حياتك تدافع عنهم و تحمي مصالحهم. لقد خرج في وداعك هؤلاء البسطاء الذين لا يظهرون على شاشات التلفزيون أو تتناولهم عناوين الصحف و الذين أدركوا بحسهم- الذي لم تزيفه أحلام الشهرة و المجد- كم كنت حريصا عليهم و كم كنت واحدا منهم. هؤلاء هم الذين بكوك و نادوك و خرجوا برجالهم و نسائهم و أطفالهم يعلنون حبهم و اعتزازهم و فخرهم بأن رجلا مثلك عاش بينهم و مأساتهم أنك غادرتهم.
من بين كل معاركه الكبيرة لم يسعفني الوقت إلا بمشاهدة آخر فصول معركته الأخيرة مع المرض و الموت. احتدمت هذه المعركة- التي استمرت سنين طويلة- خلال الأسبوعين الماضيين مع دخوله رعاية الكبد في مستشفى معهد ناصر. و رغم أن المعركة كانت قد أنهكت جسده، كانت عيناه لازالتا تشعان حياة و كانت يده التي صافحني بها آخر مرة قوية كما عهدتها دوما و نظرته واضحة و صريحة و مباشرة. لقد كان في غمار معركته الأخيرة.
و بينما وقف الجميع عاجزون عن مساعدته؛ امتلأ هؤلاء الذين أحبوه بالألم كلما شاهدوه في فراشه و شاهدوا آثار المعركة الكبيرة على وجهه و في عينيه و تخيل الذين نافقوه و الذين لم يطيقوا وضوحه و صراحته و الذين حقدوا عليه أن هذه هي النهاية و أن الرجل الكبير سرعان ما يستسلم. لكن حسن بيومي لم يكن أبدا ممن يستسلمون. نهض حسن بيومي من غيبوبته و دفع بنفسه من أعتاب الموت إلى الحياة و ظل يقاتل و يقاتل لأنه لم يعرف معنى التخاذل أو الانسحاب. لكن جسدك يا عم حسن كان قد أنهك، و حياتك التي لم تسترح خلالها لحظة قد تركت آثارها عليه. خذله الجسد الذي أنهكه الكفاح الطويل و لم يتمكن من المضي معه في هذه المعركة المضنية حتى النهاية. و سقط حسن بيومي مثل كل الأبطال و مثل كل الشهداء على مر العصور ضحية الخذلان. و لكن مثل كل الأبطال ذهب و هو يضرب مثالا و يقدم دليلا على قوته و عزيمته و كفاحه.
علمني حسن بيومي في الأسبوعين الأخيرين اللذين شهدا معركته الأخيرة أن الثورة ليست مجرد فكرة أو نظرية و أن النضال ليس خيارا تختاره اليوم و تتركه غدا. علمني الرجل الكبير أن الثورة لابد و أن تعيش داخل الانسان و أن تسير مع دمائه. علمني أن الثورة ليست موقفا سياسيا و لكنها موقف من الحياة بأسرها يملي عليك أن تتعامل مع سائر معطيات الحياة باعتبارها قابلة للنقض و التغيير و مع سائر ظروفها باعتبارها تستحق الصراع و المقاومة و يملي عليك هذا الموقف المبدئي أنك لست مجبرا على شيء و أن كفاحك من أجل ما تريده و ما تستحقه لا يجب أن يتوقف مهما كان أعداؤك و مهما كانت الظروف. لقد تعامل حسن بيومي مع المرض و الموت بنفس المنطق الذي خاض به كل معاركه و عاش به سائر ايام حياته مناضلا ثوريا أصيلا لا يقبل التراجع و لا يقبل التخاذل و الاستسلام. لقد رفض الموت لأنه أحب الحياة و أحب البشر و حارب الموت لأنه عاش الثورة و عاش بالثورة. و حينما سقط؛ سقط مثل كل الأبطال قويا مرفوع الرأس فخورا بنضاله و ضاربا مثلا لكل من عرفوه أو سمعوا عنه.
يا عم حسن- و اسمح لي أن أخاطبك هكذا- لقد انطبعت معركتك الأخيرة في ذاكرتي و شكلت نظراتك الأخيرة و عزيمتك التي لا تفتر و اصرارك الذي لا يلين درسا لن انساه ما حييت. و اسمح لي أن أفخر بأني شاهدت معركتك الأخيرة و أني عرفت واحدا من الأبطال و عاينت أسطورة من الأساطيرو تعلمت في ساعات قليلة أهم درس من أكبر رجل و أعظم مناضل و أجل انسان عرفته في حياتي.
كتب حسن بيومي في أبريل 1977:
قالت لي اللوام- أعداء و أصحابا-:
"أما يكفيك ما لايت من ظمأ.. فدعها
إن الحياة غنية.. فاترع بكأسك خمرها
و انسى تباريح الهوى و العشق و احيا
فخيانة العشاق في التاريخ..
أكثر من تواصلهم.. فدعها"
الهجر..!
كيف يكون؟
أهرب من شراييني!
أفر من الشهيق.. من الزفير!
و كيف أخلع جلدي المشدود
فوق تشكل الأعضاء
في جسدي و في لمسي؟
مع السلامة يا عم حسن، يا بطل الأيام الملتبسة و اللحظات الحرجة و الأوقات التي تتوه فيها الحقيقة إلا عن عينيك.
أحمد رجب.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟