|
في المدينة الموبؤة الأستبداد وباء لا يستثني أحداً
أحمد اسماعيل اسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 1299 - 2005 / 8 / 27 - 09:06
المحور:
الادب والفن
( كل سلطة مفسدة. السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة ) لورد أكتون
ما يزال صراع الحاكم والمحكوم العربي غائب في ساحة الإبداع، على الرغم من حضوره الفاعل، والمركزي في الساحات الحياتية الأخرى. وما يزال المبدع الذي يتجرأ على تناول هذا الصراع بالذات؛ يلجأ إلى إخفاء إبداعه ومقاصده بشتى الوسائل، أو الأساليب المموهة، كي ينجح في عبور حواجز الحاكم ويصل إلى المتلقي. ويمكننا تقسيم هذا النوع من الإبداعات إلى إبداعات مبهمة، وإبداعات أخرى أقل إبهاماً. وتعتبر مسرحية (المدينة الموبوءة ) للكاتب المسرحي هيثم يحيى الخواجة؛ التي تناولت هذا الصراع بجرأة، من الإبداعات الأقل إبهاماً إلى حدًّ ما. تعالج المسرحية حكاية مدينة أبتلي سكانها بوباء أشبه بتلك ا للعنة التي أصابت مدينة طيبة في مسرحية( أوديب ملكاً)، وهو خازوق يخترق أجسادهم الواحد تلو الأخر، يبدأ بالعامل والفلاح والموظف، ثم يستمر بالانتشار حتى يصيب الجميع –العامة والخاصة-دون أن يستثني حاكم المدينة نفسه. حكاية المسرحية تنتمي لزمن تاريخي متخيل، هو - في حقيقة أمره – الزمن العربي الوحيد الذي تتوفر فيه حرية التعبير بجرأة ووضوح. استمد الكاتب هذه الحكاية من قصة (الخازوق الداخل في السلطان ) للكاتب التركي الساخر عزيز نسين. تتوزع المسرحية على لوحتين اثنتين:تبدأ اللوحة الأولى بحوار يدور بين عامل ومسؤول وهما داخل مصعد يدوي، يعلو المصعد ويهبط بشكل يتناغم ومضمون حوار هما المشحون بتوتر درامي وفكري يشي بانفجار قادم: المسؤول : لماذا تفعل ذلك ؟ المسؤول : لأنك لا تثق بي ، سأريك من أنا . العامل: أرأيت ؟ تريد استخدام سلطتك المسؤول : عليكم الخضوع لأوامرنا ما دمنا مسؤولين . (ص 8) ويستمر هذا الحوار على الرغم من انتهاء هذه اللوحة، لتكمله هاتان الشخصيتان في نهاية المسرحية، وإن بتوتر وصراع أقل . وتبدأ اللوحة الثانية بمشهد يضم الراوي ورجلين اثنين(رجل 1ورجل 2 )، يرسم الحوار الدائر بينهم ملامح الجو غير الصحي الذي يسود قاع المدينة من:كذب، وتفاهة، وإذلال..وهو مشهد درامي منفصل عن نسيج حكاية المسرحية، أراد به المؤلف تعميق فكرة العمل، وعصرنتها. تبدأ حكاية المسرحية بدخول الرواة الذين يشاركون الراوي رواية حكاية المدينة التي أصابها الوباء، والتي نسي التاريخ اسمها، أو غابت عن ذاكرته –حسب وصف الراوي والعامل والفلاح والموظف –رواة الحكاية، وأولى ضحايا وباء الاستبداد. وقد حقق الكاتب بهذا المشهد هدفين:فكري، وفني، وبأسلوب جدلي منسجم، تجسد في اختياره رواة حكاية المسرحية من أبناء الطبقة الاجتماعية المسحوقة، وفي دمجه زمني الحكاية والرواية:الزمن الماضي والزمن الحاضر.وهي لعبة درامية ذكية و موفقة، وذلك بالرغم من الإرباك الذي أصاب حوار هذا المشهد. تبدأ حكاية المسرحية بدخول العامل وهو يصرخ ويستنجد من ألم خازوق أخترق جسمه، فيلتقي بالفلاح الذي يستغرب –بداية- ادعاء العامل، ويرفض تصديقه، ثم يرفع هو الأخر صوته بالشكوى من ألم المصاب نفسه، ويتكرر هذا مع الموظف والحارس، والمسؤول...وتستمر عدوى الخوزقة بالانتقال من مواطن إلى آخر حتى تصل إلى علية القوم، وحاكم المدينة أيضاً، الذي يتهم كل من يجهر بما أصابه من ألم؛ بالمؤامرة، والتمرد، لا يفرق في ذلك بين خاصة، أو عامة، وعندما يخترق جسده الخازوق نفسه، لا يجد سوى أهل المدينة يطلب منهم المساعدة. لا شك أن فكرة المسرحية جريئة، وحيوية، وهي تأخذ منحاً ديمقراطياً، وتؤكد على مفهوم مُغيب هو:لا وطن حر إلا بمواطنين أحرار- حسب فولتير والتاريخ – وعلى حقيقة أخرى مفادها:إن السلطة التي تقهر مواطنها، ستجد من يقهرها، أو(يخوزقها). لقد سعى الكاتب من أجل إبراز هذه الفكرة الحيوية، والمعاصرة، إلى التركيز بشكل رئيس على الحدث، واختزال الشخصيات إلى أنماط، بلا اسم، أو أبعاد(عامل.حارس عالم.. ) بقصد إبعاد المتلقي عن الإيهام، و الاندماج في عالم الحكاية وشخصياتها، وإفساح المجال له للتأمل والتفكير، ولقد كان استخدام الراوي، وكتابة مقدمة وخاتمة دراميتين؛ محاولة لتحقيق هذا الهدف، والتي لم تؤتي ثمارها كاملة، بسبب التزام الكاتب بترتيب الأحداث، وتنسيقها، وانتقالاتها وفق النسق الخاص بتقنية القص، إلى جانب استخدامه رمزاً مستهلكاً مثل الخازوق، والاكتفاء به قطباً وحيداً في معادلة الصراع: بحركته الواحدة، والمستقيمة، والآلية، دون عناية بالقطب الأخر في هذه المعادلة، والمتمثل بالشعب، الأمر الذي دفع بالكاتب إلى الاستعاضة عن هذا العنصر المركزي؛ بصرا عات صغيرة اتخذت شكل انتقالات، وقفزات سريعة، مما كان له الأثر الواضح على وحدة الصراع في المسرحية، وعلى فكرة العمل أيضاً. إذا كان تنميط الشخصيات هو ما يلجأ إليه مسرح يعنى بالحدث، فأن ذلك لا يعني تحويلها إلى مجرد أصوات، أو رجع صدى لأفكار الكاتب، الأمر الذي نلاحظه في تكوين بعض الشخصيات، مثل شخصية المرأة التي تتحدث بمنطق لا يناسبها: هدار: أين هو الآن ؟ امرأة: ينظف القاع من البشر، يريد أن يغتصب الأرض ويذيب الأدمغة. هدار: قلت لك أين هو ؟ امرأة : في الشمال والجنوب والشرق والغرب ،في كل مكان ،لم يعد يقنع بالمكان الذي هو فيه.. (ص 51 ) ونجد ذلك أيضاً في شخصية الرجل التي تدخل في نهاية المسرحية، وتحاور الحاكم المستبد بجرأة غير مسبوقة، طالبة منه أن يتعرى، وينتقد نفسه. كشرط لتخليصه ومدينته من ألم الخازوق. دون أن يشير الكاتب إلى هوية هذه الشخصية المجهولة، والمعجزة، والتي تدخل وتخرج بشكل غير مبرر. ومن الملفت للانتباه تشابه هذا المشهد، والحوار الدائر بين الحاكم وهذه الشخصية، مع مشهد أوديب والعراف تريسياس، في مسرحية -أوديب ملكاً- لسوفوكليس: هدار: من المعيب أن تطلب تعرية إنسان. الرجل: قف فوق هذا المرتفع –يقف- وأعلن عن تاريخك، وسيرتك، وأفعالك، (ساخراً ) وهذا يكفينا. هدار: لا تهمكم سيرتي. فأنا لست من هنا. (؟؟) الرجل:ة: لست من هنا ؟ الرجل : صار ضرورياً أن تتعرى ، إنها الطريق إلى معرفة مصدر الوباء . (ص56 ) لاشك أن الاستفادة عملية مشروعة في مجال الإبداع، شريطة اندغام المادة المقتبسة في نسيج العمل الإبداعي، الأمر الذي غفل عنه كاتبنا في هذا المشهد بالذات فذهب في استفادته من مشهد أوديب والعراف إلى الحد الأقصى، ودرجة المطابقة التامة، ويظهر ذلك من خلال اعتراف هدار للرجل بأنه ليس من هنا، وهي حقيقة لم تشر إليها المسرحية قط. ويشكل ذكرها، والإقرار بها: إساءة، وتشويهاً لمقولة العمل، التي تدين استبداد الحاكم المحلي، وليس اغتصاب واستعمار الأجنبي. ولا يقتصر اضطراب الكاتب على هذا الأمر، بل يشمل الدور المزدوج، والمتناقض، للحرب، التي أشعلها وحش، طغى، وبغى –كما تذكر المرأة لهدار –و يأكل أكباد الأطفال (ص51 ) وهي نفسها (تطهر) المدينة من وباء الاستبداد، أو الخازوق. لا شك أن المسرحية تستحق وقفة أطول من هذه العجالة،لحيوية موضوعها وجرأتها. إنها عمل إبداعي آخر يحدث ثقباً في جدار الصمت العربي. الكتاب: المدينة الموبوءة الكاتب: هيثم يحيى الخواجة الناشر: دار الثقافة والأعلام .الشارقة الطبعة الأولى 2003
#أحمد_اسماعيل_اسماعيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأردن يطلق الدورة 23 لمعرض عمّان الدولي للكتاب
-
الكورية الجنوبية هان كانغ تفوز بجائزة نوبل للآداب لعام 2024
...
-
كوميدي أوروبي يشرح أسباب خوفه من رفع العلم الفلسطيني فوق منز
...
-
رحيل شوقي أبي شقرا.. أحد الرواد المؤسسين لقصيدة النثر العربي
...
-
الرئيس بزشكيان: الصلات الثقافية عريقة جدا بين ايران وتركمنست
...
-
من بوريس جونسون إلى كيت موس .. أهلا بالتنوع الأدبي!
-
مديرة -برليناله- تريد جذب جمهور أصغر سنا لمهرجان السينما
-
من حياة البذخ إلى السجن.. مصدر يكشف لـCNN كيف يمضي الموسيقي
...
-
رأي.. سلمان الأنصاري يكتب لـCNN: لبنان أمام مفترق طرق تاريخي
...
-
الهند تحيي الذكرى الـ150 لميلاد المفكر والفنان التشكيلي الرو
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|