جِوانى ِعَبْدال
الحوار المتمدن-العدد: 1297 - 2005 / 8 / 25 - 09:53
المحور:
الادب والفن
قصص قصيرة
1 – رسالة
في الشهر الشتائي بعد الغروب
يمشي فتى بجانب الرصيف محاذيا الجدار بحذر تام وترقب حار , يقترب من النافذة المطلة على الشارع في عتمة جليلة ممددة , بعدما نشنها لفترة سابقة قبل الآن , عسى أن يناولها – أو يرمي لها عبر شَبَكِها – برسالة عشق أتعبته حتى نسقها من ألف هاجس واستفسار و.. و , وبث فيها أشواقه ولوعته , بعدما مزقها لمرة ولأخرى حتى رسى أخيرا على صياغة ما وجدها الأسلم والأنسب والتي تعبّر عن دخيلة نفسه وكوامن قلبه .!
يقـترب رويدا رويدا , ويلتف يمنة ويسرى مستطلعا ، فجأة يضيء المكان على طوله , من ضوء سيارة تأتي من بعيد .. وهي تقـترب وتسير على طريقها لتمرق بضوئها العَسسي, وقد علا زمورها الممنوع ليلا بخْبِثٍ معهود , إشارة للفتى عن كشف نواياه , وهي تبهر بضوئها الشديد , تفضح كمن قُبضه متلبسا بجرم شائن حُراس الطرق ..
يهرب الفتى كمن كُـشفت عورته , ويتوارى خجلا حتى لا يُعرف تماما , أم أنه يتوارى خوفا ورعبا , تفلت الرسالة من يده , أو الأحرى رماها تفاديا من الحَرْج , ثم طارت على جنح براءتها لتقع في الماء الساكن بعكره , وضاعت .. وضاعت إلى الأبد .. مع محاولة رغبة الإعادة ذاتها .
2 – انتظار عبثي
في الشهر الربيعي أوان الصباح
حين كنتَ في انتظارها على نار ، وأنتَ تراقب بندول الساعة الجدارية أن تهلّ فيه , تعطرت َوتزينتَ , هيأتَ المكان جيدا بعدما أفرغته من بعض ساكنيه ومن بعض شكله وأثاثه .. ليخلو لك الجو مساحة وترتيبا ، ترهف السمع وأنتَ في أوج اهتياجك واشتياقك . نشيطا ، عين على الساعة وعين على مقبض الباب والعين الزجاجية , أذن في ترقب خطوات تقترب , وأخرى تتسمع لرنات جرس الباب .
تتأرجح الثواني في بندولها وتتمطى .. يرن جرس الهاتف .. ورنينه يخلع قلبك من مكانه كما تنخلع أنت من مكانك , وترد بأقصر جمل وكلمات .. وتنتهي , وتعود إلى ما بدأت به على نارك , يرن جرس الباب وتسرِع إليه فرحا متلهفا لابد أنها هي .. وتفاجأ بأحدهم يسال عن منزل جار مجاور , تغلق الباب في وجهه بنزق وفظاظة بعدما ألقيت نظرة على اليمين وعلى اليسار .
وتطول فيك الثواني وتتمطى في ما لا داع , عقارب الثواني تأكل بعضها شامتة , وتخرجُ لسانها وتتلعثم في إشارة إلى تـأخر وقتها ..
رويدا رويدا تعود إلى حالتك الأولى في ترقب مجهول لموعد مؤجل .. أم حاضر في تأخره , ويرن الجرس ثانية وتهرع ببلاهة " أنها هي من كل بد ..!
وتجد أحدهم في وجهك وفي حالة مزرية يستجدي , انه شحاذ الثواني : - من مال الله . تدفعه عن طريقك وتخرج مطاردا , وأنت تصفع الباب خلفك , وتذهب .. إليها في الموعد في اتجاه غير محدد من جحيم انتظار ممل , تذهب إليها على أن لا تعـيدها , وان لا تكون مجبرا في انتظار غودوها ..
3 – حـج إبراهيم
في الشهر الصيفي بعد العِصر
, كنتَ تقف أمام الباب وعلى درجة منه .. الذي هو على امتداد الشارع , تحاول أن ترد طفلك الصغير ذي الأربع- خمس سنوات وتنهيه عن التواجد هنالك لخطورة الطريق المروري والمطبات , والسيارات التي تمر بين فينة وأخرى بنـزق وطيش ودون حساب للأرواح البريئة ...
وأنت في طريقك للنكوص داخلا .. تلمح حج ابرهيكا يأتي قادما من امتداد الشارع الغربي يسبقه رائحة عطره النافذ كقوس قزح غير مرئي , متشحا باللباس الأبيض والكوفية الخضراء وجلبابه يذيل وراءه الريح والغبار ، تلمحه .. هكذا وتنسل داخلا .. لا .. لا يجوز هذا , ولن تقبلها على نفسك , بل عليك تحيته والسلامَ عليه , ليس مخافة من احد ولوما , ولكن احتراما ولباقة منك .
ويأتي حج ابريكا قادما ، وأنت تتشاغل بطفلك وعينك علي الحجي لمبادرته بالتحية أولا , وكنت مقرفصا .. قمت واقفا حين تساويت معه .. ولكنه انحنى إلى الأرض فجأة عندما لمح قطعة خبز مرمية على قارعة الطريق , حملها وقبلها وسار بها إلى جدار واطئ وركنها هناك , بعدما ركل حجرة من طريقه , والتي قد تكون عائقا أمام المرور , وتابع سيرة بجلال قدره دون التطلع هنا وهناك .. وهو يتشح بلباس رمادي بعدما أتت الظلال على قفاه.
تـنرفزتَ وتأسفت .. وتعتبتَ إلى الدرجة الأخرى إلى الداخل ناكصا ممسكا بكتف طفلك , وكان في يده قطعة خبز وهو يأكل فيها ويمضغ فتاته , تلقفتها من يده بداعي توسيخه لنفسه ورميتها إلى عرض الشارع .. واختفيت داخلا.
4 – شمعة
في الشهر الخريفي بعد العِشاء
ولا أي شيء على بالكَ .. وأنت مسمر إلى جهاز التلفاز وبلاهته اللذيذة وما يعرضه من أخبار ومسلسلات و.. وفي جزء من الثانية وعلى حين غرة ينقطع التيار – تيار الكهرباء .. وتبقى تسبح في عتمة لزجة /متلونة/ وبقايا ظلام هلامي يلمع ويتراقص على القزحية وشبكيتها , تتمطى الثواني بجزيئاتها في خيط مجدول , وفي عقد من خرزات حجر معلقة برقبة تنوء بها كاهلك , تتمطى وتحس بوجودك الغائب / الضائع , الذي كان كل شيء قبل هنيهة.
ويمتد الزمن بقصره المعمد في عتمته من المملة .. تتقدم وتتنحنح يمينا وشمالا لتكرعه سكا .. تقوم وتشرب من كأس ماء مركونة بعدما نشف الريق الباله , تقضم خبزا .. تشاغل نفسك من هذا العماء المتسرطن , تنقر بأصابعك وتدندن السواد لحنا كئيبا , وترمي إلى محرقتها رؤى وأحلاما يانعة .. هه ها .. لعنة ولعنات مكحلة , وتبذر فيها همهمات مقصوصة الجناح وغمغمات متكسرة .
وتقوم , وتذهب إلى غرفتك الثانية المركونة منذ أمد دون أن تفطن إلى أشياءك الأخرى , حيث الكتب وأعمال حسابية مؤجلة , ولعلك بتصفحها ومطالعتها تتوازن من وجودك الغائب , ومن اللامبالاة والفوضى الكريمة , وتفتح الباب ومقبضه بيدك .. تمد يدك إلى زر مفتاح لمبة الكهربائي المسمر على الجدار على قامة مستوى يديك وتتلمسه.. طاق طيق ولكن لا ضوء ولا نور.. ولا زَقوم .. بل ظلام دامس منفر كرائحة كريهة , وتدرك على الفور في جزء من البلاهة , بان التيار الكهربائي مقطوع لمرة ثانية .. وبضحكة خجلة وببلاهة متزنة .. تبحث عن بديل فوري , تسال عن النفق في ليلك : هل لي بشمعة .. بلمبة كاز, أم انتظر الرحمة من كل بد.. وما يجود به المطر الخير.؟! - أم اخلد للنوم وتبذير الأحلام ...
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟