أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نقوس المهدي - رحلة عباس السابع















المزيد.....


رحلة عباس السابع


نقوس المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 1279 - 2005 / 8 / 7 - 11:54
المحور: الادب والفن
    


رحلة عباس السابع

إلى ضحايا قوارب الموت التي لا تعود ولا تصل


( ذكرت وكالة الأنباء أن وحدات تابعة للحرس الاسباني ألقت القبض على مواطنين من جنسيات مختلفة في عرض السواحل الاسبانية بعد مطاردة دامت ساعات....)

1- عباس البري..
في البداية كانت الأوجاع والمهانة والصقيع ونحن قاب فقر أو أدنى من باء وحاء وراء البحرعلى مرمى رغيف يابس يشتكي للجوع من غلبته وسوء طالعه يتقدم شارعا ذراعيه و نتقدم منه متلهفين لمعانقته تسبقنا رغباتنا و يسبقنا الدليل والدليل حذر متجهم يعرف هذه الشعاب حجرا حجرا ولا يعرفنا ورفاق الدرب ليسوا رفاقي ولا معارف أعرفهم من قبل طفحت همومنا حتى عجزنا عن حملها فجمعناها وتوحدنا في الطريق مذعنين لأوامر تحتنا على الإمساك عن الكلام والبكاء والسعال والتدخين وعدم المشي في أقصى اليمين ولا أقصى اليسار وعدم الإبطاء والإسراع في الطرقات الملتوية على إيقاع مواويل النواطير وسط جغرافيا المنحدرات والمرتفعات والسهول ولفيف الأشجارالجرداء و خشخشة اليابس من الأوراق ونقيق الضفادع وجلجلة الصراصير و نعيق البوم ووعثاء الطريق والطريق مسالك والدليل يعرفها مسالك مسالك ونحن نجوس خلال كل ذلك متعوذين من الحشرات بخوص النخيل متسترين بعباءة الليل الكحلي خائفين من أن تصادفنا دورية ليلية أو ترصدنا مراصد الحكومة و مراصد الحكومة بلدية لها عيون تسقط الطيور من فوق السور أو يلقى علينا القبض في ظلام الفيافي لنودع في ظلمات الثلث الخالي بتهمة التسلل خارج تخوم الإمارة وتخريب الاقتصاد وتحميل الميزانية تكاليف إضافية من استضافة وإيواء ووجبات الخنافس المتبلة بحبات الفول و العدس و الفاصوليا ونحن لا نود ملاقاة المالح سوى بقسط من الأسى والفرح الغامض كأعمى المعرة مستطيعون بدليلنا وهم مستطيعون بما أعدوا لنا من البصاصين والهراوات والسلاسل والزنازين والكوابيس والعيون العمشاء والحاسوب المبرمج بالكذب والتزوير والولايات اللقيطة وسرقة أموال الغلابة من الشعب و الفرمانات المزيفة و الحروب الأخوية العدوانية الشرقية الغربية العشوائية التجريبية التخريبية العرقية الأهلية الضارية الشرسة الطائفية الدموية الثأرية القبلية الاستنزافية الباردة اللا مجدية واللا نفعية كل ذلك و نحن نتبع الدليل متسائلين في دواخلنا عن شكل البحر و حجمه ولونه وهديره ورا ئحته وعلاقته بإفساد الأخلاق و سر أحاديثهم عنه في أخبار النشرات كما يتحدثون عن السعالي و القناصلة و الدليل المتجهم ينحدر و يصعد و يستوي و كلنا في أعقابه نستوي و نصعد و ننحدر في الطريق الوحيدة و الهموم المتوحدة و الطموحات المتحدة في خفية من رجال الوقت وفي منتصف الليل الطويل البهيم الحالك الغامق البارد تماما كاللصوص والمهربين والقتلة وقطاع الطرق والبرد يصفر و يلوينا ذات اليمين و ذات الشمال كأعجاز نخل حاملا إلينا رطوبة البحر الطويل المديد الوافر الكامل المتدارك القريب و نحن نتقدم لا نلوي على شيء كأننا ذاهبون للاستجمام و للحقيقة فان هؤلاء الفتية القادمون من عري البطولات المهيضة وأسفار التواريخ الكاذبة يودون الهروب من الفقر وأنا القادم من أسن طفولة مدموغة بالإحباط أود الهروب بجلدي مثلهم و إلا ما معنى أن تكون القملة بحجم السلحفاة و ليلنا ليس كالليالي لا له صبح و نهارنا ليس كالنهارات لا له ليل وأجسادنا ذاوية ليس لها ظل حتى أصبحنا لا نفرق بين سواد الليل و اشراقة النهار نبني السدود و نعلي العمارات و نعبد الطرقات ونبصم على الكمبيالات وننذر أرواحنا ترياقا لسموم حواة السلاطين وعظامنا وشيعة لعرائس البحر يغزلن بها الفائض من بؤسنا وهمومنا وهذياننا المباغت وهم يسرقوننا و يقتلوننا و يسجنوننا و يجلدوننا وينكحوننا واضعين على جباههم نظارات سوداء كي يهربوا من صلصالهم يطقطقون بسبحات كجنازير العجلة و في العجلة الندامة و في التأني السلامة و نحن نروم سلامة الوقت نتبع الدليل و الدليل يغد السير لا يزال متجهما حذرا يحذرنا من عواقب الحلم و الحنين و البوح و النشيج و الهمهمة و الدمدمة ونحن لا نستطيع أن نعصي له أمرا أو نسأله حتى لأنه منعنا من السؤال و من الكلام ومن السعال و من استعمال الأجهزة اللاقطة و إظهار أطقم الأسنان الذهبية و الليل له آذان كما للنهار عيون و الدليل الحذر ينحدر ويستوي و يصعد دافعا جدعه إلى الأمام كاتما أنفاسه مكتفيا بالإشارة واللبيب بالاشارة يفهم والطريق وعر مكتظ بالأعشاب المحتكة ببرد البراري محدثة حفيفا ينظاف لحس الحصى تحت الأقدام وعواء الذئاب ونباح الكلاب في الدواوير البعيدة وأسراب الحشرات تدخل مساكنها كي لا تحطمها سلالة الرعاة و الظلام مطبق تماما و النجوم تغمز في الفراغ السديمي و البحر يتقدم منا فاتحا ذراعيه و نتقدم منه لا نهمهم ولا ندمدم متلهفين لمعانقته مبتلعين غصاتنا كاظمين الغيظ مطرقين هكذا نجتاز المنحدرات والمرتفعات و المنزلقات و الأحراش و المطبات حتى لامست المياه أقدامنا و لامست أقدامنا الماء تابعين الدليل المتجهم الحذر الذي انفرجت أساريره و افتر ثغره عن طقم أسنان ذهبي معلنا نهاية البر و بداية البحر ففغرنا أفواهنا و ضربنا على صدورنا مبهورين بعظمته و قوته......

(....وعمد المبحرون الذين كانوا على متن زورق صغير إلى القفز في عرض البحر وقت محاصرتهم.. و تمت اعتقال الناجين فيما بقي العديد من الأشخاص في عداد المفقودين...)

2- عباس البحري..
خرج الريس من بين الصخور وجلا مرتعدا رغم طوله وعرضه..أكتافه كأكتاف البغل. لكنها الحياة كلبة بنت كلب تمنح اللوز لمن لا أضرا س له.. تقدم منا.. تفحصنا .. عدنا.. و قادنا نحو قارب يهدهده الموج مكتوب عليه بالحرف العريض طارق بن زياد.. طبطب على ضلعه كأنه يداعب فرسا أصيلة.. دفعنا الزورق بتؤدة.. سألنا أن كنا نجيد السباحة:
- قلنا بصوت غنائي: من يركب البحر لا يخشى من الغرق ..
- قال بصوت خفيض: باسم الله مجراها و مرساها..
- قلنا فليكن الرحيل إلى البحر الحلزوني بن ماجد بن صلاح الدين بن ناصر بن عبد الكريم بن المهدي بن عمر بن جنبلاط عبر خارطة الوطن..
وانطلقنا..انطلقنا ببطء أولا ثم بسرعة.. واحتوانا المالح – عالم من الضباب و الفراغ بلا تخاريم و لا أروقة.. بلا أزقة و شناشيل و لا أقبية.. و طارق بن زياد يئن وينساب بحمولته رشيقا ( يشق حباب الماء حيزومه) كمطية طرفة.. و نحن بين ممدد وجالس طلقنا الخوف و المهانة و البهدلة.. طلقنا الهم و المسكنة.. ياألله .. كل هذه الليونة لإفشاء طموحنا و شقاوتنا.. هذا العظيم الذي لم يكن يوما وصيفا و لا زيرا ولا قوادا لأحد.. أحنى ظهره للسندباد البحري سبعا وعشرين سنة سافر خلالها سبع مرات كانت في واقعها أشد مرارة من ذكرياتها التي غنم منها سبعمائة مثقال من الذهب.. وغنمت الأميرة شهرزاد الجميلة شهرا من زاد الحكايات الجميلة و ثلاثين فرصة للنجاة.. وفي عرضه أبحر نوح و يونس وعوليس و ابن ماجد.. وطارق مر من هنا.. سلك نفس السبيل.. أبحر و خاطر وقهر البحر وأحرق السفن وقال ( البحر من ورائكم والعدو أمامكم ) و انتصر.. لا شك أن جنوده أتموا مشوارهم سباحة و غامروا.. ووصلوا إلى بر الأمان..وحاربوا وانتصروا ونحن لا نود أن نرد على أعقابنا.. نريد منازلة هذا الخضم.. ضحكنا و تبادلنا النكات و الكلمات.. و أذبنا ستار الكلفة بيننا.. و مررنا كؤوس الماء.. وآثرنا بعضنا بالخبز اليابس.. و بللنا حناجرنا بعنب الفجيعة ومزة المجاملة.. و لم يخل سمرنا من فكاهة.. نروي النكتة و نضحك لها .. و قلنا ( هنا الوردة هنا نرقص ) .. و رقصنا و تضوع الليل شذا ورقصنا وحينما تمتلىء المعدة توحي للرأس بالغناء .. فأطلقنا العنان لحناجرنا بالطرب و الزغاريد.. مزيج من كل نوع و لون.. و في البحر يوجد ما لا يوجد في البر.. في البحر لا حدود و لا قوانين ولا رسميات.. في البحر لا جوع و لا مبيت في العراء.. و نحن نريد منازلة هذا الخضم.. و لا نود أن نرد على أعقابنا.. و جنود طارق غامروا و انتصروا .. و حاربوا .. وخاطروا.... ووصلوا إلى بر الأمان.. وأتموا مشوارهم سباحة.. و طارق قال ( البحر من ورائكم و العدو أمامكم ).. و احرق السفائن و قهر البحر و خاطر و أبحر وانتصر .. ومحمد ابن عبد الجبار النفري عندما قال في موقف البحر ( هلك من ركب البحر ولم يخاطر.. و في المخاطرة جزء من النجاة ) انتصر هو ايضا.. ونحن متحدون في خسارتنا و انكساراتنا ، عرب عرب عرب ..( تفانوا و دقوا بينهم عطر منشم ) .. لم نركب البحر وركبنا رؤوسنا .. لم نخاطر وخاطرنا بوحدتنا.. لم نجرب وجربنا أحقادنا الدفينة و ضغينتنا الحقيرة.. لم نحول المستحيل إلى ممكن وحولنا هزائمنا إلى انتصارات.. واساقطت من عرش السماء البلاغات المبوبة لحروب انتصرنا فيها ولم نخضها.. و بهرنا أعدائنا وعرضنا عليهم فحولتنا وفتوحاتنا الجنسية.. و أفشينا لهم ما تيسر من سيرة النفط الحزين.. و انهزمنا .. الله خلق الأرض في ستة أيام و نحن أضعناها في أيام ستة.. أي خراء هذا .. وأي تاريخ يثلج القلوب سوف نخلفه لأحفادنا...
كان البحر يلف خاصرة الأطلس.. و الأطلس يمتد كالسيف على ناصية مراكش.. و مراكش فاتنة تعشقها حوريات البحر الأزرق القرمزية..
هل تعلمون إن البحر سبعة بحور.. بحر نيل – و بحر ميت.. و بحر احمر و بحر أبيض و بحرأسود.. وبحر ظلمات.. وبحر متجمد.. وله في كل بلد اسم.. وفي كل أرض لون وفي كل موسم ثروة.. وفي كل غضب ثورة.. و في كل موجة طعم.. وفي كل معركة انتصار.. وفي كل سنة عروس.. وان البحر أميرال الأنهار و الوديان و البحيرات و الجداول و المجاري و السواقي و المزاريب..
وهل تعلمون أن هذا البحر غامر في رحلة بين الرمل والرمل .. خلخل الرمل حتى فاض فخرج تدحرج عبر النتوءات و لم يفرق بين السهل و الوعر..والبحر بين الألوان .. غلالات الزبد.. المد و الجزر أعطى لونه مراكش كما أعطت اسمها للوطن.. و مضى إلى ما وراء الشاطئ ليطلب اللجوء السياسي..
من بعيد.. بعيد.. ظهرت الأضواء المندلقة من فوانيس الحطابين.. باهتة كذاكرة معتمرة بالأوهام.. تهللت سحنا تنا .. وغزتنا الفرحة.. و بدأنا بالصياح و الزعيق.. سحب الريس نفسا عميقا كأنه يستطلع حالة الجو.. للبحر رائحة مغايرة لرائحة البر.. خفف من سرعة المركب.. نهرنا.. صاح في وجهنا.. و أمرنا بالتزام الهدوء.. و التهيؤ للنزول.. و بدأ الوداع و العناق.. كأننا تعارفنا منذ طفولتنا البئيسة .. اندفعنا لحافة الزورق حفاة عراة .. متسابقين مشجعين كأننا نود أن نفدي بعضنا .. وبدأ نا القفز الواحد تلو الآخر .. ممسكين بقجا تنا .. متصلبين في رميم أجسادنا المهترئة بالطموح .. كان الماء باردا .. و الليل باردا أيضا.. و أبداننا باردة أيضا وأيضا.. لم نرتعد .. لم ترتعش أطرافنا الباردة لملامسة الماء البارد في هذا الجزء من الطبيعة الباردة.. كأننا كلنا حللنا جسدا.. .. كان ذلك فوق إرادتنا .. أن تسبح ذلك شيء جد معقول.. وأن تسبح في الهزيع الأول من الليل إما أن تكون مجنونا أو متلبسا بعفريت سليماني انعتق من قمقمه.. كان قلبي يدق بعنف و الدم يغلي بشبكة العروق ( كل ما أكلته المعزاة في الجبال تضعه اللحظة في السفوح ) .. وأنا كما تعلمون لا أعالي صعدت ولا سهول جبت .. ابن أمي .. مقطوع من شجرة .. لا جاه ورثت ولا ثروة خلفت .. لم يتركوا لنا أي شيء .. تبا لهم .. فرقوا المناصب و الأرصدة و الأوسمة .. فرقوا بينهم البر والبحر والجو.. وتركوا لنا الإفلاس والجوع والعرق و النكد.. ليس لدي ما أخسره.. و نحن حين يممنا و جوهنا ناحية البحر نبذنا المجد و الوضاعة.. مجد البهدلة ووضاعة القناعة.. وأبحنا لحيتان المحيطات طفولتنا الكئيبة و عمرنا المنحوس..( ومن لا بر له لا بحر له) صدقت يا محمود يا درويش . ومن لا ارض له لا قبر له . سوف تولم بأجسادنا اسماك القرش – تطاردنا ككلاب صيد.. و تصطادنا كذئاب .. لا يهم المصير.. ما دام القبر بطن الحوت..و قبر غريب خير من جيوب خاوية.. و أنا أود أن اقهر البحر.. وحيد وسط اللجة.. عار وأعزل.. المزق التي أسميها تجاوزا ملابسي وتتبرم من حالتها فوق جسدي ضاعت مني .. و الصحاب افتقدتهم بدورهم.. لم أودعهم حتى ..اضرب الماء بكلتى يدي..والماء حينما يتوالى عليه الضرب لا يزداد سوى صلابة..
قلبي جا بين ايدين الحداد.
و الحداد ما يحن ما يشفق عليه.
يردف لو الضربة على الضربة.
اذا برد يزيد النار عليه....
هكذا يقول شيخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب في رباعياته.. إنسان عركته الحياة و همشته وازدرته و جعلت منه مجنونا يلغط بالحكمة.. منذ اليوم لن اشرب الشاي ساخنا تنعقد في حاشيته اليعاليل والفقاقيع كعيون الديكة.. و لن أرشف كؤوس الزنجبيل يتطاير منها البخار.. و لا عبوات البيرة ندية كبحيرات استوائية.. منذ اليوم لن أشنف مسامعي بأغاني أم كلثوم و فيروز والحسين السلاوي وبن حمامة وفاطمة الزحافة .. ولن أرقص على أهازيج شيخات الحوز و الرحامنة ولن اطرب لإيقاع الرقص المجنون فوق طست الغسيل .. و لن أقف في طوابير التشغيل كأني أمام ماخور .. كنت أتذكر هذه الأمور التافهة وأ نتحب .. أنشج.. و أجهش بالبكاء كامرأة داعرة.. منذ مدة لم أبك.. لم أذرف دمعة .. حتى جفت مآقي العين و تكلست أملاحها .. علمونا أن الدموع للنساء فقط تكررت هزائمنا و حولناها لانتصارات باهرة على أعداء وهميين كي لا نبكي ولا تبتل لحانا و شواربنا .. كانت الدموع.. دموع العين.. دموع الغربة والمذلة تسيل عصية باردة و مالحة و تختلط ببرودة و ملوحة مياه البحر..أسقيه دمعة دمعة ويسقيني جرعة جرعة.. و العطش يلهب حنجرتي.. عطشان يا بحر.. و الماء حولي و تحتي.. ( ستعلم إن متنا غدا أينا الصدي ) .. فاسطعتفته بأيام الطفل والمرأة والشهيد والغابة والصحة والعدل والأرض والإنسان فهاج واستحلفته بأيام اليتم والدعارة والغدر والاحتراق والأوبئة والظلم والاغتصاب والقهر والاسترزاق فزمجر... و كان البحرالأبيض الذي له دون البحار فضائل يراقص الحيتان على إيقاع موسيقى الموج الهادر.. كانت الأمواج عا لية.. عالية كانت الأمواج كالجبال بلا أعمدة ولا سواري.. حلبة سباق لا ينقصها سوى الخيل والحبة والبارود.. لا غابة أشجار تخفي الشمس.. و لا قصور مزينة بالرخام..و أنا لست خائفا .. ( إما أن أكون أو لا أكون تلك هي المشكلة ).. انتصر أو أموت دون ذلك لا فرق.. أن أموت كجيفة خير ألف مرة من أن.. ما شعرت البتة بأهميتي أكثر من اللحظة.. أضرب الماء بذراعي .. بما أوتيت من قوة .. بيدي و رجلي و رأسي بحواسي و فورة غضبي .. و أستريح.. و أتقي صفعات الموج .. يقولون إن مياه سبع موجات تزيل المس و السحر.. و أنا أسلمت نفسي للسعات أمواج هذا العظيم بأكمله تضمد جراحات الجسد المهزول.. زال سحري ومسي وجنوني وعقلي وطارت عصافيري.. أتصدى لفلول الموج المتراكضة.. و أخبئ نفسي تحت إبط العاصفة.. و أعاود السباحة.. و ألهث ببلاهة .. وأعب الماء كما لم أعبه من قبل.. و أتوقف.. أستريح .. أتلفت حولي.. أحدق في الفراغ والظلام .. و أصيح بأعلى صوتي على أصدقاء لا أعرف أسماءهم و أصيخ السمع .. فلا يجيبني سوى الصدى مبحوحا متقطعا متعبا.. و طبطبة الماء ووعيد العاصفة.. وهدير الموج يدفعني و يجرني يغمرني و يسحبني يرميني و يتلقفني يبسطني و يقعدني كأني بين يدي محقق.. أتصبب عرقا !! .. أتبول و أضرط وأتغوط.. وألهت من شدة الاعياء والتعب والجوع والعطش .. وأنا وحيد .. أستميت بوجه الزوبعة.. حتى خارت قواي.. و أصابني الدوار والغثيان.. والكثرة تغلب السبع .. و الحيتان تحتك بي.. أحس حراشفها الناعمة.. وألسنتها تلعق جلدي المثخن بالأوساخ اللزجة.. وتخزرنى بحدقات بلورية لا يعرف الخوف والخجل طريقا إليها ..تقرب خياشيمها مني .. تتشمم نتانتي المقرفة و تنصرف مشمئزة لا مبالية طرية براقة لا تطال و سط الأروقة المرجانية.. و أنا ألطم الموج المتلاطم.. أضرب الماء فينكسر تحت قبضتي .. أمسكه بكلتا يداي فلا أفتحهما إلا على الزبد.. وأنظر إلى سطح البحر .. مدى مسكون بالاحتمال و التوجس.. غابة سوداء مترامية الأطراف.. منبع الهام ( هايدغر ) و عالمه السحري المحدود.. لو كان غابة حقيقة لعملت حطابا أو زرعته غلالا.. لكن ليس بيدي حيلة ( كل مكان هو صحراء لمن هو وحيد..) هكذا قال تشيخوف .. و أنا خادمكم العبد الضعيف سليل الفقر والنحس والجوع.. منذور للخسارة والجراح والضياع.. امتطي صهوة الموج.. لا أميز بين يدي ورجلي.. متعب و كريه و حقير.. لا فوق الأرض و لا تحتها.. كأني معلق من حبل السرة.. هكذا بين البين.. بين أجواء السماء و عرش الماء.. مشدود للأعماق وا لقرار.. معانقا ( عدوا ليس لصداقته بد ).. هنا...
حيث الفجيعة تتنكر ببراءة الدلافين..
وحيث الظلام يورق في أعماق الليل كفظاعة..
وحيث الأسماك المؤرقة بسهاد النوارس..
وحيث كتائب الموج تتقدم كفصيل إعدام...
وحيث الموت يبادلني أنخاب القطيعة..
استسلمت لغواية الصعود و الهبوط.. و استهوتني عملية التأرجح و المراوحة والحدس الرياضي الذي يمكنني من مقاومة هذا الصراع الميتافيزيقي الذي يجرني إلى أسفل و يبقيني في نفس الآن على وجه الماء.. محاولة يائسة استطيع على الأقل أن أدالس بها مكر و نبض البحر ولو إلى حين مجيء الصبح.. هل يمكنني تصور أن ما مضى خير مما هو آت؟؟.. وأ ن أعماق هذا البحر أكثر رقة و لطفا من قساوة أهل الأرض؟؟ هكذا إذن أنا .. ممثل ثانوي في دور هامشي في مسرحية فاشلة في ركح هجين اسمه الحياة.. لست متشائما أبدا.. لا وربي.. لدي رغبة أكيدة في أن أحيى .. و من أجل هذه الرغبة عقدت العزم منذ خروجي من الظلمات الصمود بوجه الموت .. يضربني الموج فأكيل له الصاع صاعين.. هم الذين قزموا هذه الحياة في عيوننا..هجروا الأوطان وساوموا ونهبوا الخيرات وزوروا الانتخابات .. وأنا وحيد..افتح أذناي فأسمع الهدير.. اسمع جعجعة و لا أرى طحنا.. صليل الصناجات و دق الطبول في أدغال إفريقيا..افتح عيناي فلا أبصر بالكاد سوى العاصفة تستكين على هودج الريح..
والريح تمسد أهداب الموج..
والموج يلوح بعمامته للصخور..
والصخور تدغدغني كزوجة أب ..
وأنا ممتشق أحلامي..
وأحلامي مبعثرة كملامحي..
وملامحي كسيرة كسيرة الدم النافر من وجهي..
ووجهي مليح كملاحة جرول بن أوس بن مالك..
وأملاكي الأتعاب و القمل و الخسارة..
وحذائي مثقوب بحذلقة نواب الشعب.. ومسامي مليئة بالصئبان و رائحة بوليس الآداب.. و متانتي تستمني بجلجلة ذات الخلاخيل.. المرأة الشهية..الغادة ذات الغمازتين.. البهكنة التي تبيع زنبقتها بثمن بخس دولارات معدودة.. وخصيتاي متورمتان منذ باغت أمي الوحم ذات فاحشة على بالون مطاطي.. خصيتاي اللتان كان أبي يجسمهما ليتيقن من فحولتي.. و جسدي مفرغ من تفاصيل الأحلام.. مشرع على الجوع و الحرمان و المصائب..
و الذل الذي سوف ..
و الأفراح التي لا ..
و المجهول الذي قد ..
و الجراح التي لم..
و الصبر الذي أصبح..
و السجون التي إن..
و الليل الذي لا بد..
و المشاكل التي ليس..
و الظلم الذي أمسى..
و الأصابع التي لن..
و الأمل الذي لا شك..
و الكراهية التي ربما..
و الاحتجاج الذي إذا..
و الأمنيات التي لعل ..
و ماء الوجه الذي لو..
عند انبلاج الفجر .. لم يكن ثمة ما يشي بالحياة ما عدا الجوع والأوجاع والمغص المهانة والصقيع.. و قمر حزين حزين محمر العينين يطل بين نثار ليل مزنر بالخراب.. حضرتني أغنية انجليزية تقول كلماتها ( ان شمس النهار بضخامتها لم تضئ نهاري فهل انتظر قمرا يضيء ليلي ).. انكمشت كجرذ.. كان الموج يهدر ويتلوى لا يزال.. ينجدل .. يتلولب ويرمح كأفراس جامحة.. يلحس بلسانه المليء بالزبد كثبان الرمال و يصلني رذاذه باردا مضمخا بالزنخ.. فتحت عيناي على سعتهما مشدوها فأبصرتني منبطحا متمترسا بالصخور .. محاطا بأكوام الطحالب والقواقع و الأصداف و العظايا و أسراب الجراد و النمل المجنح و البزاقات و اليرقات و العلق و الطيور و الأسماك و الرخويات و الالواح. و الأجساد المجزورة و السليخة التي لا تزال تنز دما و صديدا.. ..و أذناي مليئتان بالتراب.. و لساني مندلق ببلاهة كسلوقي.. أستشعر ألفة عميقة و حميمية لملمس اليابسة تحتي و لمذاق الرمال في فمي .. و جسدي موشى بالبثور و الكدمات و الاشنات الطحلبية و الدماء.. و عار تماما كأني خرجت للتو من فرج أمي...

نقوس المهدي



#نقوس_المهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوضع الكارثي لقطاع الصحة باليوسفية
- مراكش الموت والميلاد
- تطريز السراب والتيه


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نقوس المهدي - رحلة عباس السابع