أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - علي عبد المطلب الهوني - الحوار المتمدن -ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق(الجزء الثالث)3















المزيد.....


الحوار المتمدن -ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق(الجزء الثالث)3


علي عبد المطلب الهوني

الحوار المتمدن-العدد: 1270 - 2005 / 7 / 29 - 08:04
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


دراسة ذات بعدين في شعر نزار قباني
بين الذهنية الدينية الخاملة والنقد التحليلي الواعي

إن طبيعة العلاقة بين الرجل العربي وزوجته، من خلال نظارة نزار قباني القاتمة، تجعل حياة الإنسان العربي كلها قاتمة، فمنذ البيت الأول يهاجم نزار الثقافة العربية، ويقصد بها الموروث الديني والعادات والتقاليد التي تراكمت في مخزون الذاكرة العربية، ويصفها بفقاقيع الصابون، بمعنى أن القيمة المعرفية والإيجابية لها غير منظورة وواهية، أما القيم السلبية فهي قذارة تستوجب التطهر منها، وهذه القذارات السلبية كما وردت في قصيدته هي:
1– العلاقة بين الزوج والزوجة كالعلاقة بين السجين وسجانه، فهو إذا دخل بيته قفل بابه، وإذا خرج قفل بابه، وكأنما تلك المرأة التي بمنزله ليست زوجته بل سجينته.
2– قوله نلف نسائنا بالقطن، يقصد به الملابس، وبمعنى أكثر وضوحاً (الحجاب)، فهو يرى أن الحجاب علامة ورمز من رموز الفكر البالي المتخلف، أما قوله "ندفنهنّ في الرمل" فالمراد به أن البنت منذ طفولتها محكوم عليها بالسجن والابتعاد، كالأشياء داخل المنزل، سواء ببيت أبيها أم ببيت زوجها، ويدل على ذلك قوله "ونملكهن كالسجاد كالأبقار".
3– يحاول نزار أن يشير من طرف خفي، وبطريقة استهزائية، إلى الحديث الشريف: (عن أبي سعيد ابن أبي مريم قال: أخبرنا محمد ابن جعفر: قال: أخبرني زيد هو ابن أسلم، عن عياض ابن عبد الله عن أبي سعيد الخذري قال: خرج رسول الله  في أضحى أو فطر إلى المصلّى، فمر على النساء، فقال يا معشر النساء تَصَدَّقْن أُريتكن أكثر أهل النار، فقلن وبِمَ يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللّعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها).( )
الغمز واللمز لحديث رسول الله  ولو بالإشارة العابرة محرم، فما بالك بالإقرار كما في قوله: "ونهزأ من قوارير بلا دين ولا عقل"، يقصد أن الرسول  يهزأ من النساء اللاتي وصفن بالقوارير، بأنهن بلا دين ولا عقل، وهذا يستوجب عليه تجديد إيمانه لسببين:
أولاً: إن الحديث ورد عند البخاري لذلك فهو حديث صحيح منقول عن رسول الله  فهو إذن من السنة.
ثانياً: إذا عَرَف نزار أنه حديث صحيح، فإن ذلك الاستهزاء يستوجب منه تجديد توبته وتسفيهه لما جاء به بنفس الوسيلة الإعلامية.
4– يعترف نزار لأول مرة بحق من حقوق الزوج على زوجته، ولو في الفراش، وإن كان هذا الاعتراف مشفوعاً بطريقة مقززة وحيوانية للممارسة الجنسية في فراش الزوجية، وحسبك قوله:
"نمارسه خلال دقائق خمس
بلا شوق..
ولا ذوق..
ولا ميل.."
أليس نزار بعد كل ما سلف، وإن كان يحمل الجنسية العربية، إلا أنه أشد على الأمة من أعدائها، لأنه يعيش بين ظهرانيها، ويحاول بمعوله أن يهدم صرحها، ولكننا مع كل ما اتهمنا به، مازلنا معتزون بأمتنا وديننا، وكل تراثنا وسلبياتنا وإيجابياتنا، ونقول له ولأمثاله: ربّ حامل للجنسية العربية والجنسية العربية تلعنه، فإذا أضفنا إلى اتهاماته السابقة للرجل العربي المسلم في معتقده، تحريضه للمرأة بأن تنزع عنها برقع الحياء، وهذا ما يميزها عن بقية نساء العالم وان تمارس الدعارة بعين لا يغض لها جفن، وأن تفرط في بكارتها، التي هي مجرد عقدة، من وجهة نطره، يجب التخلص منها بأسرع وقت، وكأني به يريد أن يكون الجنس مشاعاً للجميع، لا الحرية الفكرية التي هي أساس كل تقدم، يقول نزار:
تظل بكارة الأنثى
بهذا الشرق عقدتنا وهاجسنا
فعند جدارها الموهوم قدمنا ذبائحنا ..
وأولمنا ولائمنا ..
نحرنا عند هيكلها شقائقنا
قرابينا ..
وصحنا "واكرامتنا".
صداع الجنس.. مفترس جماجمنا
صداع مزمن بشع
من الصحراء رافقنا
فأنسانا بصيرتنا
وأنسانا ضمائرنا( )
فالصحراء التي تنبت القيم والأخلاق والتي يعدها الكثير من العرب مفخرة من المفاخر العربية الخالدة، فالكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف وغيرها من قيم الصحراء، يراها نزار صداع مزمن من العقد الجنسية التي أعمت بصيرتنا وأفسدتنا ضمائرنا، فبأي عين حاقدة ينظر هذا النزار إلى قيمنا الموروثة قبل الإسلام والمكتسبة بعده.
وبعد دعوة نزار للمرأة العربية المسلمة أن تمارس العهر، ولا تكترث ببكارتها، التي هي عار إن أبقتها، لا عار إن حافظت عليها، يصل إلى قنّة جبل الانهيارات السلوكية، فيقول: إن الزواج على سنة الله ورسوله هو افتراس واغتصاب، بينما الزنا بالتراضي ليس كذلك.
يقول نزار:
تعبتِِ من النوم عاريةً ..
فوق شراشف القمر ..
فتركت الغابة ..
ليأكلك الذئب ..
ويفترسك –على سنة الله ورسوله-
شيخ القبيلة ..( )
فهل يعقل أن يكون الزواج على سنة الله ورسوله افتراساً، والإباحة الجنسية، وممارسة الدعارة، سلوك حضاري. إني لأجزم أن نزار في قرارة نفسه يعرف أن الأمر ليس كذلك، ولكنه كما يقال: (أمرٌ دبّر بليل). وإن كان من عجب، فلن يكون أعجب من قوله لحبيبته:
يوم تعثرين على رجل
يقدّر كما فعلت أنا …
أن يجعلك تغتسلين بالشعر ..
وتتكحلين بالشعر ..
فسوف أتوسل إليك ..
أن تتبعيه بلا تردد ..( )
فهل رأيت أو سمعت أيها المتلقي الكريم ديوثاً كهذا يتوسل إلى زوجته أو حتى خليلته أو حبيبته أن تذهب لتمارس الجنس مع رجل غيره؟. فأين ذهبت النخوة العربية عند نزار يا ترى! أم أنها الإباحية التي ينادي بها في شعره صار يطبقها قولاً وفعلاً.
يبدو أن سطح الدراسة المسطحة السابقة كان مليئاً بالحجارة والحفر والمطبات، فضلاً عن طقسه الحار جداً، وعواصفه الرملية، المثيرة للزوابع، تماماً ككارثة تسونامي التي أتت على كل ما اعترض سبيلها، و"ما هي منا ببعيد"، أو كريح عاد التي نزعت الناس من الأرض، كما تنزع أعجاز النخل المنخورة من جذورها، وإن كانت أفكار هؤلاء في ظلاميتها وفي ليّها لأعناق الكلام، وفي نزعها للحقائق من الجذور، أشد وأنكى. وحسبك من ريحٍ كريح صرصر، ومن دراسة لا تبقي ولا تذر.
إن أسلوب الخطابة الذي اتكأت عليه التخريجات السابقة والذي عفا عليه الزمن حتى بات لا يقنع أحداً، بعد أن تقدم الإنسان العربي في مدنيته، وإن كانت مخرومة، ولا أظن أنه أقنع أحداً من العرب إبّان فترة الحضارة العربية، فمثل هذا الأسلوب لا يجد له مكاناً إلا في المجتمعات الغوغائية، غير المتحضرة، والتي يسيطر عليها الذوق الجمعي، فما هذا الأسلوب إلا رحى تطحن قروناً، تحدث ضجيجاً بلا نفعٍ مرجو من ورائه، فإذا كان لهذا الأسلوب فائدة لما بقي العرب والمسلمون وهم يستمعون إلى هذا اللون من الخطابة كل جمعة في مساجدهم، لذا بات على خطباء المساجد أن يغيروا من طريقة الخطاب الديني، وعرض الأفكار، بدلاً من التباري في الفصاحة والخطب الرنانة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تغير من حال الوطن أو المواطن العربي المعاصر، الجائع، والمهزوم، والمغبون، والمسلوبة حريته وثروته.
هذا المواطن الذي تبهره الأساليب الحديثة، ويجد أنّ هناك بوناً شاسعاً بين لغة الخطاب على صفحات الإنترنت، وبين لغة الخطاب الديني في الجامع..
فمتى يقترب هؤلاء الخطباء بخطبهم وخطاباتهم من العقلية المعاصرة، إن جلّ هؤلاء الخطباء ساهموا مساهمةً مباشرة في كثير من الأحيان في الركود والخمول الذي صار سمةً تعرف بها الذهنية العربية في العالم، وبعض هؤلاء الخطباء اشتطوا في تقديمهم للخطاب الديني، بطريقة مشوهة، وبعقلية حاقدة، وهذه الطائفة هي التي يعاني العالم من ويلاتها، والتي تُصْدِر أحكامها التكفيرية على من يعارضها، وتفسر النص الأدبي بذهنية غير ناضجة.. فكم من مبدع كفروه، وأهدروا دمه، وكم من مبدع لعنوه وطالبوه بتطليق زوجه.
فإذا عدنا إلى التهم التي كالتها العقلية سالفة الذكر، والتي فرّخت فيها الخرافة والوهم زمناً طويلاً، فأنتجت جماعات مشوهة، ملأت بها الوطن العربي، والتي قال فيها نزار:
ثقافتنا فقاقيع من الصابون والوحل..
فما زالت بداخلنا
رواسب من (أبي جهل)
وما زلنا
نعيش بمنطق المفتاح والقفل..
هذه الأبيات التي اتهمته فيها تلك العقلية المشوهة التفكير، والمشوشة الرؤية بما أسلفنا، نرد عليها بقولنا:-
1- إن قول نزار قباني "فما زالت بداخلنا" الـ"نا" الدالة على الفاعلين في كلمة "بداخلنا" ألا يقصد بها عرب اليوم!
2- قوله "ورواسب من أبي جهل"، ألا يقصد بها أننا تركنا الإسلام الصحيح، ورجعنا إلى منطق وعقلية الرجل الجاهلي في علاقته مع المرأة، فكأننا نعيش في العصر الحديث، وعقولنا تنخرها وتعشش فيها العادات والتقاليد والمفاهيم الجاهلية.
3- هل كان المسلمون في عهد الصحابة والتابعين يعيشون بمنطق المفتاح والقفل؟ أو كانت المرأة تشارك الرجل في كل مناحي الحياة؟
أما قول نزار قباني:
ونملكهن كالسجاد..
كالأبقار في الحقل
ونهزأ من قوارير
بلا دين ولا عقل..
إن أصحاب الخطاب الديني المسطح يحاولون دائماً أن يُرجعوا كل قراءاتهم إلى مفاهيمهم الدينية الخاطئة. وليس الأمر هكذا، فنزار إنما ينتقد المجتمع العربي الذي هو مجتمعه، وينتقد طريقة هذا المجتمع في معاملته للمرأة، وأعتقد أن هذا من حقه، ولا يحق لأحد أن يغتصب منه هذا الحق.
فنحن مهما أخفينا حقائقنا الملوثة ظناً منا أننا نخدم بها الدين، لا بد لها أن تطل برأسها المشوه على الناس، طال الزمان أم قصر، ولو في فلتات لساننا، فما أضمر المرء شيئاً إلا وظهر في فلتات لسانه، فما إبداعات الشعراء والروائيين وغيرهم إلا فلتات لسان الأمة.
إذن فكل ما جاء في شعر نزار نفعله جملةً وتفصيلا.
أما قول نزار:
تظل بكارة الأنثى
بهذا الشرق عقدتنا وهاجسنا
أحيل الكرة إلى ملعبك أيها المتلقي، وأسألك مهما كانت ثقافتك: أليس ما جاء بالبيت السابق صحيحاً؟ إذن فلماذا النكران؟ ولماذا الخوف من مواجهة الحقيقة مهما كانت مرّة؟ إن الذين يرون الحقائق مهما تعددت واختلفت بعين واحدة لا يستطيعون المشاركة في صنع نهضة بلادهم، بل يظلون مثبطين لهمم الشباب الواعد، ولأفكارهم النورانية، فكما لا يلتقي الجهل مع العلم، والنور مع الظلام، إلا ليزيله، فإن هذا الشباب سيزيل ظلمة هؤلاء، وإن كانت ظلماتهم ظلمات بعضها فوق بعض، هذا وسيشير التاريخ العربي إلى هؤلاء الظلاميين وسيذكرهم عند ذكره لمعوقات نهضة الأمة العربية.
أما نقدهم لشعر نزار الذي يقول فيه:
تعبتِِ من النوم عاريةً ..
فوق شراشف القمر ..
فتركت الغابة ..
ليأكلك الذئب ..
ويفترسك –على سنة الله ورسوله-
شيخ القبيلة ..
فإنما يتحدث عن المرأة العانس التي ظلت مقهورة بين جدران أربع، لا يراها أحد، ولهذا لا يتزوجها أحد، فظلّت في أحلام اليقظة تحلم بفارس في عمرها يأتيها، لينقلها من سجنها إلى حضنه، ولكن لا أحد يأتي، حتى كبرت، فزوجت لرجل في عمر أبيها أو يزيد، فإن كان هذا الزواج صحيحاً على سنّة الله ورسوله، وهذا ما لم يعترض عليه نزار، فإن الزواج بشيخ القبيلة، ذلك الشيخ الفاني، الذي فعلاً افترس هذه الأنثى، فهو افترسها على سنّة العادات الظالمة التي جعلت منها ضعيفة، فلو أنها خرجت لتشارك في بناء مجتمعها، لما كان هذا مصيرها.
وقول نزار الذي جُعل فيه ديوثاً:
يوم تعثرين على رجل
يقدّر كما فعلت أنا …
أن يجعلك تغتسلين بالشعر ..
وتتكحلين بالشعر ..
فسوف أتوسل إليك ..
أن تتبعيه بلا تردد ..
أولاً: هذه الشتائم الشخصية التي هي أخص خصائص أولئك القشور لا تدخل ضمن دائرة النقض الأدبي.
ثانياً: لماذا لا يأخذ أولئك شعر نزار بحسن الظن, فيظنون أنه كان ينصح ابنته أو أي فتاة في عمرها, بأن تفضل الشاعر على التاجر في زواجها.
ولكن يبدو أن هؤلاء اتخذوا من سوء الظن مبدأ لهم, متمثلين بقول الشاعر:
لا يكـن ظنـك إلا سـيئاً إن سوء الظن من أقوي الفطن
ما رمى الأنسان في مخمصة غير حسن الظن والقول الحسن( )
وبالعودة إلى دراسة النص الشعري النزاري يقول نزار قباني:
لأنني أحبك
يحدث شيئاً غير عادي
في تقاليد السماء ..
يصبح الملائكة أحراراً في ممارسة الحب
ويتزوج الله .. حبيبته .. ( )
الأبيات السابقة تمثل جرأة نزار على الله، إلى حد إلحاق الأفعال البشرية به وبملائكته، وكأني به جعل الملائكة ذكوراً وإناثاً من حقهم ممارسة الحب، كما جعل الله ذكراً أيضاً يحب ويكره ويضاجع، فأي إله هذا الذي يتزوج من حبيبته.
إن هذا يذكرني بقصة طريفة لطفل أسود بالولايات المتحدة الأمريكية، عندما سألته المدرّسة عن لون الله، أجابها بسرعة وقناعة: إنه أبيض، فقالت: ولماذا؟ أجابها بعفوية: هل تظنين أنه لو كان أسوداً يجعلنا نحن السود نعيش حياةً بائسة نجوع ونعرى ونُهَان. وتظل صورة الله عند نزار مشوهة بشكل يدعو إلى التقزز، من ذلك قوله:
فلا تسافري مرةً أخرى
لأن الله –منذ رحلت- دخل في نوبةٍ عصبية ..
وأضرب عن الطعام .. ( )
فهل تحتاج هذه الصورة إلى تعليق؟ لا أظن!.
ولعلّ مرجع هذه الجرأة وعدم الالتزام تجاه الله راجعٌ إلى طفولته، فقد نشأ على ما كان والده، يقول الشاعر:
ينشأ الوليد على ما كان والده إن الأصول عليها ينبت الشجر( )
أما نزار فيقول: "كان أبي إذا مرّّ به قوام امرأة فارعة ينتفض كالعصفور، وينكسر كلوح من زجاج..".( )
أما دين والده فهو ضعيف، إذ لا يصوم ولا يصلي إلا الجمعة، والتي إن صلاها فعلى سبيل النفاق لأهل الحي، يقول نزار:
"لم يكن أبي متديناً بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، كان يصوم خوفاً من أمي، ويصلي الجمعة في مسجد الحي في بعض المناسبات خوفاً على سمعته الشعبية…. كان تفكير أبي الثوري يعجبني، وكنت أعتبره نموذجاً للرجل الذي يرفض الأشياء المسلم بها ويفكر بأسلوبه الخاص".( )
أما أمّه فيقول عنها: "أما أمي فكانت ينبوع عاطفة، يعطي بغير حساب.... ولقد كبرت وظللت في عينها دائماً طفلها الضعيف القاصر. ظلّت ترضعني حتى سن السابعة، وتطعمني بيدها حتى الثالثة عشرة".( )
فإذا كان هذا حال أمه وأبيه، فانظر إلى حال أسرته، يقول نزار:
"إنني أنتمي لأسرةٍ على استعداد دائم للحب. أسرة لديها "حساسية" مفطرة للوقوع في الحب".( )
تشرّب نزار منذ طفولته من أسرته ومن أبيه خاصةً كل المبادئ التي نادى بها في كبره، فتصادم مع التاريخ، ومع الدين الذي عدّه خرافة، ولعل قصيدة "خرافة" خير مثال على ذلك. فمن كان هذا ديدنه منذ طفولته وكبر فيه هذا السلوك ونمّاه، فماذا ستكون النتيجة!
إن هذه السلوكيات مجتمعة هي عينها مفاتيح شعر نزار المتكونة من طفولةٍ وثورةٍ وجنون، ويعني بالطفولة البراءة، والمكاشفة، والتلقائية، أما الثورة والجنون فيحسن بنا أن ننقل ما قاله عنهما:
"وبالثورة أعني أحداث خلخلة وتشقق وكسور في كل الموروثات الثقافية والنفسية والتاريخية التي أخذت شكل العادات أو شكل القانون.... وبالجنون أعني تفكيك ساعة العقل القديمة والاعتراض على كل الأحكام القرقاشية الصادرة علينا قبل ولادتنا...".( )
فهل تحتاج هذه الفقرات إلى تعليق عليها لمعرفة طريقة تعامله مع الموروثات والتاريخ؟ ثم ما هي الأحكام القرقاشية الصادرة علينا قبل ولادتنا غير الدين المنظم لحياتنا؟
ولا عجب، فهو منذ طفولته يجد متعةً في أن يقف ضد الدين الذي أسماه خرافة، وضد تاريخ الأمة المجيد، يقول:
"إنني منذ طفولتي كنت أجد متعةً كبرى في التصادم مع التاريخ والخرافة".( )
وما الخرافة عنده إلا الدين، وقد صاغ فيه قصيدةً أسلفنا الحديث فيها اسمها "خرافة".
ولعل متعة التصادم مع الثوابت جعلت أشعاره وكتاباته تشبه معول هدم في بناء صرح المجتمع. فكل تصادم لا بد أن يحدث كسراً، وحجم الكسر يكون بقدر قوة الاصطدام، يقول نزار:
"نحن حين نكتب نكسّر شيئاً، ومن طبيعة لاشيء المكسور أن يصرح عن نفسه".( )
فهو باعترافه لا يكتب للإصلاح، ولكن يكتب لتحطيم الأشياء، وما تلك الأشياء سوى الثوابت والقيم والأخلاق، وتاريخ الأمّة. فلك الله أيتها الأمة العربية من عقوق شعرائك.
أما الهدف من نشر دواوينه فيتراوح بين نشر الرذيلة والإباحية الجنسية التي يحلو له أن يسميها "الحرية والشهوة والحب المحرم" وليس أدلّ على ذلك من قوله:
"لعبت (قالت ليَ السمراء) لعبة الحرية على ما يلعبها تلميذ على مقعد الدراسة... وإذا كان الحب والشهوة في هذا الكتاب قد اتسم بالتوتر والعصبية، فلأن الحب في تلك الأيام كان حباً مقهوراً ومحظوراً ومسروقاً من ثقوب الأبواب. أما الجنس فكان مادة محرمة لا تباع إلا في السوق السوداء ... وفي بيوت ممتهنات الهوى ... هكذا كنا نعشق في ظلال الرعب، ونفعل الحب في ظلال الرعب .. ونكتب في ظلال الرعب".( )
هل بعد هذا التصريح بنواياه، وأفعاله، وأقواله التي لو كانت دولة الخلافة حاضرة لأقامت عليه الحد. فالإقرار بالذنب يوجب إقامة الحد، ولكن ما العمل، ونحن في غيابٍ عن ديننا، ولا يلام المذنب على ذنبه، وإن صرّح به، وأغرى به غيره، كما فعل نزار، وهذا ما يجعلنا نبكي دماً على الأيام الخوالي لدولة الإسلام ولخلافة الإسلام، ولمن لا يجد في قوله السابق سبباً لتجريمه فليقرأ قوله:
"... صارت كتبي دلائل مادية على ارتكاب جريمة الحب، إنني لا أبرئ نفسي من جريمة الحب.. على العكس، أنا أعتقد أن أكبر جريمة يرتكبها إنسان ما هي أن لا يعشق".( )
ويذهب نزار إلى أبعد من ذلك، فهو يلوم حتى من قال له انته، أو ارتدع، أو استحِ من الله، إذ يرى في لوم لوامه إغراء له بفعل الفاحشة تماماً، كما قال وفعل شيخه وأستاذه أبو نواس، لمن لامه على شرب الخمر.
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء( )
هذا ويغبط نزار الشعراء والكتاب الأوروبيين في أن لا أحد يلومهم أو ينتقد أشعارهم، ومسرحياتهم، ورواياتهم التي صاغوها، ورائحة الجنس تفوح منها، بل حتى لتكاد تقطر جنساً وتخدش الحياء، متناسياً أن أهم ما يميز المسلم، وخاصةً المرأة المسلمة هو حياءها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن هؤلاء الكتاب الأوروبيين لم يقفوا معادين لمثلهم ومبادئهم ودينهم، بل كانوا أصواتاً لمجتمعاتهم، فلماذا لا يفعل نزار الفعل نفسه، ويستقي أدبه وشعره من مجتمعه، فنزار يريد أن يفشي مبادئ ومثل وحركية المجتمع الغربي في مجتمعنا العربي المسلم، وهؤلاء الكُتّاب الذين يفخر بهم لو أنهم نادوا في بلادهم بالعادات العربية والمثل الإسلامية من طهارة وعفّة وكرم، لوقفت مجتمعاتهم ونقادهم في وجوههم لأنهم ينادون بمبادئ وثقافات دخيلة عليهم، وهذا من حقهم.
أما المغالطة التي وقع فيها نزار فقوله: "إن د. هـ. لورنس، وأوسكار وايلد، وهنري ميلر، وألبرتو مورافبا ذهبوا في كتاباتهم إلى أبعد ما ذهبنا إليه بمراحل، ولكنهم لم يدفعوا الثمن الذي دفعنا، ولم ينفوا خارج أسوار مدنهم كما نفينا".( )
إننا لم نسمع في التاريخ العربي المعاصر شاعراً أو أديباً، أو أي مواطن عربي نفي خارج وطنه بسبب رأي ديني مخالف، أو إشاعة فاحشة بين أبناء الأمة، بل على العكس يرحب به، وتفتح له الأبواب لإلقاء أشعاره، كما فتحت لنزار في كل البلاد الناطقة بالعربية، إنما النفي يكون بسبب اختلاف في المفهوم السياسي الذي بسببه قد يسجن المواطن ويعذب، ونزار يعترف بذلك ولكنه لغاية في نفسه ينكره، وقد قال ذلك بوضوح في قصيدته "الخطاب":
أوقفوني
وأنا أضحك كالمجنون وحدي
من خطاب كان يلقيه أمير المؤمنين
كلفتني ضحكتي عشر سنين
سألوني وأنا في غرفة التحقيق عمن حرضوني
فضحكت ..
وعن المال وعمّن موّلوني ..
فضحكت ..
******
لم أكن أعرف أن الضحك يحتاج لترخيص الحكومة
ورسوم .. وطوابع ..
لم أكن أعرف شيئاً ..
عن غسيل المخ .. أو فرم الأصابع
في بلادي ..
ممكن أن يكتب الإنسان ضد الله لا ضد الحكومة( )

وكفى بالشطر الأخير دليلاً ضد زعمه.
وقد يتساءل المواطن العربي، لماذا يريد نزار قباني أن تعم الفاحشة في وطننا العربي؟ ولماذا يتحسر على عدم وقوعها؟
وبدراسة النصوص سالفة الذكر، دراسةً تمتد تحت سطحها الظاهري، نرى أن نزار كان يرمي إلى إصلاح الوطن والمواطن, فقوله:
.............
يصبح الملائكة أحراراً في ممارسة الحب
ويتزوج الله.. حبيبته..
إنما يقصد بالملائكة زبانية الحكام. وهل رأيت أو سمعت حاكماً عربياً واحداً لم يطلق يد زبانيته في ممارسة الحب المحرم ببلده!.
أما المقصود بالله في الشطر الأخير, فهو بلا أدنى شك الحاكم الفرد المطلق اليد في دولته, فهو يسجن ويشنق ويسلب, ويستنزف موارد الدولة كلها, ولا صوت يعلو بغير ما يريد, إلا بالتهليل والتحميد والتكبير له, فهو بلا أدنى شك إله صغير في بلده, من حقه أن يتزوج من شاء, ومتى شاء, وكيفما شاء.
هذا والمتتبع لقصائد نزار السياسية, خاصةً, يجده يرمز كثيراً للحكام العرب بالآلهة، فأينما وردت لفظة إله يمارس الحياة البشرية فاعلم أنه لا يقصد الله الإله المعبود، بل يقصد الحاكم العربي.
أما قوله: "كان أبي إذا مر به قوام امرأة فارعة، ينتفض كالعصفور، وينكسر كلوح من زجاج"، فقليل هم أولئك الذين لا يتحرجون وهم يكتبون سيرتهم الذاتية في أن يطلعوا المتلقي على كل سلبياتها وإيجابياتها حتى تكون الدراسة عنهم أجدى، وكما يقال "الاعتراف بالذنب فضيلة، والمعترف بذنبه كمن لا ذنب له".
أما الأهداف التي أوردها نزار لدواوينه، فعجيب منه أن يفعل ذلك، لأن الشاعر عليه أن لا يفسر شعره، عندها يكون كمن يقدم هدية إلى عزيز، وينسى عليها السعر. وإني أرى أنه أخطأ في ذلك، وإن دفعه الحماس أثناء الكتابة إلى أن يقول ما قال. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فلكل إنسان أن يعبر ويعتنق الفكر الذي يشاء، وعلى الآخر أن يقبله أو يحاوره فيه، لا أن يفرض عليه فكراً بعينه، ويطلب منه أن يلتزم به، فليس هناك إله فيما نعلم يمشي على الأرض حتى يذعن له البشر، وينفذوا له طلباته. كلنا بشر وكلنا يخطئ ويصيب، وعلينا أن نتعامل على هذا الأساس، ولنعلم أن حريتنا تنتهي عندما نحاول أن نصادر حرية غيرنا.
============================
ولنا لقاء في الجزء الأخير.



#علي_عبد_المطلب_الهوني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق(الجزء الثاني)2
- (ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق (الجزء الأول


المزيد.....




- الرئيس الإماراتي يصدر أوامر بعد الفيضانات
- السيسي يصدر قرارا جمهوريا بفصل موظف في النيابة العامة
- قادة الاتحاد الأوروبي يدعون إلى اعتماد مقترحات استخدام أرباح ...
- خلافا لتصريحات مسؤولين أمريكيين.. البنتاغون يؤكد أن الصين لا ...
- محكمة تونسية تقضي بسجن الصحافي بوغلاب المعروف بانتقاده لرئيس ...
- بايدن ضد ترامب.. الانتخابات الحقيقية بدأت
- يشمل المسيرات والصواريخ.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع عقوبا ...
- بعد هجوم الأحد.. كيف تستعد إيران للرد الإسرائيلي المحتمل؟
- استمرار المساعي لاحتواء التصعيد بين إسرائيل وإيران
- كيف يتم التخلص من الحطام والنفايات الفضائية؟


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - علي عبد المطلب الهوني - الحوار المتمدن -ديناميكية الحوار بين السطح والأعماق(الجزء الثالث)3