أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عبد الأمير - مصافحة بيد واحدة















المزيد.....

مصافحة بيد واحدة


طالب عبد الأمير

الحوار المتمدن-العدد: 1248 - 2005 / 7 / 4 - 10:05
المحور: الادب والفن
    


ـ تعال..ومسكت طفلها ذو السنوات الست من يده واقتادته أمامها. سارت وهي تحاول شق طريقها وسط الزحام وتداخل الاصوات التي ضج بها "اللوب ماركناد"، وهو سوق كبير تباع به حاجيات مختلفة منزلية وغيرها منها ماهو مستهلك أو نصف عمره أوجديد مستورد. في عطلة الاسبوع يكون هذا السوق مزدحماً على غير ما يشهده خلال الايام الاخرى، وأكثر رواده من المهاجرين الجدد الذين يجدون فيه مايلزم من حاجيات منزلية وأثاث وأشياء أخرى بأثمان زهيدة تناسب وضعهم الاقتصادي حيث يكونوا تحت رحمة الاعانة الاجتماعية. ومنذ مجيئه الى هذه البلاد، قبل بضعة شهور، ومعرفته بوجود هذا المكان الذي دله عليه جاره المغربي، وهو يؤمه كل يوم سبت تقريباً. لم يكن همه الاساسي البيع أو الشراء، بل كان يمني نفسه بلقاء أحد من بلدته البعيدة التي غادرها قبل أكثر من عقدين من الزمن دار خلالها بلداناً وولايات حتى (استقر) به المقام في هذا البلد الذي لم يسمع به الا من معلم الجغرافية، حينما كان يشرح خارطة أوروبا، وجزءها الشمالي تحديداً. كان واثقاً في داخله من أنه سيلتقي يوماً بأحد يعرفه من الوطن، يستعيد في ملامحه صورة المدينة التي أخذت تشحب في مخيلته في غمرة تزاحم الأيام والسنين والاحداث الموجعة القاسية. إضافة الى ذلك فهذا المكان يذكّره بسوق مدينته الكبير وهذه المقهى عند المدخل تذكره بتلك مع الفارق بأنها كانت أكبر وتحتل ركنا كبيراً في صدر السوق. لم يكن ذلك مقهى فحسب، بل وملتقى لعيون العشاق ولغة الاشارات الصامتة. ترتفع فيه الايادي ثم تهبط على الطاولات المستطيلة بقطع الدومينو أو زارات الطاولي، لكن العيون تفلت بعيداً لتجتاز أعمدة المقهى صوب الزحام حيث الأشكال الطرية التي توشح بالسواد أجساما مزينة بالعطر وهي تمشي بخيلاء مقصود. سأل صديقه أول مرة جاء معه فيها الى المقهى:

ـ كيف تعرفها انها هي بالذات دون غيرها ؟ فكلهن ملتحفات بالسواد من قمة الرأس حتى أسفل الساقين. فيبتسم صديقه وهو يشير الى حيث القدمين:

ـ أنك تستطيع أن تميز المرأة من ظاهر أسفل ساقيها ومشيتها.

ذكّره منظر المرأة، وهي تسحب الطفل من يده، بنفسه عندما طلبت جارتهم الحسناء ذات الظفائر الطويلة من والدته، أن يصطحبها مرة الى السوق. لم يكن حينها تجاوز السادسة من عمره بعد. مسكت به من يده واجتازت الأزقة حتى السوق الكبير. كان مبهوراً بكثرة الناس والحاجيات التى تراصفت على الأرض أو على طاولات واسعة. ألوان متنوعة يخترقها الأسود بأشكال مختلفة. طلبت منه أن ينتظرها قليلاً أمام البقال: "قف هنا ولاتتحرك من مكانك، سأعود بأقل من لحظة". لم يخف فقد كان مبهوراً بحركة الناس وأنواع المواد المعروضة وأشكالها المختلفة. أخذ يلهي نفسه بالتطلع الى الفواكه والخضار التي صفت فوق بعضها بانتظام وهي تلمع من كثرة مارشت بالماء. والى كثرة الناس وتلفتاتهم بين صياح البائعة. دقائق وعادت اليه، تداري غبطة إلتمعت في عينيها. غمرته بنظرة مبتسمة وحركّت طرف عينها اليمنى خطفاً ثم مدت اليه يدها تناديه:

ـ تعال ومسكت به من يده وعادت الى البيت.

عندما سمعها تنادي على طفلها وسط هذا الزحام لم يستطع أن يميز لهجتها إن كانت عراقية أم سورية أم ... فقد إختلطت عليه الامور. عندما كان في وطنه لم يلتق بشخص من بلد عربي أو كان هو قد سافر الى بلد آخر، ولذلك فهو لايميز اللهجات ماعدا المصرية من كثرة ماشاهده من أفلام. أما بعد مغادرته بلده الى أوروبا بقصد الدراسة فقد التقى هناك بطلبة من مختلف البلدان العربية، كانوا يواجهون صعوبة في فهم مايقوله بلكنته الجنوبية فيتندرون عليه ويلقبونه بـ"الشاكو ماكو". كان زميله في الدراسة القادم من حضرموت في جنوب اليمن لايتحدث معه العربية بل بلغة البلد الذي كانا يدرسان فيه، إذ كان يجد صعوبة في التفاهم بين أبناء أمته بلغة الضاد. فكان صديقه يعلق على ذلك مازحاً: " أي شعار زائف هذا الذي يحشون رؤسنا فيه عن الوحدة العربية؟ من الافضل لهم أن يوحدوا اللغة أولاً." كان صديقه هذا قد حصده رصاص رفاقه أبناء الشعب والامة في مجزرة عدن عام 1984. ضاعت منه في الزحام وانشغل هو في التطلع الى بضائع كان ينادي عليها شاب في مقتبل العمر وقد تحلق حوله جمع من الناس يقلبون الحاجيات ويساومون على أسعارها. سبرت عيناه بحر الناس المائج كمن أضاع لؤلؤة فيه. ظل يبحث عنها متلهفاً وملتاعاً حتى لمحها وسط الحشد. تطلع في وجهها ملياً من خلف الرؤوس التي كانت تفصله عنها. جاهد أن لايجلب نظرها نحوه. ليس في تلك اللحظات على أية حال. فقد أراد أن يتأكد عما إذا كانت هي ذاتها. حلقت أفكاره بعيداً وعبرت سماوات عديدة لتستقر على غصن من أغصان شجرة الماضي العريقة. رنت بقاع ذاكرته ضحكتها الطفولية، عندما كانت تلح عليه بمزاحها العنيد رغم معرفتها بأن ذلك كان يزعجه، وأنه كان يأخذ كل شئ على محمل الجد. كان عمرها لايتجاوز الرابعة عشرة. وهو لايكبرها الا بعام واحد وبضعة أيام. حاول أن يطابق ملامح الصورة التي يحملها في مخيلته، دون إدراك منه، مع قسمات هذا الوجه الذي فزز عصافير الشوق في خلجاته فطارت من أعشاشها وحلقت في سماوات بعيدة. كان كل شىء في مكانه وخاصة العيون التي لم يتغير بريقها وحدتها. كل شىء ما عدا إستثناء واحد فقط. فقد اختفى شعرها خلف قطعة قماش سوداء مطرزة لم تظهر منه حتى تلك الخصلة التي كانت تتدلى فوق جبينها فتداعبها بغنج كلما أرادت مغازلته وهما مازالا صغاراً يحبون في عالم النضوج.

تأملها باصرار عنيد ظل يقاومه طيلة تلك الدقائق التي حسبها دهراً. حاول جاهداً أن لايلفت انتباهها قبل أن يتأكد من مشاعره ويستقر على رأي. لكن مثل هذه الامور لايمكن اخضاعها لأي قانون على الاطلاق. أنها لاتعترف الا بالصدفة والصدفة وحدها تقرر أحياناً مصائر شعوب ودول وأفراد. والصدفة وحدها خلقت له هذه الدراما التي يعيش تفاصيلها. تراجيديا صامتة دون دموع أو متفرجين. والصدفة وحدها جعلت عيونهما تلتقي فوق الرؤوس المنحنية وعشرات العيون والايادي التي كانت تقلب البضائع. أحس بجمرات نظراتها توقد أغصان الحنين في داخله، وهو يكاد أن ينطفأ، أن يتحول، خلال لحظات، الى رماد عندما قطبت حاجبيها وأندفعت تبحث عن طفلها الذي أفلت في تلك الساعة يده من قبضتها. ولما رأته نادت عليه بقلق: "علي، تعال يمه نمشي". تجمد الدم في عروقه وشلت حركته. ظل شارد الذهن لحظات ولما أفاق شعر بفقدان شىء ثمين كان يملكه. كاد ينسى أن "علي" أسمه هو أيضاً.



#طالب_عبد_الأمير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عز الدين ميهوبي: لا يمكن تصور اتحاد يعلق عضوية الأدباء العرا ...
- سلام عبود في (زهرة الرازقي) العودة للنقاء العراقي وطيبة الجذ ...


المزيد.....




- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...
- مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طالب عبد الأمير - مصافحة بيد واحدة