أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إلياس بنعدادة - المنحى الأنثربولوجي في الطب العربي-الإسلامي القديم...أطروحة لنيل الدكتوراه في الفلسفة تقدم بها الباحث خليد كدري















المزيد.....



المنحى الأنثربولوجي في الطب العربي-الإسلامي القديم...أطروحة لنيل الدكتوراه في الفلسفة تقدم بها الباحث خليد كدري


إلياس بنعدادة

الحوار المتمدن-العدد: 4377 - 2014 / 2 / 26 - 07:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


احتضنت قاعة المرحوم الأستاذ محمد حجي، برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الخامس-أكدال بالرباط، صباح يوم الإثنين 2014/02/24، أشغال مناقشة أطروحة لنيل الدكتوراه في الفلسفة، تخصص الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم، أعدها الباحث خليد كدري تحت إشراف الأستاذين الدكتور بناصر البعزاتي والدكتور عبد النبي مخوخ. وقد تشكلت اللجنة العلمية التي ناقشت الباحث من السادة : الدكتور أحمد العلمي رئيسا، الدكتور بناصر البعزاتي مقررا، الدكتور عبد النبي مخوخ مقررا، الدكتور محمد مزوز عضوا، الدكتور عبد المجيد باعكريم عضوا. وقد تداولت اللجنة العلمية، بعد انتهاء أشغال المناقشة، فقررت منح الباحث درجة الدكتوراه في الفلسفة بميزة مشرف جدا. وفيما يلي التقرير الذي تقدم الباحث أمام اللجنة :
السيد الرئيس، السادة أعضاء اللجنة العلمية المحترمين، يشرفني أن أقدم بين أيديكم التقرير التالي عن البحث الذي أنجزته تحت إشراف الأستاذين الدكتور بناصر البعزاتي والدكتور عبد النبي مخوخ، وهو بحث يتناول بالدرس والاستشكال النقدي، موضوع المنحى الأنثربولوجي في الطب العربي-الإسلامي القديم من خلال أعمال أبي بكر الرازي وأبي الوليد بن رشد. ويتعلق الأمر، تحديدا، بقضايا نظرية "الأمزجة" التي تنتمي – مع نظرية "الأخلاط" – إلى "نواة" الإبدال أو "البراديم" أو البردمParadigme الطبي القديم – إن صح التعريب – وقد وقع اختيارنا على متني الرازي وابن رشد الطبيين، بالذات، لاعتبارين اثنين : أولهما تاريخي، إذ يتعلق الأمر بناقدين لجالينوس قد نعتبرهما أعظم نقاد الطبيب الفرغامي في تاريخ الطب العربي-الإسلامي القديم؛ وقد نلحق بهذا الاعتبار التاريخي، أيضا، كون الأمر يتعلق بمتنين طبيين ينتميان إلى زمنين متباعدين نسبيا. وثانيهما جغرافي، إذ رأينا أنه يتعين، من باب الإنصاف، أن نتوسل إلى غرضنا بنموذجين يمثلان معا طرفي بلاد الإسلام، أحدهما مشرقي-آسيوي، والآخر مغربي-أندلسي.
وفي الواقع، نعتبر اشتغالنا على الموضوع الحالي امتدادا طبيعيا لاشتغالنا، قبل سنوات، على موضوع ذي صلة، وهو "نظرية الأخلاط ومكانتها في الطب العربي-الإسلامي القديم : أبو بكر الرازي نموذجا"، تحت إشراف أستاذنا بناصر البعزاتي. خلصنا هنالك إلى أن الاحتفاء "المنهجي" بالتجريب وبالكشف في طب الرازي الإكلينيكي لم يسفر، في نهاية التحليل، عن أية مراجعة بردميةParadigmatique ، وأن "صناعة البيمارستان" ظلت، مع ذلك، أسيرة مفاهيم وتعاليم نظرية "الأخلاط" في التشخيص والعلاج والتدبير والأقراباذين أو "الفارماكوبيا". وإذا كان الأمر على هذه الحال مع أبي بكر الرازي، الذي يعد، بحق، قمة من قمم تاريخ الطب الإكلينيكي قبل العصر الحديث، فكيف سيكون الأمر مع غيره من أطباء الإسلام الذين أفاد معظمهم من علمه ؟
يروم البحث الحالي استشكال هذه الحصيلة بالذات، لكن على صعيد أرحب أو أكثر جذرية : كيف نفسر اعتراضات الأطباء المسلمين التاريخية وغير المسبوقة على نظرية "الأمزجة"، ذات الصبغة البردمية القصوى، واستئنافهم لها، في نفس الوقت، في مختلف شعاب الطب وعلومه ؟ هل نفسر ذلك بغياب بديل تشريحي-فيزيولوجي مغاير للنموذج الإغريقي-الهلنستي المتاح أم نفسره، بالأحرى، بغياب شروط انعقاد قول جديد حول الإنسان والعالم ؟ لنقل إنه إشكال "الازدواجية" التي وسمت موقف الأطباء المسلمين من جالينوس : فنحن واجدون عند هؤلاء نقدا "منهجيا" لا يبزه في العمق سوى انقلاب المحدثين على "فاضل الأطباء" جملة وتفصيلا، لكننا واجدون عندهم، بموازاة ذلك، استئنافا سافرا لا يضاهيه في مقدار "العبثية" سوى إعراض سواد الأطباء الهلنستيين عن "ثورة" الإسكندرانيين البطلمية في التشريح والمنافع.
أما الدعوى التي توخينا الحجاج عنها، بين دفتي هذا البحث، فمفادها أن "ازدواجية" موقف الأطباء المسلمين من قضايا "الأنثربولوجيا" الجالينية تجد تفسيرها، في نهاية التحليل، في "عوائق" العقل الطبي العربي-الإسلامي ذاته، وتحديدا في مصادرة هذا العقل – الهلنستي في عمقه – على رؤية للإنسان بوصفه "عالما صغيرا" أو "ميكروكزم"، في مقابل "العالم الكبير" أو "الماكروكوزم"، وبالتالي مصادرته، بالاضطرار، على كوسمولوجيا العناصر الأنبادوقلية سواء في صيغتها الأفلاطونية، كما هو الحال مع الرازي، أو في صيغتها الأرسطية كما هو الحال مع ابن رشد. ومعلوم أن هذه الكوسمولوجيا "الأسطقسية" هي التي تؤسس لنظرية "الأمزجة" في طب جالينوس؛ فيكون الانقلاب على هذه "الأنثربولوجيا"، التي أمعنت أجيال الأطباء في اجترارها على حساب ممكنات التشريح والمنافع، بالضرورة انقلابا على الكوسمولوجيا المؤسسة لها؛ وهو الأمر الذي لم يقيض لغير المحدثين.
ولئن كانت طبيعة الموضوع هي التي تحدد المنهج المناسب لمقاربته، لا ما يفرضه الباحث سلفا، فإن طبيعة موضوعنا، الذي تتعدد فيه زوايا النظر إلى المسألة الواحدة، وتتشابك فيه قضايا تاريخ الطب القديم بقضايا تاريخ الفلسفة، وقضايا الإبستمولوجيا وتاريخ العلم بقضايا التاريخ الثقافي والاجتماعي-السياسي، حتمت علينا اللجوء تارة إلى المنهج "التكويني"، وتارة إلى منهج تحليل المضمون، وطورا إلى النقد التاريخي، وأحيانا إلى المقارنة والتأويل.
وقد نعتبر تعدد زوايا النظر وتشابك القضايا، التي ذكرنا، في طليعة المصاعب التي واجهتنا منذ بداية اشتغالنا على الموضوع. لكن العقبة الكؤود تتمثل، في الواقع، في أننا لم نجد في معظم ما كتبه المحدثون، باللسان العربي، في تاريخ الطب عند المسلمين، عونا أو سندا لنا في ما نروم الحجاج عنه من دعوى. فقد لا ننأى عن الصواب إذا نحن قلنا إن معظم المتاح، باللسان العربي، من أدبيات "تاريخ الطب العربي-الإسلامي" الحديثة لا يعدو أن يكون "حاشية" – بلا نهاية – على موسوعة "تاريخ الطب العربي" التي عملها المستشرق الفرنسي لوسيان لوكلير Lucien Leclerc منذ قرابة قرن ونصف. وعلى الرغم من البون الشاسع – العلمي والمنهجي – الذي نلحظه بين معظم الأعمال العربية أو "المحلية"، المحسوبة على "تاريخ الطب العربي-الإسلامي"، وبين معظم الأعمال التي أنجزها المستشرقون في ذات الموضوع، فإن الناظر في حصيلة ما أنجز، سواء عند هؤلاء أو عند أولئك، لا يسعه إلا أن يقف على حقيقة تنكب السواد الأعظم عن أسئلة تاريخ الطب العربي-الإسلامي بما هو تاريخ للعلم وليس تاريخا للشعوب أو الملل.
يهيمن على أدبيات "تاريخ الطب العربي-الإسلامي" السائدة خطابان لا ثالث لهما : خطاب "الوديعة"، وخطاب "الذخيرة". يرى خطاب "الوديعة" أن طب المسلمين لا يعدو أن يكون، في نهاية المطاف، "وديعة" إغريقية-هلنستية سهر المسلمون على صونها من الضياع؛ بينما يفزع خطاب "الذخيرة" إلى طب المسلمين بوصفه "ذخيرة" قومية أو ملية منذورة لمباهاة "الآخر". وبين الخطابين تضيع حقائق الطب العربي-الإسلامي الموضوعية، وفي مقدمتها "عضوية" هذا العلم التي لا شك أنها مفتاح فهم جوانب شتى من تاريخه النظري والسوسيولوجي. وبين الخطابين تنطمس، أيضا، ممكنات البحث الإبستمولوجي في المتن الطبي العربي-الإسلامي؛ فلم نجد في معظم المتاح من الأدبيات التي ذكرنا قولا في "عوائق" العقل الطبي العربي-الإسلامي البردمية أو في مسألة "التفاعل" بين المعرفة الطبية العربية-الإسلامية وبين المعارف العربية-الإسلامية الأخرى من قبيل "الأصول" أو "الكلام" أو الكيمياء أو الفلك، الخ.
أما بالنسبة إلى تاريخ الطب القديم الإغريقي-الهلنستي، فنستطيع القول إن الحال، وإن كانت أقل سوءا، فإنها لا تخلو، مع ذلك، من المصاعب؛ ولعل أهمها التأخر الحاصل، إلى غاية يومنا هذا، في ترجمة "كتاب المزاج" الجالينيDes Tempéraments من اللسان الإغريقي، أو من ترجمته اللاتينية، إلى اللغات الحديثة، مع ما يكتسيه هذا النص من أهمية جد قصوى في تاريخ الطب القديم ! إلا أن من سعادات القاريء العربي أن "تلخيص كتاب المزاج" الرشدي يوشك أن يكون ترجمة، بيسير بتصرف، لكتاب جالينوس؛ وقد استنتجنا ذلك من المقابلة بين ترجمة شارل دارمبرغCharles Daremberg الإغريقية-الفرنسية لكتاب "القوى الطبيعية"les Facultés Naturelles وبين "التلخيص" الذي أنجزه ابن رشد لذات الكتاب، إذ وجدنا تطابقا شبه تام بين النصين.
ومن هذه المصاعب، كذلك، أننا لم نجد في المتاح من التواريخ والدراسات الحديثة ما يمكن أن يسعفنا في تقصي العلاقة الممكنة بين "الخطابة" السفسطائية والطب الأبقراطي. أما المعتاد في هذه التواريخ والدراست الحديثة، عندما يتعلق الأمر بالأبقراطية، فهو أن يعقد قول تمهيدي في أصولها "الفيزيولوجية" أو "الأسقلبيادية" – نسبة إلى معابد– Asclepios وهي في اعتقادنا معطيات غير كافية في فهم سيرورة ميلاد الطب "العقلاني" في القرن الخامس قبل الميلاد.
لقد فرض علينا الإشكال الذي وجه اشتغالنا على موضوع البحث، وكذا ما تقلدناه من دعوى بصدده، أن نعود إلى لحظة ميلاد الطب الأبقراطي بحثا عن أصول هذه "الأنثربولوجيا" التي شكلت مصدرا من مصادر جالينوس الرئيسة في نظريته حول "الأمزجة". وقد رأينا أن نتعقب مصائر الطب الأبقراطي في العصر الهلنستي إلى غاية جالينوس الذي باشر عملية "إعادة البناء" تجاه الموروث الطبي، مرورا بلحظة الفتوحات الإسكندرانية البطلمية في التشريح والمنافع، لنقف بعد ذلك على السبل التي سلكتها الجالينية إلى طب المسلمين، ومن ثم إلى طب الرازي وابن رشد اللذين يمثلان أعظم نقاد "الأنثربولوجيا" المزاجية الجالينية في الإسلام، لكن من غير أن يتحررا من إسارها كليا. وهكذا تأدينا إلى قسمة بحثنا إلى قسمين، عننا أولهما بعنوان "المنحى الأنثربولوجي في الطب الإغريقي-الهلنستي : "تماهيد لنظرية "الأمزجة" في طب المسلمين"؛ وعننا ثانيهما بعنوان "نقد نظرية "الأمزجة" الجالينية بين الرازي وابن رشد : الحدود، الممكنات والقيم المضافة".
أما القسم الأول، فقد جعلناه في ثلاثة فصول؛ يتناول الفصل الأول منها مسألة أصول الأبقراطية، حيث حاولنا أن ندلل على دور "الحكمة العملية"Sophistique في ميلاد الطب الأبقراطي خلال القرن الخامس قبل الميلاد؛ بل حاولنا أن ندلل على دين "الخطابة" السفسطائية على ميلاد هذه "الأنثربولوجيا" التي هيمنت على مقدرات النظر الطبي، في عقب "إعادة البناء" الجالينية، لما ينيف على ألفي سنة. وهي دعوى فرعية لا نخالها مسبوقة في المتاح من أدبيات "تاريخ الطب القديم. كما تطرقنا في ذات الفصل إلى بعض مسائل فقه "المتن الأبقراطي"، ولا سيما مسألة البردم الطبي. أما الفصل الثاني، فقد وقفنا فيه على أحوال الطب الأبقراطي في العصر الهلنستي؛ وعرجنا فيه على مجمل أعمال الشراح الأبقراطيين، وعلى مسألة دور التقليد "الهيرمينوطيقي" الأبقراطي في تقوية دعائم البردم الخلطي القديم. وتطرقنا فيه إلى مسألة ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى تاريخ الطب القديم، ألا وهي فشل "ثورة" الإسكندرانيين البطلمية في التشريح ومنافع الأعضاء، وتداعيات هذا "الفشل"، ودوره في نشأة فرق "الكلام" في الطب. وأما الفصل الثالث، فقد أفردناه لمسألة "إعادة البناء" الجالينية في حقل الطب القديم؛ فعرضنا لمصادر الطب الجاليني، وعرفنا بمكوناته البردمية، ثم وقفنا على طبيعة الدور الذي أمست تلعبه نظرية "الأمزجة" قبل الانقلاب عليها في العصر الحديث.
أما القسم الثاني، فجعلناه في ستة فصول، أي من الفصل الرابع إلى غاية الفصل التاسع؛ حيث تعقبنا في الفصل الرابع السبل التي سلكتها الجالينية إلى طب المسلمين، من طريق الترجمة؛ كما وقفنا على الدور الذي لعبه متأخرو الإسكندرانيين، من طريق العلماء السريان، في "تعريب" وإرساء دعائم "درس" جاليني عربي-إسلامي "مزيد". وقد ختمنا هذا الفصل بمرافعة نحتج من خلالها لأصالة الطب العربي-الإسلامي، متوسلين إلى ذلك بنموذج مغربي-أندلسي. لكننا حرصنا على التدليل، في نفس الوقت، على أن مناط هذه الأصالة هو حقيقة "عضوية" العلم عند المسلمين. أما الفصل الخامس، فأفردناه للحديث عن مكانة "الأنثربولوجيا" المزاجية الجالينية في طب أبي بكر الرازي. لكن أحوجنا للوقوف أولا على مسألة آثار الرازي الطبية والفلسفية، وثانيا على مسألة مصادر الرازي في "الطبيعة" و"الإلهيات"، وفي غيرهما. وأما الفصل السادس، فأفردناه للحديث عن نقد الرازي لنظرية "الأمزجة" الجالينية، فوقفنا على طبيعة هذا النقد، واستشكلنا بواعثه وحدوده ونتائجه أيضا. وأما الفصل السابع، فحاولنا الإحاطة من خلاله بأهم "القيم المضافة" التاريخية التي تحسب للرازي في تاريخ الطب القديم. وقد استشكلنا علاقة هذه "القيم المضافة" بانشغالات الرازي الكيميائية و"الكلامية"، فضلا عن مساره "المهني" كطبيب بيمارستاني، فسمح لنا ذلك بالربط بين بواعث النقد "الأنثربولوجي" – ذي الصبغة البردمية – وبواعث الفتح الطبي، ولا سيما في الحقل الإكلينيكي. وأما الفصل الثامن، فقد أفردناه لأقاويل أبي الوليد بن رشد النقدية في نظرية "الأمزجة". لكن أحوجنا، هنا أيضا، للوقوف أولا على مسألة موقع النقد الرشدي في سيرورة تطور الرشدية، فكرا وجنس كتابة، مما يتصل بمسائل فقه "المتن الرشدي"، وثانيا على مسألة مرجعية ابن رشد القصوى في المناقضة على "فاضل الأطباء". وعلى شاكلة ما فعلنا مع الرازي، عرضنا لطبيعة النقد الرشدي، واستشكلنا بواعثه وحدوده ونتائجه أيضا. وأما الفصل التاسع، والأخير، فقد عرضنا فيه لمسألة مكانة ابن رشد في تاريخ الطب. فحاولنا الحجاج عن حقيقة هذه المكانة من خلال تاريخ ابن رشد "اللاتيني"، وبالذات من خلال النقول الطبية التي أنجزت في القرن الثالث عشر، في طليطلة وصقلية، وما أثمرته من نقاش في الحقل الطبي. هذا، ولم يفتنا أن نعرض، في ختام هذا الفصل، لمسألة العلاقة الممكنة بين بعض المناقضات الرشدية على "منافع" أو فيزيولوجيا جالينوس وبين سبق اكتشاف الدورة الرئوية التاريخي المنسوب إلى أبي العلاء بن النفيس.
ثم ألحقنا بهذه الفصول التسعة خاتمة تشتمل على حصيلة النتائج المتوصل إليها، فيما يشبه أن يكون عناصر إجابة عن الإشكال الذي طرحناه أعلاه؛ هذا، مع سابق العلم أن هذه النتائج، أيا كانت قيمتها، لا تعدو أن تكون مقدمات من أجل استشكال مغاير لتاريخ الطب عند المسلمين. وتلي هذه الخاتمة قائمة بأهم المصطلحات الفنية المستعملة بين دفتي البحث، ثم ملحق البحث الذي ضمناه نص ترجمتنا العربية لكتاب "طبيعة الإنسان"De la Nature de l’Homme الأبقراطي-البوليبي المنحول؛ ويتعلق الأمر تحديدا بالجزء المعترف به في التقليد الجاليني، أي من الفقرة الأولى إلى متم الثامنة (ف. 1-8). وقد أوردنا معه نص الترجمة الفرنسية التي أنجزها إميل ليتري في القرن التاسع عشر، مشفوعا بالنص الإغريقي القديم، تيسيرا لعملية المقابلة بين النصوص. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أننا اعتمدنا في ترجمة النص الأبقراطي على الترجمة الفرنسية المذكورة، و"في النفس شيء من حتى" – كما قيل – ونأمل أن تتوفر لنا، في المستقبل القريب، أسباب التعامل مع النص الإغريقي من غير وسيط. ومع ذلك، فإن الترجمة التي أنجزنا قد لا تخلو من فائدة، بالنسبة إلى القارئ العربي، متى وضعنا في الحسبان ضياع "الترجمة" العربية القديمة التي أنجزها حنين بن إسحق وتلميذه عيسى بن يحيى على هامش نقلهما لشرح جالينوس على الكتاب.

لقد استشكلنا، في مقدمة البحث، مسألة ازدواجية موقف الأطباء المسلمين من نظرية "الأمزجة" الجالينية، وتساءلنا عما إذا كانت هذه الازدواجية تفسر بغياب بديل تشريحي-فيزيولوجي مغاير للنموذج الإغريقي-الهلنستي المتاح أم بغياب شروط انعقاد قول جديد حول الإنسان والعالم. ويمكننا أن نجمل نتائج هذا البحث في العناصر التالية :
1- فيما يتعلق بالدعوى العامة، يمكننا القول إن "الازدواجية" التي وسمت موقف الأطباء المسلمين من نظرية "الأمزجة" الجالينية تعود، في الواقع، إلى استئنافهم لكوسمولوجيا العناصر الأنبادوقلية، إما من طريق أفلاطون، كما هو الحال بالنسبة الرازي، وإما من طريق أرسطو، كما هو الحال بالنسبة إلى ابن رشد. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن القيم المضافة التي يمكن أن تحسب للمسلمين في التشريح والمنافع، وفي شعاب الطب القديم المختلفة، لم تكن، بمفردها، مجدية في حصول الانقلاب على البردم الطبي المهيمن، أي البردم الخلطي الأبقراطي-الجاليني، وأن هذا الانقلاب كان يستلزم، في الواقع، انقلابا سابقا على الكوسمولوجيا الإغريقية-الهلنستية المؤسسة للبردم الخلطي الأبقراطي-الجاليني؛ وهذا ما لم يكن في مكنة غير المحدثين.
لكن، إذا كان أحد وجهي "الازدواجية" التي وسمت موقف الأطباء المسلمين من النظرية الجالينية يتمثل في نقدها "المنهجي"، الذي قل أن نجد له نظيرا قبل عصر النهضة الحديثة، فإن في وسعنا أن نمضي قدما، فنقول : إن أصالة الطب العربي-الإسلامي لا تكمن في الخروج عن الجالينية بل في "تأزيمها". وقد أبرزنا، مع ذلك، أن بواعث النقد "المنهجي" لطب جالينوس تعود، في نهاية المطاف، إلى "عضوية" طب المسلمين؛ وهي ذات "العضوية" التي سمحت بقدر هام من "التفاعل" بين المعرفة الطبية العربية-الإسلامية وبين منظومة المعارف العربية-الإسلامية الأخرى، "المحلية" منها أو "المعربة".
2- أما فيما يتعلق بالمسائل الأخرى الفرعية التي تناولها البحث، فقد توصلنا بصددها إلى طائفة من النتائج يمكن إجمالها على النحو التالي :
1.2- فيما يتعلق بمسألة "أصول الطب الأبقراطي"، تحصل لنا أن الأقاويل المعتادة التي يعقدها سواد المؤرخين في أصول الطب الأبقراطي "الفيزيولوجية" أو "الأسقلبيادية" قليلة الإقناع، ولا تجدينا، على الخصوص، في فهم السيرورة التي جعلت هذا الطب يكتسي، عند نشأته "العقلانية" الأولى، خلال القرن الخامس قبل الميلاد، طابعا "أنثربولوجيا"، أي كنظرية في الإنسان. فقد حاولنا أن ندلل على أن الطب الأبقراطي مدين بمنشئه لما سميناه بسيرورة "الجدل المؤَنِّس" التي لعبت فيها "السفسطة" Sophistique أو "الحكمة العملية" دورا مركزيا. وقد توسلنا بهذا المفهوم الإجرائي، أي سيرورة "الجدل المؤَنِّس"، لتفسير أوجه التطابق بين الطب الأبقراطي و"الأخلاق" السقراطية. فوجدنا أن كليهما يستعيد حركة "التشميل"Totalisation التي وسمت القول "الفيزيولوجي" القديم، لكن من غير تفريط في المكسب الذي أسفرت عنه "الحكمة العملية"، لفائدة القرن الخامس قبل الميلاد، والمتمثل في "تأنيس" النظر والعمل، وأن كليهما يصادر على مفهوم "الطبيعة الإنسانية" الكوني وشبه¬الترنسندنتالي، لكنه ذات الأفق البروميثي الموسوم بروح "التجريب" والاحتفاء غير المسبوق بالتقنية وبالفضائل العملية المجتباة من الصنائع والفنون، وفي مقدمتها صناعة "الكلام" أو الخطابة. لقد تنزلت "الريطوريقا"، في سياق "التأنيس" السفسطائي "العدمي"، كتقنية لسانية للهومونياHomonoia أو "الوفاق"، أي كطب لأمراض السياسة؛ وتنزلت في سياق "قلب السفسطة" الأبقراطي-السقراطي كبحث في الشروط الموضوعية التي تجعل "الوفاق" ذاته ممكنا، وفي طليعتها شرط "الطبيعة الإنسانية" Phuseō-;---;--s Anthrō-;---;--pou كمعطى سابق على أوفاق المجتمع واللسان. فلا غرو إن اعتبرنا "الأنثربولوجيا" الأبقراطية ذاتها من مشمولات "صناعة الكلام" أو قلنا إنها ظاهرة "خطابية"؛ وذلك أن هذه "الأنثربولوجيا"، ممثلة في نظريتي "الأخلاط" و"الأمزجة"، هي بمثابة محصول النظر في شروط "الوفاق" بين عناصر البدن والمحيط المثمرة لحال "الصحة"، ولأن هذا النظر بالذات هو مناط كل "تدبير"Régime أو كل تقنية ممكنة لمسمى"الوفاق" في الحقل الطبي.
لم يهتم بمسألة الأثر الأبقراطي في تاريخ الفلسفة سوى القليل من الدارسين. أما مسألة العلاقة بين الخطابة السفسطائية والطب الأبقراطي، فنحن واجدون أن لا أحد أثارها من قبل. يتصدى دارسو الأثر الأبقراطي في تاريخ الفلسفة لأصول "الجدل" الأفلاطوني الطبية، لكنهم لم يأبهوا لمغزى الاحتجاج الأفلاطوني العميق بأبقراط في محاورة "فيدورس"Phèdre ، ولم يلتفتوا إلى أن أفلاطون يجني، في الواقع، ثمار حرب جدلية سابقة على "السفسطة"، هي تلك بالذات التي تؤرخ، في نظرنا، لميلاد الطب الأبقراطي. لكننا أبرزنا، مع ذلك، أن حرب الأبقراطية على "السفسطة" لم تمنع من استئناف العديد من المفاهيم والنظريات السفسطائية من قبيل "المناسبة" Kaïros أو "أيام البحران"Jours Critiques أو ثنائية "الفيزيس" Physis والناموس Nomos – "الطبيعة" و"العرف" – المحتفى بها، على ما تبين لنا، في كتاب "طبيعة الإنسان" الأبقراطي المنحول.
لقد تحصل لنا، كذلك، أن نسبة النظام الخلطي الرباعي، أي نظام الدم، البلغم والمرتين، إلى أبقراط على الأصالة، نسبة باطلة بدلالة "المتن الأبقراطي"Corpus Hippocraticum نفسه. ذلك أن هذا "المتن" الضخم يحفل بثلاثة أنظمة على الأقل؛ مما لا يلتفت إليه سواد المؤرخين والمؤلفين في تاريخ الطب القديم. إن النظام الرباعي الذي ذكرنا لا يوجد في غير كتاب "طبيعة الإنسان" المنحول إلى أبقراط؛ لكن تزكية جالينوس لأصالة جزء من الكتاب من جهة، ومصادقة أجيال الأطباء على هذه التزكية في عقب جالينوس من جهة أخرى، يسوغان لنا التعامل مع الرباعي البوليبي بوصفه هو "نظام أبقراط"؛ ذلك أن ما يهمنا هو أبقراط التقليد، أي أبقراط كما عرفه المسلمون وغيرهم من طريق جالينوس وتلامذته الإسكندرانيين.
وبالجملة، فقد تحصل لنا أن "الأنثربولوجيا" الأبقراطية – التي شكلت مصدرا من مصادر جالينوس الرئيسة في إنشاء نظرية "الأمزجة" – مدينة من حيث منشؤها، بدرجة كبيرة، للخطابة السفسطائية. لكن تقدير هذا الأمر يستدعي منا، في الواقع، أن نتخلص من أوهام أجيال الفلاسفة والمؤرخين عن السفسطائيين، ومن سطوة مفاهيم "الخطابة" الأرسطية ابتداء.
2.2- أما فيما يتعلق بمسألة "مصائر الأبقراطية في العصر الهلنستي"، فقد عرضنا لأعمال "الشراح" الذي استغرق قرونا قبل مجيء جالينوس. وقد أظهرتنا أعمال هؤلاء "الشراح" على مفارقة عجيبة في تاريخ الأبقراطية، وتتمثل في مشاركة خصوم الأبقراطية أنفسهم، بهذا القدر أو ذاك، في إرساء دعائم التقليد "الهيرمينوطيقي" الذي لعب دورا مهما في تكريس هيمنة الأبقراطية خلال القرون الأربعة الأولى الفاصلة بين هيروفيليوس وجالينوس. وينطبق ذلك، بالأحرى، على موسوعة شروح جالينوس على أبقراط، بل على مفهوم "الشرح" ذاته، وعلى المهام المختلفة التي اضطلع بها في خضم عملية "إعادة البناء" التي باشرها العلامة الفرغامي في حقل الطب القديم. هذا من جهة، ومن تالية لا يسعنا إلا أن نلاحظ التلازم أو التصادي التاريخي الحاصل بين وتيرة الشروح المناوئة لأبقراط وبين تطورات الفلسفة والعلم الطبيعي، ولا سيما في حقلي التشريح والمنافع.
لقد عرضنا لوقائع "ثورة" الإسكندرانيين البطلمية في التشريح والمنافع، وأبرزنا كيف أسفر التشريح الهيروفيلي عن مراجعة غير مسبوقة لأرسطو "الطبيعي"، وكيف أنه صد عن كوسمولوجيا العناصر الأنبادوقلية، فضلا عن نظريتي "مركزية القلب"Cardiocentrisme و"الحرارة الغريزية"Chaleur Innée ؛ لكن هيروفيليوس لم يتخل عن نظرية "الأخلاط" في الحقل الباثولوجي؛ وهذه مفارقة الهيروفيلية العظمى، بخلاف إيرازيستراتوس الذي أعرض عن نظرية "الأخلاط" الأبقراطية بجميع نظمها، بل وجدناه قد انقلب على غائيةFinalisme أرسطو ومذاهبه الكبرى في "المنافع" التي ذكرنا، أي كوسمولوجيا العناصر و"مركزية القلب" ثم "الحرارة الغريزية".
لكن، على الرغم من أهمية هذه الفتوحات التاريخية، فإن الملفت للنظر أنها لم تتخلص كلية من نظرية "النفث"Pneuma . ومع أننا لا نملك، في الوقت الراهن، أية فرضية مقنعة بصدد هذه "المقاومة" التي أبداها "النفث" في تاريخ الطب القديم، فإن الأمر لا يمنعنا من التساؤل بالنسبة إلى إيرازيستراتوس على الأقل : ألا يرجع استئنافه لنظرية "النفث" إلى طبيعة النموذج "الحيلي" أو الميكانيكي الذي استلهمه في المناقضة على تشريح ومنافع القدماء ؟
عرضنا، كذلك، لتطورات مشهد النظر الطبي بعيد فشل "الثورة" التشريحية-الفيزيولوجية الإسكندرانية، ووقفنا على ظاهرة تناسل "الفرق" الطبية؛ كما وقفنا على وجوه اعتراض بعضها على أصول البردم الخلطي الأبقراطي، كما هو الحال مع المذهب "الحيلي" Méthodisme الذي أسس له تيمسون اللادقانيThémison de Laodicée . ولم تخف علينا خطورة هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الطب القديم. فقد تنزلت "إعادة البناء" الجالينية، عند أطباء المرحلة، بمنزلة "المنقذ من الضلال". لكن وجدنا، كذلك، أن "إعادة البناء" الجالينية قد توسلت بأمشاج فلسفية وطبية، وفي طليعتها كوسمولوجيا العناصر الأنبادوقلية-الأرسطية، فأورثت أجيال الأطباء "أزمة" قلنا إنها مركبة : "أزمة" التوتر الإبستمولوجي الدائم بين أرسطو الطبيعي وبين تشريح ومنافع الإسكندرانيين من جهة، و"أزمة" مماثلة بين تشريح ومنافع الإسكندرانيين وبين التقليد الإكلينيكي الأبقراطي القديم من جهة أخرى.
3.2- أما فيما يتعلق بمسألة "تجربة الطب العربي-الإسلامي"، فقد وقفنا على الدور المزدوج، الهيرمينوطيقي-البيداغوجي، الذي اضطلعت به "جوامع الإسكندرانيين" في تحصين أو "تمنيع" البردم الطبي الجاليني؛ وأبرزنا الدور الذي لعبه تلامذة الإسكندرانيين السريان، تراجمة ومؤلفين، في تعميق "الدرس" الإسكندراني لدى المسلمين من خلال ألوان "التزيد" أو التصرف الفائق في متن جالينوس الطبي. وقد تبين لنا أن هذا "الدرس" الإسكندرني-السرياني هو الذي قيض له أن يهيمن، في نهاية المطاف، على طب المسلمين. وفي هذا السياق، دللنا على الدور الخطير الذي لعبته أعمال حنين بن إسحق العبادي في الترجمة والتأليف، ولا سيما كتاب "المسائل في الطب". فلم يكن في مكنة المسلمين أن يجدوا "فاضل الأطباء" عاريا تماما من "الدرس" أو التأويل. لكننا حرصنا، في نفس الوقت، على التذكير بمعطى أصالة القول الطبي العربي-الإسلامي، لا على سبيل اجترار خطاب "الذخيرة" القومي أو الملي، بل من باب الاعتراف الموضوعي بالقيم العربية-الإسلامية المضافة في تاريخ الطب، والتي لا ينكرها إلا مكابر شديد العناد.
لقد انتهينا، كذلك، إلى نتيجة مفادها أن أصالة الطب العربي-الإسلامي، والقيم المضافة التي تحسب له في مختلف شعاب الطب القديم، هي من ثمار "عضوية" هذا الطب الفائقة أو ارتباطه الوثيق بأحوال المدنية العربية-الإسلامية المختلفة. وحاولنا أن ندلل على هذه "العضوية" من خلال نموذج مغربي-أندلسي في علم الجراحة؛ ويتعلق الأمر بالمقالة الثلاثين من كتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي القرطبي. والذي شجعنا على اختيار النموذج زعم لوسيان لوكليرك أن المقالة الثلاثين لا تعدو أن تكون انتساخا لكناش الطبيب الإسكندراني بولس الأجانيطيPaul d’Egine المعروف عند المسلمين بكتاب "الثريا". أما المتحصل من دراستنا لهذا النموذج المغربي-الأندلسي، فهو الدور الكبير الذي لعبته تجربة الزهراوي السياسية والعسكرية – كما استقرأناها من نصوص الزهراوي، ومن معطيات أخرى – في ميلاد المقالة الثلاثين الجراحية التي تعد، في الواقع، من فتوحات الطب المغربي-الأندلسي العظمى.
4.2- أما فيما يتصل بانتقادات الرازي وابن رشد لنظرية الأمزجة الجالينية، فقد ارتأينا أن نضعها في السياق العام لمذاهب الطبيب-الفيلسوف والفيلسوف-الطبيب في شعاب الفلسفة المختلفة؛ فتبين لنا أن هذه المذاهب تصادر سلفا على ممكنات الاعتراض، أو على أفق النقد الممكن في الحقل الطبي.
1.4.2- لقد وجدنا أن شبه الإجماع على إقصاء الرازي من دائرة "الحكمة" العربية-الإسلامية يرجع، بدرجة كبيرة، إلى تنكبه عن أرسطو؛ ووقفنا على وجوه هذا التنكب على "إمام الحكماء" في مسائل "الطبيعة" و"الأخلاق" و"العلم الإلهي"، وعلى مرجعية هذا التنكب التعددية، لكن مع غلبة المكون الأفلاطوني. إلا أن النكوص إلى "طيماوس"Timée أفلاطون أعاد الرازي إلى كوسمولوجيا العناصر الأنبادوقلية؛ بل وجدنا أن الرازي لا يرى أي تنافي بين هذه الكوسمولوجيا وبين مذهب "الهيولى" أو "الجزء الذي لا يتجزأ" الديموقريطي-الأبيقوري الذي انتحله. ولذلك، فإن حصيلة "شكوكه" على نظرية "الأمزجة" الجالينية لم تخرجه من دائرة هذه النظرية ذات الأهمية البردمية القصوى في طب جالينوس.
ومع ذلك، وجدنا أن "شكوك" الرازي على نظرية "الأمزجة"، وكذا القيم المضافة التي تحسب للرازي في تاريخ الطب الإكلينيكي، ولا سيما نظرية "التشخيص الفارقي"، قد تفسر بثلاث "محن" يمكن الاستدلال عليها من "متن" الرازي الطبي والفلسفي : محنة "الكيميائي"، محنة المتكلم "المشارك" ثم محنة الطبيب البيمارستاني. لقد أورثته هذه "المحن" اقتدار "النظر" الجدلي في الطب، كما أكسبته وعيا، قد لا نجد له نظيرا في الطب القديم، بأهمية التجربة والتجريب في إنشاء المعارف الطبية. وبقدر ما تدلنا هذه المحن الثلاث على بعض أوجه "التفاعل" الذي حصل بين المعرفة الطبية وبين منظومة المعارف العربية-الإسلامية الأخرى، تدلنا، كذلك، على حقيقة "عضوية" المعرفة الطبية عند المسلمين.
2.4.2- أما بالنسبة إلى ابن رشد، فقد وقفنا على أهمية المعطى البيوغرافي في تفسير "المنعطف" الأرسطي في مسيرة ابن رشد العلمية، ولا سيما في حقل الطب. فوجدنا أن النقود الرشدية لنظرية "الأمزجة" الجالينية تنتمي، في الواقع، إلى مخاض الرسو على أرسطو الطبيعي. وهذا يدلنا، مرة أخرى، على أفق النقد الممكن، لأن ابن رشد يستأنف كوسمولوجيا العناصر الأنبادوقلية من طريق "الكون والفساد" و"الآثار العلوية"، مثلما استأنفها الرازي من طريق "طيماوس".
وعلى الرغم من احتفاء بعض المؤلفين العرب المعاصرين بمنهج ابن رشد في التأليف الطب، فقد ألفينا أن هذا "المنهج" لا يخرج عن ثوابت "درس" حنين الإسكندراني-السرياني. وقد وقفنا، من خلال مختلف النصوص الطبية المتاحة، على ظاهرة "ازدواجية" ابن رشد الطبيب في نقوده لنظرية "الأمزجة" الجالينية. ولا يبدو أن الحال مع ابن رشد مختلف عن مثيله عند أبي بكر الرازي : كلاهما يمعن في النقد، أو في البعد عن جالينوس، لكن على خط دائري يفضي به، في نهاية المطاف، إلى حضرة "فاضل الأطباء".
ومع ذلك، أبرزنا أن أعمال ابن رشد لا تخلو من القيم المضافة بالنسبة إلى تاريخ الطب، كما تشهد على ذلك ترجماتها اللاتينية، وما أثمرته هذه الترجمات من نقاش نظري و"إبستمولوجي" عند طبقات الأطباء اللاتين؛ لكن يتعين الاعتراف بأن هذه الترجمات استفادت، بالدرجة الأولى، من شهرة "الشارح الأكبر" لأرسطو ومن منزلته من تاريخ "الرشدية اللاتينية". وفضلا عن ذلك كله، وجدنا أن لعدة ابن رشد الفقيه "الأصولي" الموحدي دخلا في مناقضاته التاريخية على جالينوس. ونعتقد أن ذلك دليل آخر على "تفاعل" المعارف العربية-الإسلامية، مثلما هو دليل آخر على "عضوية" المساهمة الرشدية في الطب.
وبالجملة، نستطيع القول إنه لم يكن في مكنة الأطباء المسلمين، سواء أتعلق الأمر بأبي بكر الرازي أم بأبي الوليد بن رشد أم بغيرهما، أن يشبوا عن طوق الجالينية كليا. ونحن واجدون أن العلة في ذلك تكمن في أنهم صادروا، منذ عهد حنين السرياني، على بعض "أمشاج" الفلسفة التي توسل بها جالينوس في عملية "إعادة البناء" التي باشرها في حق الموروث الطبي القديم. وعلى الخصوص : ما كان في وسعهم أن يتحرروا تماما من إسار "الأنثربولوجيا" الجالينية، ممثلة في نظرية "الأمزجة" ولواحقها من "كليات الطب"، دون أن يتحرروا مسبقا من إسار الكوسمولوجيا الأنبادوقلية المؤسسة لها. لكنهم تمكنوا، مع ذلك، من "تأزيم" المنظومة الطبية الجالينية على أكثر من صعيد، وهنا تكمن "أصالة" طائفة من أعمالهم التي ضمنت للطب العربي-الإسلامي نصيبه من "العالمية". بيد أنه إذا صح أن قوام هذه "العالمية" المستحقة هو "الأصالة"، فإنه لا مناص من الاعتراف، كذلك، بأن مناط هذه "الأصالة" هو "عضوية" العلم عند المسلمين. وشكرا...





#إلياس_بنعدادة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فرنسا: لجنة مكافحة الاحتيال ترصد وعودا مضللة في الخدمات الفن ...
- الرئة بـ-3 ملايين جنيه-.. اعترافات صادمة للمتهم بقتل -طفل شب ...
- سرقة 71 مليون دولار من بنك فلسطين في غزة
- حرب غزة: ترقب لرد حماس على مقترح الهدنة وتحذير أممي من -حمام ...
- للمرة الأولى.. إمبراطورية الغاز الروسي في مرمى سهام الاتحاد ...
- وسط جحيم خيام النايلون.. نازحو غزة محاصرون بين موجات الحر وت ...
- هل إعادة تشكيل وظيفتك حل للشعور بالرضا والتقدم في العمل؟
- مالمو تستعد لاحتضان -يوروفيجن- في أجواء تطغى عليها حرب غزة
- -لوموند-: مجموعات مسلحة نهبت نحو 66 مليون يورو من بنك فلسطين ...
- الوفد الروسي يحمل النار المقدسة إلى موسكو


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إلياس بنعدادة - المنحى الأنثربولوجي في الطب العربي-الإسلامي القديم...أطروحة لنيل الدكتوراه في الفلسفة تقدم بها الباحث خليد كدري