|
مانديلا ... و الدرس الواقعي..
اكرم هواس
الحوار المتمدن-العدد: 4297 - 2013 / 12 / 6 - 21:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مات الرجل... و انبرى الجميع للبكاء و النحيب و الكلام المنمق عن القيم الانسانية التي مثلها أيقونة السلام و النضال من اجل العدالة...هكذا فعل الجميع .... طبعا مع استثناءات قليلة.... و بتناسق غريب طغى هذا الحدث العظيم... اي وفاة الرجل و الهيجان العظيم للكلام عن مآثره... على وسائل الاعلام في العالم كله... لكن وسط هذا الكم الهائل من التغطية الإعلامية و كلام السياسيين و المثقفين و مناضلي اليوم و مناضلي الأمس من القوى اليسارية و الحكماء الليبراليين و الثوريين الماركسيين و المجاهدين المسلمين و كهنة الدين و بائعي الخضراوات و تجار الحرية و تجار الموت و العسكريين و قوى المجتمع المدني.... رغم كل هذا الدفق المتواصل من الكلام عن الرجل و تاريخه و نضاله... لم يخرج علينا احد ليخبرنا لماذا لا يفعل الآخرون مثلما فعل مانديلا و من قبله غاندي ..؟؟... لماذا ما تزال جنوب افريقيا تعاني من التمييز العنصري المتبادل بين البيض و السود و من صراعات تهميشية و احيانا دموية بين مجموعات قبلية و سياسية بل حتى بين أفراد عائلة مانديلا على ورثه...؟؟..
و اذا خرجنا قليلا من جنوب افريقيا فالمآسي كثيرة و أقربها زمنيا هي الصراعات القبلية و الطائفية في دولة افريقيا الوسطى و التي أدت الى مقتل الكثيرين حيث خرجت أرواحهم في ذات اللحظات مع روح مانديلا ثم لم تمر لحظات حتى دخلت قوات فرنسية لتعيد مرة اخرى دائرة الاحتلال و النضال و الاستقلال و الصراع بين القوى المنتصرة و القوى المهزومة...الخ من الدوامة التاريخية المعروفة.... الامر الذي حاول مانديلا ان يضع نهاية له....اما في موزمبيق .. روديسيا سابقا... و التي كانت نموذجا مصغرا لتجربة جنوب افريقيا في نظام الفصل العنصري و كذلك في آليات ازالة ذلك النظام.....فان الفصل العنصري عاد بسرعة ليطغى من جديد و لكن بعد ان تبادل الفرقاء أماكنهم حيث تم نهب و الاستيلاء على اغلب ممتلكات البيض على أساس تحقيق العدالة ... او هكذا كان التصور... و لكن الفقر و الحرمان ظل يحكم حياة الأغلبية من الناس و طبعا هؤلاء هم من السكان الأصليين و ربما انضم اليهم بعض البيض..
فيما الكلام عن التطورات في بقية افريقيا و بقية العالم حيث يحرص الجميع على إبراز الحزن على رحيل مانديلا فحدث و لا حرج.. مبدأ القوة و العنف و الهيمنة يسطو في كل مكان و اعمال القتل و الدمار لم تتوقف يوما بل في تصاعد مستمر منذ ان كان كان مانديلا في السجن و بعد ان خرج... و منذ ان كان مناضلا في سبيل حقوق السود و بعد ان اصبح رمزا للتعايش السلمي بين " الظالم" و "المظلوم "... و الان في لحظاته اعلان رحيله و غداً بعد رحيله... لم يتوقف هيجان القوى المطالبة برأس الاخر... و ما يزال مفهوم العدالة يختزل الى السعي الدموي و السياسي و الاجتماعي الى إلغاء الاخر و إلغاء التنوع و بناء مجتمعات تبني أسسها الفكرية و مناهجها الأخلاقية على تجارب قوقعية انعزالية طاردة لقيم الانفتاح و التعايش السلمي..
فما هي إذن قيمة الاحتفاء برمزية مانديلا و ما قيمة الحزن على رحيله اذا كان وجوده مثل غيابه لم يغير شيئا ... و لم يستطع ان يبني أساسا ثابتا لمسار مختلف في العلاقة بين المجموعات البشرية المختلفة في طبيعتها الوجودية و قيمها الثقافية و تجاربها التاريخية و المجتمعية..؟؟..
اذا كان هناك درس نتعلمه من هذا التناقض الهائل و الفاضح بين البكاء و النحيب على رمزية قيم عابرة للتجارب الانسانية التاريخية فإننا لابد ان نحاول دراسة العوامل و الأسس الواقعية التي تفاعلت عند مانديلا و قبله عند غاندي ... و طبعا قبلهما و بينهما و من المؤكد أيضاً بعدهما.. عند الكثير من الأنبياء و الرسل و الفلاسفة و المصلحين... مما صنع لحظات مشرقة ... و على الأقل مختلفة ... عن المسار العام للتاريخ الذي يهيمن عليه العنف و الثأر و الأنانية الذاتية و الجمعية...
هنا اود التذكير بمقالة كتبتها عن تشافيز بعنوان.. تشافيز و مشروع الواقعية الحالمة..http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=351450.. و مرد هذا التذكير هو رؤيتي ان اللحظات المشرقة هي وليدة الالتزام الأخلاقي بالواقع... هذا ما سميته بالواقعية الحالمة.. و ما يجمع تشافيز بمانديلا في هذا الإطار هو أنهما انطلقا من الواقع الاجتماعي للمجتمع و حاولا بناء جسر للتعاون و التعايش بين المجموعات الاجتماعية و قيمها الثقافية و السياسية المختلفة بدلا من محاولة تغيير هذا الواقع عن طريق فرض قيم ليس لها جذور واقعية حتى وان كانت هذه القيم ذات أهمية عليا..
تشافيز كان صديقا للتقدمي و الرجعي على السواء و جمع القيم الأخلاقية الدينية مع مبادئ الاشتراكية و هذا ما فعله مانديلا أيضاً... الرجل جمع حق المجموعات التي ارتبطت بالنظام العنصري مع المجموعات التي كانت ضحية لتلك السياسة... مانديلا قال: أنا ناضلت ضد هيمنة البيض كما ناضلت ضد هيمنة السود... أنا اريد مجتمعا يتمتع فيه الجميع بالمساواة...
إذن المساواة كانت أساس العدالة و الواقع كان أساس تلك المساواة المنشودة... لكن الواقع يجمع أيضاً المتناقضات و التي تشكل أساس الصراعات و لذلك كان لابد من حلم يتجاوز الصراع و إنسان حالم يتجاوز حدوده الذاتية حتى يمكن خلق لحظة إشراق ... و هذا ما يمكن ان يحققه الكثيرون اذا تجاوزوا النفاق و حولوا لحظة الحزن و البكاء الإعلامي الى وقفة واقعية و موقف صلب ... لكن لابد أيضاً من الاعتراف ان هذا المشروع هو امر ليس بالهين و هذا ما يؤدي الى الإحباط الذي يغذي الذاتية و الصراع و الدماء... و هذا ما وضع العراقيل امام تمدد إرث تشافيز و مانديلا و قبلهم غاندي و كل الأنبياء و الانسانيين و حاملي قيم التعايش السلمي و البناء و التطور الى الآخرين ... حتى أقرب هؤلاء الآخرين جغرافيا و سياسيا..
لابد من دراسة الطبيعة الطاغية لآليات التعويق و الانعزال و القوقعة و الذاتية المفرطة و قوتها في وقف قيم الانفتاح البناء و التعايش ... بجانب دراسة آليات تحويل الحلم الى تطبيق في ظل الواقع.. و هنا فقط يمكننا ان نحتفل او نبكي على الرموز من القلب و بصمت بدلا من ألبروباغاندا الإعلامية..
#اكرم_هواس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشعب يريد بناء الوطن...
-
حوار.. لحظة وداع..
-
اشكالية المفاهيم المؤسسة للثقافة العراقية..
-
المؤتمر القومي الكوردي...2
-
تونس... التي كانت خضراء..
-
الأفيون و المثقف ...مرة أخرى ..
-
المفاهيم ... أفيون المثقفين...؟؟!!..
-
المؤتمر القومي الكردي...1
-
الوهم العظيم...
-
الكون و الكونية و بينهما العشق..
-
الانقلاب ....نموذج ديمقراطي جديد..؟؟..
-
البرزاني وذاكرة الطائرات الحربية....
-
مندلي ما زالت تنتظر...3
-
مندلي ما زالت تنتظر...2
-
قصر... الأوهام..
-
مندلي ما زالت تنتظر....1
-
نكبة..... ام عيد النكبات...؟؟؟...
-
9 نيسان و الفتح العظيم..!!!؟؟؟!!!..
-
مأساة الفيليين ... و الاستثمار السياسي
-
تشافيز... و مشروع الواقعية الحالمة..
المزيد.....
-
الرئيس البرازيلي السابق بولسونارو يغادر المشفى بعد علاجه من
...
-
مسيّرة انقضاضية.. دلالات -أسلحة جديدة- لحزب الله
-
تطور خطير.. -الجهاد الإسلامي- تعلق على مقتل أحد قادتها بغارة
...
-
الشرطة التايوانية تلاحق نائبا منع البرلمان من تمرير أحد القو
...
-
صحيفة عبرية: انكشف ضعف إسرائيل بالحرب على أرضها لأول مرة وال
...
-
وسائل إعلام: فرنسا تدرب مجموعة استطلاعية من القوات -قد تكون
...
-
صحيفة بريطانية تفضح فشل القوات الأمريكية باختبار بسيط يعود ل
...
-
بعثة الاتحاد الأوروبي لتدريب القوات المسلحة في مالي تغادر رس
...
-
-أكسيوس-: مباحثات إيرانية أمريكية على مستوى رفيع في سلطنة عم
...
-
الاحتلال يعلن مقتل أحد جنوده شمال غزة ويقر بضراوة المعارك بج
...
المزيد.....
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية
/ جدو جبريل
المزيد.....
|