أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مجدي مجيد - الخصوصيات الإثنو-ثقافية في المغرب















المزيد.....



الخصوصيات الإثنو-ثقافية في المغرب


مجدي مجيد

الحوار المتمدن-العدد: 298 - 2002 / 11 / 5 - 03:03
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


 

الأسس التاريخية
 

إن هذا النص هو ترجمة للفصل السادس من الجزء الثاني لكتاب "مجدي مجيد" : "الصراعات الطبقية منذ الاستقلال", الذي تم نشره باللغة الفرنسية سنة 1987 منشورات "حوار" بروتردام بهولندا. تتعرض هذه الدراسة, كما يتضح من عنوانها, بالتحليل للأسس التاريخية لإشكالية الخصوصيات الإثنو-ثقافية بالمغرب.

و قد أنجزها مجدي مجيد شأنها في ذلك شأن الجزء الثاني من كتابه, على ضوء الانتفاضات الشعبية التي شهدتها بلادنا في شهر يناير 1984.

لذلك, فهي لم تكن تلبية لترف فكري ما لدى المؤلف, بل عملا نضاليا استجاب لحاجة موضوعية فرضتها تلك الانتفاضات و خاصة منها انتفاضات جماهير الشمال المغربي.

إن دراسة علمية لإشكالية الخصوصيات الإثنو-ثقافية بوجه عام, للخصوصيات الإقليمية ببلادنا بكل مدلولاتها و تنوعها من منطقة إلى أخرى / أو تقاطعها بين منطقة بين منطقة و أخرى, تعتبر ضرورة لا محيد عنها بالنسبة للثوريين المغاربة إن هم أرادوا بلورة استراتيجية ثورية ترتكز على المعطيات الأساسية لواقع بلادنا في مجمل تعقيداته.

 

كشفت انتفاضات يناير 1984 ظاهرة جد هامة تتعلق بتاريخ  المغرب و تشكل الوطن المغربي, ذلك أن امتداد الثورة الشعبية إلى مجموع الشمال المغربي (منطقة الحماية الإسبانية سابقا) و مستوى العنف الممارس و طول الانتفاضات من الناحية الزمنية و مشاركة فلاحي القرى القريبة من المدن, كلها تطرح بحدة مشكلا ظل لوقت طويل يعتبر كموضوع محظور في المغرب.

إن النقاش حول هذا المشكل ظل محاصرا لأن أغلب القوى السياسية تعتبر كل مطلب إثنو-ثقافي كمطلب " متخلف", إن لم يكن انفصاليا, لكن يجب الإشارة إلى أن بعض القوى السياسية بدأت تطرح المشكل "الأمازيغي" لكن باختزاله في مشكل لغوي, كما أن قوى أخرى تتكلم عن " تخلف" أو " تهميش" بعض المناطق, كالريف مثلا و تقترح برامج خاصة للتنمية الاقتصادية و الاجتماعية لهذه المناطق.

لكن كل هذه القوى تنطلق من تصور ممركز و يعقوبي للدولة يجد جذوره في نظرة خاطئة لتاريخ المغرب.

إن هذه النظرة التي هي نظرة البورجوازية الوطنية التي قادت الحركة الوطنية خلال الكفاح من أجل الاستقلال تعتبر البلاد ككيان تشكل منذ 14 قرنا و حكم منذ ذلك الحين بواسطة دولة مركزية كانت تتحكم في مجموع تراب البلاد, و بالتالي أدى ذلك إلى انمحاء الخصوصيات الإثنو-ثقافية.

إن الجناح الجدري وسط الحركة الوطنية, و لاعتبارات تختلف عن اعتبارات البورجوازية الوطنية – التي كانت تحاول فرض منظورها لتاريخ المغرب لخدمة محاولاتها إنشاء سوق وطنية و لإعطاء مشروعية لقيادتها للحركة الوطنية – إن هذا الجناح تبنى نفس التصور, و لعل ذلك بسبب هيمنة المنظور اليعقوبي الممركز للدولة داخله و رغبته في إقامة دولة عصرية و وضع أسس مشروعية هذه الدولة و استغلال مشروعية الدولة و نفوذها لفرض تعبيرات اقتصادية و اجتماعية تقدمية من فوق, و ذلك بهدف هزم الطبقات السائدة (الكومبرادور و ملاكي الأراضي الكبار).

إن الطبقات السائدة بررت سيطرتها باللجوء إلى نفس الإديولوجية لكن بعض الشرائح وسطها استمرت في تأكيد خصوصياتها و استغلت العلاقات الزبونية التي تربطها بسكان مناطقها الأصلية من أجل بناء قاعدة اجتماعية/ سياسية ترتكز عليها في صراعها من أجل تحسين موقعها وسط الطبقات السائدة.

إن إحدى الأمثلة الأكثر تعبيرا في هذا المجال يتمثل في البرجوازية السوسية (التي تسيطر على قطاعات اقتصادية هامة في الدار البيضاء و مدن كبيرة أخرى) التي تطور علاقاتها مع منطقتها الأصلية سوس عبر تنظيم شبكات من الزبائن تغطي المنطقة بأكملها. إن هذه الشبكات توفر للبورجوازية السوسية قاعدة اجتماعية/سياسية هامة و مفيدة بشكل خاص في المنافسة بين مختلف شرائح الطبقات السائدة, و بالخصوص البورجوازية الأقوى أي البورجوازية الفاسية.

كذلك الأمر بالنسبة للملاكين العقاريين شبه الإقطاعيين (الملاكون العقاريون الذين يستغلون أراضيهم في إطار علاقات ما قبل الرأسمالية: خماسة أو يستفيدون من المراعي الجماعية في إطار علاقات "الشراكة" أو بواسطة الرعاة) الممثلين سياسيا من طرف "الحركة الشعبية" تحت قيادة المحجوبي أحرضان و الذين يستغلون مشكل الهوية الإثنو-ثقافية لسكان الأطلس المتوسط و الكبير لخدمة مصالحهم السياسية و الاقتصادية. إن انسحاب المحجوبي أحرضان من الحكومة يمكن فهمه كتعبير عن معارضته لسياسة القمع التي تمارسها الدولة ضد بعض أشكال التعبير الثقافي الأمازيغي (اعتقال صدقي و منع مجلة "أمازيغ" و منع انعقاد الجامعة الصيفية بأكادير). و عن رفضه للسياسة "الليبرالية المتوحشة" في الميدان الاقتصادي التي تبنتها الحكومة بتوجيه من صندوق النقد الدولي و التي ستؤدي إلى تسريع وتيرة تغلغل الرأسمالية الاحتكارية الكومبرادورية في بعض المناطق التي كانت إلى أمد قريب خارج نطاق سيطرتها (جبال الأطلس, الريف... ).

هناك عدة عوامل ساهمت في جعل نقاش الخصوصيات الإقليمية مسألة متفجرة و في منع القوى التقدمية من تجاوز المنظور البورجوازي للوطن المغربي.

-         إن الاستعمار قد استغل هذه المسألة لمحاولة تقسيم الشعب المغربي و إعاقة توجيه كفاحه التحرري (و يجدر هنا التذكير ب"السياسة البربرية" المشهورة للمارشال ليوطي و الحماية الفرنسية, و خاصة الظهير البربري السيء الذكر).

-         التخوف من أن الإعتراف بالخصوصيات الإثنو-ثقافية قد تؤدي إلى تقسيم كفاح الشعب المغربي و طمس التناقضات الطبقية.

-         غياب وعي عميق بأن الوحدة الحقيقية للوطن المغربي لا يمكن أن تنبني على نفي الخصوصيات الإثنو-ثقافية و أن الإرتقاء إلى وحدة ترغب فيها حقا مختلف مكونات الشعب المغربي لا يمكن أن يتم فقط بواسطة مركزة الدولة, بل إن هذا الإرتقاء يتطلب معالجة ديموقراطية للخصوصيات لا تقتصر على الاعتراف بها كخصوصيات ثقافية, لغوية أو اقتصادية/اجتماعية بل تهيء كل الشروط لتنمية مستقلة و متحررة من كل أشكال القمع و الإضطهاد لهذه الخصوصيات التي تشكل مكونا أساسيا من تراث الشعب المغربي و تعبر عن التنوع الخارق للعادة و الغني الكبير للتراث التاريخي لشعبنا.

غير أن التصور البورجوازي المثالي للتاريخ المغربي لا يمكن أن يتم إلا على أساس مقاربة مادية –تاريخية لتاريخ المغرب و تفسير مادي تاريخي للخصوصيات الإثنو-ثقافية تبحث عن القاعدة المادية لهذه الخصوصيات ولاستمرارها عبر القرون وحيويتها, وهو ما سنحاول توضيحها في الصفحات التالية:  نعتبر أن قدرة  لغة وثقافة لمجموعة بشرية ما على الاستمرار في الحياة وأن الإحساس القوي بالوحدة التي تربط أعضاءها وتبلور وحدة سياسية وسط هذه المجموعة لا يمكن تفسيرها إلا بالكشف عن قاعدتها المادية التاريخية, وخاصة عبر استكشاف أنماط الإنتاج والبنيات الاجتماعية السائدة داخل هذه المجموعة الاجتماعية.

ومع إقرارنا بالعلاقة الجدلية ما بين الثقافة واللغة من جهة والبنية التحتية (نمط الإنتاج) من جهة أخرى, نعتبر أنه من المستحيل تفسير بروز وقدرة الخصوصيات الإثنو-ثقافية على الاستمرار في الحياة بعزلها عن تطور أسسها المادية في الإنتاج والبنيات الاجتماعية.

لا ننفي أهمية اللغة والثقافة في تشكيل الهوية بل حتى دورهما في تطور الإنتاج, لكن نعتبر أنه من باب السقوط في المثالية, إن لم يكن في العنصرية, حصر تحليل الخصوصيات الأثنو-ثقافية في الميدان الثقافي وفي "طبيعة مزعومة" أزلية وملازمة لبعض المجموعات البشرية.

إلا أن العلاقة ما بين اللغة والثقافة وأساسهما المادي ليست بسيطة, لأن البنية الفوقية تتمتع باستقلالية نسبية عن البنية التحتية الاقتصادية غير أننا نعتبر أن اندثار الأسس المادية لثقافة معينة لابد أن يؤدى عاجلا أم آجلا إلى انحلالها, أفلا يمكن وبهذه المسالة بالذات, تفسير كون ثقافة بعض المناطق في المغرب قد تحولت إلى مجرد فلكلور للسواح.؟

أن نظرة مادية-تاريخية للخصوصيات الإقليمية هي الكفيلة وحدها, في نظرنا, بتجاوز النظرة المثالية لمغرب متجانس وموحد (بالمعجزة!!) منذ أربعة عشرة قرنا (الفتح العربي – الإسلامي).أو النظريات التي تختزل البلاد في " عجاج " من القبائل تقاتل بعضها البعض إلى ما لا نهاية .

إن المادية التاريخية وحدها القادرة على استيعاب العلاقة الجدلية بين الأرض والثقافة بين الوحدة والتنوع .لا نزعم فيما يلي أننا قدمنا أجوبة نهائية لهذا المشكل المعقد في تاريخ المغرب والذي يشكل موضوعا ملتهبا وجد مهم في الصراع الأيدلوجي الراهن, سنكتفي بوضع اللبنات الأولى التي ستساهم في الدراسات التاريخية المعمقة (شريطة أن تبتعد عن الدروب المطروقة للبحث الأكاديمي الذي كثيرا ما يستسلم لمنطق الدولة" etat’ Raison d" أو لضرورات "إجماع وطني" مزعوم)  وفي توضيحها وإغنائها بل حتى تصحيحها .

من الواضح أننا نختلف مع منظري الإستعمار "لاتيراس" LA TERRASSE" ومونتي"  MONTAGNE وأضرابهما من المؤرخين المشهورين .ونظريتهم حول عداء نهائي وأزلي متوارث ما بين البربري والعرب, أو سكان الجبال وسكان السهول, أو "بلاد المخزن " و" بلاد السيبة" وذلك بكل بساطة لأن هذه النظريات لا تاريخية. كما أننا نرفض التحاليل الجزئية والموجهة لمادحي المخزن العصريين الذين يتربعون على الكراسي في الجامعات المغربية والذين لا يفعلون, في كثير من الأحيان , سوى نبش مؤلفات المؤرخين الرسميين للسلالات الحاكمة في البلاد وتغطيتها بغطاء من العلمية التاريخية المزعومة.

لقد أصبح من المألوف, بالنسبة للمؤرخين, تقسيم المغرب إلى "بلاد السيبة" (منطقة لا تخضع لسلطة المخزن ولا تؤدي الضرائب ) و" بلاد المخزن "

( منطقة تخضع للسلطة المركزية وتؤدي الضرائب). ومهما كانت الانتقادات التي وجهت لهذين المفهومين, ورغم توسع  أو انكماش " بلاد المخزن " حسب موازين القوى بين المخزن ( السلطة المركزية ) والقبائل الرافضة للسلطة, فإنه مما لاشك فيه, أن مناطق هامة من البلاد وقبائل عديدة كانت لا تخضع لسلطة المخزن وتعيش بشكل مستقل, وذلك لفترة طويلة من تاريخها على الأقل .

سنحاول في هذا النص أن نبين ما يلي :

-         أن" بلاد السيبة " التي تتطابق مع جزء من المغرب غير النافع " (إن تسمية " المغرب غير النافع " ترجع إلى ليوطي الذي كان يسمي بذلك كل مناطق البلاد ما عدا السهول الغنية التي سماها " المغرب النافع ") قد استطاعت أن تحافظ أكثر من " بلاد المخزن" على البنيات الاجتماعية القبلية الأساسية لوسائل الإنتاج (الماء والأرض أساسا) قاعدتها المادية. إن نمط الإنتاج الجماعي يشكل الأساس المادي للثقافة الخاصة لهذه المناطق, أن الاستمرار النسبي لنمط الإنتاج الجماعي في مناطق "السيبة " في نفس الوقت الذي كان يشهد مرحلة متقدمة من الانحلال والتفكك في مناطق" بلاد المخزن " هو الذي شكل القاعدة المادية للخصوصيات الاثنو –ثقافية في مناطق " بلاد السيبة" .

سنحاول رسم الخطوط العريضة للسيرورة التاريخية المعقدة التي أدت إلى الانحلال وتلاشي بنيات الإنتاج الجماعية في " بلاد المخزن" من جهة, واستمرارها النسبي في " بلاد السيبة " من جهة أخرى . نريد هنا أن نثير الانتباه إلى أننا لا نعني أن الأرض بأكملها بقيت أرضا جماعية في " بلاد السيبة ".

إن الدراسات التاريخية تبين أن الملكية الخاصة للأرض ظهرت بشكل مبكر نسبيا في الريف.لكن الملكية الجماعية ظلت مع ذلك هي السائدة : مناطق جبلية غير ملائمة للزراعة وحيث يكتسي الاقتصاد الغابوي الرعوي أهمية كبيرة في حين أن الغابات والمراعي أراض جماعية, ومن جهة أخرى ظلت الملكية الخاصة للأرض متعادلة نسبيا في الريف وشكلت قلة الأراضي القابلة للزراعة في المناطق الجبلية عائقا أمام تشكل الملكيات العقارية الكبيرة ووحدها الملكيات العقارية الصغيرة رأت النور: فلا حون يملكون قطعا صغيرة تمكنهم في أحسن الأحوال, من تلبية حاجيات عائلاتهم من المواد الفلاحية الأساسية : الحبوب , بعض الخضر...

في كتابه" دراسات في التاريخ المغربي " كتب جرمان عياش في مقال " المجتمع الريفي والسلطة المركزية المغربية " ما يلي :

"يمثل هذا المستوى ورغم تواجد الملكية الخاصة للأراضي الزراعية وتقسيم واضح للعمل, فإن القبيلة الأصلية تبقى هنا أكثر من أية منطقة أخرى الإطار الصارم لمجمل الحياة, إنها تشكل جسما اجتماعيا متميزا ينقسم إلى قخذات تنقسم هي الأخرى إلى مجموعات أسر يوحدها الإحساس بقرابة عائلية مشتركة . إن القبيلة تشكل أيضا وحدة جغرافية لها رقعتها المحددة بدقة والمكونة من أقسام متوازنة من أرض جماعية وغابات ومراعي "(ص 201-201 ) .ويضيف في مكان آخر :" أما فيما يخص الحياة السياسية فإنها تحدد بتوزيع الأراضي ما بين أعضاء القبيلة وفي المرحلة العصرية ليس كل هؤلاء الأعضاء ملاكين, لذلك لا يبقى أمام الفلاحين بدون أرض سوى لعب دور زبائن لمشغليهم, ومن جهة أخرى فإن مساحة الأرض التي يملكها الفلاحون تختلف من فلاح لأخر بدون شك, لكن نظرا لضيف المساحة المتوفرة وعدد الملاكين الذي ظل مهما, فإن هناك فلاحون أغنياء لكن ليس هناك ملاكون كبار.

ويفسر حرمان عياش أن منصب " الشيخ" يمنح بالانتخاب وأنها وظيفة مؤقتة لاعلاقة لها بالوراثة "ص 203" وينتخب الشيخ " من طرف الفلاحين المالكين, رؤساء الأسر , وذلك على مستوى مجموعة الأسر (الدوار).ويستطرد : "لكن يمكن أن نضيف في حالة الريف على الأقل , أننا أمام نوع من الديمقراطية, ديمقراطية الفلاحين الكبار, إذن ليس الأمر يتعلق بديمقراطية مطلقة, أولا لأن رؤساء الأسر وحدهم هم الأعضاء في المجالس باستثناء أبنائهم حتى لو كانوا متقدمين في السن, وثانيا وأساسا لأن الفلاحين بدون أرض لا يشاركون, ومع ذلك فإنها ديمقراطية واسعة نسبيا لأنه فيما يخص الأسر فأن تطابق المصالح أقوى من التناقضات, وحسب الشهادات فأن القرارات كانت جماعية في نفس الوقت لا يمثل الفلاحون المعدمون الجمهور الغفير مقابل بعض الملاكين الكبار, أن لم تكن صغيرة ولا يمكنها أن توفر الأساس الإقتصادي للإضطهاد العنيف الذي يتطلبه الاستغلال القاسي (ص 204), فليسمح القارئ على هذه الإستشهادات الطويلة, لكنها المعبرة عن البنيات الجماعية في منطقة الريف وما يجب ملاحظته هو غياب الملاكين الكبار وبنية الملكية متعادلة نسبيا وكذا بنيات قبلية ديمقراطية وحيوية.

إن الوضعية في " بلاد المخزن " كانت مختلفة تماما إن ظهور المخزن ذاته وإعادته إنتاجه يرتبطان ارتباطا وثيقا ببروز أوليغارشيا قبلية ,انتصبت بفضل سيطرتها على تجارة القوافل كطبقة وسخرت أداة هيمنتها: الدولة (المخزن), إن قوتها الاقتصادية والسياسية ستمكنها من إفراغ الهياكل القبلية  من أي مضمون : فعلى المستوى السياسي ستتحول هذه الهياكل الدمقراطية إلى هياكل وراثية جامدة, أما عن المستوى الاقتصادي , فإن أعضاء الأوليغارشيا القبيلة السائدة سيستحودون على الأراضي الجماعية, و هكذا ستشهد هذه المناطق ظهور الملاكين العقاريين الكبار الذين يشغلون عشرات إن لم يكن مئات الخماسة و الرباعة و العزابة و يفرضون عليهم استغلالا قاسيا. إن تجارة القوافل ستولد ازدهارا عظيما في المدن و ستتطور الحرف بشكل خارق للعادة و ستبرز للوجود طبقة من التجار الأغنياء, إن هؤلاء التجار و الاوليغارشيا القبلية و ما يمكن تسميته بأرستقراطية دينية (الشرفاء, رؤساء الزوايا) سيشكلون القاعدة الطبقية للمخزن. لكن لم يكن من الممكن أن يتوقف استمرار المخزن و الطبقات السائدة على تجارة القوافل وحدها, كان من الضروري أن ينتج فائض اقتصادي داخلي (Le surplus économique interne)  و أن تستحود عليه الطبقات السائدة و دولتها لضمان إعادة إنتاج نفسها, إن هذا الفائض يستخرج أساسا من الفلاحة و بشكل ثانوي من النشاط الحرفي, و بما أن المناطق الغنية من الناحية الفلاحية هي التي كانت قادرة على توفير هذا الفائض, فإن المخزن سيبسط نفوذه على هذه المناطق و ستحل فيها تدريجيا الملكية شبه الإقطاعية التي ستمكن من انتزاع الفائض من طرف الملاكين العقاريين و دولتهم, محل الملكية الجماعية.

و على عكس ذلك, لم يستطع المخزن غزو مناطق "السيبة" لأنه لم يكن يتواجد فيها ملاكون عقاريون كبار يمكن أن يجدوا في المخزن حليفا لهم يمكنهم من تدعيم سيطرتهم الاقتصادية و ترسيخ نفوذهم السياسي, و خلافا لذلك فإن البنيات  الجماعية, التعادلية نسبيا, تمكن القبائل من الدفاع عن أراضيها كرجل واحد, وذلك رغم كل التناقضات التي تخترقها.

وهكذا كانت قبائل " بلاد السيبة " تعيش في نوع من الاستقلال عن السلطة المركزية, مما ساعد بدوره على أن تبقى الهياكل القبائلية سائدة وأن تحافظ على حيويتها.إن ذلك لا يعني أن القبائل كانت تعيش في نظام استكفاء ذاتي(Autarcie) وأنها لم تكن تهتم بما يحدث في باقي مناطق البلاد, إن العلاقات الاقتصادية والثقافية مع القبائل الأخرى كانت هامة كما يشهد على ذلك نشاط الأسواق والمواسم والاحتفالات الأخرى .

أن هذه القبائل كانت ترى في كل ما من شأنه أن يهدد البلاد وسياستها تهديدا لحياتها, هي مما كان يؤدى إلى تعبئتها لصد العدو, وهكذا فإن إرادة الإستقلال عن السلطة المركزية عند القبائل كانت تجد أساسها في تشبث القبائل العميق بنياتها الاقتصادية التعادلية نسبيا وببنياتها السياسية الديمقراطية, في حين كانت القبائل ترى في المخزن وسلطة القواد الكبار وغيرهم من كبار ملاكي الأراضي المستغلين تهديدا لنمط عيشها ووجدانها وخطرا على بنياتها التعادلية والديمقراطية, إن إرادة الاستقلال هاته لا تعبر عن عدم الاهتمام بمصير البلاد ككل ولا عن رغبة في تحطيم العلاقات التي تجمعها بمكونات الشعب المغربي.

لقد رأينا أن البنيات الجماعية قد شهدت في مناطق المخزن تفكك وتحللا بطيئين وأن نمطا جديدا للإنتاج قد حل محلها وأن التمايزات الطبقية قد تطورت: ملا كون عقاريون كبار من جهة وخماسة في حالة شبه أقنان من جهة أخرى, إن التعامل الرأسمالي المباشر سيسرع هذه السيرورة وستوجه هذا التغلغل, أولا وقبل كل شيء , نحو" بلاد المخزن" وخاصة ما يسمى ب"المغرب النافع " وذلك لأسباب عدة : تواجد الدولة التي تضمن حدا أدنى من الأمن وهو شرط ضروري للنهب الرأسمالي الميركانتيلي, تواجد فئة من ملاكي الأراضي الكبار والتجار الذين يمكنهم أن يلعبوا دور الوسطاء مع القبائل في العمليات التجارية, غنى هذه المناطق, سيطرة علاقات الإنتاج تسمح بانتزاع فائض فلاحي .....ومن البديهي أن التغلغل الرأسمالي(عبر علاقات السوق) سيسرع عمليات تحطيم علاقات الإنتاج الجماعية لاستبدالها بعلاقات إنتاج جديدة خاضعة لهيمنة الرأسمال.

وهكذا فإن نتيجة التغلغل الرأسمالي يتمثل في إعطاء دفعة جديدة للتمايزات الطبقية داخل قبائل " المغرب النافع " على عكس ذلك, فإن "بلاد السيبة " ستظل محمية نسبيا من التغلغل الرأسمالي بسبب مقاومة الهياكل الاجتماعية وضعف الخيرات التي يمكن أن تجتذب الرأسماليين وصعوبة المواصلات وانعدام الأمن بالنسبة للأجانب, لذلك سيظل تطور البنيات القبلية الجماعية خاضعا لدينامية داخلية مما سيمكنها من الحفاظ على تماسكها و حيويتها.

و الحال أنه, إن لم يؤخذ ما أتينا على ذكره بعين الاعتبار, فإنه يصبح من المستحيل في نظرنا, تفسير كون قبائل "بلاد السيبة" بالذات (الريف, الأطلس, الجنوب ) هي التي كانت قادرة ليس على مقاومة الاستعمارين الفرنسي/و الإسباني و هزمهما في عدة معارك فحسب, بل أيضا أن تتوحد في حركات واسعة ذات طابع اقتصادي سياسي و عسكري, حركة استطاعت قيادة كفاح المقاومة المسلحة و بلورة و تجسيد مشروع مجتمعي جديد (و تشكل جمهورية الريف في العشرينات المثال الأكثر اكتمالا لذلك ).

إن هذه القدرات الهائلة على المقاومة و هذه القدرة على التوحد في حركة لا تقهر التي أظهرتها قبائل "بلاد السيبة" في مواجهة التغلغل الاستعماري لا يمكن تفيسرها بظهور قائد/معجزة ولا "المزايا الحربية" لهذه القبائل ولا بالطبيعة الجبلية للأرض, رغم أن كل هذه العوامل قد لعبت دورا لا يستهان به حققها الكفاح, إن السبب العميق لهذه الانتصارات يكمن في كون قبائل "بلاد السيبة" خلافا لقبائل "بلاد المخزن" استمرت في الحياة في إطار علاقات سياسية قبلية ديموقراطية نسبيا, هذه العلاقات السياسية التي تجد أساسها المادي في العلاقات الاقتصادية ما زالت تعادلية إلى حد كبير. إن هذه العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية هي التي شكلت قوة القبائل لأنها مكنتها من تجاوز خلافاتها الداخلية و توحيد كفاحها.

حقا, إن مناطق المغرب قاومت الاحتلال الاستعماري, فلم يرضخ الشعب المغربي في أية منطقة من البلاد عن خاطره للاحتلال, و لكن لابد من الاعتراف أن المقاومة الشعبية ظلت في "بلاد المخزن" تفتقد إلى الوحدة و أنها كثيرا ما اكتسبت طابع عصيانات و انتفاضات عفوية و أنها احتوت و حرفت عن مسارها من طرف الطبقات السائدة, فهل كان من الممكن, و الحالة هذه, أن يحدث غير ذلك حين يأخذ المرء بعين الاعتبار كون الأعيان و عدد من رؤساء الزوايا و كبار موظفي المخزن و من القواد و التجار الكبار و مختلف شركائهم كانوا قد تحولوا بواسطة نظام "الحماية" (Protectorat) إلى عملاء لمختلف الدول الرأسمالية الكبرى عملاء لا هم لهم سوى خدمة مصالح أسيادهم, مساهمين بالتالي في زرع البلبلة و اليأس وسط الجماهير الشعبية و متبطئين الهمم و مدافعين عن الاستسلام للعدو.

و الحقيقة أنها مسألة عظيمة أن تتفجر رغم ذلك, مقاومة عفوية و مشتتة في جميع مناطق البلاد تقريبا, من الدار البيضاء إلى وجدة و من الشمال إلى الجنوب, إن الحركة المسماة ب "الحافظية" التي أصبحت حركة واسعة في 1907-1908 و التي كانت تهدف إلى استبدال عبد العزيز بعبد الحفيظ فوق العرش, أن هذه الحركة معبرة عن التباس و حدود الحركات المقاومة ضد التغلغل الاستعماري في "بلاد المخزن" إن الجماهير الشعبية من مراكش إلى فاس, مرورا بالبوادي, رأت في هذه الحركة وسيلة لمقاومة التغلغل الاستعماري الذي أصبح خطرا دائما بعد سقوط الدار البيضاء في 1907 في يد الفرنسيين, و مع قضم التراب الوطني في الشرق من طرف الجيش الفرنسي, و كذا ضد تهاون و انحلال و تعفن المخزن أيام عبد العزيز, و قد اعتبر عبد الحفيظ سلطان الجهاد (و يعني هنا الكفاح ضد المستعمر الفرنسي و ليس بالمغزى الديني للكلمة) الذي عليه أن يقود المقاومة و يحل محل عبد العزيز الذي اعتبر كممثل لقوى الاستسلام و في هذا الصدد, فإن بيعة علماء فاس في يناير 1908 (و هي بيعة مشروطة تعبر عن الطموح إلى الحفاظ عن الاستقلال الوطني و كذا مطالب الحرفيين و التجار الصغار في المدن) لعبد الحفيظ واضحة تماما, و على العكس, فإن الطبقات السائدة, و على رأسها عبد الحفيظ قد طورت هذه الحركة ضد عبد العزيز مع العمل على إفراغها من مضمونها الوطني ككفاح تحرري و مقاومة للاحتلال و من مضمونها الاجتماعي كنضال ضد الامتيازات الفاحشة لكبار موظفي المخزن و الفوائد و التجار الكبار, إن عبد الحفيظ و التحالف الذي كان يسانده قد استفاد من هذه الحركة الواسعة لأخذ السلطة, و ما أن حققوا هذا الهدف حتى أداروا الوجه للمطامح الشعبية بتقديم التنازل تلو التنازل للاستعمار الفرنسي وصولا للاستسلام التام (توقيع عبد الحفيظ لمعاهدة الحماية 1912) و كذا بالتنكر لالتزاماتهم إزاء الجماهير الشعبية, إن سياسة عبد الحفيظ ليست بسياسة شخص معزول إنها سياسة الطبقة السائدة التي تملكها الفزع أمام طاقات المقاومة عند الجماهير الشعبية و التي كانت قد استسلمت أي الطبقات السائدة منذ زمن طويل للاستعمار وتحولت إلى مجموعة من عملائه ووسطائه الذين يشاركون في نهب واستغلال الشعب المغربي .

فما كان من شأن  الحركة الحافظية التي كانت على رأسها قيادة مثل هذه تتداخل مصالحها مع مصالح الدول الرأسمالية الكبرى

إلا أن تؤدي إلى الفشل و الاستسلام و ترك قبائل "بلاد المخزن" عرضة لليأس .

وخلافا لذلك فإن الكفاح في الجنوب المغربي ,تحت قيادة "الهيبة" في 1911 -1912 له طبيعة مختلفة تماما عن الحركة الحافظية التي ظلت تحت إمرة الطبقات السائدة المرتبطة بالمصالح الغربية. فأمام وصول الجيش الفرنسي إلى فاس في 1911 شهدت منطقت سوس هيجانا شعبيا, فقررت قبائل سوس والجنوب الصحراوي أن تنظم الكفاح ضد الاستعمار ونصبت على رأسها أحمد الهيبة ابن الشيخ  ماء العينين الذي كان قد قاد خلال سنوات طوال المقاومة ضد الفرنسيين في الصحراء الغربية والذي كان يتمتع بنفوذ روحي عظيم وسلطة سياسية كبيرة في جنوب المغرب والصحراء الغربية. وقد التحقت كل قبائل سوس والجنوب بكفاح "الهيبة"بحماس, وكانت حركة "الهيبة" أكثر جذرية بكثير من الحركة الحافظية, كما يشهد على ذلك برنامجها السياسي الذي يتشكل من العناصر التالية:

-         الجهاد ضد النصارى (النصارى كغزاة وليس كنصارى ).

-         لا للقواد !ولا للجابي !(الشخص المكلف بجمع الضرائب ).

-         لا للضرائب الغير القانونية.

إن حركة "الهيبة" كانت تكافح من أجل أن تختار القبائل قوادها وأن يتم إقالة القواد اللذين عينهم المخزن. إذن من الواضح أن   هذه الحركة كانت حركت القبائل التي كانت قد حافظت على هياكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التعادلية و الديمقراطية نسبيا والتي كانت تحارب في نفس الوقت الاستعمار و "الأوليغارشيا" المخزنية التي كانت تحاول فرض هيمنتها عليها, لقد كانت منطقة سوس تعاني من ظلم واغتصاب القواد وصراعاتهم اللامتناهية.

في كتابه "حركة الاحتجاج والمقاومة في المغرب 1860-1912" كتب إيدوند بورك:"إن الشروط الإقتصادية المأساوية في منطقة سوس التي فاقمها الصراع الدامي لرأس واد سوس وأزمة المشروعية الناتجة عن توقيع معاهدة الحماية, إن هذه العناصر أدت إلى انفجار ثورة شعبية جذرية, إن حركة الهيبة كانت جوابا على شروط خاصة بمنطقة سوس.

إن الموقف الغامض للقواد الكبار من حركة الهيبة يبين بوضوح الطبيعة الجذرية لهذه الحركة, وهكذا فإن القواد الكبار, وأمام الاستقبال المتحمس الذي خصته قبائل سوس والمناطق المجاورة لأحمد الهيبة والدعم اللامشروط الذي قدمته لكفاحه, إن هؤلاء القواد تظاهروا بدعمه في الوقت الذي استمروا فيه  برفقة المستعمرين الفرنسيين في حبك المؤتمرات ضده وفي نفس الإتجاه, وبينما استقبلت جماهير مراكش ببهجة وحماس تميز موقف التجارة والأعيان بالنفاق.

وكذلك ليس من باب الصدفة أن تكون قبائل الأطلس المتوسط, وخاصة قبائل بني مطير وبني مكيلد في طليعة الكفاح ضد الاحتلال, ليس من قبيل الصدقة أن تتمكن من تنظيم حركات سياسية وعسكرية قادرة على هزم الجيش الفرنسي في العديد من المعارك ومن بناء تحالفات مع قبائل أخرى في الأطلس المتوسط, خاصة شمال وشرق فاس, بهدف منع وصول إمدادات الجيش الفرنسي من الجزائر, ونظن أن مقاومة قبائل الأطلس المتوسط ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه من تنظيم ووحدة وبعد نظر سياسي وتضحيات واستماتة لو لم تكن القبائل تتوفر على هياكل توحدها وتعبئها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ليس من الضروري الإكثار من الأمثلة, يكفي التذكير بتجربة الريف حيث كانت مقاومة الاستعمار الأحسن تنظيما والأكثر فعالية والأطول زمنيا, لقد بينا أن العلاقات الاجتماعية في الريف كانت تتميز بالملكية الجماعية لجزء هام من وسائل الإنتاج (الغابات والمراعي...) بينما الأغلبية الساحقة من السكان فلاحون يملكون قطعا صغيرة تمكنهم في أحسن الأحوال من تلبية حاجياتهم الأساسية من المواد الفلاحية الأساسية, إذن لا يوجد هناك ملا كون أراضي كبار ولا خماسة معلمون ومستغلون إلى أقصى حد ولا تواجد لسيطرة المخزن, كانت هناك قبائل تعيش في حرية وتسير شؤونها في إطار مؤسسات ديمقراطية إلى حد ما... شيوخ على مستوى الفخدة ... إن هذه الهياكل مكنت من بلورة وحدة سياسية وتضامن في مستوى رفيع بين القبائل, خاصة في المراحل التي يتهدد فيها خطر خارجي استقلاليتها, وهكذا فإن عجز وارتشاء مخزن عبد العزيز سيدفع هذه القبائل إلى مساندة بوحمارة طالما كان يقدم نفسه كمدافعا عن البلاد في وجه الأطماع الأجنبية وطالما كان يحترم استقلالية القبائل, لكن بمجرد ما أن تبين بأنه كان يهدف إلى إخضاعه لسلطته وأنه كانت له علاقات مع القوى الأجنبية حتى وجه له الريفيون ضربات قاضية.

كذلك حين حاول الاسبان احتلال الريف كان رد الريفيين صاعقا حيث استطاعوا سحق جيش إسباني ضخم ومجهز تجهيزا فائقا, وذلك في أنوال سنة1921 مما أدى إلى انتحار قائده تم طرد الريفيون تحت قيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي, الإسبان في الشمال كله(باستثناء بعض المدن) وكيدوهم في 1923-1921 هزائم منكرة, كما تمت إقامة دولة ريفية تتوفر على إدارتها ونقدها وجيشها وتستند إلى قبائل الريف وجبالة المتحالفة التي كانت تمدها بالرجال والوسائل الضرورية للمعركة , ولم يتم هزم الريفيين , إلا أن كفاحهم ظل معزولا حيث كانت باقي مناطق المغرب تخضع في جزئها الكبير لسلطة الجيش الفرنسي الذي هب إلى نصرة الإسبان مستعملا وسائل عسكرية هائلة (الطيران والمدفعية ومئات الآلاف من الجنود تحت قيادة المارشان بيتان).

فمهما كانت عبقرية محمد بن عبد الكريم الخطابي العسكرية والسياسية فإنها لا يمكنها لوحدها أن تفسر الانتصارات الباهرة لحرب العصابات الريفية التي كانت ضعيفة التسليح. إن تفسير ذلك الشيء الذي جعل رجال القبائل يقفون وقفة رجل واحد, ذلك الشيء الذي جعلهم يقبلون التضحية بحياتهم للدفاع عنه, انه استقلاليتهم, وإنه الهياكل التي يعيشون في إطارها .

لنسجل هنا أن  حركة الهيبة إن كانت تجد جذورها في الشروط الخاصة بسوس التي تكمن, في العمق, في رفض القبائل لهيمنة القواد الكبار ورغبتها في الحفاظ على استقلاليتها وعلى نمط حياتها وتنظيمها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي, فإن هذه الحركة لم تعتبر نفسها أبدا كحركة خاصة بمنطقة سوس وعلى عكس ذلك فإنها أخذت على عاتقها الكفاح ضد المستعمر أينما وجد وحاولت في نفس الوقت الكفاح ضد هيمنة المحتل والمخزن, لقد وضعت هذه الحركة نفسها, منذ البداية, كحركة لها اهتماما وتطرح مطالب تهم الوطن المغربي كله وليس كحركة إقليمية, ويمكن تكرار نفس الاعتبارات بالنسبة لمقاومة بني مطير وبني مكيلد, أما بالنسبة للثورة الريفية فرغم إقامة الجمهورية الريفية , كان هدف تحرير البلاد من سيطرة الاستعمار دائما حاضرا في قلب كفاح الريفيين, زد  على ذلك أن هجوم الريفيين على المراكز العسكرية الفرنسية في المنطقة الجنوبية (منطقة الحماية الفرنسية ) هو الذي استعمل كتبرير للحملة العسكرية الفرنسية ضد محمد بن عبد الكريم الخطابي.

لقد حاولنا تبيان أن حركة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الأكثر قوة واتساعا وعمقا انفجرت في ما يسمى " بلاد السيبة " ولكنها لم تكن أبدا  حركات انفصالية ,بل على العكس من ذلك, كانت هذه الحركات هي الأكثر تشبتا باستقلال المغرب ووحدة ترابه وهي التي قدمت أكبر التضحيات في سبيل ذلك, وهكذا فإن مشكل هذه المناطق لم يطرح أبدا كمشكل انفصال لكن فقط كمشكل إقامة وحدة ديمقراطية حقا بين مختلف المناطق المحررة من نير الاستعمار ومن النظام المخزني المستغل والمضطهد.

لقد لاقي الاستعماريون الفرنسيون أكبر الصعوبات لاحتلال جبال الأطلس وذلك لنفس الأسباب المذكورة أعلاه لا ضرورة هنا للتذكير بكل المعارك التي خاضوها والهزائم التي لحقتهم من طرف قبائل لاشيء كان يؤشر أنها ستتوحد, ستكتفي هنا بذكر أن ليوطي الذي كان يعرف الهياكل القبلية معرفة عميقة وكان يبدي براعة فائقة في سياسته إزاء القبائل , قد سن ظهيرا في 1919 يمنع بيع الأراضي الجماعية ويخضعها لسيطرة إدارة الداخلية. ونعتقد أن هذا الظهير كان يرمي إلى هدفين :

-         أولا في المناطق الخاضعة للسلطة المدنية, كان الهدف هو فرض مراقبة الدولة (أي السلطات الاستعمارية)

على  هذه  الأراضي ,  وذلك  بفرض  تخصيص  جزء   منها  للمعمرين  ( أراضي  الاستعمار الفرنسي  

Terre de colonisation officielle) .

-         أما المناطق الخاضعة للسلطة العسكرية (الجبال) فإن الهدف كان محاولة الحفاظ على السلام في الجبال بواسطة الحفاظ على البنيات الجماعية,                                                                                       

وخاصة الملكية الجماعية للأراضي (المراعي) التي لا تخفي أهميتها الحيوية بالنسبة للقبائل وذلك في إطار السياسة " البربرية" للحماية.

وعلى العكس تم إلحاق الغابات بملكية الدولة  بهدف تسهيل استغلالها من طرف الشركات الرأسمالية , لكن السلطات كانت تتعامل معها بمرونة حيث كانت تتساهل مع القبائل فيما يخص جمع الحطب وهكذا, فحين كانت المرحلة الاستعمارية تحدث ثورة في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية في" المغرب النافع" حيث كان الإنتاج الرأسمالي يتطور وضيعات المعمرين, شركات صناعية, شركات الخدمات, المقاولات في البناء والأشغال العمومية ...وكانت التمايزات الطبقية تتعمق والفوارق الطبقية تتفاقم فيما ليوطي كان  يحاول أن يجمد الهياكل الاجتماعية في الجبال, هذه الهياكل التي ظلت محافظة على نفسها نسبيا في المراحل السابقة للاستعمار, لكن حدث تغير مهم, فلأول مرة أصبحت السلطة المركزية قوية إلى حد ليس هزم القبائل فحسب , بل تجريدها من السلاح وإخضاعها علاوة على ذلك, فإذا لم يتم إدخال نمط الإنتاج الرأسمالي بشكل كثيف لهذه المناطق, فإن تغلغل البضائع إلى هذه المناطق سيؤدي تدريجيا إلى تخريب الإنتاج الحرفي للقبائل وضرب التوازنات والتكامل الذي كان بينها, وعرفت منطقة الحماية الاسبانية , وخاصة الريف, نفس السيرورة , لقد حافظت اسبانيا على نفس البنية الاجتماعية والإدارية الموروثة عن محمد بن عبد الكريم الخطابي, وفي بعض الأحيان , ظل نفس الرجال في مناصبهم, ولم تحاول اسبانيا استغلال الريف من الناحية الاقتصادية, لذلك ظلت مناطق المعمرين محصورة في مناطق جد محدودة : منطقتي لوكوس وملوية السفلى (في المجموع بعض عشرات الآلاف من الهكتارات) . ولقد لعب الطابع المتخلف للرأسمالية الاسبانية دورا هاما في الحفاظ على الهياكل القبلية, لكن سيرورة الانحلال ستبتدئ تحت ضربات تغلغل البضائع الأجنبية, لهذه الأسباب ستشكل الانتفاضات التي ستقع غداة الاستقلال الشكلي في 1956 تكرارا خافقا وضعيفا لحركة المقاومة ضد الاستعمار في بداية القرن.

لقد أصبح الصراع غير متساو وغير متكافئ بين دولة عصرية ممركزة وقبائل مجردة من السلاح وخاضعة, قبائل فقد  نمط حياتها أساسا حيويته.

إن انتفاضة الريف 1958 –1959 في نفس الوقت الذي تعبر فيه عن ضخامة وخصوصية المشاكل التي تواجه المنطقة وفي الوقت الذي تشهد فيه من جديد على تراثها النضالي الخصب, إن هذه الانتفاضات سحقت بسرعة للأسباب الواردة أعلاه ولأنها ضلت معزولة بسبب المفاهيم الخاطئة للجناح الجدري في الحركة الوطنية .

مع الحقبة الاستعمارية الجديدة ستنفتح مرحلة من تسارع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي. ففي " المغرب النافع" تسارع تحطيم أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية واستبدالها بنمط الإنتاج الرأسمالي التبعي وعرفت الطبقات الاجتماعية التي كانت قد ظهرت في المراحل السابقة مرحلة جديدة من التهيكل ومن اكتساب الوعي بذاتها وبمصالحها .

وعلى العكس من ذلك, فإن تحطيم الأنماط ما قبل الرأسمالية في " المغرب غير النافع " (هذا التحطيم الذي كان أقل تقدما في هذه المناطق مقارنة مع " المغرب النافع ....) لم يؤدي إلى استبدالها بنمو رأسمالي تبعي و قد نتج عن ذلك ما يسمى ب"تهميش" هذه المناطق أي إلى عجزها البنيوي (في ظل الهياكل الحالية) على ضمان الحد الأدنى الضروري لحياة السكان الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى الهجرة إلى مناطق أخرى أو إلى الخارج بحثا عن العمل. و هكذا فإن جزءا هاما من مداخيل السكان في الريف و سوس مثلا توفره هجرة اليد العاملة.

 إن هؤلاء العمال الريفيين و السوسيين أو غيرهم الذين يعيشون في أوربا يندمجون في الصراع الطبقي للعمال الغربيين في نفس  الوقت الذي يعانون فيه من الاضطهاد في علاقتهم مع المخزن المسؤول عن اجتثاتهم من أرضهم و تهميش مناطقهم الأصلية, و مما لا شك فيه أن الفقر الذي يفرض على الريفيين أن يمارسوا نشاطات هامشية (مثل التهريب من سبتة و مليلية و تجارة الكيف) يلعب دوره في حقدهم و ثورتهم كمنطقتين ضد جهاز الدولة المرتشي و الجائز و المدمر.

و كخلاصة, نعتبر أن الأسس الموضوعية لنمو وعي طبقي توجد في "المغرب النافع" ونعتبر أن وعي الجماهير في هذا الجزء من البلاد يتطور أساسا كوعي طبقي, و ذلك رغم أن هذا الوعي لم يستطع لحد الآن أن يجد تعبيره السياسي القائم.

و على عكس ذلك, هناك عوامل موضوعية, في المناطق الأخرى, تجعل أن الوعي الطبقي, رغم كونه غير غائب محجوبا, في كثير من الأحيان, بوعي إثنو-ثقافي يشكل في كثير من الأحيان رد فعل دفاعي لسكان المناطق المهمشة و الخاضعة لسيرورة التصحر و التي تعاني ثقافتها و لغاتها من احتقار الأفكار السائدة, حقا إن الأسس المادية للخصوصيات الإثنو-ثقافية (أي أنماط الإنتاج و الهياكل الجماعية ) قد دمرت إلى حد كبير من طرف الرأسمالية التبعية, لكن الذاكرة الجماعية ظلت حية و التشبت باللغة و الثقافة الخاصتين يساهم في الحفاظ على التراث التاريخي المجيد حيا في أعماق القلوب.

إن البديل لا يتمثل في اعتبار هذا التراث متخلفا و متجاوزا و بالتالي  إدانته باسم "العصرنة" الرأسمالية, كما لا يتمثل, على العكس, في تجميله و إحيائه كما كان و ذلك في ظروف تاريخية و مخالفة تماما.

إن البديل لا يتمثل أيضا في الاعتراف بثقافات و لغات هذه المناطق فقط, في نفس الوقت الذي تستمر فيه "اليد الخفية" للرأسمالية (و التي تأخذ تحت سماء بلادنا شكل قمع قاس في كثير من الأحيان) في تحطيم ما تبقى من هياكل اجتماعية جماعية و من تضامن و مساعدة متبادلين و في زرع اليأس و تفكيك مجتمع بأكمله و اجتثاته من أرضه, و إخضاعه لميكانزمات التهميش.

إن البديل المعقول الوحيد يكمن في وحدة كفاح الجماهير الكادحة المضطهدة في هذه المناطق المهمشة من أجل الخصوصيات الإثنو-ثقافية مع كفاح الطبقات الشعبية الأساسية (الطبقة العاملة و الفلاحون) و مجموع الجماهير الشعبية في البلاد من أجل تحطيم السيطرة الإمبريالية و الاستغلال الرأسمالي, لكن التظافر الضروري بين هذين النضالين لن يحدث إلا إذا تبنت القوى الثورية الطموح العميق للجماهير الشعبية في المناطق المهمشة إلى حكم ذاتي يمكنها من ازدهار ثقافتها و لغتها و شخصياتها الخاصة كمكونات قادرة على الإخصاب و  إغناء التراث المشترك لشعبنا في إطار جمهورية المجالس الشعبية.

إن بنية الطبقات السائدة هي المسؤولة في نفس الوقت, على الاستغلال و الاضطهاد الطبقيين و على تهميش و تصحر و تفقير بعض المناطق و اجتثات سكانها. و هنا بالذات يكمن الأساس للتداخل ما بين الصراع الطبقي و النضال من أجل الخصوصيات الإثنو-ثقافية.

            

 



#مجدي_مجيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مشتبه به في إطلاق نار يهرب من موقع الحادث.. ونظام جديد ساهم ...
- الصين تستضيف محادثات بين فتح وحماس...لماذا؟
- بشار الأسد يستقبل وزير خارجية البحرين لبحث تحضيرات القمة الع ...
- ماكرون يدعو إلى إنشاء دفاع أوروبي موثوق يشمل النووي الفرنسي ...
- بعد 7 أشهر من الحرب على غزة.. عباس من الرياض: من حق إسرائيل ...
- المطبخ المركزي العالمي يعلن استئناف عملياته في غزة بعد نحو ش ...
- أوكرانيا تحذر من تدهور الجبهة وروسيا تحذر من المساس بأصولها ...
- ضباط وجنود من لواء المظليين الإسرائيلي يرفضون أوامر الاستعدا ...
- مصر.. الداخلية تكشف ملابسات مقطع فيديو أثار غضبا كبيرا في ال ...
- مصر.. الداخلية تكشف حقيقة فيديو -الطفل يوسف العائد من الموت- ...


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - مجدي مجيد - الخصوصيات الإثنو-ثقافية في المغرب