أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عيداروس القصير - إمبريالية عصرنــا















المزيد.....



إمبريالية عصرنــا


عيداروس القصير

الحوار المتمدن-العدد: 1192 - 2005 / 5 / 9 - 11:48
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ينتهج النظام الرأسمالي العالمي ويطور – اعتباراً من منتصف السبعينيات وحتى الان – استراتيجية جديدة لتنظيم وتحفيز تراكم رأس المال تقوم في خطها الأساسي العام على تكثيف استغلاله وتشديد قبضته على الطبقات العاملة والكادحة في العالم بأسره، وعلى الشعوب والأمم المقهورة والمضطهدة في أطراف النظام أو ما يسمى بالعالم الثالث.

إختلفت الاستراتيجية الجديدة إلى حد بعيد عن الاستراتيجية التي انتهجتها الرأسمالية العالمية خلال الربع قرن التالي للحرب العالمية الثانية والتي نفذت تحت ضغط توازن قوى كان – آنذاك – في صالح قوى العمل الأجير في مراكز النظام وصالح شعوب الأطراف التي نهضت لتحقيق تحررها عن الاستعمار واكتساب حقها في التطور الاقتصادي والسياسي المستقل.

هذا الخط العام للاستراتيجية الجديدة جسدته التوجهات والسياسات والآليات المشتركة التي قررتها الدول الرأسمالية الصناعية المسيطرة والتي اشتهرت باسم " العولمة " للعدوان على مكتسبات النضال العمالي ضد رأس المال، وهى الاصلاحات المعروفة في وسائل الاعلام والكتابات الأكاديمية في هذه الدول ب " دولة الرعاية الاجتماعية " . كما جسده العدوان على إنجازات حركة التحرر الوطني (على تواضعها) وما رافقها من مكتسبات اقتصادية اجتماعية نالتها الطبقات الشعبية في الأطراف بفضل نضالها ، وذلك عن طريق فرض التكيف الهيكلي على شعوبها لتلائم أوضاعها الاقتصادية والسياسية بصورة أفضل متطلبات سيطرة مراكز النظام وتراكم رؤوس أموالها. كما تكشف عنه أيضا ممارسات كل من الدول الصناعية المسيطرة على حده – سواءا من داخل أو من خارج إطار العولمة – لتعظيم نصيبها الخاص في الأسواق العالمية ونفوذها السياسي والعسكري على دول الأطراف ، ومن ثم، تعظيم نصيبها في فائض كادحي العالم بأسره والحفاظ على وضعها الاحتكاري في الاقتصاد العالمي ووضعها السائد أو المسيطر في السياسة العالمية.



إحياء الاستعمار القديم

إنها استراتيجية هجومية تقوم في جوهرها علي إعادة أوضاع الطبقة العاملة وقوى العمل الأجير من حيث فرص التوظف وشروط العمل والضمانات الاجتماعية إلي أوضاع ما قبل ما سمي بدولة الرفاهية أو الحل الوسط التاريخي بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية، بعد أن تقوضت الشروط التي فرضته على مراكز النظام. كما تتوخى إعادة أوضاع الدول المتخلفة اقتصادياً والتابعة من حيث مدى تبعيتها الاقتصادية وخضوعها السياسي والعسكري للدول المسيطرة إلى عهد ما قبل استقلال المستعمرات وحصولها على استقلالها السياسي. فهي استراتيجية تؤدى نفس الدور الاستعماري القديم سواء بالنسبة للمراكز أو الأطراف.

إنحسرت في المراكز المكتسبات والضمانات الاقتصادية والاجتماعية للطبقة العاملة وأغلبية الأجراء الآخرين وستنحسر أكثر – ما لم تشتد مقاومتهم – لتقتصر على أقلية من العاملين الأجراء كما كان الوضع قبل الحرب العالمية الثانية. أما في الأطراف فلم تعد المراكز الإمبريالية تكتف باستغلالها والسيطرة على مقدراتها من خلال آليات التبعية الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية وتكريس الاستراتيجيات المحلية (في الأطراف) المبقية على أسس التخلف والتبعية الاقتصادية اعتماداً على شرائح الرأسمالية المحلية المرتبطة بها كشريك أصغر ووكيل للاحتكارات العالمية، وإنما تستهدف السيطرة المباشرة على تخطيط وإدارة شئونها الاقتصادية والسياسية والثقافية لتكثيف نهب مواردها الطبيعية ولامتصاص الحد الأقصى الممكن من فائض عمل كادحيها وتشديد شروط احتجاز تطورها إبقاءاً على وضعها الاحتكاري القائم في الميادين الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والإعلامية.

ولم يؤد فرض التكيف الهيكلى على دول الأطراف إلى قيام دول المراكز بنفس الدور الاستعماري القديم من حيث المضمون فحسب بل وأيضاً عودة شكل الاستعمار القديم، أي الإخضاع المباشر بالقوة العسكرية. هذا ما حدث مرات عديدة وفى قارات مختلفة آخرها وأشهرها وأخطرها حرب إخضاع صربياً واحتلال كوسوفو 1999، وحرب الحلف الثلاثيني بقيادة أمريكا ضد العراق 1991 وحصاره 13 عاماً، واحتلال أفغانستان 2001 والعراق 2003. وقد أصبحت الدول العربية والدول الإسلامية المجاورة والقريبة منها أهدافاً معروفة ومعلنة للعدوان العسكري باعتبار موقعها الإستراتيجي وغناها بالموارد الطبيعية خاصة البترول، بل باتت كافة الدول المتخلفة اقتصادياً والتابعة في القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أهدافاً محتملة للعدوان العسكري . لم يبدأ هذا التغير في السياسة الإمبريالية بالحروب التي شرعت أمريكا في خوضها للحفاظ على إمبراطوريتها وتوسيعها وتوطيدها تحت اسم الحرب على الإرهاب، وإنما بدأ قبل ذلك في إطار تحالف الدول الإمبريالية المسمى بالعولمة للإخضاع الاقتصادي والسياسي والعسكري لكافة دول الأطراف إخضاعاً مباشراً من خلال استراتيجيات التكيف الشامل – وليس الاقتصادي فقط – الذي وضعت أجندته قبل سنوات طويلة من أحداث 11 سبتمبر التي تبرر بها أمريكا وأبواقها عدوانها الفعلي أو المشرَع ضد كافة شعوب العالم، في حين أنها نتيجة – إن لم تكن وسيلة مصطنعة – للمخطط الاستعماري الأمريكي.

على الصعيد الاقتصادي بدأت عمليات فرض التكيف الهيكلي اعتماداً على وصفات وإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واستغلالاً لمديونية دول الأطراف، وفشل برامج التنمية التي اتبعتها مهتدية في ذلك أصلا بفكر وتوجهات هاتين الأداتين الأساسيتين لسيطرة رأس المال الدولي. إلا أن اكتمالها بالصورة التي بلغتها الآن اقتضى ظهور المنظمة الأهم والأقدر على فتح الأسواق وفرض شروط غير متكافئة للمنافسة التجارية على دول الأطراف وتوطيد احتكارات المراكز وشركاتها متعدية الجنسية، وهي منظمة التجارة العالمية. هذا النمط من التنظيم الاقتصادي والتجاري العالمي ااذي يفرض على الدولة المتخلفة اقتصادياً أكثر شروط التبادل إجحافاً وأكثرها تعارضاً مع متطلبات نموها الاقتصادي ومع أهم حقوق الإنسان، لا يمكن أن يعمل ويستمر بدون استخدام القوة العسكرية، وهو ما اقتضى حزمة كاملة من التدابير السياسية والعسكرية والتوجهات الإيديولوجية والثقافية فيما يسمى بالنظام العالمي الجديد.

لقد بات حلف الناتو الذراع العسكري لمنظمة التجارة العالمية وما حدث في الخليج ويوغوسلافيا – يؤكد هذه الحقيقة([1])

كما بات التدخل في دول الأطراف والعدوان العسكري عليها ، بل واحتلالها إذا لزم الأمر، لفرض هذا النمط الجديد من الاستعمار القديم أموراً مقررة بمقتضى القوانين الداخلية في أمريكا وغيرها من الدول الإمبريالية ومكتسبة للشرعية الدولية ممثلة بإلأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي؛ اللذين صارا أداتين للإمبريالية العالمية. فالتدخل والعدوان والاحتلال العسكري وارتكاب أفظع الجرائم ضد البشرية صارت أموراً مقررة وتحظى فضلاً عن ذلك - وتحت تأثير وسائل الإعلام الإمبريالية – بقبول نسبة يعتد من " الرأي العام " تحت ذرائع منع انتشار أسلحة الدمار الشامل ومكافحة " الإرهاب " وحماية حقوق الإنسان والأقليات والحريات الدينية ونشر الحرية والديمقراطية .

وخلافاً لما قد يتصوره البعض لا يعيد التاريخ نفسه بظهور مرحلة جديدة في تاريخ الرأسمالية يبرز فيها الاستعمار القديم مرة أخرى. فلم يكن تفكك النظام الاستعماري في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي نهاية للاستعمار والمرحلة الإمبريالية، وإنما كان استقلالاً سياسياً غير مستند إلي استقلال اقتصادي، أي استقلالاً سياسياً منقوصاً، إحلالا للاستعمار الجديد محل الاستعمار القديم في أغلب الدول المستقلة حديثاً، استبدالاً للدول التابعة الخاضعة لتقسيم العمل الاقتصادي الدولي الامبريالي بالمستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة. كما لم تخل حقبة الاستعمار الجديد من وسائل الاستعمار القديم . فليس هناك خط فاصل نهائي بين شكلي الاستعمار الجديد والقديم. ولقد تعرضت الكثير من الدول المستقلة سياسياً للعدوان العسكري الاستعماري. ألم تتعرض مصر نفسها للعدوان الثلاثي 1956 وللعدوان الاسرائيلي 1967 ؟

الأزمة الاقتصادية الهيكلية

لقد نشأت المرحلة الجديدة كالمراحل السابقة في تطور الرأسمالية العالمية – وفى الأساس – عن تطور التناقضات الأساسية للرأسمالية تطوراً أصبحت معه الاستراتيجية المتبعة لتنظيم تراكم رأس المال ، بما فيها وسائل تسيير قوة العمل والسيطرة على الصراع الطبقب في مراكز النظام (ومنها دولة الرعاية الاجتماعية) وأسس وآليات التبعية القديمة والمجددة في أغلب المستعمرات السابقة ، متعارضة مع احتياجات إعادة الإنتاج الموسع بل ومهددة بانهيار اقتصادي. أي نشأت كرد أو وكمحاولة لتجاوز أزمة هيكلية في التراكم الرأسمالي . لكن الرد في بعض محاوره وآلياته الأساسية قد قررته أيضا – بمعنى أتاحت تطبيقه – أزمة أخرى كانت تتفاقم وتقترب من ذروتها في ذات الوقت، وهى أزمة الحركة العمالية والاشتراكية العالمية وعلى رأسها أزمة النظم المسماة " الاشتراكية " التي كانت تنزلق حثيثاً نحو إعادة الرأسمالية جراء عدم قطع قيادتها مع قيم الحضارة البرجوازية وتقليد مناهجها في بناء الاقتصاد وإدارته، وكذلك أزمة نظم الحكم الوطنية " الشعبوية " ااتي تآكلت وترنحت لأنها لم تكن بالطبع مستقلة اقتصادياً عند استقلالها السياسي، ومع ذلك فان مناهجها كانت غير جذرية في التوجه نحو بناء قاعدة صناعية تقنية للنمو الذاتي ، علاوة على ضعف تماسكها وصمودها أمام ضغوط الإمبريالية وضرباتها.

لقد أصبح تطور الرأسمالية في المراكز هو عينة تطورا للإمبريالية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أي بعد تكون الاحتكارات وسيطرتها، وهو ما ينطبق على المرحلة الحالية. فالأساس أو السبب الرئيسي في ظهور المرحلة الحالية في تاريخ الرأسمالية العالمية هو الأزمة الهيكلية للنظام كما ذكرنا سابقاً. وقد نتجت هذه الأزمة عن تكثيف الثورة العلمية والتقنية مما أظهر تماماً الحدود الضيقة لقدرة النظام الرأسمالي على استيعاب إمكانات التقدم العلمي والتقني المتاح وتوظيفها لصالح أغلبية الجنس البشرى. وهذا ما تبدى بصورة فصيحة في التناقض الصارخ أو المفارقة العجيبة " بين الطاقات الإنتاجية وإبداعات التكنولوجيا الهائلة والباهرة وبين النتائج السلبية الضخمة للثورة العلمية والتقنية والمتمثلة في البطالة الواسعة والتضخم والإطاحة بقدر لا يستهان به من مكتسبات النضال العمالي في الدول الرأسمالية، وعلاوة على احتجاز التقدم التقني الجديد مثله في ذلك مثل ما حدث في الثورة الصناعية السابقة، التي قامت على المبدأ الميكانيكى، بعيداً عن أغلب دول العالم وهى دول العالم الثالث "([2]).

لقد أدى تكثيف الثورة العلمية والتقنية في مرحلة أولى إلي الرواج الكبير (1945-1970) الذي آل في المرحلة التالية – جراء التناقضات المستعصية على الحل النهائي ما بقيت الرأسمالية – إلى أن يكون مجرد " جزر معزولة في محيط من الأزمة "([3])، والى أن الأرباح الهائلة التي تكونت لا تجد لها المنفذ الكافي في الاستثمارات القادرة على توسيع القدرات الإنتاجية.

وكان المخرج الوحيد طبقاً لطبيعة النظام الرأسمالي وأولياته هو تعويض النقص في مقدار فائض القيمة (أرباح الرأسماليين) الناتج عن تدهور معدلات النمو من خلال تكثيف استغلال الأجراء في المراكز وشعوب الأطراف ، فضلاً عن العمل اللازم لمنع الانهيار الاقتصادي الهائل والمفاجئ كانهيار سنوات (1929 – 1933). وهو مما أدى لانتهاك الحل التوفيقي " دولة الرعاية فى المراكز " وإعادة الانتشار وتكثيف التوسع الامبريالي في بلدان الأطراف، وإطلاق حركة رؤوس الأموال الجوالة للأسواق العالمية لالتقاط الأرباح عبر المضاربات في الأوراق المالية والعملات وغيرها من حزمة التوجهات والسياسات والآليات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية؛ التى تشكل ما يطلق عليه مصطلح العولمة المحايد ظاهرياً وهو ليس إلا الإمبريالية المشتركة بين أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان.

الإمبريالية المشتركة والإمبريالية القومية

لقد نشأت العولمة " الحالية " أو الامبريالية المشتركة بصورة أولية بعد الحرب العالمية الثانية (عقدت الجات الأولى 1947 وشكل حلف الناتو 1949) في محاولة لتجنب المنافسة القاتلة التي أشعلت حربين عالميتين يفصل بينهماعشرون عاماً فقط، وللاتحاد إزاء قوى الثورة العالمية التي كانت صاعدة آنذاك : الثورة الاشتراكية وثورة التحرر الوطني التي غدت جزءاً من الثورة الاشتراكية العالمية. وتطورت العولمة تطوراً جذرياً إثر الأزمة الهيكلية المقيمة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، ثم تطورت مرة ثالثة لتأخذ أبعادها الحالية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.

لا يعنى ذلك أن التناقض بين الدول الإمبريالية قد انتهى أو بات تناقضاً ثانوياً، فهو تناقض أساسي دائم في المرحلة الإمبريالية من تطور الرأسمالية. انه كف فقط - للأسباب المذكورة أعلاه علاوة علي التفوق العسكري الأمريكي - ولمدة النصف قرن الماضي عن اتخاذ شكله التناحري الأعلى (الحرب) . والإمبريالية المشتركة ليست إذن بديلاً للإمبرياليات القومية ولم ولن تلغ التناقض بينها وهو قابل للتطور بل والاستحكام. الإمبريالية المشتركة " هى بمثابة اتحاد أو جبهة بين إمبرياليات قومية، وفيما عدا نطاق أو منطقة الاتفاق أو الاتحاد فهم جميعاً متعادون في المنافسة، بل هم متصارعون في نطاق الوحدة أو الاتفاق"([4]) . لذلك فان فارق القوى الكبير خاصة العسكري بين الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها الإمبرياليين يتجلى بوضوح في الهيمنة الأمريكية حتى على العولمة.

والهيمنة الأمريكية على العولمة " الأمركة" هي مصدر الخلط الشائع بين ظاهرتين مختلفتين بل متناقضين. الهيمنة هي أحد تجليات التناقض بين الدول الإمبريالية، وإن كان هذا التناقض لا يزال يحل – وبصفة أساسية – حتى الآن لصالح الهيمنة الأمريكية بسبب فارق القوى العسكرية الهائل بين الإمبريالية الأمريكية والإمبرياليات الأخرى. والهيمنة هي تجسيد لتفوق الإمبريالية الأمريكية ، في حين أن العولمة هي التوسع المشترك والاستغلال المشترك والسيطرة المشتركة المنسقة والمتفق على قواعدها بين مجموع الدول الإمبريالية وبسياسة الباب المفتوح فى أسواق وبلدان العالم المختلفة وعبر التنافس الاحتكاري بين الشركات العملاقة.

آفاق المد الاستعماري الراهن

لقد أطلق تفكك الاتحاد السوفيتى يد الإمبريالية لفرض التكيف الهيكلى الشامل على دول الأطراف والذى يصادر القدر الأكبر من هامش الاستقلال السياسى المحدود لديها. وأصبح التهديد العسكرى بل والاحتلال – وهو الوسيلة الأساسية لفرض هذا التكيف الاستعماري – أمراً ممكناً ودون عواقب خطيرة كما كان الحال فى ظل الوضع الدولى إبان فترة وجود وقوة الاتحاد السوفيتى. وبذلك نكون إزاء طبعة جديدة من الاستعمار القديم مضموناً وشكلاً. وهي طبعة مرشحة للتوسع والانتشار في إطار الشروط الموضوعية والسياسية القائمة ما لم يجد سريعاً ما يطور المقاومة السياسية للإمبريالية في صورتيها المشتركة والقومية وينمو استعدادها للكفاح المسلح.

ومن الجدير بالملاحظة أن المردود الاقتصادي المرتفع للعولمة (الإمبريالية بالشراكة) على دول المراكز الرأسمالية يعزز هذا التوقع، كما يعززه أيضاً تأكل هذا المردود ما بقيت الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي العالمي. إن الربحية والتنافسية القصوي وحرية الأسواق وانسحاب الدولة (وهو انسحاب يتعلق بدول الأطراف خاصة) من مجال حماية الأسواق ومن التقنين التجاري والاقتصادي وإحالتهما إلي منظمة التجارة العالمية يجلب للمراكز فائضاً مالياً هائلاً بدعم قوة نظمها الإنتاجية المندمجة، ويكرس في ذات الوقت ركود الأطراف وضعف نظمها الإنتاجية المفككة ، ومع إعادة تدوير رؤوس الأموال سيتفاقم الركود من مرحلة إلى أخرى وهذه هي الأزمة الحقيقية للنظام ([5]).

وليس هناك من سبيل لضمان خضوع الأطراف لهذا النمط من التنظيم غير القوة المسلحة.

فإذا استنفذ هذا المخرج من الأزمة – وهو مخرج مؤقت وقائم على إدارة الأزمة وتخفيف وطأتها على المراكز، وليس حلها – امكاناته أو قدر كبير منها في تحويل الفائض المالي الكبير المنوه عنه سابقاً للمراكز فلا سبيل، على الأرجح، أمام هذه الأخيرة – مع استمرار الأزمة الهيكلية – لتعويض ما تفقده غير تكثيف وسائل وآليات التراكم البدائي لرأس المال، أي النهب والسطو على الموارد الطبيعية وفائض عمل كادحي بلدان الأطراف من خلال شروط التعامل والتبادل القسرية التي يتيحها الحكم الاستعماري أو شبه الاستعماري المباشر.

وبالفعل بدأت حزمة السياسات والآليات المشكلة للعولمة الاقتصادية تستنفذ طاقتها في السنوات القليلة الماضية ابتداء بالأزمة الآسيوية الى أمريكا اللاتينية، فأمريكا الشمالية وأوربا الغربية. ويتمثل ذلك في انخفاض عائد الشركات متعدية الجنسيات وعائد الصادرات وانكماش الأسواق المالية الربحية أمام رأس المال المضارب. ويقول عالم الاجتماع الأمريكي جيمس بيتراس " اليوم تعمل العولمة بشكل عكسي : فالأرباح المذهلة الناجمة عن عوائد المضاربة الرأسمالية أصبحت لا تغذي أسواق البورصات الأمريكية والأوروبية والاحتكارات المالية العملاقة"([6]).

هكذا تتعرض وستتعرض أكثر في المستقبل المنظور بلدان الأطراف لتشديد وتصعيد وسائل السيطرة الإمبريالية، تشديداً وتصعيداً يضع العدوان العسكري بل والاحتلال في مقدمة أدواته، وذلك من جانب الدول الاستعمارية وليس أمريكا وحدها . ويحتجب التوجه العام للعدوان العسكري لدى مجموع الدول الرأسمالية الصناعية الكبيرة خلف الحقيقة الأكثر سفوراً ووضوحاً الآن وهى انطلاق العدوان العسكري الامبراطوري الأمريكي منذ أحداث 11 سبتمبر بحجة الحرب على الإرهاب . فالخلاف بين أمريكا وغيرها من الدول الصناعية وعلى رأسها المانيا وفرنسا هو في الدرجة فقط ، وفى المقدرة على العدوان بالقياس إلي أمريكا ، والذي يجعل تلك الدول راغبة في ممارسة العدوان العسكري بالشراكة طالما بقيت أقزاما عسكرية إزاء القوة الأمريكية ، وبشرط القسمة " العادلة " لغنائم السطو الاستعماري . إنه توجه واضح أكدته حرب الخليج 1991 وكوسوفو 1999 ، وحصار العراق 13 عاماً ، ومشاركة حلف الناتو في احتلال أفغانستان ومساعدته للاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق ، والتهديد الأمريكي الفرنسي للبنان وسوريا تحت مظلة قرار مجلس الأمن 1559، ومخططات تفكيك السودان، والتدخلات الأوروبية والأمريكية في الدول الأفريقية ، بل ظهور اتجاه لدى دول الامبراطوريات الاستعمارية التي حطمتها حركة التحرر الوطني السابقة لإعادة القدر الأكبر من نفوذها في مستعمراتها السابقة.

آفـــاق المقاومـــة

لكن الحقيقة الأكبر والأبقي هي أن تصاعد العدوان الإمبريالي تكمن وراءه وتدفعه عوامل ضعف وتآكل بنبوية تعمل في قلب النظام؛ أزمته الهيكلية وتناقضاته الموضوعية التي تزداد استحكاماً وتفقده القدرة على تسيير قوة العمل والشعوب التي يستغلها ويضطهدها ويفقرها إلا بالاستخدام الموسع للقوة العسكرية. فاستنفاذ العولمة لطاقتها أو تراجع هذه الطاقة في التخفيف من وطأة أزمة النظام ينشط المنافسة والتناقض بين الدول الإمبريالية ويزعزع تضامنها وشراكتها ضد شعوب البلدان المستعمرة والتابعة، أى يطور التناقض بين الإمبرياليات القومية مما يضعف بدوره ومرة أخرى الإمبريالية مجتمعة. إن مشروع الهيمنة الأمريكية الامبراطوري على العالم يعكس في آن واحد رغبة الإمبريالية الأمريكية الجامحة فى اللصوصية والسطو على موارد بلدان الأطراف وفائض عمل شعوبها، وتصاعد التنافس بين الدول الإمبريالية حول مغانم وأسلاب النهب الاستعماري، وتشبث أمريكا بالحفاظ على مركزها المهمين اقتصادياً وعسكريا الذي حظيت به لمدة الثلاث أربع القرن الماضية أمام العوامل التي تدفع في اتجاه فقدانه في مستقبل غير بعيد.

ولم تكن الخلافات التي شهدها مجلس الأمن، قبل احتلال العراق، واستمرار رفض فرنسا وألمانيا إرسال قوات عسكرية لنجدة الاحتلال الأمريكي أمام صعود المقاومة العراقية إلا تعبيراً عن التناقض المتزايد بين شروط استمرار وتصاعد الهيمنة الأمريكية وبين شروط ومتطلبات الإمبريالية بالشراكة. فنجاح مشروع الهيمنة الأمريكية (المنفردة) يعنى تراجع الإمبريالية بالشراكة وفشلها هو من عوامل استمرار هذه الأخيرة ما بقيت الشروط التي أنتجتها وطورتها. وقد أسفرت المصاعب التي واجهت – ولا تزال – الاحتلال الأمريكي في العراق عن التوفيق والدمج بين " الشراكة " الأوربية – المتوسطية وبين مشروع المنطقة الحرة الأمريكية مع 23 دولة من دول " الشرق الأوسط " فى إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير. وربما أدى التناقض والتنافس بين الإمبرياليات القومية – غالباً فى ظل وضع متوسط بين النجاح النسبى أو الفشل النسبى للهيمنة الأمريكية – إلى شكل جديد من توزيع مناطق النفوذ بين الضوارى الإمبريالية، ويعد التحالف الأمريكي الفرنسي ضد سوريا ولبنان أحد مؤشرات هذا الاحتمال.







ومن الواضح من واقع متابعة وقائع السياسة الدولية أن الدول الإمبريالية لا تزال تعتد بحاجتها للتضامن والتآزر فيما بينهما تحسباً لتراكم عوامل انبعاث قوى الثورة العالمية، بالإضافة إلى حاجتها للإدارة المشتركة لأزمتها الاقتصادية التي تفرضها عولمة رأس المال. إلا أن استمرار الأزمة وتآكل مفعول الحلول المشتركة المقدمة لها تباعاً يجعل تطور التناقض بين الإمبرياليات القومية أمراً لا مجال لتجنبه. وهذا التطور هو ذاته مؤشر أساسي على تفاقم الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي الامبريالي العالمي. فالتناقض بين الدول الامبريالية وتطور هذا التناقض نسبيا فى الآونة الراهنة حقيقة واقعة ستتطور أكثر في المستقبل. ليس رأس المال العالمي إذن ، ومن ثم الإمبريالية اليوم، كلا متجانساً لا تناقض بين أجزائه، والتناقض بين الأجزاء أي الامبرياليات القومية هو ما يمنع أو يحد من توحيد قواها العسكرية وغير العسكرية في آن واحد ضد بعض أو إحدى الدول المعرضة للعدوان الإمبريالي. وتستطيع أي من الشعوب المدافعة عن استقلالها الوطني وحقها في الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي أن تستفيد من التناقض بين الدول الإمبريالية بشرط أن تعتمد في المقام الأول على قوتها الذاتية وإرادتها النضالية وأن تتحالف مع كل القوى المناضلة في أطراف النظام ومراكزه ضد الإمبريالية والحروب الاستعمارية.

إن آفاق المقاومة ليست مغلقة وليست شديدة الضيق كما يتصور المحبطون ويروج الانهزاميون. فهناك عدد من العوامل الموضوعية الملائمة تحجبها المفاهيم والروح الانهزامية التي روجتها القوى الإمبريالية كمقدمة وحلقة في تحضيراتها لتصعيد عدوانها على شعوب وأمم العالم المضطهدة وطبقاته الكادحة.

فإضافة إلي استنفاذ أو تراجع قدرة العولمة الاقتصادية علي التخفيف من وطأة الأزمة الهيكلية و التطور النسبي للتناقض بين الدول الإمبريالية والمتوقع اشتداده في السنوات القادمة، فان حقيقة توجهات القوى الإمبريالية المجددة المشتركة والقومية قد افتضحت بدرجة ملموسة نسبياً وظهرت ثمراتها المرة فى أطراف ومراكز النظام على السواء ، فشرعت قطاعات واسعة نسبيا ومتنامية من شعوب العالم وطبقاته العاملة في الاعتراض والمقاومة ، وتسقط - في مواجهة إحياء الاستعمار القديم - المفاهيم والشعارات المضللة والمزورة لحقيقة النظام العالمي الراهن وحقيقة دول " الديمقراطية العظمى"، وتستدعى الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال والمعرضة للعدوان العسكري خبرتها ووعيها المختزنين في ذاكرتها الجمعية في عصر التحرر الوطني القديم وتجد طريقها عبر الحرب الشعبية للتغلب على الأسلحة وتكنولوجيا الحرب الجديدة. فليست التكنولوجيا سلاحاً في أيدي الرأسماليين وحدهم ، وإنما أيضا بعضها وعدد من أسرارها في أيدي جماهير العمال والاختصاصين المشاركين في القتال ضد الاحتلال والعدوان الأجنبي ، ممن كانوا يراقبون من موقعهم السابق في نظام الإنتاج الاجتماعي والمؤسسات العسكرية معطياتها أو بعض هذه المعطيات. وقبل ذلك فإن من اختاروا الحرية ورفضوا العبودية سيحاربون بصدورهم العارية وينتصرون . وتقدم المقاومة العراقية مثلاً فذا في هذا المجال وكذلك قدمت المقاومة الفلسطينية رغم كل الظروف الغير مواتية التي تجمعت ضدها.

ومن الشروط الموضوعية التي استجدت في المرحلة الحالية من تطور الإمبريالية، والتي تقوى أواصر الوحدة بين الطبقات العاملة والمفقرة في المراكز وبين شعوب الأطراف في النضال ضد الإمبريالية، العدوان على مكتسبات النضال العمالي في المراكز، حيث تكثف الرأسمالية العالمية الاستغلال وتنشر البطالة والإفقار في كل أرجاء العالم. وباتت واضحة المصلحة المشتركة للطبقات العاملة والمفقرة في المراكز وشعوب الأطراف المضطهدة في مقاومة الإمبريالية وهزيمتها.

أما بالنسبة للإمبريالية الأمريكية بالذات أقوى وأخطر قوى الإمبريالية العالمية والاستعمار القديم المنبعث فان أعباء الحفاظ على إمبراطوريتها تتفاقم وستصبح عما قريب أعلى بكثير من مغانم وأسلاب اللصوصية والسطو مما يعجل هزيمتها أمام قوى المقاومة والتحرير .



16

/ 3/ 2005



--------------------------------------------------------------------------------

([1]) سمير أمين (وآخرون) : الدولة الوطنية وتحديات العولمة – مكتبة مدبولي – 2004

([2]) عيداروس القصير – الاشتراكية فى السياسة والتاريخ – الفصل السابع – القاهرة 2002.

([3]) د. فؤاد مرسى – الرأسمالية تجدد نفسها.

([4]) عيداروس القصير، المصدر السابق – الفصل التاسع – القاهرة 2002

([5]) سمير أمين – المصدر السابق.

([6]) رؤية اشتراكية – ترجمة : حسن بيومي – مجلة الطريق – عدد أول ديسمبر 2004.



#عيداروس_القصير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- العدد الأسبوعي (554 من 2 إلى 8 ماي 2024) من جريدة النهج الدي ...
- الاستشراق والإمبريالية والتغطية الإعلامية السائدة لفلسطين
- نتائج المؤثمر الجهوي الثاني لحزب النهج الديمقراطي العمالي بج ...
- ب?ياننام?ي ??کخراوي ب?ديلي ک?م?نيستي ل? عيراق ب? ب?ن?ي م?رگي ...
- حزب العمال البريطاني يخسر 20% من الأصوات بسبب تأييده للحرب ا ...
- قادة جامعات أميركية يواجهون -دعوات للمحاسبة- بعد اعتقال متظا ...
- دعوات لسحب تأشيرات الطلاب الأجانب المتظاهرين في امريكا ضد عد ...
- “بأي حالٍ عُدت يا عيد”!.. العمال وأرشيف القهر
- إبعاد متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين من حفل تخرج جامعة ميشيغان ...
- لقاء مع عدد من الناشطات والناشطين العماليين في العراق بمناسب ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عيداروس القصير - إمبريالية عصرنــا