أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الرحيم العطري - المؤسسة العقابية و إعادة إنتاج الجنوح















المزيد.....



المؤسسة العقابية و إعادة إنتاج الجنوح


عبد الرحيم العطري

الحوار المتمدن-العدد: 1187 - 2005 / 5 / 4 - 12:10
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في كثير من بقاع المغرب يطلب من الشخص الخارج للتو من السجن أن يقوم بتكسير الفراح – وهو آنية فخارية لتحضير البغرير (من العجائن) – برجله اليمنى عند عتبة البيت، وذلك حتى لا يعود مرة أخرى إلى ما وراء القضبان، لكن وبالرغم من تكسير مئات الأواني الفخارية في مغرب مفتوح على جدل التقليد والحداثة، فإن الكثيرين من الجانحين الذين غادروا المؤسسة العقابية، يعودون مجددا إليها وربما بجنوح متطور درجة ونوعا. ولهذا يصير الاعتماد على "الفراح" عبثا مفضوحا في تجاوز ومحو علامات العقاب السجني، خصوصا في مجتمع تتضاءل فيه إمكانيات الإدماج وإعادة التربية، الشيء الذي يجعل الولوج الأول إلى السجن مجرد خطوة وتجربة أولى في مسلسل الجنوح والعود.
ففيم تقوم وظيفة العقاب؟ وما الغاية من "ولادة السجن" بتعبير ميشيل فوكو؟ هل ترنو إلى وأد مظاهر الجنوح وتحقيق السلم والأمن الاجتماعيين؟ أم أن العقاب يغدو – بشكل خفي – مساهما في إعادة إنتاج الجنوح وتجذيره واقعيا وبدرجات عالية؟
يرى ميشيل فوكو، وهو يفكك المراقبة والعقاب أن الإجراءات القصاصية عرفت تطورا ملحوظا في اتجاه الضبط والتمكن التام من الجسد، وذلك بموازاة التطور الذي عرفته المجتمعات البشرية. وهكذا فقد كان العقاب في أنظمة الإقطاع والعبودية ينحصر في العمل الإجباري الذي سيتواصل مع الثورة الصناعية، كما أن وسائل التعذيب والتطويع ستعرف بدورها تطورات فظيعة، فمن الشنق والصلب والرمي بالرصاص إلى الكرسي الكهربائي وغرفة الغاز، ومن التشهير والتمثيل بالأجساد الواقعة تحت العقاب والاحتفالية التي كانت ترافق الجزاء كالشنق العمومي والمفصلة أمام الملأ، وتعليق الرؤوس عند أبواب المدن إلى الجزاء السري وحبة الموت الرحيم. وعبر هذا المسار العقابي سيتأكد قويا بأن المستهدف الأول هو الجسد الإنساني، الذي يتوجب التحكم فيه وإخضاعه كليا، وهذا ما يطلق عليه ميشيل فوكو "التكنولوجيا السياسية للجسد" مبرزا بأن الهدف الأثير للعدالة ومؤسسات العقاب هو إنتاج أجساد طيعة ووعي معلب.
إن ما يعتمل داخل المؤسسة السجنية ملتهب وكارثي ومفتوح بالضرورة على أسئلة فادحة، ولهذا فالذاكرة الجمعية تنحت له بذكاء ماكر هذا المثال السائر: "الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود" ، ذلك أن ولوج السجن يستتبعه ضياع مختلف في متاهات العنف والألم والاغتصاب.. فسلب الحرية كوظيفة جزائية يختص بها الفضاء السجني ينطوي على عنف مادي صرف يوقعه النظام على من يخرج عن طوعه، بهدف إصلاحه وتهذيبه وإعادته إلى "جادة الصواب الجمعي"، وقبلا أملا في الحد من الجنوح والاختلال الاجتماعي، فكل نسق يبغي دوما الحفاظ على استمراريته وتوازنه ولبلوغ هذا المطمح يؤمن النسق باستمرار، بل ويجدد دائما أجهزة الردع والضبط التي تكون بالمرصاد لكل من خرج عن معايير النسق وأهدافه، وفي هذا الإطار تنطرح وظيفة السجن ومعالم أبنيته، بل ونظام اشتغاله.لكن وبعيدا عن الأهداف النبيلة للمؤسسة العقابية والمسطرة بإتقان في ديباجة القوانين المنظمة، فإن الجانح السجين يكون معرضا لألوان عديدة من العنف سواء من طرف الجانحين السجناء أو من طرف المؤسسة ذاتها عبر سادتها وأنظمتها. فالآهات القادمة من أعماق الزنازن بواسطة الرسائل المفتوحة والمذكرات الجريجة تكشف مدى العنف الكامن في مؤسسة العقاب، فهل يمكن لسجون تعيش أبدا على صفيح ساخن، وتحتضن كل مظاهر الخلل، يمكن احتواء الجنوح ؟ وهل بمقدور مؤسسات تعاني من الاكتظاظ وهشاشة البرامج الإصلاحية والتأهيلية أن تضطلع بأدوار التهذيب والإدماج، ولو في حدودها الدنيا؟
إن هناك حاليا ما يناهز 80 ألف سجين على امتداد السجون المغربية هذا على طاقاتها الاستيعابية التي لا تتجاوز نصف هذا العدد، والمؤشرات الاجتماعية للراهن المغربي تدل على أن الرقم مرشح للارتفاع في القادم من الأيام، ما دامت دوائر الفقر والفاقة - المنتجة بامتياز للجنوح – آخذة في الاتساع الكمي والنوعي، وفوق ذلك كله فالمؤسسة العقابية لم تنخرط بكل عمق في صلب الإصلاح المنشود، لأن الأمر يتجاوز عتبة السجن إلى أمور أخرى أكثر اتصالا بالسياسة الجنائية والمشروع المجتمعي عموما. ففي أعماق السجن، الكل مدعو لاختبار القوة، من أجل تأكيد مكانته وتحصين موقعه في النسق السجني، والحفاظ بالتالي على رأسماله المادي والرمزي، ومن أجل اختبار القوة، فكل شيء مباح للسيطرة بدءا بما يرقد في القفة الأسبوعية، مرورا بغيرها من الممتلكات وانتهاء باغتصاب الجسد والالتذاذ الشاذ به، في فضاء يتأسس على الحرمان المفضي إلى العدوان وتحطيم كل القيم والمعايير. فمن هذا الفضاء المحكوم بهاجس القوة والعنف يلفظ الجانح بعد انصرام أجل عقوبته إلى عالم ما بعد السجن، ليتذوق طعم النبذ الاجتماعي، ويعود مجددا إلى المؤسسة العقابية بالرغم من تكسيره لمئات الأواني الفخارية !
فبالرغم من عنف الفضاء السجني، فإن ظاهرة العود تتواصل والارتماء في المياه الضحلة للجريمة سرعان ما يراود الجانح الخارج للتو من السجن. فأين هو مفعول الإصلاح وإعادة التربية والإدماج كمقولات مركزية في اشتغال المؤسسة العقابية؟ إن الخروج على القيم ومعايير العقل الجمعي، عن طريق ارتكاب جريمة ما، يفرض على الفاعل أداء الثمن الباهض، ليحل ضيفا بالإكراه على مؤسسة عقابية تقتص منه، حتى لا يكرر فعلة الخروج والجنوح، ولكن المؤسسة العقابية، لا تقود دائما إلى هذه النتيجة، ولا تساهم بكل إيجابية في تقليص مساحات الجنوح والإجرام، بل إنها تعيد إنتاج الجنوح المتقدم في الخطورة، والانتقال بالتالي بالجانح من مستوى الانحراف إلى الاحتراف، فالمرور من المؤسسة العقابية غير مأمون بالمرة، لأنه يساهم في نقل الجانح بالخطأ إلى درجات عليا من الاحتراف، وذلك بالنظر إلى ما يتعلمه هذا الجانح في "المدرسة العقابية" من دروس في الجنوح وما يلاقيه من تشجيع على العدوان واستعراض للقوة وتبخيس لقيم التسامح والسلم، لأن نظام السجن يتأسس بامتياز على العنف والعنف المضاد. وهكذا فإن مدرسة السجن لا تساهم في تخريج المواطن الصالح، كما هو مسطر بإتقان في نصوصها التنظيمية، ولا تقي المجتمع من موجة الجريمة ونتائجها الكارثية، وإنما تساهم خطأ في إعادة إنتاج الجنوح مع التأكيد على تضافر عوامل أخرى في عملية إعادة الإنتاج هاته، وهي أكثر اتصالا بالتهميش والتفقير والإقصاء، فليس السجن وحده الذي ينتج ويعيد إنتاج الجنوح، ولكنه يساهم بقسط وافر في تطويره وتجذيره في نفسية الجانح، وهذا ما نحاول التصدي له علميا في هذه الدراسة، وهذا ما يتوجب الانتباه إليه قويا حتى لا تظل مؤسسة العقاب مجرد فضاء للعنف وإعادة إنتاج العنف والإجرام، وحتى لا يظل البون شاسعا جدا بين ما ينكتب في ديباجة نصوصها التنظيمية، وما يتفاعل في أحشائها، وقبلا حتى لا تنمحي من جنبات حياتنا قيم السلم الاجتماعي، ويظل بالمقابل عالم السجن مؤشرا على الفقد والخسارة "الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود" فكيف يكون هذا الفقدان؟ وكيف تكون "ولادة السجن"؟ وما هي الأدوار الحقيقية لهذه المؤسسة العقابية؟ هل ترنو إلى الإصلاح والتهذيب؟ أم أنها تفشل في تحقيق ذلك، وتصير وظيفتها خطأ وكرها هي إعادة إنتاج الجنوح؟
إن العلوم الإنسانية آنا مدعوة بإلحاح للبحث مليا في شروط إنتاج وإعادة إنتاج "الاجتماعي" أو بصيغة أعم ذلك "المجتمعي" الذي يتقاطع مع مختلف أسئلة الفرد والجماعة في نسق محدد. ذلك أن البحث المعرفي في هذه الشروط من شأنه أن يساعد كثيرا في فهم مقاربة العديد من الظواهر والحالات التي تنأى عن السواء الجمعي.فكيف ينشأ السلوك الفردي/الجماعي؟ كيف ينمو ويتبلور؟ وكيف يتم تكريسه ويعاد إنتاجه في سياقات مختلفة؟ وما الشروط الضرورية لإنتاجه؟ وتحديدا ما العوامل الأساسية التي تقف وراء انبنائه وتجذره واقعيا؟ إن أسئلة كهاته تنطرح أمامنا بقوة ونحن نقتحم عوالم العقاب والجنوح، على اعتبار أن الفعل الجانح هو فعل شاذ ومستفز يستوجب منا في كل حين مزيدا من التساؤل طلبا للفهم والتفسير، وهو ما يدعونا إلى التعاطي معها والانفتاح عليها بحثا عن إجابات ممكنة لها، تسعف كثيرا في تشريح السلوك الجانح، لكن وبالرغم من التطور الذي عرفته المناهج والنظريات في العلوم الإنسانية، فإن التمكن العلمي التام من ظاهرة الجنوح ما زال بعيد المنال، لهذا كان من الطبيعي أن تتنوع المقاربات العلمية لهذه الظاهرة، من حيث التخصصات والتوجهات، وأن يصير لدينا مدارس عديدة تنهل من مختلف العلوم الإنسانية لتفسير السلوك الجانح، بل إن علوما كثيرة وبالنظر إلى حساسية هذا السلوك، لم تعد مقتصرة على اجتهاداتها الحقلية في تفسيره وإنما استعانت بعلوم أخرى رغبة في الرصد والفهم الموضوعي له، فعلماء الاجتماع اليوم ينقبون بامتياز عن العوامل الاجتماعية لسلوك الجانح، ويتوجهون نحو دراسة الشخصية، ولهذا فالمقاربة السوسيولوجية باتت تعتمد مناهج متعددة وتتوكأ على نظريات عديدة من علوم أخرى، فالباحثون في حقل السوسيولوجيا يعتمدون على التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والتحليل النفسي والأنتروبولوجيا لاكتشاف العناصر المكونة للنشاط الإجرامي. وهو ما يعني أن السلوك الجانح مثير جدا للجدل المعرفي، وموجب أبدا لشحذ آليات السؤال والتفكيك.
منذ البدء والإنسان يحاول جاهدا أن يصل إلى تفسير مقنع لشروط إنتاج السلوك الجانح، وفي محاولاته سيرتكن حينا من الدهر إلى التفسير اللاهوتي والميتافيزيقي، معتبرا بأن الجنوح والإجرام ما هو إلا ترجمة لقوى خفية غيبية تستبد بشخصية الفرد وتؤثر فيه، وهو التفسير الذي ظل مالكا للقوة والحضور إلى حدود القرن السادس عشر، ولعل هذا التفسير الميتافيزيقي للسلوك الجانح هو الذي كان يؤطر الفعل العقابي والذي كان يجد تبريراته أحيانا في ضرورة تخليص المجرم من القوى الشيطانية التي تسكن روحه! إلا أنه في بداية القرن السادس عشر ستتجه أنظار الباحثين إلى دراسة العوامل البيولوجية في إنتاج الجنوح، وبالنظر إلى كون الدراسات المهمة الأولى حول الجانحين، قد أنجزت في الغالب من طرف أطباء في منظور محكوم إلى حد كبير بالفكر الدارويني، فقد كانت سجينة التفسير البيولوجي الصرف. لتتوالى الدراسات والإجتهادات في هذا الباب، والتي ستلجأ في اشتغالها على الجنوح إلى تحليل العوامل الإيكولوجية والإجتماعية والنفسية وحتى السياسية أخيرا.
لقد حاولت النظرية التقليدية في علم الإجرام والتي يتزعمها كل من سيزاري بكاريا وجيرمي بنثام تفسير ظاهرة الجريمة وأسباب العقاب من منطلق فلسفي قانوني، معتمدة على ثقافة العصر (مفاهيم العقد الاجتماعي...) ومؤكدة على حتمية العقوبة التي يجب معادلة كمها ونوعها مع الجريمة من أجل منفعتها حتى يمكن منعها والوقاية منها بناءا على عنصر الردع، وبمقابل ذلك رفضت المدرسة الوضعية مع روادها الأوائل سيزاري لومبروزو، انريكو فيري ورفائيلي جاروفالو، أن تتعامل مع الجريمة من منطلق فلسفي قانوني، واستبدلته بفكرة حتمية السلوك وأسباب ووسائل الضبط الاجتماعي وعليه فقد راهن رواد هذه المدرسة على تحليل مختلف العوامل المرتبطة ببنية وتكوين الفرد أو بيئته الاجتماعية الطبيعية لفهم السلوك الجانح. وإذا كان لومبروزو قد ركز في كتابه الشهير "الإنسان المجرم" الصادر عام 1876 على العناصر الحيوية البيولوجية والوراثية في تفسير الجنوح، فإنه في نهاية أبحاثه سينتبه لأهمية العوامل البيئية والطبيعية في تكوين الفعل الجانح، أما فيري، والذي يمكن اعتباره بحق مؤسس سوسيولوجيا الجنوح الحديثة حسب دينيس زابو، فيعتبر بأن الكثافة السكانية، الرأي العام، العادات والتقاليد، والقيم والدين... عوامل اجتماعية أساسية في فهم الجنوح، يضاف إليها طبيعة الأسرة ومستوى التعليم ودرجة التعسفية والإدمان، ومن أجل اكتمال الصورة يتوجب أيضا تحليل شروط الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وعمل الإدارات العمومية (قضائية، سياسية، شرطية، عقابية...) فلابد من مساءلة مختلف التيارات الجماعية التي تؤثر في الفرد.وإذا كان فيري يرى بأن أثر العوامل الاجتماعية في الجنوح يظل قويا، فإنه يؤكد بأن مختلف العوامل هي في تفاعل مستمر، وأنها في مجموعها تكون شروط إنتاج الجانح، ففي كل مرحلة تطورية، وفي كل حالة مجتمعية هناك ترابط شبه دائم بين العوامل الفيزيولوجية والاجتماعية للإنحراف، وهذا ما يصطلح عليه فيري قانون التشبع الإجرامي، وعلى درب هذه المقاربة التركيبية سيستمر جاروفالو في نحت رؤاه العلمية حول السلوك الجانح. وفي إطار الطرح السوسيولوجي نجد إميل دوركهايم يرجع الجريمة إلى الباثولوجيا الاجتماعية، وهي ذات منشأ اجتماعي بيئي، أي أنها تنشأ عن التنظيم الاجتماعي وما يحدث في هذا التنظيم، وما يجد عليه من تغير أو تحول. وبالطبع فإنه لا يتأتى فهم الجريمة إلا بفهم المجتمع وعلاقاته وثقافته في زمان ومكان محددين .
أما روبرت ميوتون يرى بأن العوامل الأساسية المساهمة في إنتاج الجنوح، فهي تعود بالضرورة إلى ردود فعل الفرد وتكيفه مع الضغوطات التي تفرزها ثقافة مجتمعه، وتلك المنبثقة عن البنية والتنظيم الاجتماعي، فالجنوح في نظره هو ظاهرة من ظواهر الانفصال وعدم الترابط والوفاق بين مجموعة من الغايات والأهداف التي تحددها الجماعة حسبما تمليه الثقافة السائدة، وبين الوسائل (المعايير والقواعد) التي ينص عليها ويقرها التنظيم الاجتماعي ومن النظريات السوسيولوجية المهمة التي انشغلت بتفسير السلوك الإجرامي نجد نظرية الاختلاط التفاضلي للعالم الأمريكي ادوين سادرلاند (Sutherland) والذي يمكن اعتباره المؤسس الحقيقي لسوسيولوجيا الجنوح الأمريكية. فأساس السلوك الإجرامي عند سادرلاند هو التعلم. فالفرد يتعلم هذا السلوك من اختلاطه بغيره عن طريق مجالستهم، فالشخص الذي لم يتعلم السلوك الإجرامي لا يستطيع إتيانه، ويستنتج من هذه النظرية أن السلوك الإجرامي ليس نتاج الوراثة ، وعليه يمكن القول بأن شروط إنتاج الجنوح حسب سادرلاند تتحدد في التعلم والاتصال والتفاعل الاجتماعي بين الأفراد. أي أن الأمر وفقا لهذه الشروط يتأسس على التأثير والاختلاط بدرجات عليا. وبالنسبة للمقاربة السيكولوجية للسلوك الجانح فهي تنبني على فرضية مركزية مفادها أن كل عدوان ما هو إلا نتيجة طبيعية لإحباط ما، ولهذا لابد من الانتباه للإحباط النفسي في تحليل الجريمة، والتي هي في الواقع مظهر من مظاهر العدوان والعنف، و فضلا عن ذلك فالتفسير السيكولوجي في هذا الباب يستند إلى فكرتين وهما:
- الجنوح يتصل بانحرافات واضطرابات نفسية وعقلية.
- الجنوح يتصل باضطرابات تهم الجهاز النفسي.
وإذا كانت الفكرة الأولى تؤشر لمرحلة لم ينبلج فيها بعد فجر التحليل النفسي، فإن الفكرة الثانية تؤشر فعلا لظهور هذه المدرسة التحليلية. ففي مستوى أول حاول الباحثون في علم النفس الربط بين مشكلات الذكاء والتخلف العقلي وأمراض الصرع والجريمة مؤكدين على أن السلوك الجانح ما هو إلا نتيجة مباشرة لهذه الاختلالات العقلية والنفسية التي تعتري الفرد. إلا أنه مع ميلاد مدرسة التحليل النفسي بزعامة سيجموند فرويد سيتم الربط في البداية بين الجنوح والعصاب، وذلك لوجود اضطرابات نفسية لدى الجانح تميز حياة العصابي، مثل سرعة الانفعال وتفجر القلق النفسي، ونقص نضج الشخصية والفشل في تكوين علاقات عاطفية مستقلة واضطراب الحياة الجنسية ووجود ميول عدوانية عنيفة . فالسلوك الإجرامي انضباطا لخلفية التحليل النفسي ينتج عن صراعات لا شعورية ربما تعود إلى مرحلة مبكرة من الطفولة وإحباطات متتالية تستحيل إلى عدوان وعنف قوي ضد الذات والآخر.
إذن من خلال كل هذه المقاربات البيولوجية، السوسيولوجية والسيكولوجية.. ما الذي يمكن الإنتهاء عنده بصدد إنتاج الجنوح؟ ما الذي يتحتم علينا الوقوف عنده بإمعان؟ وإلى أي حد يمكن استلهام هذه المقاربات في تفسير إنتاج الجنوح مغربيا أي هنا والآن؟ ! فمن حين لآخر تطلع علينا مدينة ما بكسبها لقلب السبق، ليس في مستوى تحقيق عوامل الطفرة والإزدهار، وتحقيق الرفاه الإجتماعي لفائدة المواطن، ولكن الريادة والتميز يكون على مستوى الإنتشار الفادح لثقافة الإجرام، فثمة مدن عديدة استحالت هوامشها وأحزمة فقرها إلى نقط سوداء تنتعش فيها مظاهر الفاقة والعنف والجنوح، مهددة بذلك قيم الإستقرار والسلم الاجتماعي، فما الذي يقف من أسباب وراء هذا الشيوع الخطير لدوائر الإجرام والتطاحن الاجتماعي؟ ما مسوغات هذه "الحرب الأهلية" في فضائنا المجتمعي؟ وما هي آليات إنتاج الجنوح مغربيا؟ وكيف يشتغل نسق النقط السوداء هنا والآن؟ في كل حين يتراءى لنا ما يؤثر على باثولوجيا اجتماعية مفتوحة على الجنوح المتقدم درجة ونوعا، وكأن الأمر يتعلق بصراع دائر بلا انقطاع بين مستفيدين من ميزات المجتمع وآخرين غير مستفيدين، أي بين مالكين لوسائل الإنتاج والإكراه وخاضعين مهمشين.
إن التنمية المعطوبة التي اعتمدها المغرب منذ زمن بعيد، والتي راهنت بقوة على ضبط التوازنات الظرفية، و"إنجاح" سياسات التقويم الهيكلي، ولو على حساب مصالح المواطن، كانت سببا رئيسيا في خلق نموذج مجتمعي مشوه، تتقلص فيه إمكانات العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وتتقوى فيه بالمقابل كل آليات التفقير والتمايز الطبقي. وإن الاختيارات اللاشعبية وسيادة منطق الهاجس الأمني في التعاطي مع الشأن المواطناتي، وإقصاء مطالب الفئات الدنيا من دوائر الأشغال الرسمية، كلها عوامل ساهمت في إنتاج العديد من النقط السوداء التي تحتضن كل ملامح الانحراف والاختلال. ففي هذه المناطق لا توجد الدولة إلا بشكل صوري أو مناسباتي، عبر مقدميها وشيوخها أو حملاتها الانتخابية والإحصائية، وخارج ذلك كله يغيب كل ما له علاقة بالدولة، بل ويرفض أي تدخل مخزني، ويكون رد الفعل عنيفا اتجاه كل محاولة للاقتراف. بحيث يمكن أن ترشق سيارة للأمن بالحجارة، إذا ما غامرت باقتحام هذه النقط السوداء. فبسبب استشعار التهميش والإفتقار إلى أدنى شروط العيش الكريم يكون "الحنق على المخزن" قويا، وهو ما يؤدي إلى انتعاش تمثلات خاصة عن كل مبادراته وتحركاته، مع ما يستتبع ذلك من ردود فعل تجد تفسيرها وترجمتها الواقعية في إدمان المخدرات والخمور والاتجار فيها ومواجهة عالم "ما بعد النقط السوداء" بالاغتصاب والسرقة وباقي ألوان الإجرام، وكأن الأمر يتعلق بمحاولات لإسماع الصوت وتأكيد الحضور ووضع حد لهذا التهميش وأيضا للانتقام وانتزاع الحقوق ممن يفترض أنهم مسؤولون عن اغتصابها.
إن الحرب الأهلية الدائرة بلا انقطاع في مختلف تضاريس المجتمع وكذا النقط السوداء التي تؤشر على الانتشار الفادح لثقافة الإجرام، إنها جميعا مجرد عملية لجني ثمار التفقير والتهميش التي تتواصل آثارها في كل حين وعلى أكثر من صعيد، فماذا ننتظر من قاطني أحياء الصفيح الذين خذلتهم كل الوعود الانتخابية؟ وماذا ننتظر من جحافل المعطلين الذين أخطأتهم سياسات التشغيل؟ وماذا نتوخى من أفراد نشأوا في فضاءات مفككة ومنقوعة في الفقر والفاقة؟ ما الذي نتوقعه من مجتمع يفتقد مشروعه ومشروعيته؟
إن الفوبيا الشائعة حاليا من التعرض لهجوم محتمل من أحد الجانحين في أي مكان وزمان، هي دليل على تفاقم ثقافة الجنوح، واتساع دوائر المرض الاجتماعي والنفسي، وهي ثمرة مباشرة لما غرسته الاختيارات اللاشعبية، والسياسات المعطوبة، فالاقتصاد التبعي المهلهل، والاستحقاقات الانتخابية المفبركة والعفونة الطافحة في كل المجالات من الضروري أن تقود المجتمع إلى أفظع النهايات وتحديدا إلى التطاحن والجنوح واللاإستقرار. إن إنتاج الجنوح مغربيا ينضبط لهذه الخلفية المتشابكة التي يتداخل فيها السياسي والثقافي والاجتماعي والنفسي،و إن الطابوات والمتاريس الطبقية والسياسات الأمنية العقيمة، وأنماط التنشئة الاجتماعية التقليدية. كلها تجعل أفراد المجتمع بشكل أو بآخر يمضغون العنب المحصرم؛ فهل من مخرج من هذه الورطة؟ وهل من حد لزراعة الألم وحصاد الهشيم؟
إن كل خروج محتمل على معايير العقل الجمعي، وكل ثورة مضادة أو عنف مضاد يجد المقاربة الأمنية في مواجهته، فالتعاطي مع موجة الإجرام يعتمد على الهاجس الأمني بدل اعتماد مقاربات تنموية إصلاحية أكثر نجاعة وفعالية، وهكذا ففي اللحظات التي يرتفع فيها استنكار العنف والإجرام من قبل المجتمع المدني مثلا، تهرع الدولة إلى القيام بحملات تمشيطية مناسباتية، يكون الغرض منها في مطلق الأحوال، تصفية حساب أو تقليم أظافر لبعض الجانحين الذين يحاولون قلب الطاولة. فإنتاج الجنوح في المغرب، يرتبط بدرجة عليا بثقافة الفقر والفاقة والتي تضم حسب "أوسكار لوويس" أفراد ذوي مستويات منخفضة من التعليم، ومشاركات ضعيفة في المنظمات الموجودة في المجتمع، كالنقابات العمالية أو الأحزاب السياسية، وبعدم المشاركة في برامج الخدمات الاجتماعية وقلة الإنتفاع بالتسهيلات والمرافق التي تقدمها المدينة... كما تتميز حياة هؤلاء الناس بالافتقار إلى الخصوصية وكثرة اللجوء إلى العنف والشعور بالقدرية والاستسلام وعقدة الاعتزاز المفرط بالذكورة عند الرجال . فثقافة الفقر هي المحددة بقوة لإنتاج الجنوح في المجتمع المغربي، فكثيرة هي الدراسات التي انتهت إلى التأكيد على أن المنخرطين في عوالم الجنوح هم بالضرورة قادمون من دنيا الفقر والفاقة، حيث الإعاقة الاجتماعية والحرمان العاطفي وغياب الأمن النفسي.
ولهذا يمكن القول، بأن شروط إنتاج الجنوح مغربيا تتحدد في مثلث الفقر والتهميش والحرمان، أي أن الشرط الاجتماعي هو الذي يلعب الدور المركزي في تكريس السلوك الجانح؛ هذا مع التأكيد أيضا على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار باقي العوامل الأخرى النفسية والبيولوجية التي تساهم في خلق الظاهرة الإجرامية، فشيوع الإجرام وتنامي النقط السوداء هو نتاج واقعي للامساواة ولا تكافؤ الفرص، وهو أيضا نتاج محتمل لشروط نفسية وسياسية وثقافية أخرى، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه جيدا في مقاربة الجنوح وبحث سبل تربية الجانحين وإعادة إدماجهم من جديد في النسق المجتمعي لأن فصول اللاسلم والتطاحن لن تنمحي من جنبات مجتمعنا بدون إقرار مبدأ العدالة الاجتماعية والقطع مع الاختيارات الفئوية الضيقة ولابد من الإشارة في ختام هذا المبحث إلى أن الاتجاه الحديث في دراسة سلوك الجانح يتجه إلى استجماع مختلف العوامل والمتغيرات التي تنتج الجنوح، فعلم الإجرام الجديد يمثل نظرية عامة واتجاها أو منهجا حديثا يبحث عن الأسباب والعلاقات التي تربط ظواهر الجنوح بمختلف مواصفات المجتمعات المعاصرة، وما تحتوي عليه بأفرادها وأنساقها من متغيرات نفسية ثقافية أو اقتصادية أو سياسية، وما يعتري هذه المجتمعات من تغير أو تحول . فالفعل المنحرف هو نتيجة منطقية لمجموعة من الأسباب المتشابكة والتي تتفاوت في درجتها التأثيرية تبعا لظروف النشأة والتكوين، بحيث يكون العامل النفسي مثلا أكثر قوة وتأثيرا لدى جانح ما، مثلما يكون العامل السوسيو اقتصادي ذا أهمية بارزة لدى جانح آخر. و لقد ظل سؤال إعادة إنتاج الجنوح من أكثر الأسئلة إرباكا وإثارة للخلاف والاختلاف، لأنه يؤشر فعلا على الفشل الذريع الذي يعتري الفعل التربوي/الإصلاحي للمؤسسة العقابية. ذلك أن تجذر الفعل الإجرامي وتطوير حالاته يدل على الإفلاس المؤسسي والوظيفي للسجن كمؤسسة تؤكد في مختلف أنظمتها وأبنيتها أنها أوجدت أساسا من أجل الإصلاح والتهذيب ومقاومة إعادة إنتاج الجنوح وتفريخ الجانحين. لكن وبالرغم من كل مظاهر العقاب، وبالرغم من العنف الكامن في المؤسسة العقابية، فإن ظواهر الجنوح تخرج علنيا في كل حين وبملامح متقدمة الخطورة أحيانا، فما هي تحديدا شروط إعادة إنتاج الجنوح؟ وكيف تتم هذه العملية في نسق العقاب السجني وخارجه؟ كيف يصير الجنوح احترافا بالنسبة للجانح؟ وعلام يدل هذا الإنتاج المكرور والمتطور؟ وما نتائجه المحتملة على مستوى الفرد والمجتمع؟
إن التأمل النقدي لمسألة إعادة إنتاج الجنوح كفعل إنساني معقد تتشابك في صناعته وإنتاجه مجموعة من العوامل النفسية الاجتماعية البيولوجية. يفرض علينا الانفتاح على ظاهرة العود التي تبصم الواقع السجني، وذلك عن طريق مقاربتها في أفق فهمها وتفكيكها. فالعود عند علماء العقاب يقترن بتنفيذ العقوبة، بحيث لا يعتبر الجاني المحكوم عليه في جريمة جديدة مثلا عائدا إلا إذا نفذت عليه العقوبة الصادرة هذه بسبب الجريمة السالفة، بل إن منهم من يشترط أن تكون العقوبة سالبة للحرية .أما العود عند علماء الإجرام فهو يعني من تكرر خروجه عن القواعد الإجتماعية التي يقوم عليها المجتمع . وقد توصل المؤتمر الدولي الثالث لعلم الإجرام المنعقد سنة 1955 إلى توصيف الجانح العائد على أساس أنه الشخص الذي سبق عليه الحكم قضائيا بجريمة ثم ارتكب أخرى جديدة سواء تثبت عليه رسميا أم لم تثبت. وهو أيضا الشخص الذي سبق الحكم عليه قضائيا بجريمة ثم صدرت منه بعض الأفعال المتعلقة بنشاطه الإجرامي نظرا لحالته الخطرة . فالعود في أبسط مفاهيمه هو تكرار اقتراف الجنوح، بالرغم من انقضاء فترة العقاب، وهو بهذا المفهوم يشير إلى فشل المؤسسة العقابية في الإصلاح والتهذيب، "فبالإمكان توسيع السجون كثيرا وزيادة عددها أو تحويلها، ولكن كمية الجرائم تبقى ثابتة أو ما هو أسوأ أيضا، إنها تزيد" ، فما الأسباب الكامنة إذن وراء العود وإعادة إنتاج الجنوح؟
ثمة عوامل كثيرة ومتداخلة تساهم في ذلك بدرجات متفاوتة، وهي تتصل بداية بالعالم السجني، لأن الاعتقال يستثير التكرار (العود) بعد الخروج من السجن، ويكون الحظ أكبر من السابق في العودة إليه، فالمحكومون هم بنسبة ضخمة مسجونون قدامى... فالسجن إذن بدلا من أن يطلق سراح أشخاص مصلحين، ينشر في الجماهير جانحين خطرين ، فالمؤسسة العقابية بأشكالها وأنظمتها تساهم في إعادة إنتاج الجنوح ضدا في أهدافها المسطرة في قوانينها، والتي تلح فيها على مطلب الإصلاح والتهذيب والإدماج. فبفضل ما يعتمل في رحاب السجن من عنف و"ثقافة" عقاب خاصة، فإنه لا يمكن له أن يتخلى عن صنع الجانحين، فهو يصنع منهم بفضل نمط الحياة التي يؤمنها للمعتقلين، عدم تفكير بالإنسان في المجتمع، وهذا يعني خلق عيش مختلف للطبيعة غير مفيد وخطر، فهل يمكن للسجن أن يخرج غير الجانحين، حين يفرض على المعتقلين ضغوطات عنيفة؟ فحياة السجن مفتوحة على اللاإصلاح والاختلال بشكل قوي ففي كل الممارسات تتضاءل فرص السواء، ولهذا كيف لا يكون السجن والحالة هاته مساهما بالفعل في إعادة إنتاج الجنوح؟ فالإحساس بالظلم الذي يستشعره المعتقل هو أحد الأسباب التي يمكن أن تجعل شخصيته مستعصية ومعتادة على الجنوح، عندما يرى نفسه هكذا معرضا لآلام لم يفرضها القانون ولا ينص عليها، فإنه يدخل في حالة معتادة من الغضب ضد كل ما يحيط به، فلا يرى قبالته إلا الفساد والخوف والظلم وعدم كفاءة الحراس... فهل يتلقى السجناء بهذا الشأن دروسا في النزاهة؟ ألا ينحطون أكثر من جراء هذه الدروس في الاستغلال الكريه . فواقع السجون يغذي الاستعدادات الأولية للجنوح واحترافه، ويعد العنف والقمع كإحدى خصيصات المؤسسة العقابية، من أكثر العوامل التي تنمي هذه الاستعدادات، على اعتبار أن كل عنف يستتبعه عنف مضاد، فعنف المؤسسة الذي يتخذ تلاوين مختلفة، يفترض ولادة عنف آخر، يحاول من خلاله فاعلوه "الانقلاب" والتحرر من العنف المؤسسي.. وهذا يعني أن العنف المضاد الذي يفتضح في رحاب المؤسسة وخارجها لا يقدم إلا إجابات محتملة لأسئلة العنف المؤسسي الأولي . فظروف العود تهيأ إذن في مؤسسة العقاب، اعتبارا لما يصاحب العقاب من ممارسات فظيعة حاطة بالكرامة، ومحرضة على استثمار القوة والجنوح لتأكيد الذات وحمايتها. فالسجين ينفرض عليه فرضا أن يجنح إلى العنف في كل لحظة، حتى يقوي مكانته الرمزية في الحقل السجني. فليس أمامه من خيار إلا الارتماء في الفساد والانحراف والأمراض الاجتماعية حتى يستطيع مسايرة إيقاع السجن، وذلك لكون إمكانات الإصلاح والسواء تبدو ضئيلة جدا مقارنة مع ما يتفاحش في المؤسسة العقابية من ظواهر الجنوح وتطويره. فما مدى المرونة التي يتوفر عليها السجين لكي يعاد تأهيله؟ هل لديه الإستعداد ويقبل على هذه العملية التي نطلق عليها "إعادة التأهيل"؟ فإذا نظرنا إلى السجين فسوف نجد أن لمدة ولظروف الإعتقال والحبس أثرا في قواه الجسمية وبنيتها ثم أيضا في قواه "النفسية" فالأثر أو بالأحرى الآثار التي يبصمها السجن في نفسية السجين وفي جسده أيضا (الوشم، الندوب، الاعتداءات الجنسية...) تدفعه إلى احتراف الجنوح بدل الانقطاع عنه، وكأن الأمر يتعلق بمحاولة لرد الاعتبار والانتقام.
ففي كل حقل يوجد صراع، ويجب في كل مرة البحث عن أشكاله النوعية، بين الوارد الجديد الذي يحاول اقتحام حواجز وشروط الدخول، وبين المسيطر الذي يحاول الدفاع عن احتكاراته والقضاء على المنافسة . ووفقا لهذا الطرح يلوح السجن كمؤسسة للصراع والمنافسة الشرسة بين مالكي وسائل الإنتاج والإكراه، وغيرهم ممن لا يملكون، فالصراع أو الصراعات كما يقول بيير بورديو هي بعد مستمر من أبعاد الممارسات الاجتماعية، فالصراعات ملازمة لمختلف حقوق النشاط، إنها تحدث انطلاقا من أوضاع وممتلكات معينة ووفق أنماط إدراك وعمل، إن تاريخ كل حقل هو تاريخ الصراع . لكن الصراعات داخل الفضاء السجني تتخذ أبعادا أخرى أكثر قتامة وذلك لأنها تتأطر بجدليات خاصة تنهل من ثقافة الجنوح والإجرام، وهو ما يقود نهاية إلى بصم "فرقاء السجن". بهذه الثقافة ذاتها، والتي تجعل من العنف أهم مميزاتها، ولأن الأمر يتعلق فعلا بثقافة فرعية ضمن الثقافات الأخرى التي تتوزع بين حقول المجتمع الأخرى، لأن السجناء يشكلون بتعبير ميشيل فوكو شعبا، داخل الشعب له عاداته وغرائزه وآدابه أيضا .
وإذا كانت الثقافة تعني مجموع الإنتاجات الفكرية والمادية لمجتمع ما، وفي زمن ومكان ما، فإنه يمكن القول بأن المؤسسة العقابية تؤسس وتدعم ثقافتها الخاصة عبر أشكال التواصل وقيم العنف ووسائل الإنتاج وإعادة الإنتاج، وبما أنها تشكل مزيجا مجتمعيا ينضبط إلى عقل جمعي وتحكمه قيم ومعايير، فإن السجين في البدء والختام مطالب بالامتثال لقيم هذه الشفافية ومسايرة إيقاعاتها حتى يحقق نوعا من "التكيف السجني". وبما أن مشاريع الإصلاح لا تستهدف البتة تغيير مقومات وأسس هذه الثقافة السجنية، فإنها تظل تراوح مكانها، ليستمر السجن ضدا على أهدافه مساهما في إعادة إنتاج الجنوح بشكل عام.
ولكن ظاهرة العود، وإن كان السجن مساهما في إنتاجها بدرجة عالية، فإنها ترتبط أيضا بعوامل أخرى، وبفضاءات أخرى خارج عالم السجن، فالظروف التي تهيأ للجانحين الذين أطلق سراحهم تحملهم على التكرار (العود)، لأنهم يظلون تحت رقابة البوليس، وتحت الإقامة الجبرية أو ممنوعون من الإقامة، فضلا عن مصاعب الحصول على عمل . فالنبذ الاجتماعي يكون بالمرصاد لكل من اقتادته الظروف سواء خطأ أو قصدا إلى عالم السجن، بحيث يظل السجين متهما أبدا ولو بعد قضاء العقوبة، فالنظرات الشرزاء تلاحقه في كل مكان، والرفض الاجتماعي يصادفه في كل مبادراته ولو كانت تجنح إلى الإصلاح وتحقيق السلم الاجتماعي، وإن وضعا شاذا كهذا لابد أن يقوي لدى الجانح الخارج من السجن الاستعداد القوي للعود بدل الانصلاح والاندماج الاجتماعي، فالرعاية اللاحقة ومؤسسات إعادة الإدماج شبه غائبة في هذا الهنا، ذلك أنه في كل يوم تلفظ المؤسسات العقابية مئات الجانحين الذين يجدون النبذ الاجتماعي وليس الإدماج والرعاية اللاحقة أمامهم، ليعودوا من جديد إلى السجن الفاشل قبلا في إصلاحهم..، فكيف يمكن لهذا الجانح أن يتخلص من وصمة العار ومن النفور، والأحكام المسبقة التي تلصق بأي شخص دخل السجن؟ فهل عملية إعادة التأهيل تأخذ بعين الاعتبار هذه الجوانب وذلك لتسهيل الاندماج والانخراط في المجتمع والقيام بالأنشطة الاعتيادية .فمقولة الإدماج تفترض تهييء الظروف المواتية لتحقيق اندماج أفضل وفاعل في النسق المجتمعي، فلابد من توفير مختلف الإمكانيات والوسائل العلاجية للتخلص من الاضطرابات والندوب التي يمكن أن يخلفها السجن في نفسية السجين ، لكن من الذي بمقدوره القيام بهذه المهام؟ ومن المسؤول تحديدا عن الرعاية اللاحقة لمحاربة إعادة إنتاج الجنوح؟
تشريعيا لا يوجد في المغرب ما يشير إلى أن هناك مؤسسة ما توكل إليها مهمة الرعاية اللاحقة للسجون، فقانون 98-23 لم يشر من بعيد أو قريب إلى هذه المسألة، وبالرغم من وجود عملية "إعادة الإدماج" في عنوان مديرية السجون، فإنه من الناحية الهيكلية لا تتوفر هذه المؤسسة ولو على مكتب متواضع في منظمها العام يختص بالرعاية اللاحقة للمفرج عنهم من سجونها. وعليه فإن غياب الرعاية اللاحقة وإمكانات الإدماج السوي بعد قضاء فترة العقوبة سيساهم بدوره في إعادة إنتاج الجنوح.
ومن جهة أخرى، فإن ميشيل فوكو يعتبر أن السجن يساهم في إعادة إنتاج الجنوح بصورة غير مباشرة، وذلك بإفقاره لعائلة السجين، فالقرار ذاته الذي يرسل رب العائلة إلى السجن يقود الزوجة يوما بعد آخر إلى الانحراف، والأولاد والعائلة كلها إلى التشرد والتسول . إن السجن بالنظر إلى هذا المار ذكره يمكن اعتباره مؤسسة عقابية تبقي على الجنوح وتوسع مداه، وتشجع على العود، وتقود المخالف بصورة عرضية إلى جانح معتاد محترف، إنها بكل وضوح تعد بيئة مغلقة للجنوح وإعادة إنتاج الجنوح.
لكن وإذا كان السجن يتحمل المسؤولية الكبرى في تفريخ الجانحين، فإنه لا ينبغي أن ننسى أن "ما وراء السجن" كفضاء آخر وكحقول مجتمعية مفتوحة على الصراع والعنف والتهميش والتفقير تساهم بقسط مهم في عملية إعادة الإنتاج، هذا بالإضافة إلى العوامل السيكولوجية والثقافية والسياسية الأخرى المسؤولة عن "ولادة الانحراف" وتطوره وتجذره الواقعي. فإعادة إنتاج الجنوح، وإن كان السجن بمفاعليه وآثاره يقويها، فإن ما يتفاعل خارج جدرانه يلعب أدوارا أخرى في توسيع إمكانات حدوثها. لأن العقاب في الواقع لا يحل مشكل الجنوح، ما دامت البيئات الأصلية التي أنتجته على حالها، ولهذا لن ننتظر من جانح خرج من رحم الفقر والتهميش أن ينصلح بواسطة السجن وهو الذي سيعود مجددا بعد قضاء العقوبة إلى ذات البيئة التي كونت لديه استعدادات الجنوح، فظاهرة العود لا تنتجها فقط عوامل السجن الداخلية، بل تنتجها وتعيد إنتاجها عوامل "السجن الأكبر" المتأسسة على التنفير والإقصاء والإهدار العلني للطاقات، فلأن الإصلاح والعقاب لا يستهدف منابع ومنافس الجنوح، فإن ظاهرة العود مستمرة في الارتفاع ودرجات ومستويات الجنوح مستمرة كذلك في التعملق والفظاعة. فعندما لا يجد الجانح الخارج للتو من السجن تغيرا ملموسا في البيئة التي قادته إلى الانحراف، فإنه يعود مجددا للارتماء في أحضان الجنوح، في تأثير مباشر على فشل السجن في عمله الإصلاحي، وفشل باقي مؤسسات المجتمع وأفراده في تغيير شروط إنتاج الجنوح وتهييء ظروف الاندماج والتأهيل.وأمام الملاحظ الثابت بأن السجن قد فشل في تقليص الجرائم، يرى ميشيل فوكو بأنه ربما يتوجب إحلال الفرضية القائلة بأن السجن قد نجح تماما في إنتاج الجنوح كما نجح في إنتاج الجانحين. وبذلك فهو يساعد في إعادة إنتاج الجنوح وبأشكال تهدد الأمن الاجتماعي، لكن وبالرغم من هذا الفشل المؤسسي للعقاب فإنه ظل حاضرا بممارساته وأنظمته، بل إن الإعلان عن فشل السجن، قد اقترن دائما بالإبقاء عليه من طرف مالكي وسائل الإنتاج والإكراه في الأنساق السوسيوسياسية.
إن الجنوح في النهاية ليس سببا وإنما هو نتيجة مباشرة لعدة أسباب تتشابك وتتفاعل فيما بينها لتنتج أخيرا جنوحا وجانحين يلجون مؤسسة العقاب بهدف الإصلاح – على مستوى الخطاب لا الممارسة – ويخرجون منها جانحين محترفين يصير السجن ملاذا لهم في كل حين. وتحول المؤسسة العقابية إلى فضاء حيوي لإعادة إنتاج الجنوح يعني فيما يعنيه انتعاشا لثقافة فرعية لها قيمتها ومعاييرها وقانونها وعقلها الجمعي الذي يؤطر ويحدد مسارات الإنتاج وإعادة الإنتاج.



#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المجتمع المدني بالمغرب : جنينية المفهوم و تشوهات الفعل
- اعتصامات المعطلين بالمغرب : نجاح الحركات الاحتجاجية أم إفلاس ...
- الشباب المغربي و المؤسسة الحزبية : جدل التهميش و الإدماج
- الشباب و المؤسسة الحزبية : جدل التهميش و الإدماج


المزيد.....




- الانتخابات الأمريكية.. هذا ما وجده آخر استطلاع رأي حول هاريس ...
- عاصفة متوقعة في البحر الكاريبي قد تتحول إلى إعصار وتضرب كوبا ...
- الحب أعمى حبيبي: ماذا يقول علم النفس؟
- حرس الحدود الإيراني يضبط كمية من السلاح والمخدرات في الحدود ...
- إعلام: العثور على صاروخ مجهز للإطلاق على بعد 10 كيلومترات من ...
- حكومة غزة: المجازر والإبادة الجماعية تتم بدعم غربي وتقاعس عر ...
- بوتين: سنواجه تحديات اليوم ونحدد مستقبلنا بأنفسنا
- -القسام- تستهدف 4 جنود إسرائيليين ودبابة بعبوة شديدة الانفجا ...
- ماسك يهاجم الديمقراطيين: سيلجأون إلى أي كذبة
- ناشطة سويدية تشارك في مسيرة حاشدة في تبليسي ضد نتائج الانتخا ...


المزيد.....

- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الرحيم العطري - المؤسسة العقابية و إعادة إنتاج الجنوح