أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - سمير أمين - حول مفهوم القومية















المزيد.....



حول مفهوم القومية


سمير أمين

الحوار المتمدن-العدد: 1167 - 2005 / 4 / 14 - 10:31
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


الفصل الثامن من كتاب ’’ في مواجهة أزمة عصرنا‘‘.
تأليف: د. سمير أمين.

1- لا شك أن القومية واقع له وجود حقيقي وفعّال وتعبيرات صارخة تتجّلى في جميع مستويات الحياة الإجتماعية واليومية للشعوب. فمعظم الناس يعترفون دون تردد بإنتمائهم إلى قومية ما، ويقصدون من وراء هذا الإعلان أنهم يرون أن ثمة قاسماً مشتركاً يجمعهم مع غيرهم من ((مواطنيهم)) في وحدة القومية، وذلك على الرغم من التميزات التي قد تفرّق بينهم وتقسّمهم الى مجموعات إجتماعية متميّزة، مثل الطبقة أو العقيدة أو الثقافة. وليس الحكم بصحّة أو وهمية القاسم المشترك المزعوم هو موضوع نقاشنا هنا؛ فمجرد الإقتناع بوجوده، أكان بشكل بشكل مطلق أم نسبي- أي في صورة تعترف بحدود هذه السمات المشتركة-، إنما يثبت حقيقة واقع القومية كظاهرة إجتماعية. هذا بديهي، ولكنه لا يعني على الإطلاق أن التوقف للتساؤل حول طبيعة الظاهرة القومية وحدودها وتناقضاتها غير ضروري، بل على العكس من ذلك، لا بد من نقد الميثولوجيات التي يقوم ((الوعي القومي)) عليها. لأن هذا الوعي قائم فعلاً على ميثولوجيات عنيدة تصعب إزالة النقاب عنها: منها ميثولوجيات تزعم أن القومية ((ظاهرة طبيعية))؛ بمعنى أنها تنتمي الى الطبيعة البيولوجية للإنسان، الأمر الذي يقود فوراً الى عنصرية وعرقية. هذا بينما التاريخ يثبت أن القوميات القائمة فعلاً في الساحة هي ظواهر إجتماعية تاريخية الطابع، تكونت ونمت في ظروف ملموسة معينة. وبما أن المسيرات التاريخية التي مرّت بها مختلف الشعوب متباينة، فلا بد من العودة الى تاريخ هذه المسيرات، إذ أن تباينها يفسر إختلاف مفاهيم القومية.

2- يقوم مفهوم القومية على تناقض جوهري داخلي له، شأنه في ذلك شأن جميع المفاهيم المحددة لمجموعات إنسانية. هذا التناقض يتجلّى هنا، من ناحية، بين العمومية الإنسانية؛ أي الطابع المشترك للبشر بأجمعه، سواء أكان من حيث المميزات البيولوجية والنفسية والذهنية - الأمر الذي ينكر تماماً النظريات العرقية التي تدّعي أن الخصوصيات في هذه المجالات تتفوق على ما هو عام ومشترك -، أم من حيث مغزى المشروعات المجتمعية المستقبلية، وبين الذاتية الخصوصية التي تتجلّى في واقع تاريخ المجموعات الإنسانية تجلياً واضحاً، من الناحية الثانية.

يتموضع التحدي العلمي الحقيقي في الإجابة عن هذا السؤال بالتحديد: كيف تتمفصل أبعاد الخصوصية والعمومية؟ لماذا - على صعيد التعبير الإيديولوجي للوعي الإجتماعي - يزعم البعض أن الخصوصية تنفي العمومية فيطرحون نظريات وإيديولوجيات تعطي مشروعية لهذا النظر، بينما يزعم البعض الآخر أن العمومي يفرض نفسه فرضاً - شئنا أم أبينا. إن دور التحليل العلمي هو بالتحديد قراءة نقدية للميثولوجيات والإدراكات وأساليب التفهم التي تعبّر القومية عن نفسها من خلالها، وذلك بغرض كشف سر التناقض الذي يقوم عليه مفهوم القومية.

3- إن لمفهوم عمومية البشرية نفسه تاريخاً. فالإنسانية لم تصل فوراً الى مستوى التجريد المطلوب من أجل إدراك المغزى الذي يحمله هذا المفهوم، فإنحصرت تجربة المعاش على مجموعات فئوية صغيرة نسبياً - قبائل أو إثنيات، لا تهم تسميتها - ونظر أعضاء هذه المجموعات الى أنفسهم نظرة خصوصية مطلقة، دون التوصل الى إدراك مغزى وحدة البشر.

وإستمرت الأوضاع على هذا النمط خلال عشرات ألوف السنين، ومن ملازمات هذا الوعي القاصر، المحبوس في آفاق ضّيقة، أن الآلهات التي تصورتها الحضارات في هذه العصور القديمة لم تخرج، هي الأخرى، عن آفاق محلية، فظلّت كائنات خاصة لكل قبيلة أو إثنية أو جماعة فئوية، دون أن يتوصل التصوّر الى كائن إلهي يخاطب البشرية بأكملها.

ثم جاءت أول موجة لما أُسّميه ((الثورات الثقافية لنمط الإنتاج الخراجي)) ، وظهر معها مفهوم عمومية البشرية في صورته الأولى. أقصد هنا الألفية التي تمتد من 500 ق.م الى القرن السابع الميلادي. فقد تبلورت خلال هذه المرحلة التاريخية الديانات الكبرى التي تتقاسم الإنسانية بينها الى عصرنا، وهي الديانة الزرادشتية، التي هجرت مسرح التاريخ، والبوذية والمسيحية والإسلام، كما تبلورت أيضاً خلال هذه المرحلة الفلسفات الكبرى ذات المغزى الإنساني العمومي؛ أقصد الكونفوشيوسية والهيلينية. وتتسم جميع هذه العقائد بالقول إن للبشر قدراً واحداً، ولو إنحصرت النظرة الى هذا القدر على تأويلات تخص الآخرة. هكذا تجاوز الفكر الديني والفلسفي آفاق المحلية والخصوصية.

على أن الديانات والفلسفات الجديدة ذات البعد الإنساني العمومي لم تحقق وحدة الإنسانية على صعيد الكون، فلم تسمح بذلك الظروف الموضوعية الخاصة بالمرحلة الخراجية للتاريخ. هكذا تبلورت عوالم المسيحية والإسلام والهندوكية والكونفوشيوسية. وعلى الرغم من هذا الفشل النسبي في تحقيق العولمة، أزعم أن هذا الفشل النسبي في تحقيق العولمة، أزعم أن هذه الثورة الثقافية تمثل مرحلة أولى حاسمة في تكوين مفهوم العمومية. فطرحت فكرة سابقة على أوانها، سابقة على أوانها، سابقة على نضوج الظروف التي تتيح تحقيقها، شأنها في ذلك شأن جميع الثورات الكبرى.

تمثل الثورة البرجوازية التي تفتح العصر الحديث المرحلة الثانية في هذا التطور؛ وقد طرحت مفهوماً جديداً للعمومية، أغنى مضموناً. وأزعم أن فلسفة الأنوار تمثل نقطة إنطلاق هذه الحركة التي بلغت ذروتها في الثورة الفرنسية. وفيما يخص موضوعنا مباشرة، أي موضوع القومية، فقد طرحت فلسفة الأنوار مضموناً جديداً لها.

كانت الشعوب قبل ذلك التاريخ تعيش واقعها على ضوء الوعي بالإنتماء الى إحدى الديانات أو الفلسفات الإقليمية الكبرى المذكورة أعلاه. فنستطيع أن نتحدث بالنسبة لتلك العصور، السابقة على الرأسمالية، عن أمم مسيحية وإسلامية وهندوكية وكونفوشيوسية. فقد كان لهذه الأمم وجود فعلي، وصدى حاسم في العديد من الممارسات السياسية والإيديولوجية والسلوك في الحياة اليومية، وذلك سواء أكانت المنطقة المعينة موحدة نسبياً من حيث نظام الحكم السياسي- وهذه الحالة هي الإستثناء- أم كانت متفتتة سياسياً، وهي القاعدة العامة.

جددت فلسفة الأنوار الوعي؛ كي يستجيب الإطار المجتمعي الذي أخذ في التكون في الربع الشمالي الغربي للقارة الأوربية إنطلاقاً من عصر النهضة وفتح أمريكا (القرن السادس عشر)، أي الرأسمالية بتعبير أصح. فتبلورت أولى القوميات الحديثة في هذه الأطر المناسبة لنشأة الرأسمالية، وهي إنكلترا وفرنسا بالتحديد. أقول القوميات الحديثة؛ بمعنى أنها قوميات إزدهرت في ظل إطار الدولة-الأمة البرجوازية التي لا سابق لها في التاريخ.

أضفت فلسفة الأنوار مشروعية لهذه القطيعة في التاريخ. لذلك لم تتطلع الى تكوين الدولة-الأمة البرجوازية الجديدة على أنه ناتج طبيعي للتطور، ولم تؤسس مشروعية القومية على ميثولوجيا بيولوجية مثلاً، بل اتخذت موقفاً مبدئياً معادياً تماماً، وأنمت خطاباً آخر. فأعلنت أن الدولة-المجتمع هذا هو ناتج قطيعة وانعتاق من (( الطبيعة)). فالمجتمع في منظورها ناتج ((عقد إجتماعي)) يربط الأفراد بعضهم ببعض. والعقد - كما هو معروف في القانون- هو صلة تربط أحراراً بفعل إرادتهم الحرة. فالقومية، من هذا المنظور، هي فعل عقد إجتماعي، والدولة-الأمة -القالب الذي تتكون القومية من ضمنه- لا وجود لها في غياب هذا العقد، أي دون القرار الواعي من قبل ((مواطنين))، وليست ناتج تطور (( طبيعي)) يفرض نفسه بدون عمل الوعي.

طبعاً فكرة ((العقد الإجتماعي)) هي أيضاً ميثولوجية؛ بمعنى أن ظهور العلاقات الرأسمالية هو القاعدة الموضوعية التي تكّونت الدولة -الأمة على أساسها، وأن هذه العلاقات لم تنشأ بقرار من الناس. على أن هذه الميثولوجيات الجديدة لا تمتّ للماضي بصلة، فهي تجلّ لمفاهيم جديدة رافقت نشأت الرأسمالية، مفاهيم الفردية البرجوازية وحريتها؛ أي تأكيد حقوق هذا الفرد الحر في مواجهة المجتمع وانعتاقه منه، ظهور مفهوم المواطن ليحل محل الرعايا وأهل الذمة.

تجلّت هذه المفاهيم الجديدة في الثورة الفرنسية تجلياً إيديولوجياً وسياسياً بارزاً. فالثورة الفرنسية زعمت أنها تؤسس ((أمة جديدة))، لا علاقة لها بالمرجعية البيولوجية (دم الأسلاف أو الأمة الدينية)؛ بل مرجعيتها الوحيدة هي قرار حر من المواطنين الذين يريدون العيش متضامنين في ظل قوانين يسنّونها هم دون قيد. لذلك ضمت هذه الأمة الجديدة الشعب الذي اشترك في الثورة بفئاته المختلفة الأصول، والمكونة من ناطقين باللغة الفرنسية ومن غير الناطقين بهذه اللغة على قدم المساواة، وكذلك-بالمقابل- لم تشمل هذه الأمة كل من نطق بالفرنسية ويعيش كمواطن في دولة أخرى. فهذه الأمة الجديدة هي ((أمة-مجتمع إيديولوجية الطابع))، ((أمة إختيار حر))، ((أمة مواطنين بإرادتهم)) وليست ((أمة طبيعية)) عنصرية، ليست أمة الأسلاف. لذلك ضمّت الأمة الفرنسية الجديدة فوراً يهودي فرنسا، رغم اختلافهم في الديانة؛ إذ أن الديانة لم تعد تمثل مرجعية معترفاً بها. أكثر من ذلك، ضمت الثورة في ذروتها العبيد السود الذين انتفضوا في هاييتي، وأعلنت أنهم استحقوا أن يكونوا مواطنين متساويين، بفضل انتفاضتهم، لأنهم أحرار بإرادتهم.

مفهوم العلمانية يجد مكانه في هذا الإطار الإيديولوجي. فلا تنحصر العلمانية في مبدأ استقلال القرار السياسي عن اللاهوت. فهذا المبدأ معمول به عبر التاريخ منذ أزمنة بعيدة وفي جميع المجتمعات، على الرغم من أنه، ظاهرياً، لم يكن كذلك دائماً، وعلى الرغم من إدعاء الجماعات الإسلامية أنه لا يجب أن يكون كذلك. فالدمج بين السياسة والدين يضفي طابعاً مقدساً على ممارسات يغلب فيها طابع الإنتهازية السياسية؛ وبالتالي يلقي قناعاً يحول دون شفافية القرار، ويلغي جوهر الديمقراطية. كذلك لا ينحصر مبدأ العلمانية في ممارسة التسامح وإطلاق الحريات الدينية مهما كانت.

إن مبدأ العلمانية يتجاوز كل ذلك، فهو إعلان قطيعة بالماضي والطبيعة، ويلغي المرجعية المعتمدة على السلفية، ومنها انتماء الشعب الى عقيدة دينية مشتركة. فالثورة الفرنسية أعلنت أن المسيحية هي رأي ((فلسفي)) فردي -لا أكثر- شأنها شأن أي رأي فلسفي، وليست عاملاً من عوامل البناء الإيديولوجي للمجتمع.

وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندرك مغزى ((حق اللجوء)) المسجل في إعلان حقوق الإنسان والمواطن- ديباجة الدستور- فما معنى هذا الحق؟ إن مفاده هو أن أي انسان - بغض النظر عن أصوله ولونه وآرائه(ومنها الدينية)- إذا اراد العيش في ظل قوانين الجمهورية وأن يشترك في سنها، فله الحق بالمواطنة. فليست هذه الأمة نتاج ((خصوصية)) لها جذور طبيعية وبيولوجية وتأريخية؛ بل أمة-مجتمع تزعم أنها تجلّ لمبدأ العمومية. سنجد ظواهر متماثلة تماماً في الثورة الفرنسية. فالثورة الفرنسية نصبت نفسها نموذجاً ينبغي أن يُحتذى؛ بل اعتبرت أن ثمة قوانين موضوعية لا بد أن تؤدي الى الإحتذاء بها عالمياً. ونجد فكرة متماثلة تماماً في تجربة الثورة الروسية، فهذا شأن جميع الثورات الكبر: إنها تتخطى مقتضيات الحاضر المباشر، وتشير الى اتجاه التطور المستقبلي البعيد.

4- ولكن لا فلسفة الأنوار ولا الثورة الفرنسية، التي تمثّل أعظم تجلياتها في الواقع المجتمعي، قد حققت الهدف ذا البعد العمومي المعلن. لماذا؟ لأن النظام الرأسمالي الذي كانت هذه الإيديولوجية ملازمة له لم يتطلب ذلك؛ بل إن منطق الرأسمالية نفسه قد وضع حدوداً ضيقة لمبدأ العمومية المعلن. لقد اصطدم المشروع العمومي لفكر الأنوار والثورة الفرنسية بواقع التوسع الرأسمالي الذي حددّ مغزاه في بعدين اثنين:

يخص أول هذين البعدين ما ترتّب على اساليب انتشار الرأسمالية في أوربا نفسها. فلم تفتح الرأسمالية سبيلاً لها خارج انكلترا وفرنسا وهولندا من خلال ثورات بورجوازية؛ بل بالإعتماد على إقامة الدول الوطنية ( الدولة-الأمة ) لأوربا الحديثة. ففي ألمانيا، مثلاً، كان تكوين هذه الدولة ناتج مركّب لاستخدام القوة العسكرية لمملكة بروسيا، وانضمام ارسطوقراطيات الإمارات الألمانية لمشروع بسمارك، دون تحقيق ثورة برجوازية.

وقد انتجت هذه الظروف نتائج بالغة الأهمية من حيث مضمون الإيديولوجية السائدة في الدولة الجديدة. فالتحالف الإجتماعي الحاكم الذي فتح سبيلاً لنمو الرأسمالية أقام مشروعيته لا على قيم الديمقراطية، بل أحلّ محلها الإعتماد على القومية، علماً بأن القومية هذه لم تكن وطنية مبنية على اختيار حر (عقد اجتماعي)؛ بل أصبحت قومية تلجأ الى مرجعية عرقية، ميثولوجيا الأسلاف والدم. فهذه المرجعية هي بدورها دعوة للبحث عن جذور (حقيقية أو وهمية) في الماضي البعيد للقبائل الجرمانية. وتقيم أدبيات علم الإجتماع الألماني دليلاً واضحاً على هذا البحث؛ حيث أنها ابتدعت مصطلحاً خاصاً للإشارة الى تلك الجماعة الوهمية القديمة المزعومة ( والمصطلح الألماني هو هنا Gemeinschaft) والمعتبرة أصل القومية الألمانية الحديثة. فهذه الإيديولوجيا لم تطرح نفسها على أنها قطيعة مع الماضي، بل على أنها بعثاً له. ومما ترتّب على هذا الموقف أن هذه الإيديولوجيا نظرت الى التراث الديني الجرماني القديم على أنه عنصر من عناصر تكوين الأمة. فهي إذن إيديولوجيا عرقية ورجعية، نظرة بيولوجية للإنسان، أدت في نهاية المطاف الى الإجرام النازي، ولم تُستأصل حتى الآن من الوعي العام في ألمانيا.

إذن، فإن غياب ثورة برجوازية خارج انكلترا وفرنسا وهولندا، أدى الى إعتماد نمو الرأسمالية في أوربا الوسطى والشرقية والجنوبية على ميثولوجيا قومية مفادها أن إقامة الدولة الوطنية هي تجلّ لرغبة وطنية سابقة، مفترضاً بذلك أن الأمة قد سبقت في الوجود الدولة-الأمة. هذا بينما واقع التاريخ يثبت أن الأمة المزعومة هي الى حد كبير ناتج ممارسات الدولة. وقد أنتج هذا التشوّه الإيديولوجي القومي انفجار الإمبراطوريات المتعددة القوميات، على الرغم من أن الأطر الأوسع التي كانت تمثّلها في مجال تنظيم السلطة لم تقلّ احتمالاً وقدرة على أن تفتح سبيلاً لنمو الرأسمالية عند الأطر الأصغر التي نشأت عن تفتتها. ثم أثّر التحمس القومي على مجتمعات أوربا الغربية الديمقراطية نفسها تأثيراً ملحوظاً، خاصة وأن دول أوربا قد دخلت في تلك اللحظة مرحلة الإمبريالية واشتداد المنافسة بينها، فصار الإلتجاء الى ميثولوجيا القومية سلاحاً فعالاً في أيدي الطبقات الحاكمة من أجل تعبئة شعوبها في مشاريعها الإستعمارية.

لا ريب أن النظرية التي ترفع عنصر الإستمرار في التاريخ لدرجة تأكيد الخصوصية المطلقة لمسيرات مختلف الشعوب هي نظرية غير علمية في أساسها ينكرها واقع التحولات التي مرّت بها جميع المجتمعات عبر تاريخها. ولكن لا ريب أيضاً أن النظرية المتطرفة العكسية التي تعتبر القطيعة الثورية قطيعة تلغي تماماً الماضي (فلنضرب الماضي عرض الحائط - كما يقول النشيد الأممي) هي الأخرى قائمة على مبالغة ينكرها التطور الحقيقي للمجتمعات التي مرّت بمثل هذه التجارب. فالنظريتان ميثولوجيتان، وإسقاط تعسفي على واقع أكثر اشتباكاً. فالأمم التي تدّعي أنها أقيمت على أساس إنكار ماضيها هي في واقع أمرها لم تتخلّص منه تماماً. فمن الأصح أن نقول في هذا الصدد إنها استوعبت عناصر عديدة من ثقافتها السابقة ووظّفتها في بنيتها الجديدة. هذا الأمر واضح تماماً في حالة فرنسا التي ترجع جذور تكوينها كأمة الى مشروع ملكيتها منذ القرن الحادي عشر. بيد أن هذه التجربة تختلف عن حالة ألمانيا التي لم تحقق تكوينها كأمة إلا حديثاً وبصفة تكاد تكون فجائية، في غياب جذور تأريخية حقيقية قديمة وقوية. ففي فرنسا حدث اندماج تدريجي على مر القرون لشعوب مختلفة الأصول هجرت لغاتها فتفرنست لغوياً وثقافياً. ثم أنشأت الجمهورية نظام التعليم الحديث الذي عجّل التطور، وأكمل المشروع فخلق وحدة ثقافية- لغوية متينة فعلاً.

ثمة تشابه واضح غاية الوضوح بين هذا التاريخ الفرنسي وتاريخ انكلترا. فقد تم فعلاً اندماج شعبي اسكتلندا وويلز وانكلزتهما لدرجة ان هذين الشعبين نسيا لغتيهما الأصليتين وصارا ينطقا بالإنكليزية فقط. غير ان الثورة الإنكليزية سبقت الفرنسية بقرن ونصف، فحدثت قبل ان تنضج الظروف بالدرجة التي نجدها ناضجة في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر. لذلك لم تكن ((القطيعة)) بالماضي في انكلترا بالقوة نفسها التي نجدها معلنة في الثورة الفرنسية. فالثورة الإنكليزية رست على حل وسط أنقذ الملكية والأرستقراطية، الأمر الذي كرس بدوره ميثولوجيا التواصل التاريخي. وفي هذا الإطار اخترعت الإيديولوجيا الإنكليزية ميثولوجيا خاصة لها فزعمت أن ديمقراطيتها وارثة تقاليد قديمة ترجع الى الوثيقة الكبرى المشهورة للقرن الثاني عشر، على الرغم من أن هذه الوثيقة هي اعلان حريات كبار الإقطاعيين إزاء سلطة الملك، وبالتالي فهي لا تمت بصلة الى الحريات البرجوازية الجديدة. وكذلك استوعبت الإيديولوجيا الإنكليزية الإصلاح البروتستانتي استيعاباً جعل منه عنصراً من عناصر التراث المزعوم الحي الى الآن.

على أن البلاد ذات التراث الديمقراطي البرجوازي تميل دائماً وتلقائياً الى تأويل مفهوم القومية تأويلاً مفتوحاً، يرحب بمبدأ اندماج عناصر جديدة وافدة، وخاصة في ظروف انفتاح البلاد على الهجرة انفتاحاً واسعاً.

كان ذلك هو وضع الولايات المتحدة وجميع بلدان أمريكا، وبعض البلاد الأخرى مثل استراليا. ولكن كان هذا هو أيضاً وضع فرنسا منذ أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل أن تحدث حركة الهجرة على نطاق واسع في أوربا الغربية كلها خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي. فكان تكيف المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية الأصلية لتحدي الهجرة تكيفاً ايجابياً بشكل عام. فاستقبل الوافدون بترحاب نسبي، ولو بدرجات طبعاً. فهنا أُعتبر منح الجنسية للمهاجرين، على الأقل لجيل أولادهم، أمراً طبيعياً. وهذه هي فعلاً الممارسة السائدة في غالبية البلدان الأوربية، علماً بأن هذا الإنفتاح على مبدأ التجنيس قد ساعد بدوره على الإندماج الفعلي في القومية المحلية.

أما الولايات المتحدة، فقد اخترعت مفهوماً خاصاً لها وهو مفهوم الإلحاق بالأمة الأمريكية. ويختلف مضمون هذا الأخير عن مفهوم الإندماج الفرنسي-الإنكليزي؛ بمعنى أن الأول يعترف بديمومة التنوع في الذاتيات الثقافية للمجموعات المختلفة الأصول المكوّنة للأمة الأمريكية.

لديّ تعليق صارم في هذا الموضوع: فالرأي السائد حالياً في هذا الصدد يدافع عن الأسلوب الأمريكي، ويشيد به باسم الديمقراطية؛ فيعتبره اكثر تقدماً؛ إذ أنه يعترف بما يسمى ((الحق في الإختلاف))، هذا الحق الذي يتجاهله أصحاب منهج الإندماج. على أن التجربة تثبت أيضاً أن الإختلاف هذا - المعترف به وبمشروعيته- هو أساس لديمومة التمييز وإنكار المساواة في واقع الأمر، فالهرمية في المواقع المجتمعية والسلوكات العرقية هي أيضاً ظواهر تلازم الإعتراف ((بالحق في الإختلاف)). لعل الأفكار المسبقة الموروثة من السوابق الموروثة من السوابق العبودية هي مصدر الأسلوب الأمريكي في تناول موضوع الإختلاف. فإذا كان الحق في الإختلاف يستحق أن يُعترف به، فينبغي أيضاً الاعتراف بحق آخر موازٍ هو ((الحق في التماثل)). أعتقد أن المبالغة في اعتبار ((الإختلافات))، بل الإشادة بها، ترافق دائماً مفهوماً ضبابياً ((للثقافة)) التي تحل محل البيولوجيا في تكريس سمات ثابتة مزعومة. هذا بينما واقع التاريخ أثبت أن الثقافات مرنة، تتكيف لتغير الظروف، شأنها في ذلك شأن جميع أوجه الواقع المجتمعي.

أما البُعد الثاني الذي وضع حدوداً للعمومية البرجوازية، فهو ذلك البعد الذي يخص التوسع الرأسمالي خارج مراكزها في الأطراف الآسيوية والأفريقية. فلم يخطر ببال أصحاب الحكم الإستعماري أن يعاملوا شعوب المستعمرات معاملة أهل الوطن الأصل، أي طبقاً للقيم الديمقراطية لفلسفة الأنوار. بل وجد هؤلاء الحكام من مصلحتهم إبقاء تلك الشعوب خاضعة لتقاليدهم (غير الديمقراطية طبعاً)، وتوظيف هذه التقاليد -أكانت أصلية أم مفبركة- من أجل تكريس حكم الإستعمار. وتمثّل حالة الجزائر في هذا الشأن نموذجاً صارخاً للكيل بمكيالين. فعلى خلاف إدعاءات شائعة في صفوف الحركات الإسلامية المعاصرة؛ لم يلغ الفرنسيون الشريعة في الجزائر، بل احترموها تماماً، ومنحوا لعلماء السلفية حقوقاً واسعة في تأويل الشريعة وتنفيذها. إن الدولة الجزائرية المستقلة الحديثة هي أول نظام في البلاد تجرأ على البدء في اصلاح هذه الأوضاع، ولو بشكل هامشي وخجول، لاسيما فيما يخص حقوق المرأة. فالحركة الإسلامية تدعو هنا الى العودة لما كان معمولاً به في ظل حكم الإستعمار الفرنسي.

ولا يدهشني هذا الكيل بمكيالين، ولا هذا الطابع المبتور في ممارسة العمومية من قبل حكام المستعمرات. كلا، فالرأسمالية أنتجت الإستقطاب على صعيد عالمي؛ أي ذلك التضاد بين المراكز المتقدمة والأطراف المتخلفة. فكان لا بد أن يلازم الإستقطاب على صعيد الواقع الإجتماعي استقطاباً آخر في مجال الممارسات السياسية والتعبيرات الإيديولوجية.

هكذا تركت الرأسمالية العالمية القائمة، بالفعل، الأطراف خارج مجال العمل؛ طبقاً للقيم القائمة على مبادىء العمومية، ودعمت ((الخصوصيات)). لذلك، فقد اصطدمت حركات التحرر الوطني والإشتراكية بهذا التحدي الرئيس الناتج عن الإستقطاب: كيف يمكن التوفيق بين الأهداف العمومية والظروف الموضوعية التي تكرّس الخصوصية؟

5- تصدىّ الفكر الإشتراكي لمسألة القومية في أوربا أولاً، ثم في إطار مسألة الاستعمار خارج أوربا. وأقلّ ما يمكن قوله بهذا الصدد هو أن الفكر الإشتراكي، بجميع تعبيراته واتجاهاته، قد وضع نفسه في خط سير فلسفة الأنوار، فلم يتخلف عنها. فاليسار-تاريخياً- وبالأولى اليسار الإشتراكي، ينخرط ضمن القوى الأكثر ديمقراطية، قوى تشك، عن حق، في صدق ديمقراطية اليمين المستعد دائماً للحدّ من الحقوق المكتسبة من أجل حماية امتيازات الطبقةالمستغِّلة التي يمثلها. من جانب آخر، فقد وضعت الإشتراكية لنفسها هدفاً رئيساً هو تدعيم الوعي الطبقي، وتشجيع التضامن بين الطبقات الشعبية. فعارضت من هذا المنظورالإيديولوجية القومية ومناورات الرجعية التي وظّفت هذه الإيديولوجيا من أجل تأخيرإنضاج الوعي الطبقي.

إذن، عندما نتناول موضوع أخطاء الفكر الإشتراكي وحدوده ينبغي أن نأخذ في الإعتبار الملاحظة المبدئية المذكورة هنا. فالعديد من هذه الأخطاء ناتج عن تفاؤل مبالغ فيه فيما يخص قدرات الشعوب على أن تتحرر من الأفكار والسلوكات والتقاليد الرجعية الموروثة من الماضي.

على ضوء التأملات المذكورة هنا، سنجد أن أخطاء الحركات الإشتراكية في مسألة القومية والمستعمرات ترجع الى مبالغتها في تقدير الدور التاريخي للرأسمالية. فالاشتراكيون آمنوا في التقدم، وظنّوا أن التوسع الرأسمالي العالمي لا بد أن يلغي - ولو بالتدريج- فعل الحدودالسياسية للدول، الأمر الذي من شأنه أن يخلق شروطاً مناسبة لممارسة الصراع الطبقي على صعيد عالمي، وبالتالي انجاز ثورة اشتراكية عالمية. لذلك، ارتأى الاشتراكيون أن كل ما يدفع تقدم قوى الإنتاج الى الأمام إنما هو في آخر المطاف إيجابي تاريخياً، وأن مسؤولية اليسار هي أن يفرض إنجاز هذا التقدم بالوسائل الأكثر ديمقراطية. هكذا آثر الإشتراكيون مبدأ الإدماج في شؤون المسألة القومية، باعتماد الوسائل الديمقراطية، على الدفاع عن التنوع و((الخصوصيات)) و((الذاتيات)). فمن يبالغ في الخصوصية يكرّس آثار رجعية الماضي.

أذكر هنا هذا البُعد للفكر الاشتراكي؛ لأن الرأي السائد حالياً يدعو الى الإشادة ((بحق الإختلاف))، كما سبق أن ذكرت. لاشك أن التيارات الفكرية التي طرحت هذه المشكلة صادقة في نيّتها. ولكن لي تحفظات بشأن الاستراتيجيا المطروحة هنا، سبق أن أبديتها. أعتقد، إذن، أن هذه الآراء لا تمثل تقدماً بل ردّة وتراجعاً عن مواقف أكثر جذرية اتخذتها الاشتراكية التاريخية، وأن تبنيها من قبل حركات شعبية هو ناتج تغلغل تقاليد فكرية محافظة سائدة في مجتمعات أوربا الشمالية.

تصدى الاشتراكيون لواقع القوميات، فشيدوا المواقف التي اعتقدوها الأنسب من أجل تدعيم الوعي الطبقي. وإذا أثبت التاريخ عدم فاعلية بعض تلك المواقف؛ إلا أن هذه الخيارات صدرت عن نيّات نبيلة تستحق التقدير والإحترام، سبقت أوانها من جوانب عديدة. ويخطر ببالي هنا الموااقف التي اتخذها اشتراكيوا الإمبراطورية النمساوية-المجرية والبلشفيك. فالأولون لم يبحثوا عن وسائل لإنقاذ الإمبراطورية؛ بل سعوا الى إعادة بناء المجتمع على أسس ديمقراطية تعترف بحقوق جميع القوميات اعترافاً صادقاً وشاملاً، وذلك بغرض دفع الوعي الطبقي وضمان إطار جيوغرافي مناسب لانبساط صراع طبقي قادر على إنجاز انتصارات ذات معنى ومغزى. أما البلشفيك، وبعدهم الأممية الثالثة، فقد خطوا خطوات واسعة دفعت الأهداف الإستراتيجية الى أمام. فاعترفوا بحقوق القوميات، وعلى هذا الأساس أقاموا دولة اشتراكية متعدّدة القوميات. قطعاً إن ما فعلوه فعلاً في هذا التطلع الاستراتيجي، وما حققوه وما حدث من تشوّهات وانحرافات بل وخيانات، كل ذلك قابل للنقاش والنقد. على أن دستور الاتحاد السوفياتي، وكذلك دستور يوغسلافيا، لا يمثلان فقط وثيقتين ورقيتين، بل أيضأً تجليات تجربة معاشة، بايجابياتها وسلبياتها. ومن هذا المنظور أزعم أن البلشفيك دفعوا احترام القومية الى أقصى حدود الإحترام من حيث المبدأ، معترفين بحق الاختلاف لدرجة أنهم جمّدوا الى حد كبير تطوراً كان يُحتمل أن يلغي بعض الاختلافات.

صحيح أن النظام السوفييتي قد اتسم بهيمنة ثقافية روسية إزاء الشعوب الأخرى، ولكن الى جانب ذلك حقق النظام السوفييتي فعلاً إعادة توزيع الثروة في صالح أطراف آسيا الوسطى والقوقاز على حساب المركز الروسي؛ وهذا هو ما لم تحققه الرأسمالية العالمية أبداً بحيث أن الحديث عن ((الإمبراطورية السوفييتية)) وتشبيهها بالمنظومات الاستعمارية الرأسمالية لا يقومان على أي أساس علمي. إلاّ أن التاريخ قد أثبت أيضاً أن عامل المركزية الثقافية الروسية قد لعب دوراً سلبياً في نهاية المطاف، دوراً لم تلغه إيجابيات إعادة توزيع الثروة لصالح الأطراف.

أزعم أن الرأسمالية أثبتت أكثر من مرة أنها أقلّ احتراماً ل((حق الإختلاف))؛ لقد أنقذ السوفييت ثقافات محلية كان من شأنها أن تُمحى في فرضية سيادة الرأسمالية في المنطقة. في هذه الفرضية لكانت الرأسمالية قد قضت على كثير من ((الخصوصيات))، وذلك من خلال عمل منحة السوق.

تعطي لنا يوغسلافيا مثالاً صارخاً عن الجوانب السلبية للتجمّد الذي أنتجته ممارسات سياسية دفعت مبدأ احترام الخصوصية القومية المزعومة الى ما بعد الضروري؛ فكان ثمة نسبة متزايدة من الشباب في يوغسلافيا قد أخذوا يبتعدون عن تشديد انتمائهم للقوميات المعترف بها في الدستور، ويعلنون ((يوغسلافيتهم)) بصفتها ((أمة)) جديدة. أعتقد أن هذا التطور كان إيجابياً، وكان ينبغي تشجيعه والاعتماد عليه. إلا أن قوى الرجعية في الداخل -مسنودة من الخارج- اختارت، في مواجهة أزمة النظام، خطة أخرى تدعو الى ((إنعاش)) القوميات الى حد الشوفينية. والنتيجة بيّنة أمام أعيننا.

6- في مجال المسألة القومية اتخذت حركات التحرر الوطني موقفاً مبدئياً مفاده الدعوة الى ((وحدة الشعب)) في اطار الحدود السياسية ((للقطر)) الذي تعمل فيه، باعتبار أن هذه الوحدة تمثل ركناً أساسياً ضرورياً للتحرر. لا أشك في سلامة هذا المبدأ وفاعليته. كذلك لا خلاف حول دعوة إقامة -أو إعادة إقامة- دولة مستقلة، كبيرة أو صغيرة، قديمة الأصول أو مستحدثة، وتجاوز آفاق الإثنيات والملل والفروق اللغوية وجميع أسباب التنوع، نظراً لأن استراتيجيات الإستعمار هي بالتحديد توظيف هذا التنوع من أجل تقسيم جبهة التحرير. على أن المفاهيم التي عبأتها حركات التحرير من أجل إضفاء مشروعية على الوحدة المطلوبة، قد اختلفت بحسب الظروف الملموسة والمصالح. فاليمين المحافظ ركّز على ((الوطن)) و ((وحدته)) المزعومة أو الحقيقية، وأهمل -بل أنكر أحياناً- التنوّع الإثني واللغوي والعقائدي الديني في تشكيلة الوطن هذا. كذلك فإن القوى السلفية -التي ظلت دائماً موجودة في قلب جميع مجتمعات الأطراف- قد اعتمدت على عناصر ثقافية أو شبه ثقافية ودينية، صحيحة كانت أم وهمية وضبابية، لتدعو الى إحياء القواعد التي تستدرج مشروعيتها منها، مثل الجماعة الإسلامية أو الهندوكية على سبيل المثال. وبما أن عدداً من هذه الأوطان قد تكونت في إطار حدود سياسية مصطنعة فرضها الإستعمار؛ فإن ((القومية)) الجديدة المزعومة لم تكن متجانسة تجانساً إثنياً أو لغوياً إلا نادراً. فالقومية الجديدة ظلت تكتل شعوب واقسام شعوب مختلفة الأصول التاريخية. لا أرى مانعاً في الدعوة الى إقامة دولة موحدة على الرغم من هذه الفروقات، على شرط أن تكون الدعوة صادقة فتعترف بالتنوع ولا تنكره. في هذا الإطار الإيديولوجي يمكن تصور تواجد الشعور بالإنتماء الى ((الوطن السنغالي)) من جانب، وبالإنتماء الى الحضارة (أو الإثنية) الولوف أو المندنجو من الجانب الآخر، دون أن يكون ذلك مصدر قلق وتناقض مدمر.

كانت الإيديولوجيات اليمينية في حركات التحرير تميل تلقائياً الى التحمس بالنظريات الضبابية حول القومية، تلك النظريات التي انتشرت في بلدان أوربا خارج منطقة نفوذ فلسفة الأنوار.

سأضرب مثلاً صارخاً في رأيي هو مثل ((القوميين العرب)). هل يقف القوميون العرب على يسار أو يمين الحركة؟ ثمة إلتباس بارز في هذا الشأن. فهم واقفون على يسار الحركة بلا شك إذا أخذنا بالمعيار السياسي. فالبرجوازيات المحلية الليبرالية التي تكونت في الأطر القطرية لم تتطلع الى الوحدة العربية كعنصر ضروري من أجل إنجاز تحرير شامل وحقيقي. وإذا كانت هذه البرجوازيات قد انخرطت في اطار التوسع الرأسمالي العالمي الذي يسيطر الاستعمار عليه، فقد رضيت بوضع كومبرادوري في هذا الإطار. وظهر القوميون كحركة رفض هذا التسليم، ودفع مشروع الوحدة على صعيد العالم العربي؛ وهي دعوة تقدمية بمعنى أنها على قدر تحد العولمة. لذلك اعتبر أن القوميين العرب وقفوا سياسياً على يسار الحركة. ولكن إذا نظرنا الى المفهوم الذي قدموه من أجل إضفاء مشروعية على الوحدة العربية لإتضحت ضبابية خطابهم. فبدلاً من إعتبار مشروع الوحدة على أنه مشروع مستقبلي تفرضه تحديات العصر، نظر القوميون الى ((العروبة)) على أنها تكاد تكون ظاهرة ((طبيعية))-- فالعروبة تسيل في العروق كالدم!- هذا المفهوم البيولوجي للعروبة مماثل تماماً للمفهوم الألماني العرقي ((للجرمنة)). فهو مفهوم يميني لا يمت بصلة الى المفهوم الديمقراطي للأمة كناتج إرادة مشتركة رشيدة وحرة- العقد الإجتماعي. أركز على هذا العنصر الإرادوي؛ دون إنكار أن مشروع وحدة العالم العربي يستطيع أن يُوظّف لصالحه عناصر موجودة فعلاً في المجتمع وموروثة من الماضي. أقصد بذلك أن تواجد هذه العناصر لا ينتج الوحدة في غياب إرادة قائمة على مقتضيات العصر. لا شك أن المضمون الرجعي لطابع مفهوم القومية المعني هنا قد أدى الى نتائج سلبية في الممارسة؛ فبدلاً من إعتبار ضرورة إنجاز الوحدة من خلال نضال ديمقراطي -وهو شرط اقتناع الشعب بإيجابية المشروع- شجعت ضبابية مفهوم العروبة وهم احتمال إنجاز الوحدة ((بالقوة)) وإعطاء مشروعية لاستخدام العنف. ذلك لأن العنف هنا - في هذا المنظور للعروبة- لا يعدو كونه مجرّد تجلّ عن ((إرادة كامنة)). فإذا اعتُبرت العروبة صفة ((طبيعية)) (بيولوجياً) لأدى هذا المنهج منطقياً أيضاً الى إعتبار عناصر أخرى تدعم الوحدة المطلوبة من مكوّنات ((العروبة)). هكذا انزلق الخطاب القومي في اتجاه الخطاب الإسلاموي القائل إن (( الإسلام عنصر لا يمكن فصله عن العروبة)).

ليس الشعب العربي هو المأرب الوحيد لخطابات قومية ضبابية، فهو شأن العديد من شعوب العالم الثالث، لسبب مشترك هو غياب تأثير فلسفة الأنوار في جوهر تكوينها الفكري. فخطاب ((القومية الطورانية)) في تركيا وخطاب ((الزنوجة)) في أفريقيا لا يختلف في المنهج عن خطاب ((العروبة الطبيعية)).

على أن خطاب القومية في حركات التحرر الوطني لم ينحصر في المفهوم الضبابي المذكور هنا. فيسار الحركة، ولاسيما الأجنحة التي تأثرت بالشيوعية، استلهم مباديء فلسفة الأنوار، ضمناً على الأقل. فأشاد هذا اليسار بروح الديمقراطية في تناول مشاكل الفروقات الإثنية واللغوية والدينية، وطرح مفهوم وطنية يتخطى الاختلافات ويجمع الشعب في جبهة موحدة على الرغم من هذه الفروقات.

لم يكن شعار الوحدة التي تتخطى الذاتيات الخاصة مجرّد شعار خطابي خاوٍ من مضمون؛ بل صار في كثير من الحالات ممارسة تقدمية فعلية، لدرجة أن في هذه الحالات العديدة أصبحت الطبقة الحاكمة نفسها متعدّية الإثنية، تجمع في صفوفها عناصر من أصول متباينة دون خجل وتردد. هذا كان الوضع السائد في الهند وفي أفريقيا بشكل عام. ثم دخلت نُظم العالم الثالث في مرحلة أزمة عميقة ذات الأبعاد المتنوعة خلال عقدي السبعينات والثمانينات. وقد رافقت هذه الأزمة انهيارات في المجال الفكري وفي الممارسات السياسية، فتراجع مفهوم الوطنية المتعدّية الفروقات.

أُطروحتي في هذا المجال هي أن إنعاش هذه ((الذاتيات)) ليس ناتجاً ((طبيعياً)) يفرض نفسه فرضاً، بل هو ناتج استراتيجيات عبأتها بتعمد النخب القائدة المنعصرة بسبب تآكل المشروع البرجوازي الوطني نفسه. فالإثنية أو الشوفينية الضيقة أو الإستغلال السياسي للدين تمثّل تلك الأدوات السهلة المنال التي يمكن تعبئتها في وقت الأزمات. فليس من الحقيقي أن هذه الذاتيات تُكوّن الجانب الجوهري في واقع المجتمعات، وأن الممارسات السلطوية خلال مرحلة من الحركة الوطنية كانت قد حاولت أن تخنقها، فانفجرت من تلقاء نفسها عندما تراخى القمع. هذه الصورة للعلاقة بين العام (الوطني) والخاص (تلك الذاتيات) هي في رأيي صورة مبسّطة، بل كاذبة الى حد كبير في حالات عديدة. وبالتالي، كان ثمة احتمال وارد أن تنخرط في إطار مشروع ذي طابع عمومي أوسع، لو كانت الظروف قد سمحت بتواصل الحركة وتقدمها.

7- خلاصة استنتاجاتي في موضوع القومية تقود مرة أخرى الى مشكلة العولمة الرأسمالية: لقد تآكل بالتدريج النظام الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية حتى انهار تماماً، نتيجة فعل العولمة التي استمرت في التعمق خلال المرحلة. على أن هذا الإنهيار لم يهييء من نفسه شروط تجاوز التناقض الأساسي للرأسمالية؛ فيضل الإستقطاب محايثاً لها. وبالتالي، فإن التحدي الحقيقي الذي تتصدى الإنسانية له هو كيف القضاء على الآثار المدمرة لهذا الإستقطاب. أو بتعبير آخر، كيف يمكن تخطيّ الآفاق المحدودة للعالمية المبتورة التي أنشأتها الرأسمالية؟ وما هي وسائل دفع التقدم الى الأمام حتى تكتمل فعلاً العالمية؟ إن مواجهة هذا التحدي تمس بالضرورة مسألة القومية؛ فهي إحدى الأماكن الهامة التي ينعكس فيها التناقض بين العمومي والخصوصي. فينبغي إذن تطوير مفهوم القومية في اتجاه ديمقراطي وإنساني من أجل إنجاز التوفيق المناسب بين العام والخاص. وقد أنشأت فلسفة الأنوار التفكير والعمل في هذا الإتجاه، ثم دفعت الإشتراكية الحركة دفعاً ملحوظاً الى الأمام. والآن علينا أن نواصل المسيرة فنحقق تقدماً إضافياً لكي تتكيف إجاباتنا مع مقتضيات العصر.

على أن الأزمة العميقة التي تمر الشعوب بها في أعقاب انهيار النظام القديم تُنتج فوراً الحيرة السلبية ولا تُنتج تلقائياً رد فعل إيجابي، الأمر الذي يُفسر بدوره إحياء مفاهيم ضبابية حول ((الذاتية)) ( ومنها القومية/الإثنية البيولوجية)، والتقوقع الوهمي في أُطر ((جماعات)) عاجزة عن أن تواجه التحدي الحقيقي بفاعلية. فينبغي أن لا نضفي مشروعية على هذه التراجعات، باسم ((الحق في الإختلاف))، بل على عكس ذلك، من واجبنا تطوير إجابات أكثر إنسانية معتمدة على مبادىء العمومية، وبالتالي أيضاً أكثر فاعلية في نهاية المطاف. فإلى جانب الإعتراف بالحق في الإختلاف، لابد أيضاً من تشجيع الإعتراف بالحق الموازي في التماثل.




#سمير_أمين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في إطار الرؤية التاريخية للتوسع الرأسمالي ألامبريالية الامري ...
- تبدأ بالعنف وتنتهي بالهيمنة الأمريكية د. سمير أمين يحدد 3 مل ...


المزيد.....




- وزير خارجية الإمارات يعلق على فيديو سابق له حذر فيه من الإره ...
- سموتريتش لنتيناهو: إذا قررتم رفع الراية البيضاء والتراجع عن ...
- DW تتحقق - هل خفّف بايدن العقوبات المفروضة على إيران؟
- دعوة الجامعات الألمانية للتدقيق في المشاريع مع الصين بعد مز ...
- الدفاع الروسية تعلن ضرب 3 مطارات عسكرية أوكرانية والقضاء على ...
- -700 متر قماش-.. العراق يدخل موسوعة -غينيس- بأكبر دشداشة في ...
- رئيس الأركان الإسرائيلي يصادق على خطط المراحل القادمة من حرب ...
- زاخاروفا: روسيا لن تساوم على أراضيها الجديدة
- اكتشاف ظاهرة -ثورية- يمكن أن تحل لغزا عمره 80 عاما
- بري عقب لقائه سيجورنيه: متمسكون بتطبيق القرار 1701 وبانتظار ...


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - سمير أمين - حول مفهوم القومية