|
نحو عالم آخر ممكن
ماجدة تامر
الحوار المتمدن-العدد: 1136 - 2005 / 3 / 13 - 11:22
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
إن القيم الثلاث التي تستند إليها مؤتمرات العولمة في "دافوس" و "نيويورك" وغيرها هي الدولار واليورو والين الياباني . ولا تخلو أية واحدة من هذه القيم من المتناقضات ، ولكن في مجملها تشكل مجموعة من القيم الليبرالية الجديدة الآخذة بالتعميم . والسمة المشتركة لهذه القيم هي طبيعتها الكمية حصرا ، فهي لا تعرف الخير أو الشر ولا تميز بين العدالة أو الظلم ، إنها لا تعرف سوى الكميات والأرقام والأعداد . فالذي يملك مليارا من أي من هذه العملات ، فان قيمته تكون اكبر ممن يملك الآلاف منها ، وبناء على ذلك فالذي لا يمتلك شيئا لا يساوي شيئا وفق سلم القيم التي تعتمدها أي من تلك المؤتمرات . وبهذا الشكل يبدو أن الإنسان لا وجود له ، فهو خارج السوق وبالتالي خارج العالم المتحضر . وإذا ما أخذنا القيم الثلاث السابقة مجتمعة ، فإنها تشكل محور السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي تتكون من العملة والسوق والثروة أو رأس المال . إن الأمر يتعلق بعبودية مادية بحتة ، لان الحب الأعمى للمال والسوق في الزمن الحاضر ، يشبه إلى حد ما صورة الشعوب البدائية التي كانت تعبد الأصنام ، معتبرة أن هناك أشياء لها قدرة سحرية على حماية أصحابها أو مساعدتهم . هذا التأليه للتجارة الجشعة يعتبر بمثابة ديانة جديدة لها طقوسها الخاصة بها . وأما أماكن عبادتها فهي البورصات ومكاتبها المقدسة هي صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها ، ومن أهم برامج أعمالها مطاردة الهراطقة أي الذين لا دين لهم ، وبمعنى آخر وحسب اعتبارها ، الذين لايملكون المال . إن حضارة المال هي تلك التي تحول الأرض والماء والهواء والعواطف والقناعات إلى بضائع تباع لمن يدفع أكثر ، وتجاه هذه الروح التجارية المولعة بالربح فقط . فان المنتدى الاجتماعي العالمي الذي تأسس لمناهضة العولمة في " بورتو أليغري " في البرازيل ، يترجم رفضه لها بقوله : " العالم ليس بضاعة للبيع ". لأن المنتدى يتطلع بقوة إلى نوع آخر من الحضارة مبني على قيم أخرى غير المال أو رأس المال . فما هي القيم التي يستلهمها ذلك المشروع البديل . ؟ هي تلك القيم النوعية غير القابلة للتحول إلى مجرد كميات من المال ، وهي القيم الأخلاقية والثقافية والاجتماعية المشتركة بالنسبة لأغلبية الجماعات والشبكات التي تشكل حركة عالمية كبرى مناهضة للعولمة الليبرالية الجديدة . فإذا عدنا إلى الوراء قليلا ، نجد أن القيم الثلاث المستوحاة من الثورة الفرنسية عام 1789 والحاضرة في جميع حركات الانعتاق والتحرر الاجتماعي في التاريخ المعاصر لم تعد تكفي لمواكبة العصر وهي : الحرية والمساواة والإخاء . ولقد أشار " ارنست بلوخ " في كتابه " الحق الطبيعي والكرامة الإنسانية " عام 1961 ، إلى أن مبادىء الثورة الفرنسية محفورة الآن على واجهات الأبنية العامة في فرنسا ، ولكنها لم تجسد بعد كما يجب . فقد تم استبدالها بالفروسية والمشاة والمدفعية وشكلت لدى الطبقات الحاكمة جزءا من التقاليد البالية والوعود الفارغة . ولكن إذا نظرنا إلى هذه القيم عن كثب من وجهة نظر ضحايا الأنظمة المعاصرة سوف تكتشف طاقاتها الكامنة المتفجرة في مواجهة حضارة المال هذه . فكم هي الآن حاضرة في الأذهان وواقعية في معركة اليوم ! وفي زمن مضى تم لاستيلاء على الحريات بالرغم من قرون طويلة من النضال ضد التسلط والفاشية والاستبداد والديكتاتورية . إلا أن الحرية اليوم هي إزاء شكل آخر من أشكال السيطرة والاستغلال . إنها أمام ديكتاتورية السوق وأصحاب البنوك والشركات المتعددة الجنسيات التي تفرض مصالحها على العالم . إنها الديكتاتورية الإمبريالية المتمثلة بالهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية للولايات المتحدة ، والتي فاقت سلطتها العالمية تلك الإمبراطوريات الاستعمارية في الماضي . إنها الديكتاتورية التي تختبىء وراءها أسماء مغفلة وقوى عمياء تمارس نفوذها بمنطق لسوق ورأس المال ، ونفرض نفسها عبر مؤسسات وشركات ومنظمات مالية وعسكرية ، مثل منظمة حلف شمال الأطلسي . إن إحدى هذه الثغرات في الثورة الفرنسية هي أنها استثنت النساء من المواطنية . فالمرأة الجمهورية " اولامب دي غوج " التي كتبت عن " إعلان حقوق المرأة والمواطنية " كانت قد أعدمت شنقا عام 1793 . فالمبدأ المعاصر عن الحرية لايمكنه أبدا تجاهل المرأة التي تمثل نصف المجتمع ، ولا يقبل بفكرة اضطهادها أو استعبادها . والحرية تبقى ناقصة ما لم ندرك الأهمية الرئيسية لنضال المرأة من اجل التحرر وحقها في العيش بكرامة . وإذا ما أخذنا موضوع المساواة ، نجد أن هذه القيمة موجودة في تشريعات الثورة الفرنسية الأولى التي وضعت مبدأ المساواة أمام القانون . إن وجود المساواة والعدالة الاجتماعية ــ وهما قيمتان لا تنفصلان عن بعضهما البعض ــ يستدعي وجود مجتمع بديل يأخذ بعين الاعتبار إتباع طرق أخرى للإنتاج والتوزيع . وفي الواقع فان عدم المساواة من الناحية الاقتصادية ليس هو الشكل الوحيد من الظلم في المجتمع الليبرالي الحديث : فهناك التمييز العنصري والعرقي لمجرد الاختلاف في اللون واللغة أو الدين . مما يدفع البعض نحو الهجرة التي غالبا ما تكون آثارها وخيمة عليهم أو العيش في ظروف اقتصادية قاسية بسبب الاعتبارات الاجتماعية التي يفرضها المجتمع . وماذا تعني الأخوة ؟ إنها التضامن بين الأفراد الذي يتجاوز حدود العشيرة أو القبيلة والعائلة ويتخطى العرق واللون والدين ، للوصول إلى مفهوم العالمية بمعناها الشامل والصادق . فهناك أجيال كاملة من مناضلي الحركات العالمية والاشتراكية يحاربون من اجل هذه القيمة السامية . العولمة النيوليبرالية تولد الخلافات العرقية والصراعات الطبقية والتعصب الديني الأعمى مما يثير الشعور بفقدان الهوية . بينما العالمية تسعى إلى عكس ذلك . إنها تسعى إلى احترام الشعوب والتعاون فيما بينهم ، وشعارها هو : " عالم يتألف من عدة عوالم " . وبعبارة أخرى حضارة عالمية قوامها التعاون والتنوع . ومن الأهمية بمكان وأكثر من أي وقت مضى ، إعادة التأكيد على الغنى الحضاري الناتج من الاختلاف الثقافي والفكري للشعوب ، ثم التضامن فيما بينها إزاء الهيمنة التجارية الجشعة التي تتسم بها العولمة الإمبريالية الحالية . وهناك قيم أخرى يجب أن تضاف إلى القيم السابقة التي اقتصرت عليها الثورة الفرنسية عام 1789 . كالديموقراطية واحترام البيئة وغيرها . وهذه القيم الأكثر قدما هي اليوم الأكثر حداثة . فالتحدي الكبير الذي يطرحه المجتمع البديل هو مسألة الديموقراطيات . فلا يمكن للفرد أن يعيش في مجتمع لا يتمتع بالديموقراطية ، وعليه أولا أن يتسلح بالوعي الديموقراطي ويعمل على نشره بدءا بالأسرة وصولا إلى الطبقات السياسية الحاكمة التي توجه ضمير الأمة . فليس من المعقول أن تكون هناك ديموقراطية اقتصادية واجتماعية وتكون منفصلة عن الواقع السياسي وعن القرارات الناتجة عنه . لأن الديموقراطيات لا تتجزأ مثلها مثل أية قيمة ، وبالتالي فان مهمتها مطالبة الطبقات السياسية الحاكمة بمسؤولياتها تجاه المجتمع . ثم إن اخذ مسألة الأولوية في الاستثمار والإنتاج والتوزيع بشكل عادل يخدم المصلحة العامة ، بحيث أنها تكون بيد الأغلبية وليس بيد حفنة من المستغلين أو أسياد السوق . أما فيما يتعلق باحترام البيئة ، فان اللوم الأول الذي يوجه إلى العولمة الرأسمالية هي أنها مسؤولة عن تدمير البيئة بشكل متسارع . أما الحضارة التي ننشدها والقائمة على التعاون والتضامن ، فلا يمكنها أن تكون حضارة غير متضامنة مع البيئة ، لان الفرد لايمكنه أن يعيش بشكل متوازن وسليم ، إن لم يكن هناك توازن في البيئة . وقد عبرت تماما عن ذلك المظاهرات المناهضة للعولمة الإمبريالية من مدينة " سياتل " إلى " جنوا " وليس انتهاء بالمنتدى الاجتماعي العالمي ، والتي لم تطالب ببيئة اقتصادية وسياسية سليمة وحسب ، وإنما ببيئة اجتماعية وطبيعية سليمة أيضا تكون بديلة عن تلك البنى النفعية الضيقة التابعة للسوق . لأن الطبيعة والحياة وحقوق الإنسان والحرية والثقافة وما شابه ، ليست بضائع للبيع ، لأن هناك في الواقع عالم آخر يتعارض مع العالم الكمي أو حضارة المال هذه عالم تكون فيه القيم الأخلاقية العليا هي الأساس ، ويتخذ من التنوع الثقافي والفكري والمصلحة العامة شعارا له ويكون للمرأة دور هام فيه .
#ماجدة_تامر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكاليات المجتمع المدني
المزيد.....
-
مرح ومحبوب.. قابلوا -داكي- أحد -أكثر البطاريق شعبية في العال
...
-
مطابخ غزة تحذر من نفاد الطعام خلال أيام بعد شهرين من الحصار
...
-
أكبر لوحة قماشية في العالم... فتى نيجيري مصاب بالتوحد يدخل م
...
-
معاناة الصحافيين في غزة: بين نيران الحرب وواجب نقل الحقيقة
-
تصنيف حزب البديل الألماني -يمينيًا متطرفا- - الأسباب والعواق
...
-
عناصر تزيد من دهون البطن مع التقدم في العمر .. ثلاث طرق للوق
...
-
مسؤول استخباراتي أمريكي سابق: إدارة بايدن أعطت كييف السلاح ل
...
-
إصابات جراء هجوم مسيرات أوكرانية على نوفوروسيسك جنوب روسيا
-
بوليانسكي: العلاقات التجارية الروسية الأمريكية تراجعت إلى مس
...
-
مقتل 6 أشخاص وإصابة العشرات بسبب التدافع في مهرجان ديني غرب
...
المزيد.....
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
المزيد.....
|